أدب الرعب والعام

حادثة المحامي المخيفة

أكتب هذه الكلمات كي أوّثق هذه الحادثة الغريبة التي حدثت في أواخر عام 1995 في إحدى فنادق القاهرة..

في هذه الغرفة التي كان يرتادها ذلك المحامي الشهير (ص.ج) وعذراً من عدم كتابتي لاسمه الكامل حتى لا أعرّض نفسي للمساءلة فيما بعد، فما أنا سوى موّثق للأحداث وناقل لعهد ما.

لنعد إلى قصتنا التي تبدأ بغياب المحامي في غرفته لمدة ليلة كاملة، حتى أنه لم ينزل للفطور ولا للغداء طوال هذا اليوم وعندما صعد أحد الموظفين كي يطرق على بابه لم يردّ، في حين أنهم يعلمون جيداً أنه لم يخرج الليلة السابقة أصلاً.. إنه في الغرفة، ولكن ماذا حدث له؟

بالطبع ما حدث في صباح اليوم التالي هو أنه كان الجميع في الغرفة يحدقون في الوجه الخالي من الحياة الموجود في الأعلى؛ حيث يتدّلى المحامي من ملاءة استخدمها على شكل مشنقة.. كان ميتاً جداً بطريقة مفزعة ومخيفة وهذا بدا جليّاً في عينيه المقلوعتين. هناك تجويف دامي في كل عين منهما. هناك أيضاً سكين صغير غارق في الدماء يمكث أسفل جسده المعلّق؛ فيبدو أنه سقط من يده.

بالطبع أيضاً جاءت الشرطة وكل ما له علاقة بالشرطة كالطب الشرعي، واجتمع النزلاء حول الغرفة وقد أصابهم الرعب والفزع، وطبعاً من الأحمق -سواء من عمال الفندق أو الشرطة وغيرهم- الذي يتجاهل هذه الورقة الواضحة للعيان الموجودة على مكتب جانبي يخلو من أي شيء سوى هذه الورقة؟ كما أن من الأحمق الذي لا يعلم أن هذه الورقة هي ببساطة (رسالة انتحار)؟

إقرأ أيضا: تحت قناديل الشارع

تُرى هل كتبها بعد أن اقتلع عيونه أم قبلها؟ احم.. عذراً على مزاحي المفاجىء، فلنعد إلى الواقعة. لنعود إلى الرسالة والمحتوى المفزع الذي بداخلها والذي يقول:

“أكتب هذه الرسالة وأنا على وشك ارتكاب عملية لا أريدها.. الانتحار، ولكن ليس بيدي، لانني إن لم أفعل فسيقودني إلى الجنون وربما سأفعل أشياء لا أريد فعلها بعد جنوني.. لهذا سأنهي كل هذا وسأريح نفسي.

نعم.. سأنتحر ولكن يجدر بي أن أقول لكم ما حدث، وسأبدأ رسالتي بتحذير يا من تقرأ رسالة الانتحار هذه… معرفتك بما سأحكيه عهد يجدر بك أن تقوم بتبليغه وإلا سيحدث لك مثلي، وستكتب الملابسات والشهادات مرغماً ولكن بعد فوات الأوان.

نعم… أعرف أنك ستسأل بعد نهاية الرسالة: لماذا إذن انتحرت بعد أن فعلت الصواب أخيراً؟ ستعرف في نهاية الرسالة.

كانت قضيّة مشؤومة سوداوية اللون. كانت قضيّة كنت بحاجة فيها إلى المال وخصوصاً أن العرض كان مغريّاً ولا يمكنني رفضه. كنت أعلم وأبوه يعلم وكل أهله يعلمون أنه من فعلها وأنه قتل صديقه وصديقته بعد أن وجدهما في أحضان بعضهما بطلقات نارية ثم تخلّص من أداة الجريمة في النهر. كنّا نعلم هذا، وكان هذا الشخص العامل سيء الحظّ شاهداً… فكان بمنتهى البساطة: العامل هو القاتل وابن الذوات لم يفعلها.

كان دوري في القضية هو إثبات التهمة على هذا العامل الذي لن يتضايق العالم برحيله؛ فكيف للعالم أن يتضايق برحيل شخص حثالة مثل عامل؟!

كان هذا دوري، ولكم زاد حماسي صياح الرأي العام والصحف وهجومهم عن العامل القاتل المنحرف والذي سيستريح العالم منه ومن أمثاله الذئاب الأوساخ عديمي الانسانية، وكنت أنا السبب، ولم أهدأ حتى تم الحكم على العامل بالإعدام شنقاً رغم دفاعاته وقسمه و..و.. ومن يهتم لقول شخص أقرب إلى البهائم مثله؟

حصل العامل (كبش الفداء) على الإعدام وتم انقاذ رقبة الابن المنحرف الوضيع من حبل المشنقة، وحصلت أنا على أكبر حلاوة لم أحصل عليها في حياتي. حلاوة تجعلني ثريّاً لأخر يوم من عمري.

أهل العامل كانوا يخرجون ويظهرون في كل مكان ويقومون بالحسبنة عليّ ويلطمون وجوههم، في حين كنتُ أنا على يخت خاص في شرم الشيخ أبتسم وأنا أشاهد على القناة المصرية هذه الأشياء المضحكة، وأضحك.

بدأ العدّ التنازلي لتنفيذ حكم الإعدام وسرعان ما جاء اليوم… قاتل الفتى والفتاة سيتم شنقه اليوم. أليست هذه من الأخبار التي تشعرني بالإنجاز؟ ولكن، هل الإنجاز يجدي أو له أهمية أمام ما حدث مؤخراً؟


إقرأ أيضا: وانتهى الكلام

نعم.. من ليلة الإعدام وأنا أراه.

كنت جالساًَ عند سور اليخت أدخن سيجاري والبحر الهادئ أمامي. أشتم رائحة البحر محملاً برائحة الدخان العطري الذي أستنشقه. الهواء الليلي يرتطم بوجهي في سلاسة. صوت الأمواج يعطيني المزيد من الراحة والمتعة والعيش في اللحظة. صوت غريب يظهر من الأسفل ناحية البحر، فلم أهتم. صوت خدش كأنه مخلوق أسطوري ما يخدش أسفل اليخت.

قمت وأنا أطرد هذه التخيلات الطفولية الساذجة ونظرت تجاه البحر وأسفل اليخت وشهقت عندما رأيت هذه اليد السوداء تخرج من المياه وتخدش اليخت بأظافر طويلة. أتراه هلوسة ليلية؟ يد سوداء تخرج في ظلام الليل؟ أقسم أن هذا ما رأيته. أخذتُ أحدّق في ما أراه حتى وجدت هذا الجسد الأسود المتعفن يبرز ويرفع رأسه نحوي، وصرخ صرخة حيوانية لا مثيل لها.

شهقتُ ورجعت خطوة إلى الوراء ووقعت على ظهري وأنا أسمع صوته وهو يصعد إليّ، وفي اللحظة التي رأيته أمامي بجسده الأسود وعيونه المقلوعة غاب وعيي.

استيقظت على هزّة من أحد الأشخاص الذين رأوا اليخت يتأرجح بالقرب من المرفأ المخصص لي فاقترب بمركبه ليجدني على الأرض أتنفس بصعوبة. شكرته وعدت إلى البرّ وقررت الرجوع إلى منزلي وقد ظننت أن الهلاوس قد لعبت بي، ولكن الموضوع أكبر من هذا.

نعم كما توقعتم.. رأيته في كل مكان. رأيته يقف ينظر لي ويصرخ بدون أن حركة أخرى. خُفت أن يؤذيني، وكنت أغيب عن الوعي كثيراً. كنت أراه في كل مكان؛ في غرفتي وفي الحمام و… أذكر أنني كنتُ أريد النوم بشدّة هرباً منه وبمجرد أن نمت على سريري، شعرتُ بالغطاء بجانبي يمتلأ حتى ظهر الكائن أسفل الغطاء بجانبي ونظر لي بوجهه الأسود وعيونه الدامية المقلوعة وأمسك بوجهي وصرخ نفس الصرخة الملعونة التي تجعل أعصابي تختفي ويبدأ البول يظهر أعلى سروالي في كل مرّة.

أصبحتُ لا انام، وكنت دائماً أهرب من البيت وأمكث معظم وقتي في المحكمة، وحتى النوم في هذا المكان من رابع المستحيلات؛ ففي كل مرّة أغمض فيها عيني أرى عيونه المقلوعة تحدق في وجهي.

إقرأ أيضا: عذابي الأبدي

ذات مرّة صرختُ فيه بجرأة..

_ ماذا تريد؟

كنتُ أعلم أنه هو الشاب الذي…. ماذا أقول!

_ماذا تريد؟

وكان يصرخ بدوره نفس الصرخة الحيوانية كأسد يصرخ.

كان سؤالي: ماذا تريد؟ وكانت إجابته الصراخ.

لم أحظ بلحظة واحدة بدون رؤيته، حتى أنني اعتذرت له أنني المتسبب في موته ظلماً ولكني لم أجد منه سوى الصراخ.. العيون المقلوعة..الرائحة! نعم الرائحة التي تظهر في كل مرّة يظهر فيها.. هل شممتم من قبل رائحة كلب تُرك ميتاً على جانب الطريق لمدة أسبوع حتى تحلّل؟

هذه هي الرائحة التي تملأ حواسي والمكان من حولي أينما ذهبتُ.. داخل البيت أو في المحكمة أو في القهوة التي باءت محاولاتي للنوم فيها بالفشل.

أصبحتُ أفكر في الموت. في الانتحار. كان يشجعني على هذا بابتسامة شريرة تظهر أسنانه السوداء الدامية.
كان ينظر لي في كل مرة ويصرخ في بدء الأمر، أما مؤخراً فأصبح يشير لي على ورقة بيضاء موضوعة على مكتبي ثم يشير إلى الأعلى.

تكرّر هذا السلوك الجديد. حقاً لم أعد أتحمّل ما يحدث.
ولقد فهمت ما يريده هذا الشاب. يريد القصاص مني. تريد روحه الانتقام.

واليوم أنفّذ ما ينبغي عليّ تنفيذه. اليوم أستحق ما أستحقه. اليوم أقول لكم أنا المحامي عديم الشرف. أستحق كل ما يحدث لي، وما سيحدث لي عند الله الذي نسيته طوال السنوات الماضية. تُرى ماذا سيفعل بي الله؟ إلى جهنم وبئس المصير إن شاء الله.

هكذا كانت الإجابة التي تأتي إلى ذهني أثناء كتابة هذه الكلمات. هكذا نظرتُ إلى صاحب العيون المقلوعة أمامي الآن، ونظرتُ إلى الأنشوطة التي علّقتها في السقف قبل الكتابة.

لقد تسببت في اعدامك، والآن سأعدم نفسي. هل هذا هو القصاص العادل؟ بالطبع لا!

هكذا نظرتُ إلى صاحب العيون المقلوعة أمامي الآن، ولأول مرّة أركّز في بشاعته. لا يشبه الفتى على الإطلاق.. بل…. إنه يشبهني.

هذا الكيان الذي أفزعني والذي سأنهي حياتي بسببه هو أنا؟ لكن، لماذا هذه البشاعة؟ هل تروني قد جُننت؟ نعم.. هو أنا. نعم.. لقد فهمتُ الحقيقة. الحقيقة هي أن لي ضمير، ضمير سئت معاملته حتى خرج من كياني وأصبح له كيانه المشوّه.

إقرأ أيضا: عجائب شهرزاد-3 و الأخير

إن هذا الكيان الذي أمامي بطل بساطة هو… ضميري الأعمى. وآخر ما قاله لي الآن..

أطلب من العالم أن يعلموا أن الضمير لهم بالمرصاد.
وها أنا أطلب منك تبليغ الواقعة. أطلب منك أن تروّض هذا الكيان بداخلك حتى يصبح بصيراً دائماً، فلن يصبح أعمى أبداً”

3 ديسمبر 1995 ..

**

والآن. قد عدت لكم وقد كتبتُ لكم الرسالة التي عثر عليها الجميع في مساء 4 ديسمبر من العام 1995. لو تلاحظون، فإن الرسالة لم تتحدث عن وجود سكين وستندهشون عندما أخبركم أن الطبّ الشرعي قال أن عملية اقتلاع العيون بالسكين حدثت بعد الوفاة.. أي كان هو في الأعلى.

السؤال: من الذي فعلها؟ هل هو ضميره ذلك المحامي الشهير؟ المحامي الذي كانت قضيته مخيفة لدرجة أنها أصبحت حديث الجميع في منتصف التسعينات؟

المحامي الذي اختفت قصته فجأة بعد مرور سنوات قليلة على حدوثها، حتى ساءت الأمور وكثرت حوادث القتل والانتحار.. لكن من الذي يستطيع أن يقولها؟ من الذي يستطيع أن يخرج إلى العلن ويقول… أنه الضمير الأعمى.

أنا خرجتُ وفعلتها.

-تمت-

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا
guest
32 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى