اساطير وخرافاتكشكول

عمتي الغولة: حكاية من التراث الجزائري

هي حكاية من الحكايات، خرافة من خرافات ترويها الجدات، تارة عن الأمير الوسيم صاحب الحصان، وأخرى عن الغولة آكلة لحم الصبيان. وعلى هذه القصص كبرنا وعلى قيمها نشأنا.. ومن بحر دروسها غَنمنا..

في غابر الأزمان، يحكى عن رجل يدعى “علي” كثير الرحل والترحال.. مع زوجته وأربع أبناء له وقطيع من الغنم والشياه..

ومن دُوار لآخر، ومن قرية لأخرى، كلما استبشر خيرا بمكان حط رحاله ونصب خيامه ورعى شياهه وأطعم أولاده.. حتى حطت به قدماه آخر المطاف بدوار من الدواوير .. على سيماء أهله ظهرت معالم الطيبة والمحبة والألفة. فأهلوا بهم وسهلوا وضيوفا في ديارهم بهم رحبوا.. وبجوارهم أقنعوه بالاستقرار وترك حياة التشرد والترحال. فوافق علي، وهناك بالدوار نصب خيامه، وتآخى وأهله مع أهل القرية وطاب له المقام، وبقي على ذلك ردحا من الزمان.

وذات يوم وكعادة علي أخذ قطيع أغنامه ليرعى، وهذه المرة زلّت قدمه فابتعد عن القرية، فأبصر ما لم يبصره من قبل.

منزل فخم يشبه القصور الغالية، محاط بأسوار عالية.. نال منه ما نال من الذهول، وتحرك فيه شيء من الفضول فقرر أن يستكشف المكان ويبحث عن باب المنزل المذكور.

إقرأ أيضا : هاينة وأخوها مع الغولة

ترك قطيع شياهه.. والسور العالي تفقد ثم مشى بمحاذاته. حتى وصل للباب الكبير الذي يودي لممشى طويل. سار عليه بحذر.. وعلى جانبيه رأى بستانا كبير، أخضر ذي خير كثير. وفي نهايته وجد ساحة صغيرة تتوسطها عجوز جالسة .. بغزل الصوف لاهية.

شعرت بحركته فرفعت رأسها نحوه، وهنا نطق علي بتوجس:

_ أمسيتِ خيرا يا الميمة – أمي –

_ أهلا يا ولدي، تعال تقدم.

_ اعذريني، دخلت منزلك بلا استئذان، ولكن لأني عطشان. أنا من سكان دوار قريب، وبإذن الله ثقتك بي لا تخيب.

_ تقدم يا ولدي.

تقدم علي بحذر، فتفرست العجوز بوجهه ثم صاحت:

_ ابن أخي؟، تالله لإنك نفسه ابن أخي! أين أنت منذ زمن؟ اشتقت لك!

وسالت الدمعة تتلوها دمعات، وشرعت بالنحيب وذكر شوقها له وما فات!

_ تقدم يا ابن أخي، تعال لأروي شوقي لك، وأشم بك رائحة الدم والأهل.

فغر علي فاهه من العجب، ولما يستمع منها اندهش.. فقال لها:

_ أظنك مخطئة يا أمي، فليس لي عمة!

_ بلى، بلى.. هي أنا عمتك العجوز، أهلكني الكبر وجار علي الدهر وتركني الأحباب والخلان، حتى بت وحيدة منذ زمان.

واستمرت بالبكاء والنحيب، تشكو عن وحدتها وغربتها وهمها الكبير.. فرق قلب علي لحالها، وراح يحاول إسكاتها، وشيئا فشيئا أقنعته أنها هي عمته المفقودة.

إقرأ أيضا : تاليس : حكاية من التراث الجزائري

_ تعال يا بني واتكأ على حجري كما كنت تفعل من قبل..

ففعل علي، وراحت تتحسس على شعره وتقول:

_ والدكم أخذكم منذ زمن عني، ولوحدتي تركني، فأخبرني.. هذا المنزل وتلك الخيرات – وأشارت للبستان – لمن لهم المآل؟

واستمرت بالهذر، وعلي يفكر، ونفسه راودها الطمع بالخير والأملاك حتى حانت منه التفاتة لفمها، كان اللعاب يسيل منها فسألها:

_ مابال لعابك يسيل يا عمتي؟

قالت بحسرة:

_ الكِبر يا بني، إنه الكبر..

ثم همت الغولة بفتح فاهها والانقضاض عليه لولا أنه نطق:

_ لا تقلقي، بعد الآن انسي وحدتك.. سأحضر زوجتي وأبنائي ونمكث هنا معك لنؤنسك، وبمنزلك وبستانك نعتني.

ابتلعت الغولة ريقها، وبلحظة واحدة غيرت مخططها .. هو وحده لن يشبعها. ستنتظر حتى قدوم الزوجة والعيال، لتعد لنفسها وليمة تنسيها مرارة أكل الحمير والخرفان والبغال.

وبقي علي معها لبقية اليوم، تروي له قصصها وتسر له بأخبارها حتى إذا مضى وقت العصر، فاستأذن منها للرحيل على أن يعود إليها بأهله في وقت قريب.


عاد علي لزوجته مستبشرا فرحا، يحكي لها غرائب يومه، ولقاءه بعمته، وعما تملكه من خير وفير وبيت كبير، وعن باب الرزق الذي فتح، وعيشة الهناء التي تنتظر..

فتوجست الزوجة خيفة، ونظرت له بريبة وسألت:

_ عن أي عمة تتحدث؟ ومن أين ظهرت؟ في الأمر سر يا علي.

تأفف منها ومن شكوكها قائلا:

_ اتركي عنك الشكوك، هذه عمتي أخت والدي، هيا، هيا اجمعي المتاع وحضري الأولاد لنرحل.

_ كيف نرحل؟! وماذا عن أهل الدوار؟ هل هذا جزاء استقبالهم وثمن إحسانهم!

_ لايهم! جدي حلا، سنرحل وأنا على ذلك مصمم!

لم تجد الزوجة المسكينة ما تفعل، واحتارت فيما تعمل، فإما نكران الجميل وإما هجر زوجها العنيد، ولكنها رضخت بالأخير لما أمر، وبحيلة حتى لا تظهر سيئة الطبع ناكرة المعشر عقلها انبثق ..

إقرأ أيضا : بكرة الخيوط و الاخوة السبعة

فحثت الخطى لبيت جيرانها، وطلبت من المرأة طاجين الطين الخاص بالكِسرة – الخبز – لتصنع العشاء، على أن تعيده في المساء. وأخذته وأسرعت للبيت، وبوسطه ألقته من يدها بكل قوة، ليتحول إلى شظايا عدّة.

وفي المساء، جاءت الجارة إليها، لتطلب الطاجين الخاص بها، فوجدته وقد انكسر، فقالت:

_ يا للويل! بما سأصنع عشائي اليوم!

فانطلقت صيحة عتب من زوجة علي، لتتلوها بالبكاء والعويل، وراحت تشكو وتعلي النحيب..

اندهشت الجارة من فعلها، أليس من المفروض أن تكون هي الشاكية! .. ولكنها راحت تهدأها وتطلب عفوها:

_ لا بأس انكسر الشر، سأتدبر أمري فلا تحزني..

ولم تصمت الزوجة وازداد عويلها، وعن سوء حظها، وجشع جيرانها ارتفع نحيبها.. وبقيت كذلك حتى التف أهل الدوار حولها، وجاء زوجها يسأل ما القصة؟ فروت له صنيع جارتها فأخذته العزة، ثم أقسم ألا يبيت ليلة في القرية! ..

ورغم المحاولات والمصالحات أبى إلا أن يصر على رأيه، ووسط حزن زوجته بسبب ندمها والفراق، جمع متاعه وشياهه وأهله وتوكل على الله قاصدا منزل عمته.


أهّلت بهم الغولة وسهلت، وبالصغار فرحت ورحبت، وأعدت لهم وليمة فاخرة، فيها من الأكل صنوف وألوان وراحت تطعم الصغار كالخرفان. وتقول مالِ هذا الولد نحيف؟ والآخر عظمه رقيق!

استغربت الزوجة ولم تكن مرتاحة البتة، لكن ما الحيلة؟ فزوجها سعيد، وبزوال الفقر والخير الكثير يريد، فما تصنع؟

وتمر الأيام تتلوها أخرى، وتفكر الغولة بأن الطعام الذي تعده خفيف، ومعدتها بحاجة لشيء دسم ومفيد، لكن الأولاد لازالوا نحافا وهي تريد من اللحم هبرا. فتقرر أن تصبر نفسها، على أن تتسلل للزريبة ليلا وتلتهم خروفا يخفف جوعها.

إقرأ أيضا : حمام الذهب بلاع الصبايا

في اليوم التالي، كان علي بالزريبة يعمل، حين لاحظ اختفاء خروف، فخاف وذعر، ولعمته أسرع ليبلغها الخبر، لكنها كانت لامبالية، وللذئب ألصقت التهمة.. قائلة أن الذئاب اعتادت الهجوم على خرفانها، لأنها بالعادة كانت دون رجل يحمي أملاكها، فصدق علي النبأ، وللخروف الضائع حزن، دون أن يبصر من حوله الأسوار العالية، فكيف لذئب أن يعبر حجارها الجاثية؟

وتوالت اختفاءات الخرفان مع الأيام، والذئب المسكين من كان في قفص الاتهام، والعمة الغولة تقيس بعينيها الأولاد والأوزان.. حتى إذا آن الأوان.

فذات صباح، أطلقت الزوجة صرخة خوف وفزع، لقد اختفى الابن البكر!! وراح الجميع يبحث، في المنزل والزريبة والبستان وما حوله.. لكن لا أثر!

وازداد بكاء الزوجة والعويل، والغولة تتظاهر بالحزن المرير، وعلي على ابنه كسير. وهكذا تمر الأيام ويصبح الولد طي النسيان، إلا أمه الذي كان غيابه عنها جرحا غائرا من الأحزان.

وياليت الأمر توقف عند ذلك الحد، لقد اختفى الثاني من الولد.. وهنا لم تتمالك الأم أعصابها وانهارت، ومن ألم فراق كبدها ثارت.. وأشارت لزوجها أن عمته السبب وأن وراءها سرا يدعو للعجب، لكنه نهرها وبكرهها لعمته اتهمها ثم خيّرها إما أن تصمت وتختار البقاء أو ترحل لكن بمفردها ولتتحمل الشقاء. فآثرت الزوجة المسكينة ما تبقى من أولادها.. لكن على أن تفتح عينيها على من تدعى بالعمة.

وتمر أيام أخرى، ويختفي الثالث من الأولاد.. فراحت الأم تندب الخد وتشق الثياب، فلم يبق لها سوى ابنها الرضيع ودوره لا محالة قادم في الطريق..

وذات ليلة قررت أن تراقب العمة، وما إن نام زوجها حتى رأتها تحركت فتبعتها، وفي الزريبة وجدتها، وبأم عينيها أبصرتها تشرع فمها عن آخره لتبتلع بغلا التهمته دفعة واحدة! فأدركت المكلومة مآل صغارها، وعرفت سبب هلاكها، لكنها عزمت على حماية رضيعها ولو كلفها ذلك أنفاسها.

إقرأ أيضا : مارية و الميت

وفي الليلة الموالية، نزعت عن رضيعها القماط، ثم أخذت يد المهراس – الجرن .. ففي السابق كان كبيرا ويده غليظة – ووضعتها محل وليدها .. ثم تظاهرت بالنوم وعلا شخيرها، حتى أحست بقدوم الغولة، التي أخذت لفة القماط بسهولة.. ثم حثت الخطى إلى الزريبة لتعد المأدبة. وهنا التقطت الأم رضيعها وضمته في حضنها وفرت إلى غير رجعة.

في الصباح، تفقد علي زوجته فلم يجدها، أخبرته الغولة أنها فرت، وأنها امرأة غير وفية ولا علاقة بها بالمسؤولية.. ونادت عليه :

_ تعال يا ابن أخي، تعال واتكأ على حجري، واترك عنك تلك الغبية، لقد ارتحت منها، وغدا سأزوجك بأميرة ثرية.

وافقها علي في قولها، ووضع رأسه على حجرها.. فبدأ لعابها يسيل من فمها ..

_ يا عمتي مابال لعابك يسيل؟

_ آه يا ابن أخي، إنه الجوع الكافر، كم بسببه أعافر! أخبرني بما أبدأ؟

أدرك علي ما يجري، فلطم خده وراح يبكي، ثم قال :

_ ابدئي بأذني، فهذا جزائي، لأني طمعت ولم أستمع لكلام زوجتي.

فتحت الغولة فمها، وبهجمة واحدة كان علي وجبة لها، والسبب في ذلك هو طمعه الذي أفسد طبعه وقاده لنهايته.

وناس زمان قالوا : “الطمّاع يبات ساري” ، وقالوا : “راح الحمار يحوس على قرنين رجع بلا وذنين” ..

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

وفاء

الجزائر
guest
41 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى