أدب الرعب والعام

بلاهةُ فِرصاد

بنظرات زمهرية حادة وبسلاح اقتبس لونه من قتام الليل وبقبعة بنية تخللها شريط برتقالي وريشة ، حدق محمود بوحشية نحو الواقف أمامه وقال بينما يصوب السلاح نحو عدوه :

“هذه هي نهايتك يا ابن البقرة “

استصعب الواقف تلك الشتيمة فخلع قبعته بتعجب ورد :

” لا يجب أن تصف والدتنا بالبقرة فهذا ليس جيداً “

تنهد محمود بعد أن خمدت نيران غضبه المصطنع فأنزل سلاحه وقال :

” كم مرة سأخبرك يا أحمد أنها لعبة ونحن لسنا نحن ، بل رعاة بقر في الغرب المتوحش “

” آه أنت محق لقد نسيت “

رد عليه أحمد وهو يعتمر قبعته مجدداً ، ويرجع لوضعيته .

ولدان مكوران بعمر العاشرة كأنهما حبتا توت ، توأمان زرقاوي العيون ويلمعان بتلك البشرة البيضاء النظيفة وخدود زهرية وكأنها قطع من تفاحة مستوية هكذا كان شكل الأخوين . كل الاختلاف الذي بينهما كان قصة الشعر فمحمود يحب الشعر القصير للغاية فبدا وكأنه أصلع تقريبا ، أما عن أحمد فقد كان يحب الشعر الذي يصل للأكتاف ويربط للخلف . منزل السيد أماني اكتفى بهذين الولدين .

إنها العطلة ولكن السيد والسيدة أماني في العمل ويا لها من أجواء مناسبة حصل عليها الولدان . منزل لطيف في أطراف الحي ، حديقة بسيطة وأثاث عطت منه رائحة الحنية والفطائر الشهية والدلال أغرق الاثنان حتى بالرغم من الوضع المادي البسيط إلا أن الوالدان لم يقصرا بشيء .

أمسك أحمد بسلاحه ووجهه نحو محمود بينما ينظر إليه بشماتة وكأنه انتصر في حرب لكن لم يعرف عدوه بعد بانتصاره :

” أهذه هي النهاية ؟ يا لك من أحمق لم تحسب حساب باقي عصابتي المختبئة ، فهنالك قناص يحمي ظهري فما الذي يحمي ظهرك ؟ “

طالع محمود حوله ليتفقد الوضع فأبصر دبدوباً أزرق بيده بندقيه يوجه فوهتها نحوه وهو يجلس أعلى الدولاب فالتفت لأحمد وسأل متعجباً :

” كيف وضعته هناك ؟”

” استخدمت الكرسي “

” هذا منطقي “

ثم عاد الولدان لحالة رعاة البقر وقال محمود بعد أن أدرك دهاء خصمه :

” آه تباً كم أنت ذكي يا جاك “

فرد عليه أحمد باستنفار بعد أن سئم منه :

” أخبرتك ألف مرة اسمي ماك وليس جاك “

رمى محمود سلاحه بغضب ورد :

”  يا له من اسم يا أحمد ، غيره ففي كل مرة أسمعه أتذكر ماكدونالدز واشعر بالجوع “

نظر أحمد له باستغراب ، فراح يحرك شفتيه كالأرنب وكأنه يتذوق طعم الدجاج ، ثم أمسك بطنه المدعبلة :

” معك حق ، دعنا نتناول شيئاً خفيفاً “

صحيح أنهما تناولا الإفطار قبل ساعة ، إلا انه لا ضير من بعض الوجبات الخفيفة والتي تراوحت بين رقائق البطاطا وأفخاذ دجاج من الليلة الماضية وكولا وثلاث موزات وست ألواح من الشكولاطة “

أتخم الولدان وجلسا على تلك الأريكة المعذبة بثقلهما ، وراحا يطالعان التلفاز حتى أفسد الفاصل الإعلاني وقتهما فقال أحمد بينما يهيم بالنهوض والبدء بالبحث :

” بسرعة لنبحث عن الريموت ، أنا لا أحب هذا الإعلان لأنه يشعرني الجوع “

” معك حق “

رد محمود بينما ينهض بدوره ليبحث فجأة ، وبينما يبحث أحمد بأطراف الكنبة أمسك شيئاً ولكنه ليس الريموت فأخرجه ليتفاجأ بهاتف فنظر لمحمود وقال :

” انظر يبدو أن أبي نسي هاتفه “

” هذا رائع دعنا نلعب به “

رد محمود بينما يتقدم نحو أحمد ليأخذ الهاتف ولكن ردة فعل تحمد كانت أكثر سرعة فابعد يده وقال بينما يحاول رفع الهاتف عالياً :

“لا ، سيغضب منا وأنا لا أتحمل العتاب كما تعرف فهو يشعرني بالجوع “

” إذاً لا تلعب انت ، أنا فقط من سيلعب “

” لا “

استمر الشجار بين الاثنين حتى وقف كل منهما على طرف من الكنبة ، كان محمود قد تعب فخطرت في باله فكرة ، توجه نحو الثلاجة وأخرج منها علبة كبيرة من المثلجات وأحضر معه ملعقة ووقف في الجهة المقابلة لمحمود من الكنبة وقال بينما يضع لقمة كبيرة منها في فمه :

” إن لم تعطني الهاتف فلن أترك لك منه شيئاً “

” حسناً حسناً لنتبادل الرهائن “

دفع محمود علبة المثلجات بعد أن وضعها أرضاً لأحمد ، بينما رمى الآخر الهاتف له بذات الوقت ، وصلت العلبة لأحمد فراح يتناولها بكل شهية . وبعد لحظات شعر بأن هنالك شيئا خاطئا ، شيء غير طبيعي فرفع رأسه ولم يرى محمود ،  فحمل علبته وتقدم ليبحث عنه وإذ بالهاتف يعانق الأرض ، ولكن أين محمود !؟ ، فوضع ملعقه كبيرة من المثلجات في فمه وراح يحاول حمل الهاتف ، إذ بمحمود قد أصبح داخله فصرخ أحمد :

” محمود كيف دخلت ؟”

كان محمود مصدوماً وهو يحدق بأخيه من زجاج الهاتف فقال بعد أن أدرك الوضع الذي هو به :

” لا أعرف ، فقد خرج ضوء قوي من الهاتف حين رميته نحوي وأغمضت عيني وحين فتحتها وإذ بي داخله “

نظر الأخوان لبعضهما ثم قال أحمد :

” حسناً هذا يكفي ، أخرج سيغضب والدي “

“وكأنني أعرف كيف سأخرج!! “

رد محمود وهو يتجول بالهاتف ويحدق بالتطبيقات ، كانت أرض الهاتف عادية كأي أرض منبسطة وممهدة غير أنها كانت عبارة عن صورة لطير أبيض ، والتطبيقات عبارة عن منازل مكعبة وحجم محمود تقريباً بحجم نصف برنامج . أما عن كيف يبدو من وجهة نظر أحمد فقد كان يبدو وكأنه شخصية في لعبة . فقال أحمد بينما يجلس على طرف الكنبة ويحمل الهاتف :

“ما رأيك لو نجرب أن تدخل للعبة وتموت بها ربما تخرج ؟”

” هل جننت!! ماذا لو مت حقاً ؟”

” معك حق “

جلس الأخوان قرابة نصف الساعة يفكران بما سيفعلانه ، وكانت النتيجة الدخول للعبة الطبخ التي سبق وحملها أحمد أثناء شجارهما قبل دخول أخيه .

ضغط أحمد على اللعبة ، ليظلم العالم على محمود وأصبحت الشاشة سوداء لأحمد ثم ظهرت الشاشة الرئيسية ومحمود غير موجود ، فقد ظل في الظلام حتى بدأت اللعبة ، فجأة ظهر محمود بثياب الطباخ ، قبعة بيضاء طويلة وسترة طبخ ، وهو يقف في مطبخ  وأمامه الزبائن القادمون ، كان الأخوان مصدومين بالكامل حتى قال أحد الزبائن وهو عبارة عن شاب عادي :

“أريد كعكة شوكولاطة بها شرائط حمراء “

نظر محمود للزبون ثم دخل للمطبخ ليتفاجأ فإذ بالمطبخ .. عادي كأنه بأرض الحقيقة وليس الخيال فقال أحمد :

” محمود أنا سأعد الوجبات وأنت قدمها للزبائن ما رأيك؟”

“انتظر يا أحمد ، أنا لا افهم لمَ داخل اللعبة يبدو حقيقاً هكذا؟ هل يبدو الأمر من عندك أيضاً حقيقياً أم أنها خيالية ؟”

” إنها عادية كأي لعبة ،  لمَ تسأل شيئا كهذا ؟ حتى إنك تبدو كشخصيات من اللعبة عندي “

تحمس محمود ولكن شعور القلق لم يفارقه ، فجأة سمع صوت جرس انتهاء الفرن وفتح بابه لتخرج تلك الكعكة التي طلبها الزبون فنظر لأحمد وقال :

” هل أنت مَن أعدها ؟”

” أجل “

” هذا مذهل “

ثم تقدم نحو الكعكة وأخذ جزءً منها بيده وأكلها فصرخ أحمد:

” ماذا تفعل يا محمود إنها للزبون!! “

فتوقف محمود بعد أن أدرك الأمر ، وحمل الكعكة وأعطاها للزبون والذي أصبح غاضباً وجن حين رأى الكعكة بهذا الشكل وقال :

” إنها ليست كما أردتها ، لذا سأعطيك نصف المبلغ “

وغادر بعد أن أعطاه المال ثم تقدمت سيدة عجوز من بعده وقالت :

“أريد شطيرة جبن عليها زينة علم  “

أخذ محمود النقود بصدمة ونظر لأحمد وقال بهيجان :

” أنظر يا أحمد لقد حصلت على خمس دولارات ، هذا مذهل !! ما رأيك أن نجمع المال وحين أخرج سأشتري دراجه جديدة لكلينا “

” معك حق لنفعل هذا “

استمر الأخوان باللعب حتى مضت ساعتان وجمعا مبلغا محترماً يكفي لشراء الدراجتين  ، ولكنهما شعرا بالملل والجوع بذات الوقت فقال محمود :

“ما رأيك أن تجرب رمي الهاتف بالمكان الذي رميته علي لعلي اخرج ؟”

ليرد عليه أحمد وهو يهيم بالنهوض بعد أن اقتنع بكلامه  :

” معك حق لنجرب “

فوقف أحمد عند طرف الكنبة التي كان يقف بها ، ورمى الهاتف للجهة المقابلة ولكن الرمية كانت أضعف قليلاً لذا اصطدمت بذراع الكنبة وارتدت على أحمد ، فانبعث ضوء قوي من الهاتف ، وأصبح أحمد بداخل الهاتف بدوره ، في البداية سعد محمود وراح يعانق أخاه ولكن سرعان ما أدرك الإثنان الوضع فالهاتف مقلوب على وجهه وكلاهما بداخله ما الحل؟

وبعد مرور أربع ساعات دخل السيد أماني للمنزل بكل سعادة وهو يتوقع مجيء ولديه لعناقه ولكن أين هما فنادى :

” أحمد ، محمود .. لقد عدت “

ولكن لا رد ، فتجول في المنزل باحثاً عن صغيريه ولكن من دون فائدة . بعد فترة لفت انتباهه ذلك الهاتف الأسود على الأرض فحمله وراح يتصفحه ، وما إن فتحه حتى صدم بالكامل ، كان الولدان يجلسان بالظلام كل هذا الوقت كون الهاتف انطفأ ، وضم أحدهما الآخر ، وما إن فتح الهاتف حتى عاد النور وأبصرا والدهما فصرخا :

” أبي نحن هنا “

كان السيد أماني منصرعاً  من هول ما رأى ، وربما أصابته سكتة دماغية فأغشى عليه وهو يقول :

“لقد أفرطت بالعمل هذه المرة “

وما إن فتح عينيه من جديد حتى أحس بشيء ناعم وطري تحته بصراخ الولدين :

” أبي انهض لقد خنقتنا “

لقد خرجا ! كيف ؟ لان السيد أماني سحق الهاتف حين أغشى عليه وانكسر فخرج الولدان ، فسرعان ما نهض وعانقهما ، أخبر الولدان والدهما بكامل القصة ولكنه لم يصدقهما حتى أدرك شيئاً وقال :

” هذا ليس هاتفنا أنا وأمكم لمن هو إذاً ؟”

جلس الثلاثة لحظة صمت وهم يحدقون بأروقة المنزل الهادئة ثم قال الوالد لحظة قشعريرة :

“لا أعرف لمن الهاتف ولكني أعرف بأننا لن نبقى بهذا المنزل !”

Krawre

العراق - للمزيد من القصص حسابي على الواتباد Krawre-sama
guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى