أدب الرعب والعام

حكايتي مع هدى

أمام مدخل لبناية متهالكة بوسط البلد علقت فوقه لافتة قديمة مكتوب عليها ” مجلة حوادث ” .. توجهت إلى الداخل فهذا هو مقر عملي الجديد . عمل تحصلت عليه بعد أن قمت بحملة تمشيط للمدينة طوال أشهر . و سلسلة وساطات و اتصالات معقدة أكثر من تعقيد جهاز الجيستابو . لا يهم .. أخيرا سأصبح موظفا و لدي راتب و سأحقق أحلامي و طموحاتي .

أفقت من خواطري على صوت موظفة الاستقبال المتشككة . و بفم مليء بالطعام يقطر دهنا سألتني عن حاجتي . عرفتها بنفسي و طلبت منها أن تدلني على مكتب رئيس التحرير . والذي رحب بي بطريقة جافة شبه ميكانيكية ثم دلني على مكتبي الجديد و شرح لي مهامي على عجل و توارى عني .

لم يكن المكتب مثلما تخيلت مطلقا . فالمكاتب الجميلة لا توجد إلا في الأفلام الامريكية . كمية الغبار هنا كافية لصنع جبل جميل من الرمل . أما الكرسي الذي من المفروض أن أجلس عليه حوالي الثماني ساعات، فالأرجح أنه من مخلفات محاكم التفتيش الإسبانية . لكني شخص إيجابي و لا يهمني الا النصف الممتلئ من الكوب و الذي لم أعثر عليه في أي مكان .


إقرأ أيضا : في عيناي ودقٌ لا يجف

مرت الأيام بصفة عادية حتى التحقت شابة تدعى هدى بالمجلة و شاركتني في المكتب . فتاة عادية جدا من الطبقة المتوسطة لا يميزها شيء عن الآلاف من النسخ في شوراعنا الخلابة . كلما دخلت المكتب ملأت الجو بعطرها النفاذ . أكاد أجزم أنها ألعن رائحة شممتها في حياتي . و هي كغيرها حريصة على ألا تغادر البيت حتى تزين وجهها بكمية معتبرة من المكياج . و قد ظننت في البداية أنها ربما متعلقة بشخصية الجوكر المحبوبة و تحاول التنكر مثلها . لكني كنت مخطئا .

تعاملت معي في البداية بتحفظ أنثوي مبالغ فيه نوعا ما . متخيلة أنها بهذا تحمي نفسها من تحرشات زميل العمل المستقبلي . وظنت أنها تفرض حول نفسها جدار صد ناري (فاير وول) . لكني بصراحة لم أكن مبالٍ اصلا و لا مهتما بها بأي درجة . ربما السينما و الموروث الثقافي كرست لديهن تلك الصورة النمطية عن الذكر الشرقي الذي لا هم له إلا معاكسة الفتيات المهذبات .

ظلّت حريصة على مخاطبتي بألقاب مثل سيير و أفندم لمدة غير قصيرة من الزمن . شيئا فشيئا تحطم جدار اللباقة ــ الجليدي ــ و اصبحت أدعى باسمي مجردا . فسيرورة الأمور تفرض أن أي بنت و ولد يجتمعان في مكان واحد يوميا إلا و يجدان نفسيهما بعد برهة يرتاحان لبعض و ربما معجبان ببعض . و هي حالة تقمص الحب كما تحدث في الأفلام .

خرجت ذات يوم لتناول غدائي و أحضرت لزميلتي ساندويتش نظرا لأنها كانت منشغلة بإنهاء عمل ما . ولن تقدر على الخروج بنفسها . ووضعت الأكل أمام يديها قائلا :
ــ تفضلي
نظرت لي بامتنان و قالت :
ــ شكرا لك يا زكي
لقد لفظت اسمي بطريقة جميلة لم أعتد عليها من قبل .

عندما حان موعد الغداء في اليوم الموالي طلبت مني هدى أن أصطحبها إلى نفس المطعم كون الطعام راق لها . و لم تنفع محاولاتي المستميتة في التهرب منها فقد التصقت بي كالغراء و أصرت ايضا على دفع الفاتورة كرد للجميل . حاولت مجادلتها لكنها زجرتني بنظرة حازمة معناها انتهى الكلام . كانت طريقتها في الرد صارمة تدل على قوة شخصية ومفيدة في نفس الوقت . لأني من ألد أعداء أولئك الذين يتخاصمون أمام محاسبي المطاعم على من يدفع .

إقرأ أيضا :تحت قناديل الشارع

لم أكن معتادا على رفقة الفتيات لذلك جلست معها و كأن على رأسي الطير . كما لم أجرؤ على النظر إلى الرفقاء في الطاولات المجاورة . و ظننت أنهم تركوا كل ما بين أيديهم و يركزون على التحديق في فقط . طبعا هدى لاحظت كل هذا، و بذكاء الأنثى الاجتماعي الفطري لم تشر إليه لا من قريب و لا من بعيد . وبعد الانتهاء من الأكل طلبت مني بكل لباقة رقمي الشخصي بغية تبادل الأراء الخاصة بعملنا بكل براءة طبعا .

تعرفت أكثر على هدى ــ الفتاة الحديدية ــ التي تعيل أسرتها المكونة من أمها و أختين فقط بعد وفاة والدها . قبل سنوات قليلة، لم تكن من النوع الذي يروق لي صراحة . فهي لا تتوانى في الرد على من عاكسها بوقاحة بكل جرأة . و تمتلك موهبة نادرة في مجادلة الباعة و الحصول على أي سلعة تريدها بسعر مناسب . أما الشجار في الحافلات و الأماكن العامة فهو على حسب ظني هوايتها المحببة . صارحتها في هذه النقطة و كان ردها أنها تكره الوقاحة وقلة الأدب . و أنه اذا سكت الجميع عن حقهم فسيصبح بلدنا غابة و سيلتهمنا هؤلاء الوحوش المتربصون في الشوارع و النواصي .

في بعض الأحيان عندما تغضب و تعجز عن الدفاع عن نفسها كانت تستعمل عبارات مثل “مجتمع ذكوري” ،و ” التمييز الجنسي “، و ” ظلم المرأة “ . كما أنها كانت عضوا نشطا في إحدى جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة و تحضر منتدياتهم و اجتماعتهم بحماس . يجب أن أقول أنها امراة حالمة . و ” المرأة الخيالية أو الحالمة هي الجحيم ذاته . لأنها لن تجد من تبحث عنه أبدًا . ربما لن تجد فارسها وسوف تكتفي بتعذيب البائس الذي رضيت به . إن رضيت بأحدهم أصلا ” .


علاقتي بهدى حولتني تدريجيا من شخص منعزل إلى اجتماعي . فعلت هي كل هذا كأم تحنو على وليدها بسلاسة و ببطء . فلم أدر إلا و أنا أصبح شخصا لا اعرفه، جديد تماما . و أخذت الصورة النمطية الكاريكاتورية التي رسمتها في خيالي عن النساء بصفة عامة تمحى تدريجيا . واكتشفت كم كنت مخطئا في تقديري . خاصة أن هدى صاحبة روح مرحة وحضور كاريزمي .

ملأت حياتي و الفراغ الذي كنت أعيش به و أخرجتني من قوقعة نفسي إلى رحابة العالم . وودعت الوحدة موطني الوحيد و رفيقي الدائم إلى الأبد . و أصبحت أرى الأمور و أحكم عليها بمنظور آخر متفهم و واقعي . بعيدا عن خرم الابرة الذي كنت أطل عليه الى العالم . و اكتشفت أني كنت ضحية مغالطة منطقية شهيرة تسمى رجل القش . و هو الشخص الذي يرسم صورة مشوهة عن العالم ثم ينتقدها . خسارة فعلا أن يظن الواحد منا أنه الأذكى و محور الكون و هو أجهل من حمار . المهم أن نراجع انفسنا و لا تأخذنا العزة بالذنب .

إقرأ أيضا :الفصول الأربعة

توطدت علاقتنا أكثر فأكثر ، نتصل ببعض و نسير، و نتناول طعامنا مع بعض . و نقضي أيضا بعض المشاوير معا . كل هذا دون أن ناخذ أي منعطف خاطئ أو نصرح لبعضنا بأي شيء عاطفي . لقد كانت هي طيبة دون تصنع . تطعم القطط الصغيرة في الشوراع بكل حب و حنان و صدق .


في أحد الأيام وقعت بمنطقتنا جريمة عنف منزلي راحت ضحيتها زوجة شابة . مما جعل هدى و جمعيتها يتجندون للدفاع عن حقوق المقتولة و يطلبون تنفيذ حكم الإعدام ضد الجاني . و بإلحاح منها حضرت الموقعة مشاهدا فقط . و قادت هي المسيرة نحو المحكمة متوسطة الصف الأول بكل شجاعة ـ كأني بها ماوتسي تونج يقود الشيوعيين لتحرير الصين -. اللافتات و الشعارات كانت تنادي بتطبيق القصاص و حماية المرأة . كانت الأجواء ملتهبة و قوات الشرطة تحاصر مبنى المحكمة و تفرض حوله كوردون أمني . لما اقتربت المسيرة من رجال الأمن و حاولت اختراقهم اشتغل الضرب وبدأ التدافع و الركل و اختلط الحابل بالنابل .

كل هذا و أنا أقف كالمتفرج بعيد عن الجَمعين . حتى تعرضت هدى للطمة من أحد عناصر الأمن أطاحت بها أرضا فغلى الدم في عروقي . خاصة لما رأيت سقوط خمارها و تبعثر خصلات شعرها لأول مرة و الدموع تنهال من مقلتيها . خلعت قناع التحضر مؤقتا، و لم أشعر بنفسي إلا و أنا أركل من ضربها بكل قوتي في بطنه حتى طار لمترين في الهواء . ثم أمسكت بيدها و فررنا من المكان مستغلين حالة الهرج و المرج التي سادت المكان . ركضنا بكل قوتنا مبتعدين، وبعد جهد كبير توقفنا لالتقاط أنفاسنا . و ماكادت هي تستعيد رباطة جأشها حتى غمغمت :
ــ هل رأيت كيف يتعامل المجتمع الذكوري مع النساء؟ . هؤلاء يحمون القاتل ويدافعون عنه .
لم أعلق على كلامها خوفا من الدخول في نقاش عقيم لا طائل منه . واكتفيت بهز رأسي كدليل على التأييد الصامت .
سرنا مع بعض حتى قاربنا منزلها. حاولت الإنسحاب فأمسكتني من يدي بكل عفوية و هي تبتسم ــ ابتسامة ساحرة مشرقة تليق بها ــ و قالت :
ــ ما رأيك أن تأتي لبيتنا لتشرب قهوة و تتعرف على الوالدة ماذا قلت؟ .
ترددت كثيرا في قبول عرضها خاصة و أني شخص خجول دون مداراة . لكنها حلفت بالطلاق إلا أن أدخل و جرجرتني إلى البيت بسلاسة . رغبة منها في أن أطلع على مملكتها وعالمها الذي تعيش فيه .


لاحظت أنه بيت متوسط في كل شيء . لكنه نظيف جدا و مرتب . رائحته جميلة، و الأجمل هي والدتها التي رحبت بي في حفاوة بالغة و دون أي تكلف كأي امرأة أصيلة . شعرت على عكس عادتي بارتياح كبير و حميمي داخل قلعة زميلتي . و التي أحضرت صينية جميلة بها أكواب قهوة و حلويات منزلية ــ صنعتها هي كما أخبرتني ــ كانت من ألذ ما دخل جوفي طوال حياتي _ و كانت حريصة على خدمة أمها و تتحدث اليها بأدب جم و احترام و مودة لم أر لهم مثيل . و للصراحة فالوقت الذي قضيته في هذا البيت كان رائعا .
قالت هدى مخاطبة والدتها :
ــ هل تعلمين يا ماما، كنا في مسيرة أمام المحكمة دعما لحق امرأة قتلت حتى ضربني أحد رجال الشرطة . لكن زكي لم يسكت و ضربه بقوة دفاعا عني .

قالت الأم بتبرم :
ــ أنت يا ابنتي لن تتوقفي عن حشر أنفك في مشاكل الناس طوال الوقت . سيأتي يوم يقبضون فيه عليك و يسجنوك و من يرضى أن يتزوج خريجة سجون آآه؟ .

وجمت هدى و أسقط بيدها، لكني قلت بدون اي تردد :
ــ أنا .. أنا يا حاجة افعل .

إقرأ أيضا :اليَد الدافِئةً..

فغرت هدى فمها و ملأت الدهشة وجه الأم و ساد جو من الصمت المطبق . وخجلت كثيرا من تسرعي فتنحنحت و طلبت الإذن بالمغادرة مطأطأ الرأس و الدنيا تدور بي .

كنت طوال الطريق شارد الذهن تغزو رأسي الخواطر السوداء . لمت نفسي بشدة و تمنيت لو سكت .
قال صوت داخل رأسي :
ــ اسمع أيها الغبي لو كانت البنت معجبة بشهامتك و أدبك فليست بالضرورة معجبة بافلاسك . لذا فاكبح جماح نفسك أيها الاحمق . وفكر في كلامك جيدا لا تكن غبيا اكثر من اللازم .
رددت على الصوت ــ داخل راسي ــ :
ــ أنت على حق .


فكرت في ترك العمل أو أخذ إجازة تهربا منها . لكني تراجعت .. فلست جبانا لهذه الدرجة، و ما فعلته لا يعد جريمة حتى بمقاييسي الصارمة للأدب و الأخلاق . ذهبت إلى الشغل مبكرا جدا وجلست في المكتب مدعيا الإنهماك في العمل . ولم أرفع رأسي حتى عندما دخلت هي المكتب . متجنبا تماما التقاء نظراتي معها خاصة أني أعلم أن البنات يُتقن جدا ألعاب العين تلك .

تنحنحت هي و قالت :
ــ ماذا بك؟، لما لا تتكلم ؟ .
ــ لا ..لا شيء . أنا منشغل .. و ..
نهضت من مكانها مقبلة نحوي فغمرني عطرها حتى النخاع :
ــ زكي .. أنظر لي لا تتحرج من أي شيء قلته . أنا و إن كنت لا أطيق شباب اليوم لكنك مختلف . وإذا كان هناك شخص يصلح لي هو أنت .

لم أقدر على مقاومة سحر اللحظة، وسقطت كالمنتشي من فرط السحر و الافتتان الذي غمر روحي .

إقرأ أيضا : ملائكة متألمة

شعرت بغبائي الشديد و حمقي في السابق لما وصفت هدى أنها مثل نسخة من الآلاف مثلها . لا و ألف لا، من تُراها تكن مثلها؟ أبدا لا توجد . الجوكر أو المهرج الحقيقي هو أنا . نعم، فمن لا يحسن التعرف على الجمال الحقيقي و الروح الجميلة من أول لحظة حق له أن يكون مهرجا . ثم إني أعلن أسفي الشديد و أعتذر لعطرها الذي بدا خانقا فيما مضى . لقد أصبحت رائحته الآن هي رائحة الحياة بالنسبة لي . في السابق ظننت أن الكنوز تتمثل في امتلاك الأموال و العقارات لكن لا، كنزي الحقيقي الوحيد هي هدى . التي أخرجتني من المتاهة التي كنت محاصرا بها .


تم كل شيء بسرعة بعدها و أصبحنا زوجين . لم يكن زواجنا رغبة في الحصول على الرعاية أو الأطفال . بل كان اندماج روحين في قالب واحد .
لقد كانت هذه هي حكايتي مع هدى . أعلم أنه سيأتي يوم تكون لنا فيه دزينة أولاد مشاغبين و مسؤوليات تنوء الجبال بحملها . و سنفقد شبابنا و رشاقتنا في سبيل الأسرة بل سنفقد حتى أنفسنا . لكن من يبالي مادامت هدى ستشاركني هذه الرحلة . ليس محطة الوصول هي غايتنا، لكن الغاية الحقيقية هي متعة الرحلة نفسها . وتمنيت في قرارة نفسي أن يكون لكل واحد من الناس هدى الخاصة به .

مصطفى 2018

- الجزائر - للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى