منوعات

سلسلة رواد الادب البوليسي : ادغار الان بو

الغموض الذي احاط بوفاة ادغار الان بو ادى الى انتشار العديد من النظريات والفرضيات

ما هو الأدب البوليسي؟

الأدب البوليسي، أو كما يسميه البعض الأدب الجنائي، هو تلك القصة أو الرواية التي تدور حول جريمة مثالية ومعقدة، والتي يتسلسل فيها الكاتب بالتدريج وبطريقة تثير فضول القارئ إلى أن تنتهي بحل الجريمة وكشف الغموض في النهاية. يعود أصل هذا الادب الى فترة ما قبل الميلاد، واستمر بالظهور في فترة ما بين القرن السابع عشر والثامن عشر، لكنه برز بشكل أكبر في القرن التاسع عشر، ومن ثم تطور أكثر في القرن العشرين. يعتبر الأدب البوليسي من أكثر انواع الادب انتشارا وشعبية، كما انه يسجل رواجا كبيراً بين الناس سواء كان ذلك من خلال الكتب او المسلسلات والافلام.

بداية الادب البوليسي كانت مع ما يسمى بقصص الجرائم والتي ظهرت اول مرة في الادب اليوناني القديم من خلال مسرحية “اوديب” لسوفوكليس، وظهرت كذلك من خلال الادب العربي القديم في قصة ” التفاحات الثلاثة” والتي كانت ضمن قصص ألف ليلة وليلة التي روتها شهرزاد لشهريار، وتتلخص احداث هذه القصة في ان أحد صيادي السمك عثر على صندوق غريب على شاطئ البحر وباعه للخليفة هارون الرشيد الذي وجد بداخله جثة فتاة شابة مقتولة، فأستدعى وزيره وامهله ثلاثة ايام لكي يعثر على قاتل الفتاة والا فأنه سيخسر رأسه، وانطلق الوزير يبحث ويتحرى حتى عثر على القاتل وقدمه للخليفة. ظهرت قصص الجرائم أيضا في الادب الصيني القديم بما يعرف بقصص قضايا المحاكم الصينية، كما برزت قصص الجرائم بقوة في الادب الإنكليزي من خلال بعض مسرحيات شكسبير مثل هاملت وعطيل وماكبث ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر.

في القرن التاسع عشر ظهرت لأول مرة ما تسمى بقصص التحري والتي لاقت رواجا كبيرا ونجاحا هائلا بين القراء، وتعتبر نواة للأدب البوليسي الحديث وهناك العديد من الادباء الذين اشتهروا بكتابة هذا النوع من القصص. اما في القرن العشرين، فقد ظهرت فيه العديد من الأنماط الجديدة مثل روايات الجاسوسية التي ساعدت على ظهورها أحداث ذلك القرن، مثل الحربين العالميتين والحرب الباردة ومن أشهر الشخصيات المبتكرة في هذا الشأن شخصية جيمس بوند لإيان فليمنغ.

رغم انتشار الادب البوليسي ورواجه الى وقتنا هذا، الا ان ما يؤخذ عليه هو انه يُعتبَر ادبا ً نمطياً، فغالبية القصص البوليسية بأشكالها المتنوعة، سواء كانت قصة طويلة أو قصيرة وحتى الرواية، تعتمد على نمط واحد في النهاية، ويتشاركون جميعاً نفس العناصر تقريباً وهي:

  1. حدوث الجريمة الغامضة.
  2. وجود عدة اشخاص مشتبه فيهم ولديهم دافع لارتكاب الجريمة مع وجود سر خطير لدى كل واحد منهم يزيد من الاشتباه فيه، وقد يُتهَم أحدهم رسميا ويُقبَض عليه وهو بريء.
  3. وجود محقق اذكى من جميع افراد الشرطة يحقق في ملابسات الجريمة وقد يكون على وفاق او خلاف مع كبير مفتشي الشرطة.
  4. النهاية الغير متوقعة للرواية عند انكشاف الجاني الحقيقي وكيفية ارتكابه للجريمة.

ادغار الان بو، اول من يفتح الباب

blank
يعد ادجار رائدا في مجال الادب البوليسي

تبدأ رحلتنا مع رواد الادب البوليسي من أمريكا، فكما ذكرنا انه في القرن التاسع عشر ظهر نوع جديد من الادب البوليسي يسمى بقصص التحري ويرجح ان اول قصة من هذا النوع هي قصة «جرائم شارع مورج” والتي نُشرت عام 1841 للكاتب والشاعر الأمريكي «إدغار آلان بو»، ولكن قبل ان نتطرق الى اعماله في هذا المجال، سنستعرض قصة حياته المأساوية

حياة ادغار الان بو

وُلِد ادغار الان بو في التاسع عشر من كانون الثاني عام 1809 في بوسطن بولاية ماساتشوستس في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو من أصل انكليزي، فقد هاجر جده لأبيه ديفيد بو من إنكلترا الى امريكا عندما كان صغيراً. عندما كبر ديفيد التحق بجيش التحرير برتبة جنرال اداري، ثم تزوج وأنجب ولدا سماه باسمه “ديفيد” ورباه على الرفاهية والترف وكان يُعده ليتولى منصبا في القضاء، الا ان ديفيد الابن قطع دراسته ودخل فريق للتمثيل من اجل ممثلة شابة كان يهواها تدعى اليزابيث ارنولد والتي كانت هي الاخرى من اصول انكليزية. تزوج ديفيد بو الابن من اليزابيث عام 1806 وأنجبا ثلاث ابناء هم ويليام وادغار وروزالي. عاش الزوجين حياة صعبة للغاية وكانا بالكاد يجدان قوت يومهما، وقد اصيبت اليزابيث بمرض السل بعد ولادة ادغار وما لبث ان هجرها ديفيد تاركاً اياها مع ابنائه الثلاثة (بعض المصادر ذكرت انه توفي بعد سنة واحدة من ولادة ادغار). استمرت اليزابيث بالعمل في المسرح لكي تعيل ابنائها، الا ان وطأة المرض اشتدت عليها لتفارق الحياة عام 1811 وابنها ادغار عمره عامين فقط.

blank
شاهد تذكاري يزين الشارع الذي ولد فيه ادجار في بوسطن

تفرق ابناء اليزابيث بعد وفاتها، اذ ذهب الابن الاكبر ويليام ليعيش مع جديه لأبيه، بينما تبنت عائلة تدعى عائلة ماكينزي الابنة الصغرى روزالي، اما ادغار فقد تبنته عائلة ثرية هي عائلة الآن. كانت عائلة الآن تعيش في ريتشموند بولاية فيرجينيا، وتتكون من جون الآن وهو تاجر من أصل اسكوتلندي وزوجته فرانسيس، بالإضافة الى اختها آن مور فالنتين. لم ينجب جون الآن وزوجته اطفالا، ولهذا توليا رعاية الطفل ادغار، ورغم انهم لم يتبنوه رسميا الا انهم اضافوا اسم عائلتهم الى اسمه، ولهذا أصبح يعرف ب “أدغار الآن بو”. كان جون الآن رجلا صعب الطباع ومتزمت جدا، ومن الواضح انه تبنى ادغار بدون رغبة نتيجة الحاح زوجته عليه، ورغم ان جون تقبل فكرة وجود ادغار في حياته وحياة زوجته، الا انه عامله معاملة جافة وقاسية، وكان يعاقبه لدى اقل هفوة، ولكن من جهة اخرى، كانت فرانسيس واختها تعاملانه بحنان وعطف، الا انه لم تستطع احداهما او كلاهما ان تخفف حدة التوتر الذي كان يسود العلاقة بين ادغار وجون الآن.

في عام 1815 قرر جون الآن ان يسافر الى بريطانيا لزيارة عائلته في موطنه الاصلي أسكوتلندا وللبدء بمشاريع جديدة هناك. الاقامة في أسكوتلندا تركت في نفس ادغار اثرا عميقا وحددت ميله الى الوحدة والانطواء والغموض والمزاج السوداوي، لان أسكوتلندا كانت معروفة بقصص القصور المسكونة وجوها الضبابي الكئيب. بعد فترة قرر جون الانتقال الى لندن تاركا ادغار في عهدة اخته الكبرى (اخت جون) ماري الآن في مدينة ايرفن بمقاطعة أيرشاير- أسكوتلندا لأنه التحق بالمدرسة هناك والتي كان النظام فيها صارما للغاية، والعقوبات الجسدية معتمدة وبصرامة، وكانت اقل العقوبات قسوة هي اعادة نسخ الكتابات التي على شواهد القبور، والنزهة المعتادة لطلابها كانت زيارة اثار قصر كليمارنوك المسكون بالأشباح. في عام 1816 تم ادخال ادغار الى مدرسة اخرى في لندن، ولكنه ما لبث ان ترك هذه المدرسة ايضا بعد عام ليلتحق بمدرسة داخلية في قرية ستوك نيوينغتون بإنكلترا، وكان جون الآن ينوي العودة الى أمريكا وإبقاء ادغار في تلك المدرسة ليكمل تعليمه، الا ان زوجته فرانسيس اعترضت على هذا الامر، كذلك اعترض ادغار على تركه وحيدا في إنكلترا، فتراجع جون الآن عن قراره ووافق على عودة ادغار معهم.

في عام 1820 عادت عائلة الآن الى أمريكا وتابع ادغار دراسته هناك، وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره، دخل ادغار في علاقة حب مع جارته إلميرا رويستر والتحق ايضا بجامعة فيرجينيا في مدينة شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا لمتابعة دراسته، ووعدته إلميرا ان تنتظره حتى يكمل دراسته في الجامعة لكي يتزوجا. غير ان ادغار ما لبث ان طُرِد من الجامعة نتيجة عدم حصوله على المال الكافي من جون لتغطية نفقات دراسته، حيث ان جون لم يعطيه سوى ثلث المبلغ المطلوب لتكاليف دراسته، مما ادى به الى ممارسة القمار لكي يغطي هذه التكاليف، وترتبت عليه ديون كثيرة نتيجة خسارته المستمرة وصلت الى حد الفي دولار. رفض جون ان يسدد ديون ادغار، فعاد ادغار الى المنزل وازداد التوتر في العلاقة بينه وبين جون، ومما زاد الامر سوءاً انه وجد بأن الفتاة التي يحبها، إلميرا، قد تزوجت من شخص اخر بعد ان اجبرها أهلها عليه لأنهم عرفوا بقصة حبها لإدغار. على الرغم من العلاقة المتوترة بينهما، سعى جون من اجل ان يحصل ادغار على وظيفة في مكتب أحد جيرانه، ولكن طبيعة ادغار المتمردة جعلته يهرب الى بوسطن الامر الذي أدى الى ان يقطع عنه جون كل المعونات المادية، ونتيجة لذلك، عانى ادغار من العوز والفقر بحيث مرت عليه ايام لم يذق فيها طعاما، لكنه في نفس الفترة، بدأ بكتابة الشعر، وقام بطبع ديوان “تامرلان” ونشره تحت اسم مستعار هو “بوسطني” بمساعدة أحد اصدقائه، وكذلك ببعض المال الذي ارسلته فرانسيس الآن له، دون ان يحظى بنجاح يذكر.

blank
صورة والدي ادجار بالتبني .. فرانسيس وجون الان

في عام 1827، انضمّ ادغار الى الجيش الأميركي كجندي مشترك تحت اسم مستعار «إدغار بيري» وخدم فيه لمدة سنتين ابلى فيهم بلاءً حسناً بحيث وصل الى رتبة رقيب اول، لكن وفاة فرانسيس الآن والوعد الذي انتزعته من زوجها جون وهي على فراش الموت بان لا يتخلى عن ادغار، جعل جون الآن يدفع اموالاً لكي يتسرح ادغار من الجيش وساعده كي يلتحق بالأكاديمية العسكرية  في ويست بوينت، واثناء انتظار قبوله في الاكاديمية, سافر ادغار الى مدينة بالتيمور في ولاية ميريلاند ليلتقي ببعض من افراد عائلته, جدته واخوه الاكبر ويليام وكذلك عمته ماريا كليم وابنتها فيرجينيا وعاش معهم لفترة قصيرة قبل ان يلتحق بالأكاديمية العسكرية  في ويست بوينت عام 1830. في البداية كان أداء ادغار جيداً في الاكاديمية، الا انه لم يستمر طويلاً هناك، فقد طرد من الاكاديمية بسبب غيابه عن التدريبات والفصول الدراسية وتقصيره في اداء واجباته.

بعد خروجه من الاكاديمية العسكرية، عاد ادغار الى منزل عائلة الآن ليجد ان جون قد تزوج ثانية من امرأة تدعى لويزا، دخل ادغار في صدامات وخلافات عديدة مع زوجة جون الثانية، كذلك صرح ادغار بأن رغبته الحقيقية هي ان يصبح كاتبا وشاعرا، بينما أراد له جون الآن ان يعمل بوظيفة في أحد المكاتب لان الكتابة آنذاك لم تكن مهنة يعتمد عليها في كسب الرزق، فحصل خلاف كبير بين الاثنين أدى الى ان يطرد جون ادغار من بيته ويقطع علاقته به نهائيا، وعندما توفي جون الآن عام 1834 لم يترك لإدغار شيئا، بل حتى لم يذكره في وصيته.

بعد ذلك، بدأ ادغار بالعمل بالكتابة، وكان اول كاتب يسعى لكسب رزقه من خلال الكتابة وحدها، الامر الذي ادى الى ان يعيش حياة الفقر والعوز. بدأ ادغار في محاولة كسب رزقه من كتابة الشعر، حيث سافر الى نيويورك وجمع قصائده التي كان قد كتبها في السنوات الماضية ونشرها هناك في طبعة واحدة عام 1831، الا ان قصائده لم تحظى بالنجاح المتوقع ولم تجلب أي شهرة، فحول اهتمامه الى النثر وبدأ بكتابة القصص، حيث نشر بو عام 1833 قصته القصيرة “The Manuscript Found in a Bottle” في جريدة بالتيمور الاسبوعية وربح عنها جائزة قدرها خمسين دولاراً. 

في عام 1935 حصل ادغار على عمل في الصحافة كمحرر في احدى الجرائد، واجبره عمله على التنقل بين عدة مدن مثل نيويورك وبالتيمور، لكن لم يستمر فيه طويلاً. وفي نفس العام، عاد ادغار الى ريتشموند، وهناك حصل على وظيفة محرر في جريدة ” Southern Literary Messenger”, وطلب من عمته ماري وابنتها فيرجينيا ان ينتقلا للعيش معه في هناك، ومن ثم دخل في قصة حب مع ابنة عمته انتهت بالزواج عام 1836 رغم انها في وقتها كانت في الثالثة عشرة من عمرها فقط، بينما هو كان في السابعة والعشرين من عمره. في نفس السنة، ورغم انه ادى وظيفته على أكمل وجه كمحرر مما زاد في مبيعات الجريدة التي يعمل بها، الا ان ادغار ترك العمل بها نتيجة المرتب الضئيل الذي كان يحصل عليه، وذهب الى نيويورك لنشر احدى قصصه الا انه لم يحقق اي مردود مادي منها.

blank
عاش فترات طويلة من حياته في فقر .. وصورة زوجته فرجينيا

بعدها بسنتين، انتقل ادغار وعائلته الى فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا وبدأ يركز على كتابة القصص وكتب في تلك الفترة قصصه الشهيرة مثل “القلب الواشي”, “القط الاسود”, “قناع الموت الاحمر”, “البندول والبئر”, “الحشرة الذهبية”, ” سقوط منزل آشر”, وغيرها من قصصه الشهيرة. في عام 1839، عمل بو كمساعد محرر في مجلة “Burton’s Gentleman “، ثم استقال منها بعد سنة، ثم ما لبث ان عاد للعمل بها عام 1841 ونشر بها قصته “جرائم شارع مورغ”.

في عام 1945 نشر بو قصيدته ” الغراب” والتي حققت نجاحا ملحوظاً وان كان ليس كبيراً، ولكن يمكن القول بأن ادغار الآن بو أصبح اسما معروفا في الاوساط الادبية، ورغم ان مقدار ما ربحه من نشر هذه القصيدة كان 15 دولارا فقط، الا انه اشترك في العديد من الندوات من اجل القاء هذه القصيدة وحصل من هذه الندوات على مردود مادي لا باس به.

في عام 1842 بدأت اعراض مرض السل تظهر على فيرجينيا زوجة بو، وبعدها بسنة انتقل بو وعائلته الى مدينة نيويورك في محاولة منه للحصول على فرصة أفضل للعمل حيث باع قصته “خدعة البالون” الى جريدة “The Sun”، ومن ثم عمل بو كمساعد محرر لجريدة “Evening Mirror”، وهناك ظلت فيرجينيا تصارع مرض السل حتى وفاتها عام 1847 وعمرها لا يتعدى الاربع وعشرين عاما.

وفاة فيرجينيا كانت صدمة قوية لبو لم يتعافى منها، فلم يطق البقاء في نيويورك وعاد الى ريتشموند مدينة طفولته، وهناك جدد علاقته بحبه القديم إلميرا رويستر شيلتون والتي اصبحت ارملة ثرية، وأعلنا خطوبتهما في عام 1849، في نفس الوقت، كان ادغار الآن بو يسعى لإنشاء مجلة أدبية خاصة به لكي يمارس مهنة الكتابة التي كان شغوفا بها.

في ايامه الاخيرة اصيب بو بالكوليرا، وبعد تعافيه، خطط بو للسفر الى نيويورك لكي يُحضر عمته ماري كليم لكي تعيش معه في ريتشموند، كما خطط للمرور بفيلادلفيا للقاء أحد معارفه في طريقة الى نيويورك، وفي ليلته الاخيرة في ريتشموند، ذهب للعشاء مع مجموعة من اصدقائه وكان (بحسب قولهم) في حالة نفسية جيدة للغاية وكان منشرحا وسعيدا وصاحيا. في يوم السابع والعشرين من شهر ايلول/ سبتمبر صعد بو على متن قارب متجه الى بالتيمور، بعدها انقطعت اخباره وظل مكان وجوده مجهولا حتى عثر عليه يوم الثالث من شهر تشرين الاول/اكتوبر في احدى الحانات بمدينة بالتيمور وهو في حالة هذيان، كان مخمورا ويرتدي ملابس شخص اخر، فنقل الى مستشفى واشنطون الجامعي هناك لتلقي العلاج، ومكث فيها اربعة ايام، يغيب عن الوعي تارة ويكون واعياً ويهذي تارة اخرى، الا انه لم يتمكن ابدا من شرح ما حصل له حتى توفي في السابع من شهر تشرين الاول/اكتوبر 1849 عن عمر ناهز الاربعين عاما. 

  لغز وفاة ادغار الان بو

blank
شاهد قبر ادجار الان بو يعلوه مجسم غراب اشارة إلى قصيدته الشهيرة الغراب

الغموض الذي احاط بوفاة ادغار الان بو ادى الى انتشار العديد من النظريات والفرضيات بلغ عددها 26 نظرية حول ما حدث لبو وأدى لوفاته. في التقرير الرسمي للوفاة، كتب الاطباء ان سبب الوفاة هو احتقان في الدماغ، ولكن اتضح ان الاطباء يستخدمون هذه العبارة عندما لا يستطيعون تحديد السبب الحقيقي للوفاة. من اهم النظريات التي انتشرت حول سبب وفاة بو هي:

1-  الادمان: من المعروف ان ادغار الان بو كان يعاني من ادمان الكحول وربما حتى المخدرات وقد بدأت قصته مع الادمان عندما كان في جامعة فيرجينيا، ولكنه غرق في ادمانه أكثر بعد وفاة زوجته المحبوبة فيرجينيا، لكن عندما عاد الى ريتشموند بعد وفاة زوجته، وبعد ان جدد علاقته بحبيبته الاولى إلميرا رويستر شيلتون وخطط للزواج منها في نفس السنة، أنظم بو الى رابطة “ابناء الاعتدال” من اجل التعافي من ادمانه وبدأ بالعمل على تحقيق حلم حياته وهو إنشاء مجلته الأدبية الخاصة لكي يحررها ويديرها بنفسه. في يوم 27 من شهر ايلول/ سبتمبر غادر بو على متن قارب متوجهاً الى بالتيمور ومن ثم سافر بالقطار الى فيلادلفيا ليلتقي بأحد معارفه، وكان من المفروض ان يغادر فيلادلفيا يوم 30 من شهر ايلول/ سبتمبر بالقطار المتجه الى نيويورك لزيارة عمته ماري كليم (والدة زوجته الراحلة فيرجينيا) واحضارها لتعيش معه في ريتشموند، فكيف انتهى به الامر الى مدينة بالتيمور مرة اخرى؟؟ هناك نظرية تقول بانه بدلا من ان يركب القطار المتجه من فيلادلفيا الى نيويورك، ركب في قطار آخر متجه الى بالتيمور بالخطأ، واثناء انتظاره للقطار المتجه من بالتيمور الى نيويورك، اغراه أحدهم بالذهاب الى احدى الحانات وتناول بعض الشراب حتى يحين موعد مغادرته، وعلى ما يبدو انه اسرف في تناول الشراب مما ادى الى حالة الهذيان التي وجدوه عليها قبل نقله الى المستشفى يوم الثالث من تشرين الاول/اكتوبر ومن ثم وفاته فيها بعد أربعة أيام. رجح الكثيرون اصابته بتسمم نتيجة تناوله الكحول، لكن هذا لا يفسر لماذا كان بو يرتدي ملابس اخرى غير ملابسه.

2-  المرض: وهي نظرية اخرى وضعت لتفسير وفاة بو، فقد صرح أحد الاطباء بأن الممرضة التي كانت ترعى فيرجينيا (زوجة بو) اثناء مرضها اخبرته بأن بو كان معتل الصحة ايضا واصيب بحمى مخية في تلك الفترة، كما انه تعرض لحوادث اعتداء في تلك الفترة نتيجة ادمانه الكحول اثرت على جهازه العصبي بشكل كبير، كما ان أحد الاطباء قال بان بو كان مصاب بضرر في المخ والجهاز العصبي بسبب ادمان الكحول وان هناك احتمالا قويا بان يموت يوما ما نتيجة لذلك. هناك نظريات اخرى تحدثت عن ان بو توفي نتيجة اصابته بالسل، نفس المرض الذي توفيت بسببه امه وزوجته وشقيقته. بعض النظريات الأخرى رجحت اصابته اما بالصرع او غيبوبة بسبب داء السكري او داء الكَلَب، لكن نظرية داء الكَلَب نفاها أحد الاطباء الذين عالجوا بو في المستشفى في ايامه الاخيرة، حيث قال انه جرب ان يعطي بو جرعة من الماء ليختبر قدرته على البلع فشربها بسهولة، على عكس ما يحصل للمصابين بداء الكَلَب والذين يصابون بخوف من شرب السوائل بسبب صعوبة البلع التي تنتج عن هذا الداء، اما باقي الامراض فلا يوجد دليل يدعم اصابة بو بها. نظرية أخرى اقترحت بأن بو قد تسمم بغاز الفحم الذي كان يستخدم في تلك الفترة لتوليد الضوء في المنازل، لكن اختبارات الطب الشرعي لبقايا شعر ادغار الان بو التي تم الاحتفاظ بها بعد وفاته لم تُظهر أي علامات للتسمم بالمعادن الثقيلة التي تنبعث من الفحم عند الاحتراق.

من الحقائق المؤكدة بأن بو اصيب بالكوليرا في اواخر ايامه، حيث عثر على رسالة كتبها بو الى عمته ماري كليم قائلا بانه يعاني من تشنجات قوية في جسده نتيجة الكوليرا لدرجة انه كان بالكاد يستطيع حمل القلم، وعندما بدا رحلته الاخيرة الى نيويورك كان لتوه قد تعافى من المرض، مما جعل البعض يرجح ان ضعف جسده بسبب أثر الكوليرا بالإضافة الى اصابته بضرر في الدماغ وتناوله الكحول في احدى الحانات اثناء انتظاره للقطار المتجه الى نيويورك هي الامور التي ادت الى وفاته، لكن يبقى السؤال، لماذا كان بو يرتدي أخرى غير ملابسه؟؟

blank
اثار موته لغطا كثيرا ومازال يحيط به الكثير من الغموض

3-  الاعتداء والسرقة: هي النظرية رجحها الكثيرون برغم انه لا يوجد دليل على اثبات صحتها. عندما عثر على بو بحالته المزرية في مدينة بالتيمور، كان ذلك في يوم الثالث من شهر تشرين الاول/اكتوبر وهو يوم انتخابات ممثلي ولاية مريلاند في الكونغرس، في حانة كانت قريبة من مكتب أحد المرشحين. في تلك الأيام، كانت انتخابات بالتيمور معروفة بسمعتها السيئة نتيجة الفساد والعنف، وكان كل مرشح لديه عصابة سياسية كانت مستعدة للذهاب الى اقصى حد لضمان فوز مرشحهم، ولأنه لم يكن في ذلك الوقت نظام لتسجيل الناخبين، فقد كانت هذه العصابات تخطف الناس الابرياء وتجبرهم على التصويت لمرشحيها أكثر من مرة في عدة مراكز اقتراع. كانت تلك العصابات تحتجز المختطفين في مكان يسمى “الحظيرة”، وهناك كان يتم تغيير ملابسهم واخضاعهم للتنكر كي لا يتم التعرف عليهم بسهولة عند التصويت لأكثر من مرة في مركز اقتراع معين، كما تقوم هذه العصابات بإرهاب المحتجزين وضربهم وارغامهم على شرب الكحول (وربما المخدرات ايضا) كي لا يفكر أحدهم في الهرب او افشاء ما يحدث معهم قبل نهاية الانتخابات. الكثيرين رجحوا ان بو تعرض للخطف من قبل واحدة من هذه العصابات وتم احتجازه مع الباقين وتعرض لما يتعرض له بقية المحتجزين من اعتداء وتغيير الملابس وشرب الكحول بالإكراه، مما يعطي تفسيرا منطقيا للعثور على بو مرتديا ملابس غير ملابسه وحال الهذيان التي كان عليها وقتها، ومن بعدها وفاته نتيجة عدم تحمله لآثار الاعتداء، لكن نقطة الضعف في هذه النظرية هي ان بو كان معروفا بدرجة معقولة في مدينة بالتيمور ومن المرجح ان يتم التعرف عليه في أحد مراكز الاقتراع حتى لو تم تغيير ملابسه، كما انه لم يُذكَر بانه عُثِر على اثار اعتداء سواء كانت جروح او كدمات على جسد بو اثناء فترة بقائه في المستشفى.

هناك نظرية أخرى تقول بأن بو تشاجر مع الميرا قبل سفره وفسخ خطوبتهما مما جعل اخوتها ينصبون له كمينا في فيلادلفيا ويعتدون عليه بالضرب المبرح على سبيل الانتقام، وهناك من يقول بأنه على العكس لم يحصل أي خلاف بينه وبين الميرا ومشروع الزواج بينهما لايزال قائماً، ولكن اخوتها الذين كانوا يعارضون زواجها منه قاموا بتهديده لكي يقطع علاقته بأختهم مما جعله يختبئ في فيلادلفيا ويتنكر في ملابس رجل اخر كي لا يتعرف عليه احد لكي يعود سرا الى ريتشموند، الا ان اخوة الميرا اعترضوه في بالتيمور واعتدوا عليه بالضرب ليمنعوه من الزواج من اختهم الثرية وقاموا أيضا بإجباره على شرب الكحول مما أثر على جسده وتسبب في وفاته.

اما بالنسبة لمسالة السرقة، فكما قلنا سابقا بان بو كان يحلم بإنشاء مجلة أدبية خاصة به، وكان يسعى للحصول على دعم مادي من اجل تحقيق حلمه، وقد ذكر أحد المقربين منه بانه كان يحمل مبلغ 1500 دولار في رحلته الاخيرة جمعها من اجل انشاء مجلته، وعلى ما يبدو انه تعرض للسرقة والضرب من قبل بعض اللصوص في بالتيمور، وهذا ما تسبب في الحالة التي عثر عليه فيها ومن ثم وفاته، ولكن كما قلنا سابقا، لم يتم ذكر العثور على اثار اعتداء على جسد بو اثناء فترة بقائه في المستشفى وهذا ما يقوض جميع نظريات الاعتداء.

ادغار الان بو والادب البوليسي

blank
يبقى ادجار واحدا من اشهر كتاب الرعب والغموض ومازالت اعماله تشهد رواجا كبيرا حتى في ايامنا هذه

 بالرغم من ان قصص الجرائم والغموض لم تكن جديدة على عالم الادب اثناء حياة ادغار الآن بو، الا ان بو كان اول من قدم للعالم القصص التي تعرف بقصص التحري ” Detective Stories”، والتي تعتمد على شخصية المحقق الذكي وزميله الأقل ذكاءً منه والذي يكون في الغالب هو راوي القصة، وعليه، كان بو يُعَد اول من وضع اسس الادب البوليسي الحديث والتي سار على نهجها الكثير من رواد الادب البوليسي من بعده، ورغم انه لم يؤلف سوى ثلاثة قصص من هذا النوع، الا انه ينسب اليه الفضل في وضع نمط القصص البوليسية الحديثة، وهذه القصص هي:

1- جرائم شارع مورغ التي صدرت عام 1841 وتعد اول قصة بوليسية حديثة، فقد ظهرت فيها شخصية المحقق “اوجست دوبان” لأول مرة، كذلك زميله المجهول الذي يروي القصة، وبذلك يكون بو اول من ابتكر شخصية المحقق وزميله التي تظهر في الرواية البوليسية من اجل حل لغز الجريمة وكشف غموضها.

2- لغز ماري روجيه صدرت هذه القصة عام 1842، وفيها ظهرت شخصية المحقق اوجست دوبان وزميله للمرة الثانية. وهي تعد اول قصة بوليسية مبنية على احداث جريمة حقيقية، فقد كتب ادغار الان بو هذه القصة كمحاولة منه لحل لغز جريمة قتل فتاة أمريكية شابة تدعى ماري سيسيليا روجرز كانت تعمل بائعة في أحد متاجر التبغ، عثر على جثة ماري طافية في نهر هدسون بولاية نيوجيرسي يوم الثامن والعشرين من شهر تموز/ يوليو عام 1841. اثار مقتل ماري روجرز ضجة كبيرة في وقتها، حيث خرجت الصحف بنظريات عديدة حول مقتل الفتاة، فناقشها بو في قصته وحللها بالتفصيل من خلال شخصية المحقق اوجست دوبان ومن ثم اقترح نظرية بديلة لحل لغز مقتل الفتاة، غير انه بدل مكان الجريمة لتكون في فرنسا بدلا من امريكا، ونهر السين بدلا من نهر هدسون.

3-  الرسائل المسروقة والتي صدرت عام 1844، وهي ثالث قصة يظهر فيها المحقق اوغست دوبان والاولى التي لا تدور حول جريمة قتل. ربح ادغار الان بو عنها 12 دولارا فقط.

من المفارقة هنا بان ادغار الان بو الذي قدم للعالم اول قصة بوليسية حديثة وكان اول من ابتكر شخصية المحقق الذي يحل غموض الجريمة ويكشف مرتكبها ترك موته لغزا غامضا لم يتمكن أحد من حله حتى يومنا هذا. فما رأيكم أنتم اخوتي رواد الموقع في السبب الحقيقي لموت ادغار الآن بو؟؟

اوجست دوبان

blank
كان اول الكتاب الذين تطرقوا لشخصية المحقق والتي الهمت كتابا عديدين بعده

بعد الحديث عن ادغار الان بو، نأتي الان لنتحدث عن شخصية المحقق التي ابتكرها. يعد اوجست دوبان اول شخصية محقق خيالية تظهر في الادب البوليسي الحديث، ورغم ظهور هذه الشخصية في ثلاث قصص فقط وشهرتها المحدودة، الا انها تعد الجذر الرئيسي الذي تفرعت منه شخصيات المحققين الخيالية التي ابتكرها العديد من رواد الادب البوليسي كما سيظهر في باقي أجزاء السلسلة.

 ظهرت شخصية اوجست دوبان لأول مرة عام 1841 في قصة جرائم شارع مورغ. وهو ابن لإحدى العوائل الفرنسية والتي كانت ثرية فيما مضى ولكنها فقدت ثروتها بسبب احداث مؤسفة، فانتقل اوجست الى باريس حيث اضطر للمشاركة في السكن مع صديق مجهول وأصبح يعمل كمحقق خاص. يُعرف اوجست دوبان او الشوفالييه اوجست دوبان (لقب شوفالييه يعادل لقب فارس Sir في بريطانيا) بانه شخص غريب الاطوار، انطوائي ومنعزل، يمتاز بالذكاء الخارق والتعقل والمقدرة على قراءة الأفكار من تعبير الوجه. من هواياته حل الالغاز المستعصية وقراءة الرموز الهيروغليفية، كما لديه القدرة على التحليل العميق لكل مسألة حتى لو كانت بسيطة حتى يصل الى حل غموض الجريمة من خلال محاكاة تفكير المجرم. يرافق دوبان في مغامراته صديقه وشريكه في السكن مجهول الهوية وهو اقل ذكاءً وفطنة وينحصر دوره في رواية قصص الجرائم التي كان دوبان يحقق فيها بعد سماع تحليله لكل جريمة وحل لغزها.

 محطات في حياة ادغار الان بو

1-  اثناء وجوده في إنكلترا، التحق ادجار الان بو بإحدى المدارس في ستوك نيوينغتون وقد عانى فيها كثيرا بسبب نظامها الصارم، وذكر هذه المدرسة في قصته “ويليام ويلسون”. كما انه اثناء خدمته في اكاديمية ويست بوينت العسكرية، تم ارساله الى احدى الجزر في مهمة والتي الهمته قصة “الحشرة الذهبية”. 

2-  لم يعرف ادغار الآن بو الاستقرار في مكان واحد خلال حياته، فظل يتنقل بين عدة مدن في عدة ولايات في أمريكا، بالتحديد بالتيمور وريتشموند وفيلادلفيا ونيويورك، سعيا وراء اثبات نفسه ككاتب، ورغم ذلك لم يحظى بالتقدير الذي يستحقه اثناء حياته، فشهرته العريضة لم تأتي الا بعد وفاته.

3-  رغم ان ادغار الان بو كان مشهورا ككاتب قصص رعب بالدرجة الاولى، الا انه في الحقيقة كانت له مؤلفات كثيرة في مجالات الادب المختلفة، سواء من خلال الشعر او النثر، فقد كتب قصص تنتمي لأدب الخيال العلمي وادب المغامرات، بل انه حتى كتب قصص فكاهية تنتمي للأدب الساخر، كما كان له باع طويل في النقد الادبي.

4- في عام 1835، نشر ادغار الان بو قصته “برنيسBerenice ” في جريدة ” Southern Literary Messenger”، وقد تسببت هذه القصة في استياء عدد كبير من القراء الذين أرسلوا عدة شكاوى للجريدة بسبب العنف والدموية فيها، الامر الذي جعل بو يعدل القصة ويحذف منها أربع فقرات لكي يخفف من وتيرة العنف فيها.

5- كان لمرض زوجته فيرجينيا وصراعها معه لمدة خمس سنوات حتى وفاتها تأثيرا كبيرا عليه، فقد ألهمه كتابة بعض من اعماله الأدبية المهمة مثل قصيدة “انابيل لي” وقصتي “اليانورا” و”الصندوق المستطيل “.

6- معاناة ادغار الان بو من ادمان الكحول الهمته كتابة احدى اهم قصصه وهي “القط الاسود”، وهي تحكي عن شاب كان يحظى بحياة جيدة الى دمرها ادمانه على الكحول.

والى اللقاء مع آرثر كونان دويل

بعض قصص الكاتب ادجار آلان بو :

المصادر

  1.   الرواية البوليسية في الأدب العربي- امين تاج السر- شبكة الجزيرة الاخبارية 2012
  2. الأدب البوليسي: بين الفضول والانجذاب نحو الذكاء- عبد الله أشرف 2021
  3. تأثير ادغار الان بو في الادب العربي الحديث- د. هاني إسماعيل محمد 
  4. قناع الموت الأحمر- ادغار الان بو طبعة 2009
  5. Dotinga, Randy, “Did voter fraud kill Edgar Allan Poe? “, The Washington Post, March 26, 2023
  6. Giordano, Robert, “Biography of Edgar Allan Poe”, June 27, 2005
  7. Poe Biography-The Poe Museum Website
  8. The Mysterious Death of Edgar Allan Poe-The Edgar Allan Poe Society of Baltimore
  9. Weiss, Susan Archer Tally, “The Last Days of Edgar A. Poe,” Scribner’s Monthly, XV, March 1878
guest
63 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى