منوعات

سلسلة رواد الادب البوليسي 2: آرثر كونان دويل

مبتكر شخصية المحقق الشهير شارلوك هولمز ، الرجل الذي آمن بالأشباح وخوارق الطبيعة

في الجزء الأول من السلسلة تناولت سيرة حياة الكاتب والشاعر الأمريكي ادغار الان بو وكونه اول من قدم للعالم القصة البوليسية الحديثة، والان ننتقل من أمريكا الى بريطانيا للحديث عن واحد من اهم رواد الادب البوليسي وهو الكاتب الاسكوتلندي آرثر كونان دويل مبتكر شخصية المحقق شارلوك هولمز، والذي تربع على عرش الرواية البوليسية بجدارة ولم ينافسه فيه سوى مواطنته الإنكليزية اغاثا كريستي والتي ستكون موضوع الجزء القادم من السلسلة بإذن الله.

عندما بدأت اكتب هذه السلسلة ظننت ان أصعب جزء فيها سيكون الجزء الخاص بأدغار الان بو لأن حياته كانت صعبة ومعقدة وغامضة، الا أنى وجدت نفسي بعد البحث في السيرة الذاتية لآرثر كونان دويل امام حياة قد تبدو بسيطة وعادية في البداية، لكنها تصبح مع تقدم دويل في العمر أكثر تعقيدا ومليئة بالتفاصيل الغريبة التي قد تحتاج الى أكثر من مقال لكي يستوعبها. مع هذا حاولت قدر الإمكان ان اضمن مقالي هذا أكبر قدر ممكن من المعلومات حول هذا الكاتب الكبير. فلنبدأ اذن رحلتنا مع آرثر كونان دويل، حياته وادبه، وشخصيته الشهيرة شارلوك هولمز. 

ولد آرثر أغناطيوس كونان دويل في مدينة ادنبرة في أسكوتلندا عام 1859 (أي بعد حوالي عشر سنوات من وفاة ادغار الان بو) لعائلة تتكون من اب فنان وام شغوفة بقراءة الكتب وبارعة في رواية القصص والحكايات، ومما يرويه عنها ابنها آرثر بأنها كانت تجيد تغيير صوتها بحيث يحاكي القصص التي ترويها وبالأخص قصص الرعب. كانت عائلة دويل ذات دخل محدود ومشاكل عائلية كثيرة بسبب سلوك الاب الفوضوي وادمانه للكحول، مما جعل الفتى آرثر يهرب من واقع حياته الاسرية الصعبة الى الخيال في قصص والدته.

blank
ارثر في سن السادسة مع شقيقته .. الصورة عام 1865

عندما بلغ آرثر التاسعة من عمره، عرض احد اقربائه التكفل بنفقات دراسته، فأرسلته عائلته الى مدرسة داخلية في إنكلترا، ومن هنا بدأت معاناته بسبب النظام الصارم والعقاب البدني القاسي الذي كان سائدا في تلك المدرسة والمدارس الإنكليزية عموماً آنذاك (الامر ذاته الذي عاناه سلفه ادغار الان بو عندما كان يدرس في المدارس البريطانية)، الا ان آرثر دويل (كما كان يُطلق عليه قبل إضافة اسمه الأوسط “كونان” إلى لقبه)، لم يترك المدرسة واستمر في دراسته وتخرج منها عندما بلغ السابعة عشرة، وخلال فترة دراسته برز في مجال الرياضة، وخاصة لعبة الكريكت التي كان بارعا فيها، كما اكتشف آرثر أنه ورث براعة والدته في رواية القصص، حيث كان يجمع زملاؤه التلاميذ حوله ويروي لهم القصص التي الفها من خياله.

بعد تخرجه من المدرسة الداخلية، عاد آرثر الى أسكوتلندا والتحق بجامعة ادنبرة للعلوم الطبية عام 1876 وهناك تتلمذ على يد الجراح الشهير آنذاك جوزيف بيل. كان جوزيف بيل رجل شديد الملاحظة وبارع في الاستنتاج والتشخيص، فمن خلال بعض العلامات البسيطة كان جوزيف بيل قادر على ان يحلل اين كان هذا الطالب او ذاك او ماذا كان يفعل، الامر ذاته كان يفعله مع المرضى اذ كان يحزر نوع المرض قبل ان يتكلم المريض عن الاعراض، وكان يحزر ما هي مهنة المريض او من اين جاء وهكذا. وهنا بدأ آرثر ينبهر بقدرات الاستنتاج لدى جوزيف بيل بشدة، وعندما عمل كمساعد له ازداد انبهاره به، الامر الذي ستظهر أهميته فيما بعد.

تخرج آرثر من جامعة ادنبرة عام 1881 بدرجة الماجستير في الجراحة، وكان اول عمل له هو طبيب لإحدى البواخر الخاصة بصيد الحيتان التي تبحر بين ليفربول والساحل الغربي لأفريقيا، لكنه تخلى عن هذا المنصب لان الرحلة الى افريقيا كانت خطيرة بسبب العواصف وأيضا بسبب اصابته بالملاريا، ثم في عام 1882 عمل لفترة قصيرة لدى أحد الأطباء قبل ان يتوجه الى بورتسموث وهناك فتح اول عيادة له في طب العيون، وكان بدايته صعبة لان عدد المرضى كان قليلا ولهذا كان لديه وقت فراغ في عيادته، فأخذ يستغله في تأليف القصص من اجل زيادة دخله، ولكن قصصه الأولى لم تلقى أي رواج، وان كانت عادت عليه ببعض الدخل القليل.

blank
عمل كطبيب في البواخر الذاهبة الى افريقيا .. الصورة مطلع عقد الثمانينات من القرن التاسع عشر

في عام 1885 تزوج آرثر من لويزا هوكينز والتي كانت شقيقة أحد مرضاه وأنجب منها ولدين هما ماري وكينغزلي. يقول عنها آرثر كونان دويل، بأنها من شجعته على الاستمرار في كتابة القصص واثبات نفسه ككاتب، وأنها تحملت معه حياته الصعبة عندما لم ينجح في مهنة الطب وكان شبه مفلس وقتها، وان أي مشكلة او خلاف يحصل بينهما، كان الفضل يعود لها في حلها وتهدئة الأوضاع في منزلهما.

في خضم معاناته، استعاد آرثر كونان دويل ذكرياته مع استاذه الجراح جوزيف بيل واساليبه البارعة في التحليل والتشخيص وقرر ان يكتب قصة يكون بطلها واحدا من رجال التحري تكون اساليبه في التحقيق مشابهة لأساليب جوزيف يبل، وهكذا كتب اول رواية بوليسية له بعنوان “دراسة في اللون القرمزي” والتي ظهرت فيها شخصية المحقق شارلوك هولمز ومساعده الدكتور واتسون لأول مرة، وقام بنشرها على أجزاء في مجلة بيتون عام 1886 ولكن لم يلتفت اليها أحد، بعدها أراد آرثر كونان دويل نشر هذه الرواية على شكل كتاب، فأخذها الى احدى دور النشر التي رفضتها بحجة ان قدرات الاستنتاج لدى بطلها غير واقعية ولا منطقية، فأخذها الى دار نشر أخرى التي وافقت على نشرها لتكون على رفوف المكتبات البريطانية في نهاية عام 1887، ولكنها عانت من الركود ولم تلق أي رواج بين جمهور القراء البريطانيين. المفارقة هنا بأن النجاح الذي حظيت به هذه الرواية جاء من خارج بريطانيا وتحديدا من أمريكا، فقد تم نشر رواية “دراسة في اللون القرمزي” في أمريكا بعد نشرها في بريطانيا بثلاثة أشهر ولاقت نجاحا كبير نسبيا مقابل عدم رواجها في بريطانيا. 

نتيجة لنجاح روايته الأولى في أمريكا، قرر آرثر كونان دويل كتابة روايته الثانية “علامة الأربعة” والتي ظهر فيها شارلوك هولمز للمرة الثانية ونشرت هذه الرواية عام 1890 لتلقى نجاحا هائلا في امريكا مقابل نجاح متوسط في بريطانيا، ومع هذا، فقد ثبتت هذه الرواية اسم آرثر كونان دويل في عالم الادب.

blank
صورة زوجته لويزا .. والمنزل الذي شهد ولادة اطفاله وكذلك ولادة المحقق الشهير شارلوك هولمز

في عام 1890، سافر آرثر كونان دويل وعائلته الى فيينا في النمسا لكي يدرس طب العيون من اجل يكتسب خبرة أكثر في هذا المجال، لكنهم لم يبقوا هناك سوى ثلاثة أشهر قبل ان يعودوا الى إنكلترا ليعود دويل الى ممارسة الطب وافتتح عيادة في ديفونشاير، ولكن عدد المرضى الزائرين لعيادته كان قليلا جدا فقرر دويل ان يترك الطب ليتفرغ تماما لكتابة القصص والروايات.

الشهرة الحقيقة لدويل جاءت مع نشر اول مجموعة قصصية لشارلوك هولمز في مجلة ستراند الشهرية المصورة، فقد قوبلت تلك القصص بنجاح جماهيري ساحق غير مسبوق في تاريخ الصحافة والنشر في بريطانيا. بعدها نشر دويل المجموعة القصصية الثانية لشارلوك هولمز والذي نجحت نجاحا باهرا مثل سابقتها، لكن مع كل هذا النجاح قرر دويل التوقف عن كتابة قصص شارلوك هولمز لأنه شعر بأنها تقيده وتغطي على أي قصص أخرى يكتبها، ولهذا قرر قتل شخصيته في قصة “المشكلة الأخيرة” التي صدرت عام 1893، ورغم ما اثار قراره هذا من استياء قراءه الا ان دويل لم يتراجع عنه.

  في عام 1894 اتخذ آرثر كونان دويل اتجاها جديدا في مسيرته الأدبية حيث بدأ في القاء المحاضرات الأدبية في الولايات المتحدة الأمريكية، كذلك بدأ في كتابة المسرحيات والروايات البعيدة عن الادب البوليسي، كما عاد الى نشاطه الرياضي من خلال ممارسة التزلج والكروكيت. في عام 1896، أصبح مراسلا حربيا لصحيفة وستمنستر جازيت عندما اشتد الصراع بين بريطانيا والصومال فيما يعرف بحركة الدراويش.

في عام 1899 اندلعت الحرب بين بريطانيا وجنوب افريقيا والتي تعرف بحرب البوير، وقد خدم آرثر كونان دويل فيها كطبيب حربي لمدة خمسة أشهر عام 1900 في مستشفى عسكري خاص بجنوب افريقيا. بعد عودته لإنكلترا رشح نفسه لانتخابات البرلمان في ادنبره – اسكوتلندا في نفس السنة ولكنه لم ينجح. في نفس الوقت بدأ يؤلف كتاب “حرب البوير الكبرى” والذي صدر عام 1901 سرد فيه وقائع تلك الحرب وتفاصيل الصراع بين الدولتين بدون التحيز لاي منهما، ثم عاد وألف كتاب آخر عن تلك الحرب بعنوان “الحرب في جنوب افريقيا: أسبابها وسلوكها”، وقد صدر هذا الكتاب عام 1902 والذي دافع فيه دويل عن بريطانيا ضد الاتهامات التي وجهت اليها بأنها استخدمت أساليب وحشية في التعامل مع الافارقة اثناء الحرب، وقد كوفئ على ذلك بأن تم منحه لقب فارس Sir وأصبح يعرف بالسير آرثر كونان دويل. 

وفي عام 1903 استطاع أحد الناشرين الامريكان اقناع آرثر كونان دويل بالعودة الى كتابة قصص شارلوك هولمز مرة أخرى مقابل مبلغ كبير من المال. وبالفعل اعاد آرثر كونان دويل شخصية شارلوك هولمز مرة أخرى من خلال المجموعة القصصية “عودة شارلوك هولمز” والتي قوبلت بترحاب شديد من قبل القراء الذين فرحوا بعودة شخصيتهم المفضلة بعد غياب عشر سنوات.

blank
ارتبطت شهرة دويل بالمحقق شارلوك هولمز وقصصه البوليسية الغامضة وصراعه المرير مع البروفسور موريارتي

عام 1906 كان عاما صعبا على آرثر كونان دويل، اذ ترشح فيه لانتخابات البرلمان مرة أخرى لكنه هزم أيضا في هذه المرة. كذلك اشتدت وطأة المرض على زوجته لويزا وتدهورت صحتها حتى توفيت في شهر تموز/ يوليو في نفس العام دخل بعدها آرثر في حالة من الاكتئاب الشديد. في عام 1907، أي بعد حوالي سنة من وفاة زوجته الأولى، تزوج آرثر كونان دويل مرة أخرى من جين ليكي، وانتقل بعدها الى مقاطعة ساسكس ليعيش فيها مع عائلته، أنجب آرثر وجين ثلاثة أبناء، ولدين وبنت.

في عام 1909 انتشرت في العالم اخبار عن الممارسات الوحشية التي ارتكبتها الإدارة البلجيكية في الكونغو بأفريقيا، وكان لآرثر كونان دويل دور فعال لفضح هذه الممارسات التي أودت بحياة الكثيرين خلال الأعوام التي قضتها دولة الكونغو تحت الاحتلال البلجيكي، فقد ألف كتاب “جريمة الكونغو” والذي تحدث فيه عن الانتهاكات التي مارستها بلجيكا ضد الافارقة هناك من حيث الاستغلال والتعذيب، فقد كانت بلجيكا بقيادة الملك ليوبولد الثاني تسعى آنذاك لضم الكونغو لملكيتها من اجل تجارة المطاط المربحة. ولم يكتفي آرثر كونان دويل بتأليف الكتاب فحسب، بل كتب عدة مقالات تفضح أفعال بلجيكا في الكونغو ونشرها في صحف مختلفة.

في عام 1912 نشر آرثر كونان دويل روايته “العالم المفقود The Lost World” وهي رواية تنتمي لأدب الخيال العلمي والمغامرات. نشرت هذه الرواية لأول مرة في مجلة ستراند للفترة من شهر نيسان/ابريل الى تشرين الثاني/نوفمبر عام 1912، وظهرت فيها لأول مرة شخصية البرفسور تشالنجر. تدور احداث هذه الرواية حول رحلة استكشافية يقوم بها البرفسور تشالنجر واستاذ زميل له يدعى البروفسور سمرلي وصحفي يدعى مالون ومستكشف يدعى لورد روكستون الى هضبة تقع في حوض الامازون في أمريكا الجنوبية للبحث عن الديناصورات التي من المفروض انها لاتزال تعيش في ذلك المكان، ومن اجل الترويج لهذه الرواية، تنكر دويل بهيئة البروفسور تشالنجر كذلك تنكر ثلاثة من أصدقائه في هيئة الابطال الثلاثة الاخرين. تعتبر هذه الرواية محاولة من آرثر كونان دويل للتخلص ولو بشكل مؤقت من شخصية شارلوك هولمز حيث قدم للعالم شخصية أخرى وهي شخصية البروفسور تشالنجر العالم والمستكشف ذو الطبيعة المتهورة والحادة على عكس طبيعة شارلوك هولمز الهادئة والرزينة، ظهرت هذه الشخصية في ثلاث روايات أخرى ومجموعة قصصية واحدة لدويل. تعتبر رواية “العالم المفقود” المصدر الرئيسي الذي الهم الكاتب الأمريكي مايكل كرايتون كتابة روايته الأشهر على الاطلاق “الحديقة الجوراسية Jurassic Park” ثم تبعها بالجزء الثاني منها والذي سماه بـ “العالم المفقود The Lost World” نفس اسم رواية دويل الاصلية.

blank
رغم الشهرة الكبيرة التي حققها له شارلوك هولمز الا ان دويل حاول دوما ان يخرج من تحت عباءة المحقق الشهير ويكتب قصصا في مواضيع اخرى

في نفس العام كتب آرثر كونان دويل مقالا يدافع فيه عن مسجون يدعى اوسكار سلاتر كان قد اتهم وادين بقتل امرأة عجوز في الثالثة والثمانين من عمرها بغرض السرقة عام 1909، فقد كان بحوزته بروش شبيه بواحد كانت تملكه الضحية واختفى بعد مقتلها. تم الحكم عليه بالإعدام أولا، ثم تم تخفيف الحكم الى الاشغال الشاقة المؤبدة بأمر من الملك ادوارد السابع. كون دويل نظرية من ان الضحية كانت تعرف القاتل وقد فتحت الباب له بنفسها حيث لم تكن هناك اثار اقتحام لبيتها، واتجهت شكوك دويل الى ابن اخت الضحية بأنه قتلها بعد شجار نشب بينهما بسبب وثيقة كانت بحوزتها، ولكن لم ينجح دويل في اثبات نظريته لان عائلة الضحية لديهم أصدقاء ذوي نفوذ وارادوا الصاق التهمة بأي شخص كي يكون كبش الفداء، وبالتالي فقد أدين سلاتر بالقتل. في عام 1925، تلقى دويل رسالة من اوسكار سلاتر يناشده فيه مساعدته في قضيته من جديد بعد ان قضى 16 عاما في السجن. اتصل دويل بالعديد من أصدقائه وكتب رسائل الى العديد من المسؤولين لإعادة فتح القضية والتحقيق فيها وقد نجحت جهوده هذه المرة فصدر امر بالإفراج عن سلاتر عام 1927. 

في عام 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى، وقد حاول دويل التطوع فيها والذهاب الى الجبهة الامامية، الا انه تم رفضه بسبب سنه المتقدم، فقد كان آنذاك في الخامسة والخمسين من عمره، الا ان هذا لم يمنعه من المساهمة في المجهود الحربي بأي طريقة ممكنة، فقد نظم وحدات دفاعية مكونة من متطوعين مدنيين في المدن البريطانية، الا ان المكتب الحربي امر بحل تلك الوحدات واستبدالها بوحدات تدار مركزيا من قبل مكاتبهم، وقد عرض على دويل منصب قيادي في احدى الكتائب الجديدة، الا انه رفض وانخرط فيها بصفة جندي. لم يكتفي دويل بهذا الامر بل انه استخدم شعبيته ككاتب ليرسل رسائل الى المكتب الحربي البريطاني تتضمن أفكارا إستراتيجية تساعد في الحرب، مثل تزويد جنود البحرية بأحزمة مطاطية قابلة للنفخ يمكن استخدامها لإنقاذ ارواحهم في حالة غرق السفن، وحمل قوارب النجاة على متن السفن العسكرية، وأرسل نفس الرسائل الى الصحافة لكي يؤثر على الرأي العام في بريطانيا، وبالتالي الضغط على الحكومة من اجل تنفيذ مقترحاته، وسواء اعجبت الحكومة بفكرته او بسبب الضغط من الرأي العام، فقد نجحت خطة دويل، وأمرت الحكومة بتزويد البحارة بأطواق مطاطية قابلة للنفخ، وقد تطورت هذه الفكرة الى ما يعرف بسترات النجاة للبحارة في وقتنا الحالي.

في العام 1916 زار دويل الجبهات الإنكليزية والفرنسية والإيطالية لمساندة الجنود هناك، أيضا في نفس العام سعى للحصول على عفو لزعيم المتمردين الإيرلنديين المحكوم عليه بالإعدام بسبب انضمامه لألمانيا في الحرب، الا ان مساعيه باءت بالفشل وتم تنفيذ حكم الإعدام في زعيم المتمردين الإيرلنديين بتهمة الخيانة العظمى.

الروحانية وصداقته مع هاري هوديني

blank
كان دويل مهووسا بالامور الروحانية وامن بقدرات الشقيقات فوكس اللواتي تطرقنا لجزء من قصتهن في مقال سابق

نأتي الان للجزء الأكثر غرابة في حياة آرثر كونان دويل وهو ايمانه بالأمور الروحانية. عندما نتحدث عن الروحانية هنا فأننا لا نقصد التعمق في الدين والارتقاء بالروح والفكر والابتعاد عن الأمور المادية في الحياة، بل الحديث هنا يكون عن الغيبيات والخوارق وعالم ما وراء الطبيعة، مثل تحضير الأرواح والتخاطر الذهني والتحريك عن بعد ووجود المخلوقات الاسطورية.

كانت البداية مع الاخوات فوكس، بالتحديد مارغريت وكاثرين فوكس، اللواتي ساعدن في تأسيس الروحانية وتعزيز الاعتقاد بأن الأرواح يمكنها التواصل مع الاحياء. نشأ الاخوات الثلاث في مدينة اونتاريو بكندا، ومن انتقلت اسرتهم الى مدينة هايدسفيل في نيويورك في القرن التاسع عشر. بدأ نشاط الاخوات فوكس الروحاني عندما زعمت عائلتهم بأن بيتهم في مدينة هايدسفيل مسكون وان هم كانوا يسمعون طرقات غريبة على جدران المنزل، وان مارغريت وكاثرين تواصلوا مع الروح التي تسكن منزلهم عن طريق احداث طرقات معينة لترد عليهم الروح بنفس شفرة الطرقات، وبواسطة شفرة الطرقات المتبادلة عرفوا ان الروح هي لبائع متجول قتل ودفن في منزل العائلة. بعدها، قرر الابوين ارسال ابنتيهما بعيدا لحمايتهما من المنزل المسكون، فذهبت كاثرين (كيت) لتعيش عند اختها الكبرى المتزوجة ليا والتي تسكن في مدينة أخرى، اما مارغريت (ماغي) فذهبت لتعيش عند شقيقها ديفيد، لكن أصوات الطَرْق على الجدران أصبحت تُسمع الان في منازل الاخوين، مما جعل الكثيرين يصدقون ان ماغي وكيت لديهما القدرة على التواصل مع الأرواح. تحولت الفتاتين الى ظاهرة في عالم الوساطة الروحانية، وأصبحن وسيطات مشهورات وبدأن بعقد جلسات تحضير الأرواح للراغبين في التواصل مع احبائهم الأموات مقابل مبلغ مالي معين، بل وأصبحن ايضاً يقدمن عروض التواصل مع أرواح الأموات في مسارح نيويورك ونيوإنجلاند وغيرها. بعض المصادر ذكرت بأن نشاطهن الروحاني كان في بدايات القرن العشرين، وهذا الكلام غير صحيح حيث ان ماغي فوكس وهي آخر من بقي على قيد الحياة من بين الاخوات الثلاثة توفيت عام 1893 (بعض المصادر ذكرت انها توفيت 1895).

في عام 1888، اعترفت ماغي فوكس بأنها وشقيقتها مارستا الخداع لسنوات في مسألة الوساطة الروحانية تحت اشراف اختهما الكبرى ليا، وان الطقطقة على الجدران كانت في الحقيقة تأتي من مفاصل اقدامهما وبأن جلسات تحضير الأرواح كانت عبارة عن عملية خداع واحتيال، وقد قامت الاختين ماغي وكيت بهذا الاعتراف علنا امام 2000 متفرج في احدى المسارح الكبرى، وقامتا بإحداث الطرقات الشبحية على ارض المسرح ليؤكدوا الخداع والاحتيال الذين مارستهما الاختين لسنوات.  

  بحسب الكثير ممن درسوا سيرة دويل الذاتية، فقد بدأ اهتمامه بالأمور الروحانية منذ العام 1887، ثم انضم لجمعية الأبحاث النفسية في عام 1893 من اجل التحقيق العلمي في صحة الظواهر الخارقة. بعد اجراء سلسلة من التجارب، أصبح دويل مقتنعا بوجود التخاطر الذهني وغيرها من الخوارق. في شهر تشرين الأول/ اكتوبر من عام 1916 أعلن آرثر كونان دويل تحوله رسميا الى الروحانية والقى اول محاضرة عنها عام 1917، وتبعها بسلسلة من المحاضرات الأخرى حول الروحانية في استراليا وامريكا من عام 1920 الى عام 1923، كذلك افتتح مكتبة مخصصة للكتب في مجال الروحانيات، كما قام بنشر تاريخ الروحانيات في مجلدين بالإضافة الى التطرق اليها في روايته “ارض الضباب The Land of the Mist” وهي ثالث رواية لشخصية البروفسور تشالنجر. من الأمور التي اهتم بها دويل وصدقها هي:

blank
هوديني هو مؤدي الخدع السحرية الاكثر شهرة في عصره وقد نال شهرة واسعة وبعض المقاطع القديمة لحركاته السحرية موجودة على اليوتيوب

1- تحضير الأرواح: في عام 1920 تعرف دويل الى الساحر الأمريكي الشهير هاري هوديني والذي كان محترفا في فن الخداع والشعوذة والحيلة. تخصص هوديني في الهرب من التوابيت تحت الماء والبنايات المحترقة والاصفاد الحديدية الثقيلة التي كبله بها رجال الشرطة. كان هاري هوديني قد بدأ هو الاخر بالاهتمام بالروحانية نتيجة فقدان والدته والتي أراد التواصل معها لكي يشعر بأنها لاتزال معه، ووجد ضالته في آرثر كونان دويل الذي كان يصدق بشدة مسألة تحضير الأرواح وانه من الممكن الاتصال بروح شخص بعد وفاته. في أحد الأيام دعا دويل صديقه هوديني للانضمام الى احدى جلسات تحضير الأرواح من اجل استحضار روح ام هوديني الذي كان بحاجة الى ان يصدق هذا الامر لكي يشعر بأنه لم يفقد امه. عندما بدأت الجلسة بدأت زوجة دويل تكتب رسالة املتها عليها ام هوديني على حسب قولها، وبعد انتهاء الجلسة بدأت الشكوك تراود هوديني حول مصداقية الجلسة، فالرسالة التي من المفروض انها من ام هوديني كانت باللغة الإنكليزية وهي لم تكن تجيدها لأنها هنغارية، كما ان الرسالة اغفلت عن ذكر ان اليوم الذي انعقدت فيه الجلسة يصادف تاريخ ميلاد ام هوديني. افضى هوديني بشكوكه الى دويل فوقع خلاف شديد بين الصديقين، لان دويل كان يؤمن بأن الجلسات حقيقة وجادل هوديني بان اللغة واعياد الميلاد هي شؤون خاصة بالأحياء بينما لاوجود لهذه الأمور في عالم الأرواح، بينما امن هوديني بأن الجلسات مزيفة وان الوساطة الروحانية هي كذبة كبيرة وان الوسطاء الروحانيون هم كاذبون ومخادعون، يخدعون الأشخاص المفجوعين بفقد احبائهم من اجل المال، وطبعا من الصعب خداع ساحر متخصص في فن الوهم والخدع، وقد كرس هوديني جهوده في فضح المحتالين الذين يدعون الوساطة الروحانية لخداع الناس، واستغرب ان شخصا مثل دويل يمكن ان يكون ساذجا الى الحد الذي ينخدع فيه بهذه الأمور. 

في الوقت الذي كان فيه هوديني يحاول ان يبرهن بأن عملية تحضير الأرواح هي مزيفة وغير حقيقية، كان آرثر كونان دويل من جهته يدافع عن مسألة تحضير الأرواح ويعرب عن تصديقه الشديد لها، وقد كتب مقالات بهذا الشأن منهم مقال عن الاخوات فوكس نشره في مجلة العلوم الروحانية عام 1922 تحدث فيه عن تجربتهن في تحضير الأرواح متجاهلا اعترافهن الصريح بالخداع والاحتيال، وان التواصل مع الأرواح هو حقيقي وموجود وان الكثير من الأشخاص لديهم القدرة على ذلك، حتى انه نشر إفادات للأسرة التي سكنت منزل هايدسفيل قبل ان تسكنه عائلة فوكس فيه تؤكد بأن المنزل مسكون وانهم كانوا يسمعون طرقات غريبة على الباب والجدران. بل انه حتى امن بأن هوديني لديه قوى خارقة رغم ان هوديني نفسه أكد له بأن كل ما يفعله هو عبارة عن خدع وخفة يد.

blank
كان دويل وزوجته يقيمان جلسات لتحضير الارواح في منزلهما

حادثة أخرى حصلت مع دويل تخص تحضير الأرواح سميت بـ ” قضية الوسيطة المقنعة”. في عام 1919 اقام آرثر كونان دويل وزوجته جين جلسة تحضير أرواح في شقتهم حضرها اصدقاؤهم المهتمين بالروحانية. كانت الوسيطة في هذه الجلسة معروفة باسم “الوسيطة المقنعة” لأنها ترتدي قناع يغطي النصف الأسفل من وجهها.

بناءً على تعليمات مسبقة من الوسيطة، فقد احضر كل شخص ممن حضروا الجلسة غرضا شخصيا صغيرا، تم وضع الأغراض في صندوق واحكموا اقفاله قبل حضور الوسيطة. عندما بدأت الجلسة، وضعت الوسيطة الصندوق المقفل في حجرها دون ان تفتحه وبدأت تصف كل غرض بدقة ومن هو صاحبه بما فيها خاتم يخص ابن دويل المتوفي كينغزلي حيث كان الحرفين الأوليين من اسمه منقوشين على الخاتم. بعد فقرة التعرف على الأغراض بدأت جلسة تحضير الأرواح حيث قيدت الوسيطة الى كرسيها ومال رأسها ليظهر طيفا شبحيا بدا وكأنه لامرأة عجوز يحوم خلف الوسيطة حتى تلاشى. انبهر الجميع بما فيهم دويل بقدرات الوسيطة المقنعة بحيث انهم حضروا جلسة أخرى لها في أحد المسارح. بعد فترة تم الكشف عن خداع الوسيطة المقنعة والتي تدعى مولي وينترز، كانت مولي وهي امرأة مهووسة بالتكنولوجيا تعمل هي وشريك لها في جلسات تحضير الأرواح، والقناع الذي ترتديه ما هو الا وسيلة لإخفاء راديو لاسلكي صغير. الخدعة التي مارستها الوسيطة هي وجود صندوقين متماثلين تماما أحدهما وهو فارغ تضعه الوسيطة في حجرها اما الصندوق الذي يحتوي على الأغراض فيأخذه شريكها الى غرفة أخرى ويفتحه ويقوم ببث محتوياته الى الوسيطة من خلال سماعة الراديو المثبتة الى اذنيها. اما الطيف الشبحي فهو عبارة عن قطعة من الشاش مطلية بالفسفور يتم تحريكها بواسطة أحد المساعدين الاخرين للوسيطة والذي يقوم بالتسلل الى البناية مرتديا ملابس سوداء ضيقة كي لا يراه أحد، وطبعا تنفيذ هذه الخدع سهل كون ان جلسات تحضير الأرواح المزعومة تجري في الغرف المظلمة.

بعد الكشف عن الخدعة، انتقد الكثيرون دويل لتصديقه تلك الوسيطة وتسائلوا كيف سمح لنفسه ان يقع فريسة لخدعة مثل هذه، الا ان دويل دافع عن نفسه في رسالة بعنوان “Toward The Stars and The Masked Medium” نشرها في مجلة “الضوء” عام 1924 بأن الجلسة الأولى التي جرت في منزله كانت حقيقية وانه كانت الغرفة التي عقدوا فيها الجلسة كانت مضاءة بشكل لابأس به بحيث انه كان يستطيع رؤية الوسيطة بوضوح، وانه لو كان هناك نوعا من الخداع لجذب ذلك انتباهه على الفور، بينما في المسرح كانت الصالة مظلمة بحيث كانت الرؤية صعبة ولهذا تمت عملية الخداع بسهولة.

blank
في ذلك العصر راجت الصور الفوتغرافية التي تظهر اشباح وامن بها الناس .. مع انها في الحقيقة كانت تعتمد على خدع تصويرية تعد ساذجة بمقاييس التصوير اليوم

2- صور الاشباح والمخلوقات الخرافية: في بدايات القرن العشرين ظهر وسيط روحاني مثير للجدل يدعى ويليام هوب وادعى بأنه يستطيع استحضار أرواح الموتى والتقاط صور لهم، ومن ثم أسس هو وستة من زملاؤه ممن ادعوا الوساطة الروحانية جمعية تسمى ب “Crewe Circle” تعمل على تصوير الأشخاص مع احبائهم الأموات. ازداد نشاط تلك الجمعية والطلب على خدماتها بعد الحرب العالمية الأولى حيث سعى الكثير من المكلومين الذين فقدوا احبائهم في الحرب الى إيجاد وسيلة للاتصال بهم. كان آرثر كونان دويل من أحد عملاء ويليام هوب، فقد قام هوب بالتقاط صورة لآرثر كونان دويل مع ما يفترض انه شبح ابنه كينغزلي عام 1920.

في عام 1922 أرسلت جمعية الأبحاث النفسية أحد أعضائها وهو هاري برايس للتحقيق في عمل جمعية “Crewe Circle”. استطاع برايس ان يجمع ادلة على ان ويليام هوب كان يستبدل الالواح الزجاجية للكاميرا بأخرى كانت تحتوي على خيالات شبحية من اجل انتاج صور الأرواح، ومن ثم قام هاري برايس بنشر نتائج تحقيقاته وفضح ويليام هوب كمخادع ومحتال. بالرغم من ذلك، دافع العديد من مؤيدي ويليام هوب عنه ومنهم آرثر كونان دويل في كتابه “The Case for Spirit Photography ” والذي نشره عام 1922 ودافع فيه بشدة عن ويليام هوب ضد اتهامات برايس له ولجمعية “Crewe Circle” بالاحتيال. ومن الغريب ان ويليام هوب استمر في ممارسة التصوير الشبحي، رغم افتضاح امره، حتى وفاته عام 1933.

من جهة أخرى كان هناك ساحر اخر يدعى ويليام ماريوت واسمه المسرحي د. ويلمار كرس جهوده لإثبات خدع الصور الشبحية والاحتيال الذي يقوم به البعض من خلال تلك الصور. في عام 1921 قام ويليام ماريوت بدعوة آرثر كونان دويل وثلاثة شهود اخرين من اجل جلسة تصوير للأشباح ادعى انه يستطيع القيام بها. قام دويل والثلاثة الاخرين بفحص الكاميرا قبل التصوير للتأكد من عدم وجود أي خدعة او أي شيء مشبوه فيها، وبعد الفحص أكد الجميع ان الكاميرا طبيعية ولا يوجد فيها أي شيء غريب. بعدها، قام ماريوت بالتقاط عدة صور لدويل، وبعد تحميضها رأى الجميع طيفا شبحيا يظهر خلف دويل في احدى الصور، وفي صورة أخرى ظهرت بعض الجنيات واقزام الغابة، وتفاجئ دويل ومن معه بالصور وانبهروا بها قبل ان يصدمهم ماريوت بحقيقة أن الصور مزيفة تماما وبأنه قام باستبدال الالواح الزجاجية للكاميرا بسرعة وخفة يد قبل التصوير مباشرةً ودون ان يلاحظه أحد، وانه ما فعل ذلك الا ليثبت لدويل والجميع خدعة الصور الشبحية ، شرح كيف يقوم المصورون المحتالون بخدعتهم، وهي ان احدهم قد يستخدم اللوح الزجاجي للكاميرا نفسه في التقاط اكثر من صورة مما يؤدي الى بهتانها فتبدو مثل الاشباح، عندئذ يقوم المصور بدمجها مع الواح زجاجية جديدة ويلتقط صور لناس عاديين فتبدو على هيئة صور شبحية. نشرت هذه الصور بعدها في جريدة “Sunday Express” مع إفادات الشهود حول فحص الكاميرا وتوضيح من ماريوت عن كيفية تزييفه للصور. اضطر دويل بعد ذلك على الرغم منه ان يعترف بالهزيمة في هذا الامر، وان كان أدعى في محاولة للحفاظ على كبريائه بانه عرف من البداية ان ماريوت مزيف لان أصابعه كانت طويلة ورفيعة وهذه ميزة المشعوذين، اما الوسطاء الحقيقيون فكانوا أصحاب أصابع قصيرة وسميكة.

blank
جنيات كوتنجلي قضية اشتهرت في ذلك الزمان عندما زعمت فتاتان انهما تتواصلان مع جنيات بالقرب من منزلهما ونشرتا صورا لهذه الجنيات المزعومة

من أشهر الصور التي خدعت آرثر كونان دويل هي صور الجنيات واقزام الغابة التي التقطتها فتاتان تعيشان في قرية كوتنجلي بمقاطعة يوركشاير في إنكلترا. سميت هذه القضية بـ ” صور جنيات كوتنجلي “، وكانت الفتاتان تزعمان انهما تريان الجنيات واقزام الغابة في ركن خاص قريب من نهر القرية وان هذه المخلوقات لا تظهر الا لهما. لفت الامر نظر آرثر كونان دويل الذي كتب مقالا عن المخلوقات الأسطورية التي ظهرت للفتاتين ونشره في مجلة ستراند عام 1920 حيث شرح بالتفصيل أسباب الاعتقاد بصحة هذه الصور الغامضة التي أظهرت، بدقة كبيرة، مجموعة من الجنيات تلعب في الغابة، وقد استغرب البعض من ان يصدق شخص مثل آرثر كونان دويل مثل هذه القصة الخرافية، فهو لم يشك ولو للحظة باحتمال ان الصور مفبركة، كما انه لم يذهب بنفسه الى قرية كوتنجلي ليتحقق من قصة الفتاتين، بل ارسل شخصا اخر وهو ادوارد جاردنر وهو واحد من الذين يصدقون بشدة في وجود الكائنات الخرافية ليبحث في الموضوع وقد عاد وهو يؤكد صدق رواية الفتاتين بأنهن شاهدن وتحدثن مع الجنيات واقزام الغابة. طبعا اتضح بعد ذلك ان الصور مزيفة وان الامر هو عملية خداع كبيرة وقد سبق لموقع كابوس ان نشر مقالين حول هذا الموضوع في فترة سابقة.

اثار اهتمام دويل بالروحانيات الجدل والاستغراب بين معاصريه وجميع من درسوا تاريخه بعد وفاته، فكيف يمكن لشخص مثل دويل درس الطب وكان له اهتمامات بالرياضة والسياسة والعلوم ان يبدي اهتماما بتحضير الأرواح ويصدق بوجود الكائنات الخرافية مثل الجنيات؟؟ كيف للكاتب والاديب الذي كانت له مؤلفات في الادب والسياسة والذي قدم للعالم شخصية أشهر واذكى محقق والذي يعتمد على المنطق والعلم في تحليل الجرائم ان يصدق في الغيبيات والخوارق؟؟ البعض ارجع السبب الى وفاة ابنه كينغزلي وشقيقه اينيس والكثير من افراد عائلته، لكن بالعودة الى قصة حياة دويل نجد بأنه كان مهتما بالروحانية منذ عام 1887 وانضم رسميا الى الجمعيات الروحانية عام 1916 بينما توفي ابنه عام 1918 متأثرا بداء ذات الرئة بعدما خرج من الحرب بجسد منهك بسبب الجراح كما توفي شقيق دويل اينيس بعد وفاة كينغزلي بعام، اما والدته فقد توفيت عام 1920. حتى لو سلمنا جدلا بأن سبب ايمان دويل بالغيبيات والخوارق هو فجعه بفقد احبائه، فإن هذا قد يفسر ايمانه بمسألة تحضير الأرواح والصور الشبحية ولكنه لا يفسر تصديقه بوجود المخلوقات الخرافية مثل الجنيات واقزام الغابة، فهل كان هذا تأثير الحروب عليه؟؟ خصوصا وانه شارك في حرب البوير والحرب العالمية الأولى، فهل كان لمشاهد القتلى والجرحى ومن ثم وفاة بعض افراد عائلته تأثيرا على قواه النفسية والعصبية؟؟ ام هل أراد طرق مجال جديد في الكتابة لكي يتخلص من قصص شارلوك هولمز الذي من الواضح انه كرهها كرها شديدا؟؟؟ هل كان دفاعه عن الوسطاء الروحانيين رغم كشف كذبهم وخداعهم هو رفضه الاعتراف بالهزيمة وبأن التواصل مع الأرواح هو غير حقيقي؟؟ لم يستطع أحد ابدا ان يحل هذا اللغز.  

استمر آرثر كونان دويل في القاء المحاضرات حول الروحانية في اخر سنوات حياته، ففي عام 1925 القى محاضرة في المؤتمر الروحاني الدولي في باريس، وفي عام 1928 ترأس دويل المؤتمر بنفسه في دورة أخرى انعقدت في لندن. وظل يحاضر في ذلك المؤتمر في دورات أخرى انعقدت في مختلف دول أوروبا وافريقيا. وقد انهكته هذه الرحلات المتواصلة جسديا فأصيب بنوبة قلبية عام 1929 وتعافى منها ببطء. وعلى الرغم من نصائح اطبائه بأن يخفف من حركته وان يرتاح، الا انه واصل نشاطاته حتى توفي فجر يوم السابع من شهر تموز/ يوليو عام 1930 متأثرا بنوبة قلبية أخرى عن عمر 71 عاما. 

blank
انسان بلتداون .. قيل بأن هذه الجمجمة تعود لكائن يعتبر حلقة الوصل ما بين الانسان والقرد

بعد وفاة آرثر كونان دويل تم الاشتباه بأنه كان أحد المشتركين فيما يسمى “خدعة انسان بلتداون”. ففي عام 1912 تم العثور على جمجمة غريبة الشكل من قبل عالم اثار من الهواة يدعى تشارلز داوسون واثنين من زملاؤه في منجم بلتداون بمقاطعة ساسكس، وقد قيل بأن هذه الجمجمة تعود لكائن يعتبر حلقة الوصل ما بين الانسان والقرد حسب نظرية التطور لداروين. في عام 1915 أعلن تشارلز داوسون عن اكتشاف اخر وهو العثور على ضرس من عينة أخرى لإنسان بدائي اخر من نفس النوع الاول على بعد ميلين من منجم بلتداون، مما دفع العلماء إلى قبول الاكتشافين في وقتها ونال داوسون وزملاؤه شهرة عريضة في وقتها.

 في عام 1953 أي بعد وفاة دويل بثلاثة وعشرين عاما اعيد فحص الجمجمة ليتضح انها مزيج بين جمجمة بشرية من العصور الوسطى وفك سفلي لقرد من نوع أورانغبوتان وسن لقرد اخر من نوع الشمبانزي. وقد قام أحد ما بإعطاء مظهر مزور لقِدَم العظام عبر نقعها في محلول يحوي أملاح الحديد وحمض الكروم لكي يبدو ان العظام امتصتها من التربة المدفونة فيها، وقد بين الفحص الميكروسكوبي آثار مبرد على السن (سن الشمبانزي)، وبناء عليه فقد وصل الباحثون لنتيجة أن أحد ما قد تلاعب بالسن ليجعل شكله ملائماً أكثر للإنسان، ومع ان الشبهات بالدرجة الأولى اتجهت الى الرجال الثلاثة الذين اكتشفوا الجمجمة، وهم داوسون وزملاؤه، في تزييف أجزاء الجمجمة، الا انه كانت هناك نسبة من الشك في ان آرثر كونان دويل اشترك معهم في هذه الخدعة دون ان يظهر مباشرة في الصورة، من الأمور التي جعلت دويل احد المشتبه بهم في هذه الخدعة هي:

1- كان يعيش في كروبورو، على بعد 7 كيلومترات فقط من بلتداون.

2- لعب في نادي بلتداون للغولف، بالقرب من الحفرة حيث عثر داوسون على الجمجمة.

3- كان يهوى جمع الحفريات.

4- بعد الاكتشاف، أرسل رسالة تهنئة إلى تشارلز داوسون وعرض عليه أن يوصله إلى أي مكان بسيارته، ولهذا شك البعض فيه.

5- عبارة غامضة ذكرها في روايته العالم المفقود، مثل (إذا كنت ذكيًا وتعرف عملك، فيمكنك تزييف عظمة بسهولة كما يمكنك التقاط صورة فوتوغرافية)، جاءت هذه العبارة على لسان بطل الرواية البروفيسور تشالنجر

6- رغبته في الرد على العلماء الذين انتقدوه بسبب إيمانه بالروحانية.

بالمقابل كانت هناك حقائق تبرئ آرثر كونان دويل من هذه التهمة وهي:

1- من غير المعقول ان مبتكر شخصية اذكى محقق في الادب البوليسي سيرتكب غلطة زرع جمجمة مزيفة في منجم قريب من مكان اقامته وفي نفس المكان الذي يلعب فيه الغولف ويثير الشبهات حوله.

2- عدم ذكر اسمه ضمن من اشتركوا في الكشف عن الجمجمة لكي ينال الشهرة مثلهم.

3- علاقته السيئة جدا بتشارلز داوسون، فقد كان دويل يعتبر داوسون شخص جاهل بمسألة جمع الحفريات، بل انه حتى رفض تصديق اكتشاف داوسون لآثار اقدام الاغوانودون (نوع من الديناصورات المنقرضة).

4- عندما صدرت رواية “العالم المفقود” لآرثر كونان دويل، سخر تشارلز داوسون منها وكتب الى زميليه ” آمل أن يكون شخص ما قد قام بفرز حفريات دويل له”.

5- كانت هناك علاقة صداقة قوية بين آرثر كونان دويل وبعض العلماء الذين لا يؤمنون بفكرة الروحانية، بل ان أحدهم وهو راي لانكستر أرسل له رسالة يعبر فيها عن اعجابه الشديد برواية “العالم المفقود” برغم عدم ايمانه بالروحانية.

في عام 2016، تم تبرئة دويل من هذا الاتهام من قبل باحثين يعملون في متحف التاريخ الطبيعي وجامعة ليفربول بواسطة الأدلة الجينية التي اشارت إلى مزور واحد فقط وهو تشارلز داوسون. فقد أظهر دليل الحمض النووي الجديد الى ان الضرس الذي اكتشفه داوسون عام 1915 والذي كان من المفروض انه لإنسان بدائي اخر مدفون في موقع مختلف جاء من نفس الفك الذي في الجمجمة المزيفة لإنسان بلتداون، مما يشير الى ان داوسون وجد الفك مسبقا واخذ منها بعض الاسنان ثم دمجها مع الجمجمة البشرية وأعلن اكتشافه لحفرية انسان بلتداون عام 1912 ومن ثم استخدم بقية الاسنان ليعلن اكتشافه لحفرية الانسان البدائي الاخر عام 1915.

آرثر كونان دويل والادب البوليسي

blank

بدأت رحلة آرثر كونان دويل مع الادب البوليسي عندما كتب رواية “دراسة في اللون القرمزي Study in Scarlet” والتي قدم من خلالها للعالم شخصية شارلوك هولمز وزميله د. واطسون لأول مرة. شخصية شارلوك هولمز استوحاها آرثر كونان دويل من مصدرين. الأول، هو استاذه الجراح جوزيف بيل الذي ابهر آرثر كونان دويل بقوة الملاحظة لديه وبراعته في الاستنتاج، أي يمكن القول بأن جوزيف بيل هو شارلوك هولمز الحقيقي. الثاني هو شخصية المحقق اوغست دوبان التي ابتكرها ادغار الان بو، فقد صرح آرثر كونان دويل بأن ادغار الان بو كان من الكُتَّاب المفضلين لديه والمح الى انه استخدم بعض التفاصيل المتعلقة بشخصية المحقق اوغست دوبان لبناء شخصية شارلوك هولمز من خلال رواية “دراسة في اللون القرمزي”، عندما قال د. واطسون لشارلوك هولمز بأنه يذكره بشخصية اوغست دوبان في قصص ادغار الان بو، الا ان شارلوك هولمز امتعض من هذا الامر وقلل من شأن دوبان واعتبره سطحيا ومبهرجا، الامر الذي دفع احدى القارئات ان ترسل رسالة توبيخ لدويل لانتقاده اوغست دوبان، فرد عليها قائلا بأنه لم ينتقد دوبان بل شارلوك هولمز من فعل ذلك. مع هذا، فمن يقرأ قصص ادغار الان بو وآرثر كونان دويل سيلاحظ ان هناك فعلا أوجه تشابه بين شخصيتي اوغست دوبان وشارلوك هولمز من حيث قوة الملاحظة والاستنتاج القائم على أساس منطقي. يمكن القول بأن آرثر كونان دويل طور فكرة المحقق الذي ابتكرها ادغار الان بو وأضاف اليها قدرات استاذه جوزيف بيل ومعها عنصر المغامرة لكي يحل غموض الجريمة.

نشرت رواية “دراسة في اللون القرمزي” لأول مرة على شكل عام 1886 في مجلة بيتون ثم صدرت على هيئة كتاب لم يحقق النجاح المطلوب في بريطانيا مقابل نجاح متوسط في أمريكا. هذا الامر لم يمنع دويل من كتابة روايته البوليسية الثانية لشارلوك هولمز “علامة الأربعة The Sign of Four” والتي لم يكن نصيبها من النجاح بأفضل من سابقتها في بريطانيا.

في عام 1891 كتب آرثر كونان دويل مجموعته القصصية الأولى والتي تتكون من 12 قصة قصيرة بعنوان “مغامرات شارلوك هولمز The Adventures of Sherlock Holmes” ثم نشرها تباعا في مجلة ستراند الشهرية المصورة، وقد قوبلت تلك القصص بنجاح جماهيري ساحق غير مسبوق في تاريخ الصحافة والنشر في بريطانيا وأصبح شارلوك هولمز وزميله الدكتور واطسون محل اعجاب وتقدير الكثير من الناس. في عام 1893 بدأ آرثر كونان دويل ينشر مجموعته القصصية الثانية ” مذكرات شارلوك هولمز The Memoirs of Sherlock Holmes ” في نفس المجلة وأيضا بصورة شهرية ولاقت القصص التي نفس النجاح الذي لاقته السلسلة الأولى.

blank

مع كل هذا النجاح والشهرة، الا ان آرثر كونان دويل لم يكن راضياً عن وضعه، فقد يريد ان يثبت نفسه ككاتب في مختلف مجالات الادب  وليس مجرد مؤلف لقصص شارلوك هولمز، فقد بدأ يشعر بأن تلك الشخصية تقيده وتغطي عليه، وان القراء أصبحوا يعرفون شارلوك هولمز أكثر مما يعرفونه هو شخصيا، خصوصا وانه كتب رواية اسمها “الشركة البيضاء” والتي لم يكن بطلها شارلوك هولمز ونشرها عام 1891 ولم تلق أي نجاح يذكر، لذلك قرر دويل التخلص من شخصية شارلوك هولمز فكتب قصة “المشكلة الأخيرة The Adventures of Final Problem” واضافها لمجموعته القصصية الثانية والتي تنتهي بموت شارلوك هولمز عندما سقط هو وعدوه اللدود البروفسور موريارتي من اعلى شلالات رايشنباخ في سويسرا بعد ان دار بينهما صراع عنيف، نشرت هذه القصة عام 1893 وبها انهى دويل سلسلة شارلوك هولمز معتقدا انه قد تخلص من قيوده للابد، ولكنه كان مخطئا، لان رد الفعل الذي حصل بعد نشر قصة “المشكلة الاخيرة” لم يكن متوقعا على الاطلاق، فقد قوبلت القصة باستياء وغضب شديد من قبل القراء وارسل البعض منهم رسائل الى دويل تستنكر عمله وتصفه بالمتوحش، كما انطلقت مظاهرات كبرى في بريطانيا تطالب دويل بإعادة شخصية شارلوك هولمز مرة أخرى، وقد خسرت مجلة ستراند 20 ألف اشتراك، حيث ارتبطت المجلة بشخصية شارلوك هولمز لان الكثيرين كانوا يشترونها من اجل قصصه فقط. اما في أمريكا، فقد هاجمته الصحف هناك واتهمته بأنه يغار من شخصية هو ابتكرها، ورغم كل الاحتجاجات والهجوم الذي تلقاه إثر قراره بإنهاء شخصية شارلوك هولمز فإنه رفض إعادتها مرة أخرى في ذلك الوقت وقرر اتخاذ اتجاهات أخرى.

عام 1901 أعاد آرثر كونان دويل شخصية شارلوك هولمز بشكل مؤقت من خلال روايته الثالثة “كلب باسكرفيلThe Hound of Baskervilles ” والتي تجري احداثها قبل مقتل المحقق في قصة “المشكلة الاخيرة” بفترة قصيرة، وتم نشر الرواية على شكل أجزاء في مجلة ستراند ما بين عامي 1901 و1902. تعتبر رواية “كلب باسكرفيل” أكثر روايات شارلوك هولمز شهرة كونها الأطول بين مغامراته كما ان فكرتها كانت في ذلك الوقت غريبة ومبتكرة، ولهذه الرواية قصة خاصة بها، ففي عام 1900 عاد آرثر كونان دويل الى بريطانيا منهك الجسد والاعصاب بعد ان خدم في احد المستشفيات العسكرية في جنوب افريقيا لمدة ستة اشهر كطبيب عسكري اثناء حرب البوير، وعاش بعد عودته ازمة نفسية حادة جعلته يلجأ الى منتجع هادئ لكي يريح اعصابه وهناك حدثه احد اصدقائه بأن أهالي منطقة دارتمور الريفية يتناقلون شائعات عن ظهور شبح كلب رهيب يظهر لبعض الناس، واستهوت القصة دويل وذهب بنفسه الى دارتمور ليشاهد على الطبيعة منطقة الكلب الشبح، ومع انه تأكد بأن قصة شبح الكلب هي خرافة وليست حقيقية، الا ان أجواء المنطقة وغرابة الفكرة جعلته يحول قصة شبح الكلب الى واحدة من اشهر مغامرات شارلوك هولمز ان لم تكن اشهرها على الاطلاق. 

blank

في عام 1903 استطاع أحد الناشرين الامريكان اقناع آرثر كونان دويل بالعودة الى كتابة قصص شارلوك هولمز مرة أخرى مقابل مبلغ كبير من المال. وبالفعل اعاد آرثر كونان دويل شخصية شارلوك هولمز مرة أخرى من خلال قصة “مغامرة المنزل الخالي The Adventure of the Empty House” ونشرت تلك القصة في مجلة ستراند في شهر أيلول/ سبتمبر من نفس العام، أي بعد مرور عشر سنوات على صدور قصة “المشكلة الاخيرة”. كانت قصة “مغامرة المنزل الخالي” هي الأولى ضمن المجموعة القصصية “عودة شارلوك هولمز The Return of Sherlock Holmes “، والتي قوبلت بترحاب شديد من قبل القراء الذين فرحوا بعودة شخصيتهم المفضلة بعد غياب سنوات.

ما بين عامي 1908 و1917 نشر آرثر كونان دويل المجموعة القصصية الرابعة لشارلوك هولمز بعنوان “المغامرة الأخيرة His Last Bow” وفي اخر قصة منها والتي حملت نفس عنوان المجموعة القصصية يتقاعد المحقق الشهير بعد ان حقق في قضية تخص امن بريطانيا ويغادر لندن لينتقل الى مزرعة صغيرة في مقاطعة ساسكس ليقضي فيها ما تبقى من حياته.

ما بين عامي 1914 و1915 نشر دويل الرواية الرابعة والأخيرة من روايات شارلوك هولمز الطويلة وهي رواية “وادي الرعب The Vally of Fear” أيضا على شكل أجزاء في مجلة ستراند، ثم نشرت ككتاب كامل عام 1915. تعتبر هذه الرواية أفضل روايات شارلوك هولمز واقواها من ناحية الحبكة الروائية على الرغم من ان دوره فيها كان يقتصر على نصفها فقط. ومثل رواية “كلب باسكرفيل” فأن احداثها أيضا تجري قبل مقتل المحقق في قصة المشكلة الأخيرة حيث كان فيها تلميح لمواجهته القادمة مع البرفسور موريارتي.

رغم ان آرثر كونان دويل جعل شارلوك هولمز يعتزل مهنة المحقق في قصة “المغامرة الأخيرة His Last Bow” ضمن المجموعة القصصية الرابعة للشخصية، الا انه نشر المجموعة القصصية الخامسة لشارلوك هولمز بعنوان “سجل قضايا شارلوك هولمز The Case-Book of Sherlock Holmes ” ما بين عامي 1921 و1927 في مجلة ستراند وهي قضايا متفرقة للمحقق قبل تقاعده.

blank

لابد هنا من الحديث عن الشخص الاخر الذي شارك آرثر كونان دويل في تكوين شخصية شارلوك هولمز وهو الرسام الإنكليزي سيدني باجيت. كان سيدني باجيت أحد الرسامين الموهوبين الذين كانوا يعملون في مجلة ستراند وقت نشر قصص شارلوك هولمز وقد استعانت به المجلة لرسم الكثير من المشاهد التوضيحية لتلك القصص وهو من ابتكر الصورة الشهيرة التي يعرفها القراء لشارلوك هولمز، فإذا كان آرثر كونان دويل قدم شارلوك هولمز من خلال الكتابة فإن سيدني باجيت هو من قدمه من خلال الصورة المرئية، وقد استمر سيدني باجيت برسم صور قصص شارلوك هولمز حتى وفاته عام 1908. بعدها، استعانت المجلة برسامين اخرين لرسم قصص مغامرات شارلوك هولمز لكن لم يخرج أحدهم عن الإطار الذي وضعه سيدني باجيت.

حظيت شخصية شارلوك هولمز بشهرة وشعبية لم تحظى بها أي شخصية أخرى في عالم الادب البوليسي، لدرجة ان بعض الناس كانوا يعتقد بأن شارلوك هولمز هو شخصية حقيقية فعلا، وكانوا يرسلون اليه رسائل على عنوانه الوهمي يطلبون منه المساعدة في حل قضاياهم. لعل السبب الذي جعل القراء يتعلقون بشارلوك هولمز الى هذا الحد هو عبقرية آرثر كونان دويل في ابتكار شخصية هي مزيج من شخصية حقيقية وأخرى خيالية ونجاحه في ان يرسم عالما خياليا بدا أقرب للواقع في قصص شارلوك هولمز. كما ان هناك سبب اخر هو ظهور قصص شارلوك هولمز في وقت لم يكن الناس فيه قد تعودوا على هذا النوع من الشخصيات الخيالية، بمعنى اخر، ان دويل كان في وقتها هو الوحيد الذي يكتب هذا النوع من القصص، لان ادغار الان بو توفي ولم يكتب سوى ثلاث قصص لأوغست دوبان، اما اغاثا كريستي فقد كانت لاتزال طفلة عندما انتشرت قصص شارلوك هولمز بين القراء وحصدت ذلك النجاح الهائل.  

شارلوك هولمز

“عندما تستبعد المستحيل، فإن كل ما يتبقى مهما كان غير محتملا هو الحقيقة”

شارلوك هولمز

طبعا لا يمكن الحديث عن آرثر كونان دويل دون الحديث عن شخصيته المبتكرة الشهيرة شارلوك هولمز، المحقق الذي احبه القراء واعتبروه بطلهم وكرهه مبتكره واعتبره منافسا وقيدا له، ورغم انه شخصيته ليست الوحيدة بين شخصيات المحققين الخيالية الا انه يعتبر الأفضل والأكثر جاذبية وشعبية بينهم الى وقتنا الحاضر.

بالعودة الى قصة “المغامرة الاخيرة” والتي جرت احداثها عام 1914 عند بلوغ هولمز الستين من عمره فانه قد ولد عام 1854 وبدأ العمل كمحقق بوليسي خاص ومستشار في شؤون الجريمة عام 1878 لمساعدة رجال سكوتلاند يارد على حل الجرائم الغامضة والمعقدة. يقيم شارلوك هولمز في الشقة رقم 221B في شارع بيكر بلندن وهو حاصل على شهادة جامعية لم يحددها المؤلف.

بالنسبة لمواصفاته الجسمانية، يبلغ طوله 180 سنتيمترا، نحيل الجسد، عينيه حادتان وانفه طويل ومعقوف وذقنه بارز. اما شخصيته فقد كان هولمز يتصف بأنه حاد الذكاء وشديد الغموض لا يستطيع أحد ان يتكهن بما يدور في ذهنه، وكان أيضا هادئ جدا ومنعزل وغير اجتماعي. وكان متناقضا، فعندما تثير قضية ما اهتمامه فأن يعمل عليها بهمة ونشاط لا مثيل لهما، وبالعكس، عندما لا تكون هناك قضية مهمة فإنه يقضي أياما راقدا على الاريكة من دون ان يتفوه بأي كلمة ويتعاطى المخدرات في هذه الحالة. يتصف بأنه شديد الغرور ونرجسي، كما انه بارد في مشاعره لأنه يعتبر المشاعر الرومانسية عائق امام التفكير العقلاني المنضبط.

blank
شارلوك هولمز وصديقه الدكتور واطسن .. صورة قديمة

من صفاته الاخرى المهمة هي قوة الملاحظة والدقة والترتيب وبراعته الشديدة في الاستنتاج التي كان يحب كثيرا التباهي بها، وعلى الرغم من ثقافته الواسعة فأنه كان يسعى فقط الى المعلومات التي تفيده في مجال عمله، ولهذا كان ذو معرفة عميقة جدا بالكيمياء والتشريح وتاريخ الجريمة والقانون البريطاني، ومعرفة محدودة في مجالي السياسة والجيولوجيا، اما في مجالات الادب المعاصر والفلك والفلسفة فقد كانت معرفته بها معدومة تماما. بالإضافة الى كل ذلك، كان هولمز بارع في العزف على الكمان وبارع أيضا في مجال الرياضة، حيث انه لاعب خبير في القتال بالسيف والعصا وملاكم محترف وبارع أيضا في المصارعة اليابانية.

من الجدير بالذكر أيضا بأن شارلوك هولمز كان يعتمد اعتمادا كاملا على الأدلة الدامغة في حل قضاياه، فهو يبحث دوما في مسرح الجريمة عن ادلة مثل اثار الاقدام واثار حوافر الخيل وتحليل خط اليد واعقاب السجائر ورماد التبغ، كما انه كان مغامرا جريئا لا يتورع عن مخالفة القانون في بعض الأحيان، كمثال على ذلك اقتحامه لعدة منازل بصورة غير قانونية، من اجل العمل على قضية مهمة وإيجاد حل لها، كما انه كان بارعا في التنكر والتخفي عندما يتطلب الامر ذلك. 

كانت لشارلوك هولمز مجموعة من المتعلقات الشخصية وهي غليونه الشهير وعدسته المكبرة التي يتقصى بها اثار الجرائم والمعطف والكاب المميز على رأسه، وهناك أيضا الة الكمان التي كان يعزف عليها في معظم الأوقات، كما انه لديه مختبر صغير في شقته يعمل فيه على تحليل بقايا الدم وكشف السموم.  

من أبرز الشخصيات التي كانت موجودة في قصص شارلوك هولمز

blank
الطبيب واطسون كان

1- د. جون واطسون: طبيب جراح مساعد تخرج من كلية الطب في جامعة لندن، ثم التحق بدورة مقررة لأطباء للجيش في مقاطعة هامبشير. بعدها التحق جون واطسون بفرقة المشاة الخامسة كطبيب مساعد في الجيش البريطاني في الهند، ثم شارك في الحرب بين إنكلترا وأفغانستان، أصيب برصاصة في كتفه ومن ثم أصيب بحمى التيفوئيد. تمت اعادته الى إنكلترا واحالته للتقاعد بعد ان بلغ درجة كبيرة من الضعف والهزال نتيجة اصابته بالحمى. في انكلترا بدأ يبحث عن شقة بإيجار مناسب وشريك في السكن لكي يتقاسم معه نفقات المعيشة. التقى مصادفة بأحد زملائه الذي يعمل في أحد المستشفيات، وما ان عرف ذلك الزميل بأن واطسون يبحث عن شريك في السكن قام بتعريفه على شخص يعمل في مختبر المستشفى ذاته يبحث أيضا عن شريك في السكن هو شارلوك هولمز. بعد ان تشاركا في السكن أصبح واطسون صديق مقربا لشارلوك وراوي لمعظم مغامراته وقصصه.، وبقي الاثنين شريكان في السكن الى ان تزوج د. واطسون من ماري مورستان صاحبة قضية “علامة الاربعة”. شخصية د. واطسون لا تقل في الأهمية او الشهرة عن شخصية هولمز نفسه وهي مستوحاة من الراوي المجهول في قصص ادغار الان بو.

2- مايكروفت هولمز: الأخ الأكبر لشارلوك هولمز وهو مسؤول حكومي وعضو مؤسس لأحد النوادي في لندن. يمتع مايكروفت بقوة ملاحظة وقدرات استنتاجية تفوق تلك التي يتمتع بها أخيه شارلوك غير انه يستخدمها بشكل محدود بسبب كراهيته للعمل الميداني في تحقيقات الشرطة.

blank
جيمس مورياتي العدو اللدود لشرلوك هولمز

3- البروفسور جيمس موريارتي: أستاذ في الرياضيات وعالم عبقري شديد الذكاء، يستخدم ذكائه في تزويد المجرمين بخطط الجرائم المثالية والافلات من قبضة القانون دون ان يظهر هو في الصورة او يتم ذكر اسمه، وبالمقابل يحصل على جزء من الأرباح من المجرمين، وبحسب شارلوك هولمز، فإن البروفسور هو عقل اجرامي قوي للغاية وبارع جدا في وضع الخطط التي تجعل الجريمة ناجحة. يعتبر البروفسور موريارتي هو العدو اللدود لشارلوك هولمز على الرغم من ظهوره في قصة واحدة فقط وهي قصة “المشكلة الاخيرة”.

4- المفتش غريغ ليستراد: مفتش شرطة يعمل في سكوتلاند يارد والذي كان في بعض الأحيان يطلب مساعدة شارلوك هولمز في قضايا صعبة ومحيرة. يوصف ليستراد بأنه سريع ونشط لكن مشكلته الوحيدة هي انه يتبع الأساليب التقليدية في التحقيق في أي قضية ويفتقر الى الخيال.

5- ايرين ادلر: ممثلة ومغنية في الاوبرا وهي شديدة الجمال والذكاء. ظهرت في قصة واحدة فقط وهي “فضيحة في بوهيميا”، لكنها اكتسبت أهميتها من حيث كونها الشخصية التي فاق ذكاؤها ذكاء شارلوك هولمز والوحيدة التي استطاعت هزيمته في نهاية القضية.

تنوعت القضايا التي حقق فيها شارلوك هولمز في قصصه ما بين القتل والسرقة والخطف والاحتيال والاختفاء الغامض، كذلك كان عملاؤه من مختلف الطبقات من ملوك ووزراء ونبلاء وسيدات مجتمع وعمال ومربيات. تأثير شارلوك هولمز على الناس في ذلك الوقت كان لا يوصف، فلا يوجد شخصية خيالية تعامل معها الناس على انها شخصية حقيقية مثله، فقد كانوا يرسلون الرسائل الى عنوانه الذي لم يكن موجودا أصلا لاستشارته في قضاياهم. وعندما قرر مبتكره قتله، غضبوا منه غضبا شديدا وتظاهروا ضده، ورغم مرور عشر سنوات، (او بالأحرى ثماني سنوات إذا اخذنا بالاعتبار رواية كلب باسكرفيل) على اختفاء قصصه، فإن جمهوره لم ينساه وظل ينتظر عودة قصصه من جديد.

 محطات في حياة آرثر كونان دويل

1- لم يكن آرثر كونان دويل اديبا فحسب، بل كان بارعا في الرياضة والخطابة ويعتبر أيضا محاورا بارعا ومحاضرا يأخذ بالأسماع، وكانت له اراء ثاقبة في الكتب والعلم والسياسة والادب وشؤون المجتمع.

2- كان روبرت لويس ستيفنسون أحد زملاء دويل في كلية الطب وقد تحول هو أيضا الى الادب، فكتب رواية “جزيرة الكنز” كما شارك في كتابة رواية “قضية د. جيكل ومستر هايد”. كما كان دويل أيضا صديقا لبرام ستوكر مؤلف رواية “دراكولا”.

3- كان آرثر كونان دويل اديبا غزير الإنتاج، فكتب العديد من القصص التي تنتمي الى ادب المغامرات وادب الخيال التاريخي والخيال العلمي، كما كتب العديد من المسرحيات ودواوين الشعر، الا ان شهرته الأساسية كانت من خلال الادب البوليسي.

4- في عام 1891 قرر دويل قتل شخصيته شارلوك هولمز، ولكن والدته التي كانت من اشد المعجبين بقصص شارلوك هولمز عارضت هذا القرار بشدة واقنعته بتأجيله الى ان نفذه فعلا عام 1893.

5- على طريقة شارلوك هولمز، استطاع دويل ان يثبت براءة رجلا يدعى جورج إيدالجي وهو محامي من أصول هندية أدين بكتابة رسائل مزعجة ومحاولات قتل وتشويه المواشي في المقاطعة التي يعيش فيها. فقد اكتشف دويل أن شفرات الحلاقة الملطخة بالدماء التي تم العثور عليها في منزل إيدالجي والتي من المفروض انها استخدمت في تشويه الماشية كانت مجرد شفرات حلاقة صدئة ولا أثر للدماء فيها. كما اكتشف أن خبير الكتابة اليدوية الذي شهد بأن خط يد إدالجي يطابق الكتابة الموجودة على الرسائل الساخرة، قد ارتكب خطأً فادحًا في قضية أخرى تسببت في إدانة رجل بريء. كما اثبت ان الطين الموجود على حذاء جورج من نوع تربة مختلف عن تربة الحقل الذي حدث فيه التشويه الأخير. واستمرت عمليات القتل والرسائل بعد محاكمة إدالجي. وبعد ذلك كان هناك الدليل الأخير الذي جمعه كونان دويل. الدليل الذي رآه في لحظة عندما رأى جورج إيدالجي لأول مرة.

قال كونان دويل: ” لقد جاء إلى فندقي بموعد محدد مسبق بيننا، لكنني تأخرت، وكان يمضي الوقت بقراءة الجريدة. تعرفت على الرجل من وجهه الداكن، فوقفت أراقبه. لقد أمسك الورقة بالقرب من عينيه وبشكل جانبي إلى حد ما، مما يثبت ان لديه ليس فقط درجة عالية من قصر النظر، بل أيضًا الإستجماتزم الملحوظ. إن فكرة قيام مثل هذا الرجل بتمشيط الحقول ليلاً والاعتداء على الماشية بينما يتجنب مراقبة الشرطة كانت فكرة مثيرة للسخرية. . . وهناك، في عيب جسدي واحد، يكمن اليقين الأخلاقي ببراءته”.

6- في عام 1892 أصيبت زوجة دويل الأولى لويزا بالسل، فأخذها دويل الى منتجع دافوس بسويسرا من اجل التعافي. كان هذا المنتجع قريبا من شلالات رايشنباخ، الامر الذي ألهمه كتابة قصة “المشكلة الاخيرة”.

7- تعتبر مؤلفات دويل عن حرب البوير هي المؤلفات الوحيدة التي فاقت في الشهرة والاهمية والمبيعات قصصه البوليسية لشارلوك هولمز.

8- بسبب انتمائه للجمعيات الروحانية، خسر دويل الكثير من سمعته ومصداقيته وتعرض للعديد من الانتقادات والسخرية بأنه اقل ذكاءً من شخصية شارلوك هولمز التي ابتكرها.

9- كان آرثر كونان دويل من أوائل الذين روجوا لرياضة التزلج على الجليد في سويسرا. كما انه يعتبر من أوائل الناس الذين قادوا السيارات في بداية القرن العشرين، وفي عام 1911 قام بالمشاركة في سباق للسيارات البريطانية والألمانية أقامه الأمير هنري امير بروسيا. كان السباق يبدأ من هامبورغ في المانيا وينتهي في لندن، وكان في كل سيارة سباق مراقب الماني لمنع عملية الغش. انتهي السباق بفوز البريطانيين، الا ان دويل انتبه للسلوك العدواني للمراقبين الالمان ضد المشتركين البريطانيين الامر الذي كان يشي ببوادر الحرب وقتها.

10- في عام 1930، وبعد وفاة دويل اقامت ارملته جين بالاشتراك مع مجموعة من أصدقائه جلسة لتحضير روحه في قاعة ألبرت هول بلندن، ورغم ان الحاضرين لم يروا شبحه، الا انهم زعموا انهم شعروا بوجوده بينهم.

11- بعد وفاة آرثر كونان دويل، قام ابنه الأصغر ادريان بالاشتراك مع كاتب اخر وهو جون ديكسون كار بتأليف مجموعة قصصية لشارلوك هولمز بعنوان “مآثر شارلوك هولمز The Exploits of Sherlock Holmes”، نشرت هذه المجموعة عام 1954.

والى اللقاء مع اغاثا كريستي

المصادر :

  1. “عندما يكون بطل الرواية اعقل من مؤلفها”، ف. الحربي – موقع كابوس 2017
  2. “عشاق الادرينالين”، د. احمد خالد توفيق، د. تامر إبراهيم، م. سند راشد دخيل 2008
  3. “هادم الاساطير”، د. احمد خالد توفيق، م. سند راشد دخيل 2007
  4. “موسوعة الظلام-الجزء الثاني”، د. احمد خالد توفيق، م. سند راشد دخيل 2006
  5. “شخصيات خيالية – شارلوك هولمز”، مجدي يوسف (سنة النشر غير معروفة)
  6. “دراسة في اللون القرمزي”، آرثر كونان دويل-طبعة 2020
  7. Biography-Arthur Conan Doyle ENCYCLOPEDIA
  8. The Piltdown Man Hoax-Arthur Conan Doyle ENCYCLOPEDIA
  9. Conan Doyle- The Sherlock Holmes Society of London
  10. Conan Doyle and World War One- Conan Doyle Info Website
  11. Korkis, Jim, “The True Story Behind “The Hound of Baskervilles””, August 11, 2003
  12. Tompkins, Matthew, “The Two Illusions That Tricked Arthur Conan Doyle”, BBC-Website August 29, 2019
  13.  Spalding, Katie, “How Arthur Conan Doyle Was Duped by Some of The Victorian World’s Most Obvious Hoaxes”, Crime Reads May 18, 2023
  14. Hughes-Onslow, Flora, “10 things you didn’t know about Arthur Conan Doyle”- Britain Magazine
  15. Fox, Margalit, “The Time Arthur Conan Doyle Helped Solve a Real Murder Case”, Publisher Weekly, June 22, 2018
  16. Doyle, Arthur Conan, “Toward the Stars and the Masked Medium” Light Journal, June 28, 1924- Arthur Conan Doyle ENCYCLOPEDIA
guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى