أدب الرعب والعام

بــــــــلا عـــنــوان (الجزء الثاني)

بقلم : جمال -سوريا

للتواصل : [email protected]

هذا هو القرار الأبرز الذي تمخض عنه ذلك الاجتماع .
اخبر السيد شراود كلا الشابين بأنه لا يستطيع توظيف كليهما في المدرسة هنا ، ولكنه طلب من أحدهما أن يذهب إلى شرق المدينة ، هناك حيث للمدرسة فرع آخر ، وبينما كان كليهما يفكران بما سيفعلاه حيال ما سمعاه ، كان السيد شراود يتابع حديثه بصوته الأجش :
-بما أني من دعوتكما ولأن من دعوته هو بني العزيز جان ، سأتكفل أنا بأجور إقامتكما هنا ، ولكن هناك نقطة يجب أن تدركاها ، سيتقاضى كلاً منكما الفان وخمسمئة كورنيّة مرتباً شهرياً تبعاً لعدد الحصص و بالطبع تقريباً هذا اقل بحوالي الثلثين عن بقية المدرسين ، سامحني بني انا اثق بك ولكن بطبيعة الحال انا اجازف بضم مدرسين بدون خبرة إلى كادر المدرسة التدريسي ، وفي حال عدم الكفاءة سأضطر للاعتذار لكما عن المواصلة .
صمت شراود لبرهة يحملق في ورقة بين يديه ثم استأنف :
أجور الإقامة هنا تختلف بالطبع عن الشرق ، ولذا من سيبقى هنا سينخفض مرتبه إلى الفا كورنيّة فقط .
ابتسمت مادلين بسخرية وتراقب الحيرة على وجه كل من لورا وجان ، ثم تحولت ابتسامتها إلى ضحكة صامتة اخفتها بصعوبة عندما طلبت لورا من جان أن يبقى هنا بينما تتجه هي الى الشرق .


تقدر المسافة بين المدرسة وفرعها شرقاً بحوالي الساعتين إذا ما قرر أحدهما استخدام الترام ، أما الحافلة فتحتاج إلى ثلاث ساعات حتى الوصول إلى هناك ، دائماً ما كان جان يتكبد وعثاء هذه الرحلة بعد انتهاء دوامه ليلتقي بمحبوبته ، ويستمر هذا اللقاء لساعة قبل ان يعود مع مغيب الشمس إلى غرفته في الفندق ،على هذا المنوال اعتاد كلا العاشقين منذ ان قبلا عرض السيد شراود ، ولكن الأمر لم يدم طويلاً ، فسرعان ما حط تراكم الإرهاق على جسد وجيبة جان ، وبسبب هذا اتفق كليهما على المراسلة الكتابية وأن يلتقيا مرة في نهاية كل شهر بطلب من لورا وإلحاح شديد منها في وجه معارضة أشد من جان في بادئ الأمر .
-7-
التقط جان المغلف بعدما فرغ من أعمال تحضيرية طويلة تخص المدرسة قبل أن ينام ، لقد أجل قراءة الرسالة حتى هذه اللحظة ليتمكن من استحضار كل جوارحه وليكون وجها لوجه مع لورا في الاسطر التي خطتها إليه ، قرأ جان وقد استنشق الظرف بالكثير من الحب والشوق :
•المرسل : لورا ديومند •المرسل إليه ؛ جان فورد. بجانبهما طابع بريدي .
استخرج جان الرسالة وقد بدأ قلبه ينبض بوتيرة اسرع عما كان عليه فهو لم يرى محبوبته منذ ثلاثة اسابيع ، ولكنه توقف مستاءاً عندما سمع نقراً على باب غرفته .
-اهلا انسة مادلين .
لم تكن هذه الزيارة هي الأولى لمادلين لغرفته ، فقد باتت تتكرر على فترات متقاربة ، بحجة ان منزلها على مقربة من فتدق بارادايس ، أما الاستاذ الشاب فلم يقبل تلك الفكرة التي طرحها له شيطان قلبه عندما أخبره ان مادلين تتقرب منه وقد فكر في أن نائب المدير من النوع الاجتماعي الجريء الذي لا يلقي بالاً لتصرفاته فما يهمه مقصده وليس ما يفهمه الناس عنه ، لكن فكرة ان مادلين تعامله بخصوصية اكثر من غيره ، وبود زائد ، خاصة مع فساتينها الكاشفة التي تستعرضها في كل زيارة له ،والتي جعلته متأرجحاً بين حسن وسوء ظنه ، بين كفتين امرأة عفوية أو امرأة ذات غاية ومأرب ، وبما انها لم تلمح بأي فعل او كلمة ظلَّ مرجحاً الكفة الأولى على الثانية .
كما جرت العادة حضر جان لضيفته بعض الشاي بالنعناع ، وعدا عن اول يوم تحدثا فيه بإسهاب وعمق علم حينها جان أنها امرأة عزباء لم ترتبط برجل قط ، ومع شكه بكلامها إذا انه فكر ان عذرية مادلين بعد ثلاث وثلاثين عاماً ما هو إلا ضرب من ضروب الخيال بالنسبة لامرأة بصفاتها . ابتدأ الحديث بينهما في تلك الليلة كما جرت العادة في كل حديث سابق تكرر مرات عديدة بعدها مبتدأً بالعمل و المدرسة ويستمر في الدوران بداخل تلك الحلقة حتى يتخامد وينتهي ، لكن مادلين خرقت ذلك الروتين ليلتها عندما سألت وقد تثعلبت امارات وجهها :
-ما اخبار عشيقتك إذن ؟
-جيدة ، نتواصل عبر البريد واذهب لزياتها في اخر ايام الشهر .
هزت مادلين رأسها وهي ترمق كوب الشاي ثم أردفت :
-لكنها استغلالية نوعاً ما ..
رد جان باستنكار :
-استغلالية ! ، وكيف تبيّن لكِ هذا !
-على رسلك ، لا داع للغضب انس الامر .
-لقد اتّهمتِ للتو إنسانة تهمني بالكاد التقيتِ بها وتريدين مني ان انسى ! تكرهينها صحيح ؟
ابتسمت مادلين وقد ارتشفت من الكوب بيدها ثم ردت :
-هذه هي مشكلة الحب ، يجعلك غبياً وأحمقاً واعمى ، اوه عزيزي جان لو كنت مكانها ، لم اكن لأهتم إن بقيت هنا او ذهبت للشرق ، طالما أن مالي ومالك واحد ، فلماذا قد أصر على الذهاب حيث المرتب الأعلى ! ، وبينما كنت أنت تستنزف وقتك وجهدك ومرتبك في زيارتها ، لم تأتِ إليك إلى ولا لمرة واحدة ، ربما لأنها لا تريد ان تخسر شيئاً على زيارتك .
صمتت مادلين لبرهة قبل ان تدرك عدم وجود رد في فم جان ، ثم تناولت حقيبتها واخرجت منها علبة تبغ و قدّاحة وسرعان ما انتشر دخان سيجارتها في الغرفة .
-لماذا لا تتكلم ؟
-وماذا قد اتكلم ، حتى ابليس لم يوسوس لي بمثل ما قلته ، ثم إن لورا اسمى من ان تكون هكذا ، مع احترامي لك ، لكن ما قلته عنها ليس له اي قيمة بالنسبة لي ، لذا لم ارى من داع للرد .
اطلقت مادلين قهقهة ساخرة ثم أردفت :
-اتفهمك عزيزي جان ، لا بأس ، لا يجب علينا الثقة في كل ما يقال لنا ، ان الشيء الوحيد الذي يدفعنا لتصديق امر ما هو مدى ايماننا به . ربما يجب عليَّ أن أجعلك تؤمن بي .
وجد جان على حين غرة سيجارة مادلين بين شفتيه ، أما هي فقد غادرت متمنية لجان ليلة واحلام سعيدة ، لكن ليلته تلك لم تحمل اي نوع من السعادة اذ انه ظل يفكر بما دسته له مادلين وتمنى انه لم يفتح الباب لها ولم يجر ذلك الحديث بينهما .
-8-
توالت الأيام سريعاً على العاشقين في مدينة الأنوار ، وها هو شهرهما الخامس على تواجدهما فيها ينقضي على ديدن واحد بينهما لم يتغير مذ وجد ، المراسلات بين فينة واخرى ولقاء في اخر يوم من كل شهر ، لكن زفرات جان المستاءة باتت اكثر تكررا بعد كل لقاء معها او رسالة يتلقاها منها ، لم تعد احاديث لورا معه تنطوي على ذلك الحب العفوي ، وكلام الغزل الغرامي ، بل كانت تبدأ بالحديث عن المدرسة والعمل وتنتهي بالحديث عن المدرسة والعمل ، حتى رسائلها اليه كانت عن يومياتها في المدرسة ، كل هذا جعله متأثراً اكثر بكلام مادلين عنها في تلك الليلة ، ذلك الكلام الذي كان بمقدوره دحضه وتفنيده بعد كل رسالة خصبة بالحب يتلقاها منها وبعد كل عبارة غرامية تغبطه بها ، ولكنه الان بات عاجزاً عن ابعاد تلك الهواجس عن عقله وتفكيره ، لقد صنعت لورا بداخله ثقباً روحياً استغلته مادلين احسن استغلال ورغم ضآلته استطاعت حشر نفسها ببراعة فيه .
ردد جان وهو يقفل خزانته في البهو الخاص بالمدرسين :
-حسنا انسة مادلين الى اللقاء في الغد .
-الن نترافق اليوم كما العادة ؟
-المعذرة ولكني على عجلة من امري ، اليوم هو اخر ايام الشهر كما تعلمين ..
-اوه بشأن موعدك مع عشيقتك ؟
-انسة مادلين هلا كففتِ عن هذه الكلمة !
-لماذا ، اوليست كذلك ؟ أم أنك غيرت رأيك اخيراً .
صمت جان ولم يعقب بينما ابتسمت مادلين بمكر قبل ان تستأنف :
-اوه صحيح .. بهذا الشأن ، وصلتك رسالة ، استلمتها عنك بصفتي نائب المدير ، لحظة
توجهت مادلين بخفة إلى مكتبها وعادت مسرعة إليه حاملة مغلف رسالة بيدها .
-هاك … إنه من العشيقة .
فتح جان الظرف على عجل بعدما تحقق من الطابع والختم البريدي على مغلف الرسالة ، الأمر الذي دفع مادلين لرمقه بنظرة مستخفة سريعة ..
“عزيزي جان ، اطلب منك تأجيل موعدنا إلى منتصف الأسبوع المقبل ، لا تقلق فأنا بخير ولكني مضطرة آسفة إلى هذا التأجيل ، سأخبرك بسببه لاحقا ، أرجوا الا تنزعج ….. محبتك لورا
ذهل جان بعد قراءته للرسالة ، حتى انه اعاد قراءتها عدة مرات ليتأكد مما قرأه ، لم يكن يتوقع ولا حتى بأسوء كوابيسه أن تطلب منه لورا تأجيل لقاء بينهما ، وأي لقاء ! ، لقاء بعد شهر حُرم فيه من رؤية وجهها .
دنت مادلين منه ثم القت بناظرها إلى الرسالة بين يديه ، ثم إلى هيئته التي اصبحت مصدومة مهزوزة باردة من الخارج متأججة من الداخل .
-لا تقلق ستراها عما قريب لابد وان لديها ما يدفعها لهذا ..فهي تحبك جداً ولن يحيلك عنها إلا امر طارئ .
اردفت مادلين بتلك العبارة محاولة مجاملة موقف جان لكن جوهر تلك الكلمات كان ساخراً ماكراً جعلته يغادر من فوره.
في ليلة ذلك اليوم لم يكن أي مبرر مهما كان مقنعاً، كافياً ليخمد ثوران البركان المشتعل بداخله ، جعله ذلك الاستياء والغضب يكتب لها عشرات الردود والتي تناثرت حول سريره بين مجعد وممزق ، لكنه في نهاية المطاف خلد مجبراً إلى النوم دون أن يكتب لها حرفاً واحداً .
صباح اليوم التالي لم يختلف كثيرا عن ليلة امس ، فإحساسه بالسخط والامتعاض والاستياء ظل حاطاً برحاله على قلبه ولبّه ، لكن التنقل بين الفصول ، ومناقشة اراء الطلبة والاستماع الى الأسئلة والنقاشات ، خففت عنه ما يكدّره وينغص خاطره على فترات ، الا ان البؤس كان يعود له سريعاً كلما عادت اسطر الرسالة الى ذاكرته .
بينما كان على احد المقاعد في باحة المدرسة يستنشق بعض الهواء لاحظ الانسة مادلين مقبلة نحوه وقد جعلت خطواتها بين مشي وهرولة تأملها وهي تتحرك برشاقة فاتنة إلى ان انتهت إليه :
-صباح الخير عزيزي
-اهلا انسة مادلين .. صباح الخير
-هل لديك ما يشغلك بعد الدوام .
-لا أدري … ربما ….
-ما رأيك أن أشغلك بي إذن ؟

يتبع …

جمال

مهندس نظم قدرة كهربائية وكاتب ومعلق صوتي - للتواصل عبر البريد الالكتروني : [email protected] عبر تلغرام ؛ https://t.me/Jamsyr ايضاً من خلال صفحتي على فيسبوك أو انستغرام ادناه :
guest
6 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى