أدب الرعب والعام

طريق الخلاص الأخير

بقلم : تقي الدين – الجزائر

كنت فقط أريد أن أرحل ، أن أستقيل من الحياة و مشاقها

 

كل الأحداث و الشخصيات في هذا العمل من وحي خيال الكاتب.

إنه يسمع نعيق النورس ، لكن الغيوم الكثيفة حوله تجعل عيناه لا تبصران شيئاً.

" أين أنا ؟ " سأل نفسه بقلق غير منتظر إجابة.

توضح ملابسه بغرابة و أخذ يستشعرها بيديه معجباً بها ، لقد كان يرتدي قميصاً و سروالاً أبيضين نقيين كالماء الزلال و لا يضع على قدميه شيئاً فالأرض تحته كانت مكسوة بطين رطب و هلامي حديث البلل ، تناهى لأذنه صوت طائر النورس مرة أخرى فانقاد نحوه مندفعاً وسط الضباب غير مبال بالمجهول ، رائحة مزيج غريب من الورود تتسلل لأنفه كلما خطى خطوة أخرى وسط تلك الكومة من البخار إلا أنها تتلاشى تدريجياً ، و ما هي إلا خطوات إضافية حتى انقشعت و كشفت عن شاطئ تحوم حوله النوارس مصفقة بأجنحتها البيضاء.

تقدم نحو الماء ببطء و قدماه ترسمان خطوات صغيرة فوق الرمل ، نظر يميناً ثم يساراً منتظراً أن يرى شخصاً آخر غيره لكنه كان وحيداً تماماً كجزيرة وسط المحيط ، انعكاسه على الماء كان غير واضح و متقلب لكن أمكنه أن يرى نفسه بدون كل ذلك التراب و الطين على وجهه ، عيناه البنيتان ، شعره القصير و أنفه المستدق، لقد فرح برؤية نفسه على تلك الشاكلة و ظل يحدق للماء لفترة لكن دفعة مفاجئة من خلفه رمته وسط المياه ليفتح عينيه على الواقع من جديد.

كان بالكاد يتنفس و على جسمه ألم لا يحتمل ؛ بصعوبة حمل وزنه و هو يتوضح المكان حوله ثم مرر لسانه عبر شفتيه الجافتين المتشققتين ، إنه يستعيد وعيه و يستعيد الشعور بالمكان و بنفسه ، لمح بطرف عينه شجرة ضخمة متربعة ترمي بأرواقها و أغصانها على جانبيها فتحرك نحوها و أخذ يرتوي من أوراقها حتى أطفئ ظمأه .

" لقد كُتب لك العيش يوماً آخر يا تقي ، وقف الحظ إلى جنبك و قد قلت وقفاته هذه الآونة كالأصدقاء المزيفين ".

تحسس جيوبه بخفة فأخرج منها خريطة موسعة للمكان و سكين جيب صغير.

" ليست معدات بير غريلز لكن أفضل من لا شيء"

قال تقي في سره بسخرية ثم بدأ مشيته عازماً على الخروج من خلف قضبان هذه الغابة المطيرة الضخمة.

*************

حوله كان كل ما كان يراه هو الأشجار، الطيور و الحشرات الصغيرة ، و لا صوت يعلو صوت تنفسه.

" لقد تمنيت العيش في العزلة ، لكن لم أتوقعها أن تكون هكذا " تمتم تقي و هو يبعد تلك الأوراق الضخمة عن طريقه ، إنه يحاول إيجاد مكان عال ، مكان يمكنه من رؤية كل شيء حوله و ربما معرفة الحقير الذي دبر له المكيدة ، مجرد التفكير فيه يجعل تقي يسترجع تلك اللحظات البشعة التي ظن أنها لحظاته الأخيرة لكنه سرعان ما يرمي الماء على نارها فيطفئها ليحاول أن يبقى مركزاً.

بعد مسيرة ليست بطويلة استوضح منزلاً قديماً كان يقف على تلة خضراء نقية.

" لن يستطيعوا تجريدي من شجاعتي ، إطلاقا "

خطواته كانت ثابتة و حذرة و برفق سحب سكينه الحاد من جيبه و حمله بطريقة احترافية بينما كانت عيناه تتحركان داخل رأسه و تتفحصان المكان ، لم يكن ما رآه من بعيد منزلاً حقاً بمعنى الكلمة فقد دخل تقي من شق ضخم في الجدار الخلفي بعدما وجد الباب موصداً ، كان يمكنه سماع صدى خطواته فالمكان كان شبه فارغ ، فقط طاولة خشبية قديمة واقفة كرجل متكئ على عكازه على رجل واحدة و كومتين مستطيلتين من التبن مستندتين على بعضهما البعض.

أعاده هذا المكان للأيام الجميلة التي قضاها مع عمه في مزرعته الصحراوية المتواضعة ، لقد كان معجباً بالجمال و حريتها فقد كانت دوماً تنهض فجأة و تبدأ بالسير فتجفله.

من خلفه صدر صوت خشخشة خفيف جعل بدنه يقشعر فاستدار بخفة و تحرك نحو مصدر الصوت دون تردد ، كان مستعداً ليستخدم سكينه حتى ليقطع به إصبعاً أو يحدث شقاً في جسم عدوه فهو يعلم أنه جلب سكيناً لمعركة أسلحة ، و بخفة أزاح كومة الخشب المكدسة تلك و التي كانت باباً فيما مضى و وجه السكين أمامه محدقاً وسط عتمة خفيفة ، ضيق عينيه و ابقى مسافته فسمع صوت وقع أقدام قادم نحوه ، جعله هذا الصوت يتراجع للخلف و يلف مقبض السكين الأسود بقوة لكن بدلاً من جندي ضخم و مسلح، انبثق من الظلام طفل صغير مر أمامه راكضاً فأمسكه من طرف قميصه بعنف و استوقفه.

" أهدئ ، أنا لن أؤذيك ".

حاول تقي أن يجعل نبرة صوته تبدو مطمئنة لكن الطفل ما لبث أن بدأ بالبكاء و الصراخ و التلويح بيديه قائلاً :

" أبعد يديك عني أيها القاتل ، ابتعد عني ".

حدق تقي فيه للحظات و أيقظ مظهره الكارثي ضميره ، ملابسه كانت في قمة الوسخ و شعره الأشعث الطويل اكتسى لونا أبيضاً من شده الغبار الذي اكتسحه ، وضعه بلطف و قد دق ذلك المنظر في رأسه جرساً بشعاً أعاده لتلك المنازل التي رآها تحترق في أحد مهامه السابقة و سط نواح أصحابها و توسلاهم للعفو و الصف ح، فقد لمح وسط الدخان الأسود طفلاً مذعوراً كانت حالته كارثية لحد ما و مشابهة لما يراه الآن.

نظر له تقي بحدة ثم قال : أنت تبدو كطفل حذق ، لذا على الأرجح يمكنك التخمين لماذا أنا أجوس هذه الغابة بسكين و خريطة لعينة ؟.

و سحب الخريطة من جيبه بعنف ، ظهرت على عيني الطفل السوداوين ملامح الخوف و عدل عن فكرته عن الهرب ثم قال : لماذا ترتدي زياً عسكرياً إذا كنت من سكان القرية ؟.

" أنا لست من سكان القرية  " قال تقي بهدوء و قد خفف من نبرته ثم أردف " إنها قصة طويلة نوعاً ما لكن يمكنك القول أنني في صفكم ".

ظهرت على محيا الطفل علامة الاطمئنان و أخذ ينفض ملابسه و شعره من التراب ، أعاد تقي السكين لجيبه ثم سأله : هل تعرف طريقك حول المكان ؟ فرد الصبي : نعم ، لقد كنت أرعى الأغنام مع أبي و أحياناً نبتعد ،  و هل هذا منزلكم ؟  سأل تقي مرة أخرى ، لقد كان كذلك ، كما يمكنك أن تلاحظ .

رسم تقي ابتسامة شفقة على وجهه ثم سأله مرة أخرى : ما الذي حدث للجدار ؟  و أشار بيده له

، فرد الطفل : لم يستطيعوا فتح الباب فقد أسندنا عليه المائدة الضخمة لذا فقد ارتجلوا للدخول .

حملق تقي للجدار بحيرة و ارتباك للحظات ثم مد يده له و صافحه قائلاً : تقي ، و أنت ؟ .

فرد الفتى : أنيس .

نظر في المكان قليلاً و تحرك فيما تبقى منه و بالرغم من أنه بدء كأنه بلا فائدة إلا أنه استطاع أن يجد بين أنقاضه البائسة ولاعة و مصباح يد لكنه كان مكسوراً.

**************

بدأ تقي مسيرته للخروج من بين قضبان هذه الغابة و أشجارها الكثيفة و قد ضم الفتى أنيس لصفه بداعي الشفقة في المقام الأول ، كان يمشي بحذر و تركيز لكنه تذكر نفسه مستلقياً و مستسلماً ينظر لفوهة مسدس الكابتن الذي كان يبتسم بخبث و يردد لرفاقه : لا مكان للصالحين بيننا يا رجال ، فالعالم قذر كفاية.

صفع ورقة كانت أمامه بعنف و غمغم : كيف لي أن أكون بهذه الحماقة ؟  ليس لديه أي حق ليعاتب نفسه حقيقة لكنه ترعرع في عائلة كانت تلقي بمعظم اللوم عليه حتى أصبح يرى نفسه الشخص السيئ في كل الأحوال.

تجمعت الغيوم السوداء و افترشت السماء ، و لفحت ريح باردة وجههما ، رفع تقي يده و غطى وجهه من التراب الذي نفضته الرياح لكنه لمح ما بين أصابعه لباساً عسكريا فاستدار بخفة لأنيس الذي كان خلفه مباشرة و أخرسه بوضع يده على فمه بعنف ؛ أومأ له بالصمت و ابتعدا بهدوء عن ذلك الطريق الترابي الضيق الذي رسمته خطوات أقدام المارين ، كان تقي يختار خطواته بحذر ، كنمر يترصد فريسته لكن الفتى لم يكن بتلك الخبرة فوضع قدمه بالخطأ على عود يابس سقط من أحد الأشجار فأحدث صوت كسر خفيف ، تجمد تقي في مكانه و أمسك أنيس دون أن يتحرك له جفن حتى ، و قد أطبق الخوف عليه و جعله يفكر في الركض دون تفكير ، أترك الفتى و أركض أيها الأحمق إنه حمل زائد ، أترك .

لم ينتهي تقي من تفكيره السلبي حتى انطلقت رصاصة من فوهة أحد المسدسات و ضربت أحد الجذوع الضخمة التي كانت أمامه فجعلته يتطاير إلى قطع صغيرة و وشمت عليه ثقباً ضخماً ، حاول أنيس الركض و الدموع قد بدأت تنهمر من عينيه خوفاً ، لكن تقي كان مطبقا عليه جيداً و هو مدرك أن هذه ما هي إلا خدعة لجعلهم يركضون كالحمقى و يصبحون أهدافاً سهلة.

إنه يسمع وقع أقدام تخطو فوق العيدان اليابسة و تكسرها لكنه لا يعرف هل هي متجهة نحوه أم مبتعدة عنه.

" لقد حانت ساعتك أيها الأحمق ، ستموت كأحمق تافه وسط هذه الغابة البائسة ".

أنه يتخيل جنازته و طلقات الرصاص ، التكريم الذي سيحظى به والده بدلاً منه و دموع التماسيح التي سيذرفها أقاربه.

" أنت وحيد يا تقي ، وحيد تماما ً".

سمع صوتاً يردد هذه الكلمات في أذنيه عبثاً.

أغلق عينيه و أحكم قبضته على الفتى المسكين مستعداً للرحيل ، لكنه سمع صوتاً بعيداً " هيا… لدينا جدول نتقيد به " كان صوت تلك الخطوات و هي تبتعد بمثابة أغنية جميلة تجعلك تشرد و أنت تستمع لإيقاعاتها ، زفر مطولاً و بقوة ثم أرخى يديه من فم أنيس فترك علامات أصابعه فوق وجهه.

" لقد كان ذلك قريباً ! " قال تقي هامساً لأنيس.

مسح الفتى الدموع عن وجهه و بدأ يستعيد رباطة جأشه ثم قال بفزع " نعم…. قريبا جداً ".

ضحك تقي بهستيرية مكبوتة فرحاً بنجاته ثم ارتمى على الأرض مستسلماً غير مبال بما يوجد تحته و للحظة نسي كل معاناته ، غريبة كم تجعلك مثل هذه اللحظات تقدر الحياة بعدما كنت تعطيها قيمة قطعة الخبز الذي تضعه في صينية إفطارك صباحا !.

عاد تقي لرشده و سحب الخريطة من جيبه ثم ثبتها على الأرض بصخور صغيرة و أخذ يتصفحها للحظات.

" هل تعرف أين نحن ؟ " سأل أنيس بعفوية.

لم يرد تقي و ركز نظره على الخريطة للحظات ثم قال " نعم… سنتحرك شرقاً ، هناك موقع تخييم سيكون مناسبا لنا "

نظر أنيس للخريطة كأنه يستطيع قراءتها ثم سأله " و هل سنكون آمنين هناك ؟ ".

أعاد تقي الخريطة لجيبه و قال بحدة " صدقني هؤلاء السفلة لا يخيمون، إنهم كالخفافيش يتحركون ليلا ".

**************

السماء كانت قد ارتدت ردائها البرتقالي الذي يظهر من خلف السحب مستعدة لليلة أخرى ، وصل تقي أخيراً لموقع التخييم الذي لاحظ أن مجموعته قد وضعت أقدامها القذرة عليه ، الخيم كانت ممزقة و ملطخة بالدماء و الحقائب كانت مرمية في الأرجاء ، حمل تقي حقيبة جلدية سوداء و فتحها فوجد بداخلها لواحق هاتف و آلة مسجلة من نوع راديوشاك ، وضعها بخفة داخل أحد جيوب بنطاله العديدة ثم أخرج كيس نوم و أغلق الخيم حتى لا يرى الفتى الدماء.

أوقدت النار و جلس تقي أمامها يسخن أطرافه التي قرصها البرد.

" ما قصتك أنت كيف حتى وصلت هنا ؟ " سأل أنيس تقي.

حمحم تقي ثم تراجع للخلف مسترخياً و قال بنوع من التحفظ " حسنا… لقد هربت من حياتي كما يفعل الجميع حقاً ، فوالدي كان شخصاً ثرياً و معاقراً للخمر لذا فإنه كان يعود كل يوم متأخراً للمنزل و يتفاخر بقوة لكماته في وجه أمي…" حرك النار قليلاً بعصا صغيرة كانت تحت قدمه ثم أردف " بعد مدة هجرني الجميع ، أمي هربت لمنزل خالي و أختي الصغرى سارة لم تكن في أفضل حالاتها العقلية ، لذا فأننا قد استيقظنا في أحد الأيام و وجدناها هربت ، خطوة سيئة منها في نظري ".

رفع رأسه للنجوم المتلألئة و راح يتذكر أيام طفولتهما معاً و ركضهما تحت المطر ثم عودتهما للمنزل و سماع توبيخ حاد.

" و ماذا عنك ؟ " قال تقي لأنيس.

" أحببت المدينة عندما كنا نسكن فيها لكن أبي قرر المجيئ بنا إلى هنا لأنه يعتقد أن حياة المدينة ستفسدنا أنا و أختي الصغرى ، أتمنى أنهم أحياء ".

رمى تقي بضع صخور على النار فخفت لهيبها ثم ساعد أنيس بغريزة أبوية غير مسبوقة للدخول وسط كيس النوم فهو لا يريده أن يفكر في مصير عائلته ، ثم قفز بخفة للصخرة التي كان جالساً فوقها.

تذكر و هو ينظر للفحم يهسهس ، جداله مع والده حين زف له خبر التحاقه بالجيش بينما كان يحرق مقتنيات والدته ، و رفض والده لذلك رفضاً قاطعاً محتجاً بحبه الزائف له من وجهة نظر تقي الذي لم يثق في أحد يوماً.

" لقد خدُعت… كنت أحمقاً و خُدعت ، كيف لم أكتشف حيلتهم ؟ ".

تناول تقي من جيبه الآلة المسجلة و مرر أصابعه عبرها بضع لحظات ثم ضغط زر التشغيل فبدأت الأسطوانات بالدوران و أخذ هو يسترسل في الكلام.

" لقد… لقد خدعونا و جعلونا نبدو كالحمقى.

الكابتن علي و جماعته من المرتزقة استطاعوا أن يمرروا خطتهم الصغيرة فوق رؤوس القيادة الكبار و ها هم ذا يحرقون المنازل و يقتلون الأهالي في محاولة لإيهام الجميع أنهم يطاردون قتلة بلا رحمة.

إنهم يتكالبون على شيء لا يعلمون حتى إن كان موجوداً فكل ما قيل عن الذهب في هذه المنطقة كان مجرد إشاعات ، لكن يبدو أن الجشع لف رؤوسهم و عصبها تماماً ".

ذكر بسرعة أسماء جميع أفراد فرقته ثم أعقب

" إن وضعت يداك على هذا التسجيل فعليك أن تعرف لأي يد ستمرره لأن ما فيه قد يودي بحياتك. "

بعد هذه الكلمات داعب النعاس جفون تقي ثم استسلم للنوم.

***********

تنفس الصباح بيوم جديد، و فتح تقي عينيه هذه المرة على وجه أنيس الفزع ، سابقة هذه فهو معتاد أن يستيقظ على صراخ أحد الضباط و شتائمهم التي لا تنتهي.

قفز من مكانه بخفة و خوف معتقداً أنهم قد وصلوا لهم لكن أنيس طمأنه قائلاً " إنهم في الأسفل لكنهم يقتربون "

اقترب تقي بخفة من حافة الهضبة التي نصب هذا المخيم الصغير فوقها فكان ما رأه منظراً لا يمكن للعقل أن يتصوره و لا يمكن له هو أن يصفه لأصدقائه في أحد جلساتهم إذا خرج من هنا حياً !.

" إنها عملية تنقية بحتة الآن ".

ذكرته تلك الجثث المترامية في كل مكان بعشوائية بوثائقي رأه منذ بضع سنوات في مزرعة عمه عن الطاعون العظيم الذي ضرب أوربا في العصور الوسطى و طريقة التخلص من الموتى المشابهة نوعاً ما لهذه.

ألسنة اللهب خلفهم كانت تخترق عنان السماء منذرة بقربهم و باعثة بإشارة شؤم ، لم يكن تقي قد نزع جزمته خلال نومه فقد كان يضع في رأسه جميع الاحتمالات و انتظر أنيس حتى يرتاح قليلاً من الصداع الذي عزاه لنهوضه بخفة من مكانه ، مرة أخرى تصفح تقي الخريطة ثم حمل رأسه ينظر للأفق و قال في سره.

" النهر سيكون طريق عبورنا ، و مكاناً ممتازاً لغسل بعض القذارة حتى عن وجهي ".

انطلقا مرة أخرى لكن تقي كان عازماً على الخروج من المكان اليوم و قد وضح ذلك لأنيس قائلاً " عليك بالمواكبة يا فتى و التفكير في عائلتك فستلتقي بها بعد الخروج من هنا " لم يشأ أن يرمي الشك في جملته تلك و إلا حطم أمل الفتى.

أومأ الطفل برأسه موافقا و نفحة الألم في عينين قد زادت ، لكنه سأل تقي بداعي التخفيف عن نفسه و النسيان " كيف هربت منهم ؟ و لماذا أرادوا قتلك في المقام الأول ؟ ".

ضحك تقي معجباً بذكائه و حدته ثم أجابه قائلاً " لقد وطأت قدم أحدهم على لغم ، الانفجار لم يكن بتلك الضخامة لكنني متأكد أنهم كانوا يطلقون الرصاص علي و أنا أجري مترنحاً " ثم أقحم أصبعه في أذنه كأنه يتأكد أنها لا زالت هناك.

كان المشهد هزليا بالنسبة لأنيس الذي أنفجر بالضحك ، ثم أضاف تقي " أنا لا أطارد الأشباح يا فتى و لست مهتماً باللعب في الأدغال من أجل حفنة ذهب لست متأكدا من وجودها ".

كانت السماء قد بدأت بالبكاء مجدداً ، الأمر الذي أقلق تقي ، فالتيار سيصبح أقوى الآن ، الهدوء كان يرافق خطواته و التركيز يلف رأسه و يستحوذ على تفكيره ثم و بخفة استثنائية قرفص و أخذ يتقدم نحو مجموعة أحراش نبتت على نهاية جانبي الطريق الترابي فأصبحت كأنها مدخل للنهر، و أمامه وقف ذلك الجندي منضبطاً يلوح بسلاحه يميناً و شمالاً ، سحب سكينه و بسرعة أطبق على فمه و أقحم النصل داخل جسمه فمر بسلاسة تشبه دخول السكين في بطاطا مسلوقة ثم سحب بخفة المسدس من قرابه ، قاوم الشاب لكن تقي أدار السكين داخل جسمه حتى أحس بأحشائه ثم سحبه منه فسقط على الأرض دون حراك ، و كشف عن أسوأ منظر رآه في حياته ، لقد صبغ ذلك النهر بلون أحمر و اصطفت الجثث فوقه حتى أصبحت تشبه السمك النافق ، غطى تقي فمه براحة يده فالرائحة بدأت بالتسلل لأنفه و قد كانت لا تُحتمل ؛ خلفه اندفع أنيس بسرعة محاولاً الوصول للنهر ظناً منه أنه نقي لكنه تقيأ فقط من هول المنظر ، ببطء تقدم تقي نحو الماء و على وجهه علامات الصدمة و الفزع ، و بدون أن يشعر سقط السكين من يده و سقط هو على الأرض و قد خارت قواه.

" إنهم مجرمون… مجرمون أقسموا يوماً على حماية الوطن ".

كان تقي يتخيل وجوههم و ملامح الخوف عليهم ، وداعهم لبعضهم البعض و للحياة التي تمسكوا بها يوماً ، تلك اللحظات نفسها التي أحس بها هو قبل أن ينفجر ذلك اللغم بعدما رفس عليه أحد الجنود بالخطأ ، سمع صوت في الماء فاستدار ليجد أنيس يركض وسط النهر ثم جمد في مكانه و هو شاخص في مجموعة جثث يسحبها التيار أمامه مغمغماً بكلام غير مفهوم ، تقدم منه تقي فاتضحت تلك الكلمات " إنهم هم… أظن أنهم هم " كانت قد مرت أمامه جثة فتاة بريئة تضع أنشوطة حمراء فوق رأسها فحاول اللحاق بها لكن تقي اندفع نحوه و أوقفه و هو يومأ برأسه بهستيرية رفضاً و يردد

" ليسوا هم يا فتي… ليسوا هم ".

لم يقم ذلك الفتى بأي حركة في تلك اللحظة ، لقد كان مصدوماً و بدون ملامح على وجهه ، خرج تقي من الماء و هو يحرك عينيه في كل اتجاه كمن فقد عقله ، ثم رمى نفسه على الأرض كدمية خشبية، ممسكاً رأسه بندم و يتتبع مياه النهر بعينيه اللتين سلبت منهما الحياة في تلك اللحظة.

**************

وصل لأذنه صوت خشخشة قادمة الأحراش المستقرة خلف الضفة الأخرى فارتمى في الماء بخفة محاولاً التمويه و الدخول وسط تلك الجثث المتعفنة غير مبال بقرف الفكرة ، لكن أنيس رفض و قد تملكه الشعور بالغضب و سيطر عليه ، كان الصوت يقترب و وقت تقي يقل إما أن يتركه أو أن يسحبه بالقوة.

" لقد حاولت أيها الحذق و الآن دعك منه "

نفض تقي ذلك الصوت الهزلي عنه و التفت بخفة لمصدر الصوت ، إنه يفكر جدياً بتركه و النجاة بنفسه لكنه قفز و سحبه ثم ارتمى على ظهره وسط الماء القذر و هو ممسك بالفتى فوق بطنه كأب يحاول تعليم ابنه السباحة ؛ أحدثت تلك القفزة صوتاً قوياً وصل للجندي الذي بدأ بإطلاق النار على طول النهر ، كانت الرصاصات تخترق الجثث و يصل صوتها المدوي لتقي الذي كان يبصر للسماء دون ملامح على وجهه و انعكاس الشمس يتلألأ وسط عينيه ، شعر في تلك اللحظة أن ضميره قد فارق جسده ، و من عروقه سلبت المشاعر و الحياة ، تطايرت الدماء من بعض الجثث التي أمامه على خده و شفتيه لكن لم يتحرك له جفن و يداه قد أمسكتا بالصبي بعنف حتى أصبح يحاول التملص منه ، إنه يريد البكاء لكنه فقط لا يستطيع كأن هناك حاجزاً ضخماً يمنعه من القيام بذلك فآثر أن يفرغ شحنة بؤسه في عظام الصبي الصغير.

لم تتوقف فوهات الأسلحة عن إطلاق النار فهم كانوا سيفعلون هذا على كل حال ليتأكدوا أن الجميع قد مات.

تناهى لأذنه صوت المياه الهدارة فأدرك أنه الشلال يقترب تدريجياً ، لم يكن بحاجة لرفع رأسه ليدرك أن الجنود خلفه يتتبعون النهر، فواصل تمثيليته لكن أنيس لم يكن بالصبر الذي عليه تقي و زادت تحركاته ، إنه يحاول أن يستدير بطريقة ما و يتملص منهم لكن الوقت ضيق و الصوت أصبح أقرب ، لم يعتقد تقي قط أنه سيموت غرقاً لكن يبدو أن ذلك على وشك أن يحصل ، أرخى قبضتيه من على الفتى و استند بصعوبة على جثة منتفخة أمامه ثم رفع رأسه بحذر فلاحظ أنهم ما زالوا مسمرين في أماكنهم ، وخلفه بدأت الجثث بالسقوط على طول ذلك الشلال وصولاً للأسفل ، أصبح صوت المياه يصم الآذان و أدرك تقي أنه وصل للنهاية فلا حل آخر له سوى الاستسلام للتيار ، رمق الفتى الذي ما زال مصدوماً بنظرات وداع حزينة ، لكنه لمح خلفه صخرة ناتئة ، فسحبه بخفة و قوة خلفه ثم دفع نفسه نحو مستوى الصخرة بكل ما لديه لكن ما زال ينقصه القليل ، إنه يرى النهاية أمامه مباشرة و كل عضو في جسمه يتوسله للاستسلام ، دفع نفسه بقوة مرة أخرى فانفلت الفتى من يده و رماه التيار للأسفل لكنه أمسك الصخرة بيده اليمنى و بخفة رمى يده اليسرى لأنيس فأمسك بها في الهواء ، توقف للحظة وسط كل ذلك كأنه يستوعب ما حصل للتو و بآخر ما بقي له من قوة عاود الصعود لأعلى ، لم يحس بالشق الضخم الذي رسم على طول راحة يده بسبب نتوء الصخرة و لا بالدماء التي لطخت ملابسه ، بل كان فقط مرتبكاً ، و سحب الفتى بعنف و غل شديدين ، لم يكن لديه شيء ضد الصبي طبعاً لكنه لم يجد غيره ليدفعه و يعنفه في لحظة الغضب تلك ، لم ينبس بكلمة طوال مسيرته و كذلك فعل أنيس المسكين بداعي الخوف ، كان يسير خلفه بفزع و أراد أن يجاريه فقط لكي لا يرميه وسط كهف و يتركه هناك فهو يعتقد أنه أصبح عالة عليه ، منظر تقي أضحى مخيفاً ، و هو يمشي مترنحاً و عظام جسده الهزيل قد أصبحت واضحة تحت زيه العسكري الذي شرب حده من الماء ، ثم و فجأة توقف و جثى على ركبتيه رافعاً وجهه للسماء ليبتل بقطرات الودق و اندفعت من حنجرته صرخة قوية برزت من خلالها عروق جسده و رددت صداها الأشجار و جعلت الطيور الصغيرة فوقها تفر هاربة.

بعد ذلك أصبح يمشي بسرعة تارة ثم يتوقف و يمرر يده عبر رأسه ندماً تارة أخرى كالمجنون فهو لا يستطيع استيعاب ما حصل للتو بالرغم من سنوات خدمته الطويلة.

لم يكن لدى أنيس خيار آخر سوى التحدث فهو يحتاج للتوقف و التقاط أنفاسه " أرجوك تقي علينا التوقف للحظات قليلة فقط " ،

" لم ذلك هاه ؟ لم ذلك ؟ " قال تقي بغضب و حدة ثم أردف " هل أنهكت قواك المجازفة التي قمنا بها تواً أم منظر الجثث اللعين هاه ؟ ".

لم يعرف أنيس بما يجيب فقد لفه الرعب و شل جسده ، فصرخ تقي بقوة مجدداً و هو يتحرك كشخص سكير و ينظر للأشجار العالية كأنها يخاطبها " إحدى عشر عاماً في هذا الهراء… إحدى عشر عاماً و أنا أستمع لترهاتهم و هكذا يكافئونني ،  بمحاولة قتلي ثم بجعلي أسبح مع الجثث ، سفلة جميعهم ، سفلة جشعون ".

نفض أنيس فكرة التوقف عن رأسه و استمر بالمشي لكن لحسن حظه فإن ملامح المدنية و بشائر الأمل قد لاحتا في الأفق.

الخلاص كان مقدراً له من البداية أن لا يكون بهذه السهولة و تقي يعرف ذلك ، فقد توضح مجموعة من أفراد وحدته يتحركون تحركاتهم الخبيثة منتظرين أي شخص غبي تسول له نفسه الهرب ، اقترب منهم حتى أصبح يميزهم فرداً فرداً و استعمل تلك الأشجار الطويلة ليختبئ و معه الفتى ، لم يكن له الوقت ليتردد فأخرج الآلة المسجلة من جيبه و قدمها له.

" حاول أن تعطيها لشخص يستحق " ، و مسح على رأسه بلطف كأنه يعتذر عن كل ما بدر منه بجرعة الحنان هذه ، الفتى بدوره فهم الأمر و أخذت الدموع الساخنة تنهمر من عينيه مرة أخرى فقد تعلق بهذا الرجل الغريب الذي أنقذ حياته بالرغم من كل الغضب الذي أفرغه فيه تواً ، فخطأ واحد لن يمحو محاسن أكدتها المواقف ، و لو كانت الظروف مغايرة ،  ظروف سلمية غير القتل و الدم لكان قد دعاه لعشاء و تعرف على جميع من رأى جثثهم مرتمية وسط ذلك النهر، لكن إذا اجتمعت الأسلحة و الجشع في صحن واحد فإن الطبق سيكون قذراً.

" أنت جندي جيد يا تقي ،  و رجل رائع و قوي لكن ، لما ستقوم بذلك يمكننا الهرب معاً " قال أنيس بحزن.

فرد تقي بسرعة " ربما لن تفهم هذا اليوم يا فتى لكنني دافعت عن الوطن مرات عديدة و في كل مرة أقتنع أكثر أن رؤوس الأفاعي قد كسبوه منذ وقت طويل و تركوا لنا الوطنية لننتشي بها لذا فقد قررت أنني لن أقوم بذلك مجدداً ".

احتضنه الطفل بقوة و بادله تقي بذلك ثم أمسك بوجهه المتسخ بعنف لكي يركز معه و نظر لعينيه متمعناً فيهما حتى أصبح يرى روحه النقية و قال " أنت فتى جيد ، لا تدع أحداً يقنعك بغير هذا أتسمعني ؟ " ثم ضغط أكثر على وجهه لكي لا يشرد و أكمل " استمع إلي يا فتى ، لا حياة بدون نسيان أتفهم ذلك ؟ إذا خرجت الآن سالماً و علمت أن عائلتك ماتت ، ستتحطم و بقدر تحطمك ذلك ستود أن تسقط على رأسك و تفقد الذاكرة ، في مرحلة ما ستريد المضي قدماً و ترك كل شيء خلفك فقط لترتاح ، و عندما تصل لتلك المرحلة لا تتوقف و خض غمارها أتفهمني ؟ لا تتوقف !  و الآن عندما تسمع صوت الرصاص أبدأ بالركض و لا تنظر خلفك مفهوم ؟ "

أومأ الصبي برأسه موافقاً و الدموع محتقنه في عينيه ثم استدار للجهة الأخرى مستعداً للركض.

أخذ تقي نفساً عميقا يدل على خوفه و تردده فمهما يقولون في الشجاعة من شعر فإن الموت سيكسر ذلك.

" إنه الوقت إيها الحذق… إنها تلك اللحظة ".

لم يبعد تقي ذلك الصوت الهزلي هذه المرة فهو يحتاج لقليل من الروح المرحة وسط كل هذا.

" لا تقلق و لا تفكر فقط اندفع… و بعد لحظة ستشرب نخب عسل حلو ، راق و صافي في الجنة هناك في الأعلى "

قدم السلاح أمامه و أحس بقوة غير عادية تنساب بين عروقه ثم اندفع من خلف تلك الأشجار و علا صوت الرصاص و اختلطت رصاصات مسدسه برصاصات رشاشاتهم ، و اخترقت تلك القطع المعدنية الشيطانية جسده أكثر من مرة و جعلت دماءه تتطاير أمام عينيه فسقط على الأرض و قد أصبح الدم ينساب فوق ملابسه في جداول ، ارتفعت عيناه للسماء المكفهرة مقتنعاً أنها النهاية ، لكنه بالكاد لمح تلك الطوافة و هي تحلق فوق رأسه و النيران المنبعثة منها تخترق أجسادهم ، فأحس في داخله بشعور عميق بالراحة و ابتسم بصعوبة من خلف ألمه.

" هل استعجلت بالخروج لأنني أردت بشدة الموت ، أم هم من وصلوا متأخرين ؟ ".

ترددت تلك الكلمات في رأس تقي كأنها صدى بعيد ، و اعترى جسمه شعور غريب ، فقد أحس كأنه يطفو و هو ينظر للحمالة و هي تنزل من المروحية ثم بدء بالتلاشي تدريجياً قبل أن يغلق عينيه.

************

فوق الكرسي المتحرك جلس تقي محدقاً عبر نافذة غرفة المستشفى الصغيرة ، و في الزاوية العليا كان التلفاز يبث خبر اعتقال الكابتن علي و محاكمته بعد سماع تسجيل تقي و شهادة الفتى كناج وحيد من تلك المجزرة ، كانوا يضعون صورته في إطار العناوين الرئيسية فرفع تقي رأسه لينظر آخر مرة لوجهه المربع الضخم و ذقنه المستدق ثم أغلق التلفاز، و راح يتحرك ذهاباً و إياباً ضاغطاً بيده على رأسه بعنف كأنه يحاول معاقبة نفسه ، و للحظة فكر حقاً في الاندفاع من كرسيه نحو النافذة ثم السقوط على الأرض أشلاءً صغيرة لكنه يتوقف ثم يعود للتفكير مجدداً محتاراً و مرتبكاً ، عالقاً بين شهوات قلبه في الحياة و شؤم عقله ، كشخص وقف أمام مفترق طرق وسط الصحراء و لا يعرف أين يتجه.

توقفت عجلات الكرسي فجأة ، و أصابعه تلاعب المصباح المكسور الذي وجده في المنزل و الذي تركه له أنيس عندما زاره في غيبوبته ، حدق له بشرود لفترة و هو يضربه على يده بلطف ، ثم انفجر بالبكاء كطفل رضيع مفكراً في كل ذلك الموت الذي رآه ، في لحظة ضعف لم يمر بها منذ وقت طويل.

" كنت فقط أريد أن أرحل ، أن أستقيل من الحياة و مشاقها و أن أخبر الأحزان التي يخبئها الزمن لي أنني غادرت منذ وقت طويل ".

 

النهاية ……

تاريخ النشر : 2019-09-14

تقي الدين

الجزائر
guest
29 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى