أدب الرعب والعام

ثورة قبل أوانها..

من الظلام إلى نور الصباح، استيقظت هذا اليوم بصعوبة على غير العادة، صوت المنظفين يملأ المكان خارج الغرفة، بعض الطلبة يعزفون بشدّة على أوتار أعصاب النائمين. نهضت من السرير أحاول إدراك نفسي و التأمل في ما يحيط بي.. الوحدة لا غير، أنا بمفردي في يوم جديد، السكون يسود الغرفة غير أن الصداع اتخذ في رأسي مسكنه نتيجةً الأرق و التدخين.

كسرت الصمت بإشعال سيجارةٍ و باشرتُ اليوم، ارتديتُ ثيابي و أغلقتُ باب الغرفة دون أن أكترث لحالي. غادرت المكان متّجهًا إلى الكلية، أحمل جسدي بنفس منهارة منذ زمن بعيد. لم أنتبه إلى الطريق كثيرًا، مررت في صمتٍ غير مبالٍ لما يحدث من حولي، كنت أرمق الناس بنظرة جامحة.. الألوان الفاقعة والابتسامات تسود الشوارع، لقد نجح الإنسان في رسم نمط من التظاهر خلق بدوره واقعًا مزيفًا.. لعله الأرق الذي داهمني الليلة الماضية لا يزال يرسلُ أفكارًا عدوانية أخرى.. لقد ولج قائمًا إلى ذهني بعد أن بسطت إليه العزلة و الإنفراد الظروف الممكنة وأسدل الستار على ليلة من “ليالي الشمال الحزينة”.

عندما وصلت إلى باب الكلّية أحسست بالاطمئنان، جلستُ بين زرقة السماء و خُضْرة أعشاب الحديقة وأحضان أشجارها .. كم يأخذني الحنين إلى هذا المكان و لا سيما الانغماس في كتاب وسط هذه الضوضاء والانسجام مع ما يكمن بين ثنايا الأسطر، أين يتحقق مزيج فريد بين لذة احتساء شراب البن المغلّي والكلمات التي تضفي على الواقع بريقا ليغدو على غير ما يبدو عليه.

كم يؤلمني أن موطن الفكر قد خلا منه التفكير، للوهلة الأولى في الجامعة تساءلت عن أولئك المفكرين الثائرين، صنّاع التاريخ الرافضين لهذا الواقع، لعلهم أفلوا و حل محلهم قوم خاضعين…

إقرأ أيضا: السجين الهارب (قصة اجتماعية)

الحرُّ من اقتلع الأصفاد و القيود و تخلّص من ثِقَل الاعتقاد بكل ما ينساق به إلى اتّباع القطيع، فيشعر بالفخر و السعادة في غربته و عزلته عن حشدٍ من الأوعية و النسخ المتكررة… أم أنه هَذْوًا، و أنني تائها بين الحروف و الكلمات أشعر بالاغتراب و أنا أتأمل التفاصيل ترتسم على الوجوه. إذ تستثير ما بداخلي من رغبة في الولوج إليها و إزاحة الزيف عليها لإعلاء ذواتهم التي قبعت وحيدة تحت سطوة شبح التظاهر..

أم أكتفي بأن أستمتع برونق و ريحان يبثه هذا المكان وأن أنهل بما خلّده ما سلف من أدباء مبدعين تسنّموا إلى المجد والسُّؤْدُدِ وسط معقلٍ للتاريخ وانشراحًا على سماء و مكانٍ قد شهد جمعًا ابتحمت أجسادهم في ساحة واعضة و بعزمٍ و إصرارٍ لم تفصل بينهم المنايا عن اجتثاث الظالم و اكتساب الحريّة و درء الجهل خارج أسوار القلعة.

لقد دفع الطغاة في بلدي ثمن تناسيهم تدمير هذا المكان و سلطة كُتِبَ عليها أن تقترف خطأ ساذجًا في حربها ضد الفكر و المفكرين فلم تسحق هذا الميدان. وما هي إلا أسباب أذنت لأن ينبجس الطوفان من أنقاض المباني و يعلوا صوت لجمعٍ غفير ” الشّعب يريد إسقاط النظام”.

المكان مترعُ بالفوضى و لكنها لوحة من الحاضر دفعها الماضي بكل ألم و أمل لفجرٍ مشرِقٍ، تلفتُ نظرك مشكاة الأنوار منارة تشيد بالفكر، يعلوها علم بلادي يرفرف مرسلا إشعاعه كنور الشمس في كبد السماء. يتوافد حولها الطلبة مقبلين من كل مكان يتطلّعون إلى كسب الرفعة باكتساب المعرفة، إنها كلية الآداب بمنوبة.

إقرأ أيضا:قتال الشيطان


و بينما كنت منصهرًا في فعل التأمل والربط بين الحاضر و الماضي إذ شعرتُ بأحد يقترب مني و يقف أمامي قاطعًا أشعة الشمس عنّي، التفتت إليه إذ به صديقي محمد بعد خمس عشرة سنة من آخر لقاءٍ يقف أمامي بجثته الهامدة مبتسم بوجهه المستدير وعينيه الجاحظتين و الشيب قد غزا شعر رأسه معلنا عن وقاره.. بعد ترحاب طويل أخذني رفقته إلى ركن من الكلية قد بدا لي في البداية مكانًا متروكًا لكنه تبيّن فيما بعد أنه مسكنه بعد أن اتفق مع إدارة الكلية على بيع الكتب فيه.

لقد حدّثني صديقي أنه تحصل على الاجازة في اللغة العربية بعد مغادرتي، وأن الأوضاع قد ساءت و لم ينه الماجستير بل ألعتُقِل و قضى خمس سنوات في السجن. بيد أن ذلك لم يمنعه من العودة الى هذا الجامعة لاتمام الماجستير و البدء من جديد فهو يؤمن أن في عودته نضالا و إصرارا و أنه من الأحرار الذين يفتكّون حريتهم بقبضة من حديد و ليس من الخاضعين الذين يقبعون و يلعنون الدهر على حالهم.

أخذنا الحديث إلى زمن سلّمت لولهة أنه منذ أيام قليلة، لقد سمر الرجال ليالٍ كثيرة يعدّون الشعارات و ينشدون ” شيدوا الكون جديدًا حرّا.. كونوا أنتم الوجود…” يحلمون بفجرٍ تشرق فيه الحرية، كان حبرنا لا يجمع بين الحروف سوى لشتم البرجوازيّة، لقد أضأنا العقول وسرنا إلى هلاكنا بكل فخرٍ، بل و الفرح يملأ قلوبنا كلّما شاعت أفكارنا و سمعنا صدى أصواتنا، و لا سيما الرّادع منها و التهديد بالسجن و الاعتقالات التي تنهش جسدنا الواحد…

لقد كان ذلك وازعًا إلى فجر يوم جديد نرمق فيه “ثورة البروليتاريا” و لو من وراء قضبان من حديد.. لقد توصلنا سويّا إلى أن ما كافح لأجله الرجال و النساء الأحرار قد تلاشى واضمحلَّ غير أن أثره لا يزال قائما لكن الحمقى اليوم قد أبدعوا في السخرية من هذا المكان وانساقوا إلى اللهو و ابتكار أساليب للتحقير بأنفسهم. لعل أكثرها بروزا التخلي عن الأفكار الثورية، من ثم الحقوق الأساسية، شيئا فشيئت أنفسهم و ذواتهم و ارتداء ثياب التمظهر و الزيف.

إقرأ أيضا: الطريق نحو الخطيئة

وقف صديقي و اقترب من سريره و أخرج من تحت الثياب و السرير كتابًا قديم و قال بحسرة :

_ عندما ساءت الأوضاع و وقع الفأس في الرأس وبلغت الحيرة و الإفلاس انحباس الأنفس، التجئت إلى بيع ما أملك من أغراض قديمة و ثياب و ساعة قديمة أهدتني إياها خليلة، لكنني لم أفكر في التخلي عن هذا الكتاب الذي سلمتني إياه و بداخله حفظت بعض القصائد الثورية التي كنت تكتبها.. لقد حزنت كثيرا و امتعضت يوم إخترق قلبي كرصاصة عندما سمعت ما تعرضت إليه أنت و بعض الرفاق من عنف و أين أدت بكم المقاومة.

سلمني الكتاب و قد كان حينها أحد العناوين الكبرى “لكارل ماركس”، أوراق غدت صفراء بفعل الزمن صدمت في وجه الدهر لكي ألتقي بها من جديد، رائحة أجمل بكثير.. لقد حُفظ بنجاحٍ في أيادٍ أمينة سلمته إياه في يوم من أيام الربيع.. العشرون من مارس ما يقابل عيد الإستقلال. يومًا لم يفارق ذهني أبدا، لقد بلغ التجييش أقصاه و أخذنا الحراك إلى شارع الحبيب بورڨيبة بالعاصمة في صراع مع السلطة و كنت أعتلي حشدهُ بلافتة كتب عليها ” يا عمّال العالم اتّحدوا “…وأحتدم الصدام فلم أَعُد.

سُجنتُ قبل ثورة الياسمين و في يوم الاستقلال سُلبتُ حريتي و لم أكتسبها.. توالت الإحتجاجات وراء جدران السجن بهدف تحريرنا وأضربت عن الأكل أياما و ليالي، ملئت صوري و صور أصدقائي مواقع التواصل الإجتماعي و ندد زملائنا بالتصعيد و لكن دون جدوىتأملت السماء ثم قلت لصديقي :

_ عايشت أيام الثورة على أمل أن يبلغنا صدى تلك الأصوات و لكن ما حدث بعد 14 جانفي كان أمرا غريبا فعلا! لقد أفرج على أصحاب النفوذ و أولئك السياسين القدامى و الأسماء اللامعة اليوم و لا سيما أصحاب جرائم كبرى في حق الانسانية جمعاء.. و تُركنا نحن مجموعة من الطلبة رفقة جرذان السجون لنطالب بحريتنا من وراء القضبان. لقد سكننا اليأس في تلك الفترة وفقدنا الأمل من مغادرة السجن على قيد الحياة. أي ذنب اقترفنا! لم تسند إلينا أي تهمة و لم يفرج عنا أي قاضٍ، كانت مجرد مسيرة قبل أوانها تدعو إلى إسقاط النظام.. و أُسقط فعلا!

إقرأ أيضا: سجينة..عشق النيران

لكن عدسات الكاميرا و شاشات التلفزيون شاء لها أن تقبرنا وتتناسى أمرنا، وأن تتوج آخرين بدلا عنا وتصورهم أبطال اليوم وعظماء الماضي.. و عندما قررنا الاستمرار في التصعيد أنهك الجوع أجسادنا و أتعبتنا قسوة الجرذان علينا. من المؤسف و المميت أن الأيادي التي انهالت علينا ضربا و وقفت أمامنا عائقا هي التي نكافح من أجلها و يعدّ تحريرها هدفنا…

بعد عشرة أيام أو أكثر بقليل من إضراب حاد عن الأكل تدهورت حالتنا الصحية بشكل ملحوظ، حيث أصبح بعضنا يعاني الهذيان و الفشل التام، قد أوشك أحدنا أن يفقد بصره. و عندما لاحظنا السجناء أحيا حالنا ما بداخلهم من تضامن و استنفروا و أعربوا عن غضبهم من الحراس لتجاهلهم لنا، و كان ذلك ما خططنا له قبل أن نضرب عن الطعام. كانت تلك اللحظة هي الموعودة منذ أسبوعين.. كان تمسكنا كله من أجل تلك اللحظة التي يقرر فيها رئيس السجن إما الإفراج عنا و النظر في أمرنا أو أن تنحدر الأمور الى الأسوأ.

إمتعض وجه محمد و طأطأ رأسه معبرا عن حزنه وأسفه الشديدين على ما آلت إليه الأوضاع بعد ذلك، وما جعل طلبة من المثقفين، نخبة المجتمع، المفكرين في مقام أوضع من الوهاد.
استطردت قائلا :

_أرجو أن تخبرني ماذا حدث لبقية رفاقنا عمر و عيسى، لقد افترقنا كما تعلم بين سجون مختلفة و مستشفيات.. كم انهارت قوامي يوم افترقنا و كان ذلك تدريجيا.. سجن انفرادي و ما زادني إلا املا، من ثم قطع نهائي بيننا أولج إلى الوهن و الخضوع.

إقرأ أيضا: الساعة – الجزء1

بصوتٍ خافتٍ لا يكاد يسمع أجابني صديقي و الحزن يملأ عينيه :

_ لا أدري من أين سأبد و كيف سأخبرك، لم يحتمل عمر هول ما حدث وأقدم على الانتحار داخل السجن الذي نُقِل إليه. لقد حُكِم مؤبدًا بتهمة التآمر على أمن الدولة ذلك بعد أسبوع من موت والدته. أما عيسى بلغني خبر أنه أصيب بالجنون جراء الأدوية التي تلقاها جسده بعد نقله الى مستشفى الأمراض العقلية… الحمدلله أنك بخير، لقد رجوت الله أن تكون بخير بعد أن انقطعت عنا اخبارك. أرجو أن تتعايش مع ما حدث بأنه مضى ونتهى و لا سبيل لتغييره بأي فعل. أنت فعلا من أبطال الثورة، و لكن يحكمون هذه الارض من لا يستحقون الحياة .

أنهى كلامه و ساد الصمت، فاجعة جديدة ارتطمت بها واغرورقت عيناي بالدموع، و لكن شيء بداخلي قد اعتاد على مثل هذه النكسات، أن تصبح ذا فقدٍ، يعني أنك حتما مسلوب المشاعر جراء مِرار التجارب… ليست الرصاصة الأولى تصيب صفّنا لقد كان وابلاً و لكن ربما الأخيرة بالنسبة لي.

استأذن محمد للخروج، بقيت وحيدا فساد الصمت الذي يسبق كل عاصفة، صمتًا انقلب بداخلي إلى صواعق من الهلع و الحزن. لم يكن ما أشعر به حينها غريبا بل سلف و أن حدث يوم نقلت من السجن إلى عزلة جديدة بين جدران بيضاء اللون و غرفة محكمة الإغلاق، لقد اعتدت على مثل هذه الخيبات، لكنني أول مرة أفقد الأمل ..

كسرت الصمت بإشعال سجارة لكن هذه المرة أقفلت على نفسي باب غرفة بإحكام و أمعنت في التفكير. هل فعلا خُلق الإنسان طليقا أم أن الشابي انتهى به البحث عن الحرية إلى العدم فرسمها في قصيدته؟ لا بد من معنى لهذا الوجود!! أليس من الجنون و التعسّف أن يحدد حاكم عاتٍ مصير أجيالٍ ؟ و السجال يستمر… ما السبيل إلى الحرية؟ أن نتظاهر! أن نرسم الإبتسامة في وجوهنا أمام المرآة كل صباح و نتّجه إلى العمل، دون أن نستيقظ ! ..

انتهت السيجارة وانتهى معها التفكير بعد أن رميتها في اتجاه باب الغرفة، وقد سكبت عنه و عن الجدران ما وجدت من بنزين و جعلت أحدّقُ في النار و هي تضطرم تميت تفاصيل الحياة، قبعت أنتظرها منزويًا في ركن محاط بالكُتبِ.

حسن الغربي

ملاحظة الموقع: القصة تعبر عن رأي الكاتب الشخصي وليس الموقع..

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

حسن الغربي

تونس - للتواصل : [email protected]
guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى