أدب الرعب والعام

فلتغفري لي

«نهى .. فلتغفري لي».

نطق «أيهم» الجملة بتخاذل وهو يشد على يد أخته . سقطت دمعة يتيمة من عينيه وهو يناظر وجهها الرقيق الذي استسلم للنوم العميق . قبضة رهيبة شدت على قلبه وخنقت الغصة حلقه . إنها آخر مرة يرى فيها أخته، توأمه وحبيبة قلبه الصغيرة . رفع يدها لشفتيه ولثمها بحب، ثم وضعها على قلبه واستسلم لسلطان النوم بدوره وقد علقت دموعه برموشه الطويلة .


ابتسم «نور» بضعف وهو يتقبل التعازي لوفاة صديقه الأوحد والوحيد«أيهم» . الحزن يهز جوارحه حتى الأعماق . كأن أحدا غرس بداخل قلبه خنجرا حادا واستمر بطعنه آلاف المرات دون كلل . مرر يده على وجهه الملتحي وتمتم بصوت تخنقه العبرات :

«رحماك يارب! أخذته إليك، فارحمه وارفق بقلوبنا . رحماك يارب، رحماك يارب»

دارى بكف يده سريعا قطرة دمع كادت تفضحه . في تلك اللحظة تناهى إليه صوت صراخ وعويل قادم من مجلس النساء . حول نظره نحو الباب وهناك رأى فتاة شاحبة تركض بغير هدى . عيونها البندقية الواسعة مبتلة بالدموع . شعرها البني يتطاير ورائها وقدميها الحافيتين لا تباليان بقسوة الأرض وقوتها .

نهض رجل كهل من مجلسه، استقبلها في حضنه ودفنها داخله وهو يحكم قبضته القوية على جسدها الهزيل :
«نهى، تمالكي نفسك يا بنيتي، إنه قدر الله» .
بعيون محمرة وصوت أحد من السيف صرخت به :
«قدر؟ أي قدر يا أبي؟ لقد قتل نفسه ولم تمنعوه، لقد قتلتم أخي… جميعكم» .
انخرطت في نشيج هز جميع القلوب وهي تكرر عبارتها الأخير بحرقة مريرة . اكتفى الرجل بتمرير يده على شعرها الأملس . عيناه مظلمتان، خداه غائران وشفتاه مزمومتان . كانت أختا فقدت سندها، وكان هو أبا فقد فلذة كبده، لقد كان الجميع خاسرا .
سحب «نور» نفسا عميقا وهو يشيح ببصره بعيدا . هزه دوار خفيف فوضع يده على الجدار واستند عليه خائر القوى . أغمض عينيه بألم وصورة «أيهم» تمر سريعا في ذاكرته .

كان «أيهم» و«نهى» توأمان ولدا ملتصقين من البطن . تشاركا نفس الكبد منذ ولادتهما وعاشا ككيان واحد . أراد والدهما أن يفصل بينهما كي يمنح لكل منهما حريته . وكان من المخطط أن يتم زراعة كبد لأحدهما كي لا يعاني من أي مشاكل صحية . غير أن العملية نفسها كانت محفوفة بالمخاطر، فخاف الأب أن يفقد أحدهما وتراجع عن ذلك.

كان نور جارا لهما من مدة طويلة وصديقهما الأوحد . ففي حين تنمر عليهم الآخرين كان هو الوحيد الذي رأى أن هذين الاثنين لربما يتشاركان نفس الجسد لكن لكل منهما روح وأفكار منفصلة . وهكذا ومنذ سن الخامسة عشر تكونت صداقة قوية لم يكسرها سوى سفر نور المفاجئ لفرنسا كي يكمل دراسته .

وضع يده على قلبه وضمها بشدة، حين هو كان غارقا بجمال باريس و غروب الشمس وشروقها، كان «أيهم» يذبل شيئا فشيئا . ثم دُمر كل شيء حين اكتشف الطبيب سرطانا خبيثا ينهش بجسد هذا الأخير ويأكله أكلا . ووقعت الكارثة، أصر أيهم بكل قوته على أن يتم الفصل بينهما مهما تضمن ذلك من خطورة . وهمه الوحيد ألا ينتقل السرطان إلى جسد أخته عبر الدماء التي يتشاركانها .

إقرأ أيضا : قلب من الكراميل

رفضت نهى وأصرت على أن تعيش مع أخيها رغم ما سيلحق جسدها من ضرر . لكن أيا من محاولاتها أو كلامها زحزح أيهم عن قراره ولو قيد أنملة . مات أيهم خلال العملية، متأثرا بضعف جسده ونزيف داخلي خطير . وبقيت نهى، حية، معافاة الجسد، وحيدة، مدمرة الروح والفؤاد .

«نور؟ هل أنت بخير؟ هل أعيدك للمنزل؟» .
فتح نور عينيه، فوقع نظره على أخيه الأكبر علاء، هز رأسه مبتسما واستقام في وقفته :
«أنا بخير، شعرت ببعض الدوار لا غير»
أمسك علاء يده بحزم وجره نحو أقرب مقعد، ثم قال آمرا :
«إجلس ولا تتحرك»
ابتسم نور ساخرا، إن علاء يستحق فعلا عمله في قوات الشرطة . عيناه حادتان كالصقر ترصدان أدنى إشارة منه . وكلامه عنيف حازم لا يقبل النقاش . ووجهه يخيف أعتى المجرمين . لكن أخاه كان متوترا جدا وهو يراقب حزن المعزين وانهيار أصحاب المنزل . تبادلا نظرة طويلة ذات معنى ثم زفر نور أنفاسه بقوة . كلاهما يعلمان جيدا، أن شبح الموت ليس ببعيد عن عائلتهما .
أين بدأ كل شيء؟ وكيف ستكون النهاية؟.

شد نور قبضته بقوة وهو ينظر لنهى التي لا تزال مدفونة بحضن أبيها . تمنى لو أنها بحضنه هو، تمنى أن يسحب بعضا من ألامها نحوه . لكن! لكن أيفعل ذلك؟ أيمنحها أملا زائفا ثم يرحل هو الآخر؟ . منذ أقلته الطائرة عائدة به للوطن وهو يفكر دون توقف عن موقفه من نهى عندما يلتقيها وحتى الآن لم يجد جوابا . تأوه وهو يضغط بيده على جبينه وكانت تلك إشارة كافية ليجره أخوه جرا نحو السيارة .

هدر محرك السيارة بعنف عدة مرات فحركت تلك الصغيرة رأسها ونظرت لها . مررت عينيها على ذلك الوجه الأبيض الطويل، شعره الأسود يغطي جبينه كالعادة، وعيونه الرمادية مختفية تحت رموشه الطويلة . هل عاد! هل عاد بعد ثلاث سنوات من الفراق؟ . حرك رأسه فالتقت عيونهما، انهمرت دموعها أكثر وهي تنظر لوجهه الصبيح وحركت شفتيها بدون وعي لتنطق اسمه بصمت . صر على نور على أسنانه بقوة، وهمس بدوره :
«سأعود»
كانت تلك عادتهما في التحاور بعيدا عن أعين أيهم في كل مرة . تتحرك شفاههما بكلام لا يعرفه سواهما . لكن نور يعلم جيدا أن أيهم لم يكن يوما غافلا عن ذلك الحب الذي ينمو بقلبيهما . ورأى كثيرا من المرات نظرة ندم عميق في عينيه عندما يضطر للابتعاد ويسحب أخته معه .
حرك رأسه نحو أخيه وقال معاتبا :
«كيف لنا أن نغادر هكذا، دون كلمة؟ . هذا ليس عرسا بل عزاءا يا أخي . كان عليك أن تتفهم ذلك قليلا»
هز علاء راسه بلا مبالاة :
«مهما جلسنا هناك لن يغير ذلك شيء ممّا حدث . ومهما بكينا معهم لا شيء سيضمد الجرح الدامي بقلبهم . الرحيل أفضل خيار»
«مع ذلك ….»
قاطعه علاء بصرامة وهو يدير عجلة القيادة :
«هذا يكفي، لقد أدينا الواجب والباقي يتكفل به الزمن، ولا تحسبنني غافلا عنك! . »
هاقد بدأ، نقر نور بلسانه حين بدأ علاء يحاضره من جديد :
« أنت لم ترتح قط منذ الساعة التاسعة صباحا، ولم تأكل شيئا أيضا . الطبيب قال يجب أن ترتاح وتتغذى جيدا…»
شرد نور في النافذة دون أن يهتم ببقية المحاضرة الطويلة . ليست نفسه من تهمه الآن، بل تلك الصغيرة التي تحتل سويداء قلبه . عليه أن يساعدها، عليه أن يدعمها بكل قوة متبقية له، سيكون لها السند، والأخ الذي فقدته…ثم؟، ثم ليدع الأقدار تتكفل بالباقي .


«أتعبتك معي يا ولدي»
ابتسم نور متفهما وقال بلطف :
« ليس هناك أي تعب عمي، ليس لدي عمل لأقوم به ونهى.. نهى صديقة أعتز بها»
هز الرجل الكهل رأسه، الهالات تحت عينيه قاتمة ويداه ترتجفان . ظهره انحنى كعجوز في الثمانين وركبتاه خائرتان . أمسك نور يده بلطف وأرشده لمقعد قرب الباب.
«عليك أن ترتاح قليلا يا عمي، وتأكد أني سأعيد لك نهى سريعا، فهي أمانة معلقة في عنقي .»
هز الرجل الكهل رأسه شاردا وتمتم بكلمات الرضى . لم يضف نور شيئا وركن للصمت . لقد مرت على وفاة أيهم أسبوع وخمس ليال، لايزال شبح الحزن يخيم على أصحاب المنزل ولا تزال العيون رطبة والجرح لم يندمل بعد . تنهد بأسى وهو يرى نهى مقبلة نحوه، ترتدي فستانا بنيا طويلا وتغطي خصلاتها بشال أسود خفيف . بشرتها شاحبة، والهالات تحت عينيها غامقة السواد . تمشي مستندة على كتف أمها التي لم تكن أحسن منها حالا، واحتار نور أيهما تسند الأخرى؟ .

منع يديه من لمس يدها حين ساعدها في الدخول للسيارة . يعرف جيدا أن لمسة واحدة كفيلة بإشعال عواطفه حتى تحرق كل شيء وتحرقه معها . إن قلبه بالفعل يتألم لمجرد نظرة، فكيف لو لمسها؟ .
كانت نهى ضعيفة جدا، ضعيفة حتى أنه يخشى أن يكسرها إن ضمها إليه . لقد علم أنها رفضت البقاء في المشفى في جنازة أخيها رغم أنها خرجت من عملية خطيرة جدا . ورفضت العودة لإجراء الفحوص اللازمة أو أن ترتاح . لقد أصرت كنمرة شرسة على رؤية القبر ولو كان ثمن ذلك التمرد الأرعن صحتها التي قاب قوسين أو ادنى من الخطر .

أوقف السيارة أمام باب المقبرة الكبير وسبقها بخطواته . الساعة لا تتجاوز الثامنة والنصف صباحا . المقابر فارغة والأصوات منعدمة، وكلما تعمقا أكثر ازدادت رهبة المكان .
توقف أمام شجيرة صغيرة، نظر لجدران القبر مليا وقرأ الشاهدة بعينيه :
« أيهم محمد الفردوس، تاريخ الولادة؛ الثاني عشر من آب عام ألفين، تاريخ الوفاة؛ في الخامس من نيسان عام ألفين واثنان وعشرون .»
سمع صوت نشيج صامت خلفه، فانزاح ببطء وترك لها المجال لترى القبر عن قرب .
جلست نهى على ركتبيها أمام القبر، لم تصرخ، لم تحارب. وبدا أنها تقبلت الحقيقة المرُّة أخيرا( أخوها لن يعود، لن يعود أبدا) . دموعها تنزل بصمت وجسدها يهتز كورقة في مهب الرياح، لمست تراب القبر المبلول بالندى . قربت حفنة منه لأنفها وشمتها بعمق، أتراها تجد شيئا من ريح أخيها بين تلك الصخور المفتتة؟! .

إقرأ أيضا :أحقاد لا تسقط بالتقادم – الجزء الأول

أخيرا أسندت رأسها على القبر، تمرّغ خدها في التراب تارة وتستنشق عبيره تارة أخرى . ودموعها لم تتوقف عن الهطول :
«لماذا؟»نظر نور نحو خدها المدفون في التراب، وسمعها تهمس من جديد بكل انكسار :
«لما فعلت هذا بنا، كنت سندي الوحيد، كنت حبيبي، كنت أخي، كنت كل شيء لي… لمنْ تركتني من بعدك لمن؟ لماذا يا أيهم لماذا؟ .»
رفعت بين يديها حفنة من التراب ونظرت إليها مليا كانها تناظر وجه أخيها فيها :
«لمن تركتني؟ للغرفة المظلمة، للذكريات؟ أم لوالدين عجوزين قلبهما محروق عليك؟ .»
سحبت مافي أنفها وعادت تهمس لحبات التراب :
«سمعتك تكلمني يومها، هل كنت تطلب الغفران؟ لو بيدي، لوبيدي…»
رمت التراب من يدها، احتدت نظراتها :
«لو بيدي سأخرجك من التراب وأقتلك ألف مرة مثلما قتلتني .»
نبشت أظافرها في التراب وبكل عصبية وقوة أخذت تحفر وتحفر وهي تصرخ بعويل شابه عويل الذئاب :
«أخرج أيها الغدار، أخرج إليّ لأقتلك…. أخرج لأنتقم منك… فتلخرج .»
أمسك نور كتفيها وسحبها بعيدا وهو ينظر للحفرة التي تركتها على سطح القبر . رفست نهى بكل قوتها، قاومت يده التي تحيطها :
«لن أغفر لك أبدا، لن أغفر لك أبدا»
أدارها نور لصدره سريعا وضمها لقلبه، وضع ذقنه على شعرها وهمس :
«يكفي يا نهى، يكفي يا حبيبتي»
تشبثت نهى بقميصه واهتزت بنشيج صامت :
«لن أغفر له أبدا،. لن أغفر له أبدا»
مرر نور يده على ظهرها، وبقيا على تلك الحالة برهة من الوقت . هو يناظر الحفرة على القبر بشرود وهي تهتز داخله وتبكي . فيهتز قلبه معها حتى الأعماق .

انكمشت نهى داخل حضنه وانخرطت في نشيج عال وقوي . ارتشعت يدا نور وهو يمسد على رأسها بحنان ويهمس لها ببعض الكلمات اللطيفة . قبّل شعرها واحتواها داخله، بعيدا عن أيهم، بعيدا عن العالم، بعيدا عن الألم . حدق نور باليومية المعلقة على جدار غرفته بشرود . حمل قلم تحديد أحمر من فوق منضدته ثم وضع علامة كبيرة على تاريخ البارحة . تراقصت ابتسامة ساخرة على ثغره وهو ينظر للشهور المتبقية في السنة . استدار وحمل سترته من فوق السرير، لقد بدأ الجو يصبح باردا فالشتاء على الأبواب . والصيف أقفل أبوابه وغادر حاملا الدفئ معه .

أغلق باب غرفته، وبينما كان يرفع سحاب سترته الزرقاء سمع صوت ارتطام قوي بالأرض .
نقر بلسانه وهو ينظر لأخته الصغيرة التي تسللت خفية للحمام وأخذت تلعب بالماء . توجه نحوها ورفعها من داخل السطل الواسع الذي رمت نفسها داخله . حرص قدر الإمكان على إبقائها بعيدة عن ثيابه غير أن ذلك كان من المستحيل . فقد استمرت ترفس وتقاوم قبضته عليها، ثم انفجرت في بكاء عال صم أذنيه .
تقدم وهو يحملها من باب المطبخ ونادى بضجر :
«أمي، صفاء»
خرجت أمه من المطبخ فرمى لها الطفلة المبتلة سريعا . وأخذ ينفض على سترته قطرات الماء بضجر :
«آه، لقد بللت نفسها مجدد! . »
حمل صوته أمه سخطا مماثلا وهي تناظر عيون الطفلة الواسعة بغضب. ثم نادت بصوت عالي :
«صفاء، تعالي وغيري لأختك ملابسها قبل أن تصاب بالبرد .»
خرجت صفاء من المطبخ، يديها مليئتان بالرغوة وحاحبيها يلتقيان في عبوس . رمقت الطفلة شرزا ثم مسحت يدها في مريولتها وخطفت الطفلة ثم وضعتها تخت إبطها ومضت وهي تبرطم :
«صفاء… غيري الحفاظ… صفاء حممي… صفاء أطعمي…. لقد تعبت …. تالله لقد تعبت .»
ابتسم نور ساخرا من كلمات صفاء الحانقة . هز رأسه مستمتعا ثم استدار مبتعدا، نادته والدته بقلق :
«نور، إلى أين ستذهب؟ .»
«سأقابل شخصا وأعود .»
«وحدك؟، ستذهب وحدك؟ .» رفع عيونه الرمادية إليها وابتسم بحنان :
«سأكون بخير، لا تقلقي .»
هزت أمه رأسها، غير مقتنعة بكلامه وغير قادرة على منعه . تنهد نور ثم تقدم إليها وقبل جبينها بحنان وارتد مغادرا .


«لقد تأخرت»
رمقها نور بابتسامة معتذرة :
«أنا أسف، لن أتأخر عليك مجددا»
هزت نهى رأسها ثم تقدمت ولفت ذراعها على ذراعه، مشيا لبرهة من الوقت متشابكين حتى تجاوزا الناس . جلسا معا على العشب الاخضر تحت شجرة صغيرة ، شرد نور يراقب الاطفال المنهمكين في اللعب، ثم تنهد بعمق . نظر لطرف رأسها المنحنى على كتفه وقال :
«إذا، كيف جرت الأمور»
دون أن تشيح نهى بعينيها عن الأطفال أجابت :
«عادي، لقد قال الطبيب أني لن أحتاج لأي فحوص جديدة وأن بإمكاني العيش بحرية كباقي الناس »
ابتسم نور بحلاوة وهمس :
«أليس هذا رائعا، يمكنك أخيرا أن تذهبي للنادي الرياضي كما أردت دوما وكذلك نادي الرسم»
همست نهى بصوت ضعيف وهي تضم اليها ركبتيها وتسند عليهما :
«كان ليكون رائعا، لكن لم يعد يهمني شيء »
رفع نور عينيه نحو السماء، ثم سحب نفسا عميقا . أحاط جسدها الهزيل بيده ودفنها بصدره دون أن يعير اهتماما للأعين الفضولية التي ترمقهما :
«نهى عليك أن تنسي، حبا بالله ارحمي نفسك قليلا»
تهدج صوتها الرقيق واغرورقت عيناها بالدموع :
«لا أستطيع يا نور، إن ما تطلبه مني مستحيل»
شهقت وأكملت :
«أنت تطلب مني أن أنسى شخصا شاركني جسدي وروحي طوال اثنتين وعشرين سنة . أنت تطلب من نسيان فلذة كبدي، روحي وحياتي كلها»
ابتعدت عنه وغطت وجهها بيديها :
«لا تطلبها مني، لا تطلب مني نسيان أيهم أبدا، لا تكن مثلهم لا تدفعني لأنسى… أرجوك… لا تفعل»أمسك يديها بحزم ونظر في عينيها البندقية مليا، ثم ابتسم برقة وهو يمرر أصبعا على خدها المحمر :
«سامحيني، لكني لا أطلب منك نسيان أخاك، أطلب منك نسيان الحزن، نسيان الألم . أطلب منك أن ترحمي نفسك وتنطلقي نحو الحياة التي ضحى أيهم بحياته كي يوفرها لك .»
ضم أصابعها بين يده وأشار باليد الأخرى حوله :
«أطلب منك أن ترمي نفسك بين أحضان هذا العالم الواسع، أن تجعلي أيهم فخورا….. أطلب منك أن تعيشي لنفسك»
سحب نفسا عميقا وقال بخفوت :
«لقد تشاركتما نفس الحياة دوما، لكن هذه حياتك وحدك الآن، حياة ضحى أيهم بها لأجلك . نهى، لقد مات أيهم لتعيشي . فعيشي حبا بالله عيشي!»
قضمت شفتيها وانهمرت الدموع غزيرة :
«أعيش لأجل ماذا ومن؟»
ارتجف واعترته رعشة باردة . كاد لوهلة أن يهتف بها كي تعيش لأجله!، لكنه لن يجرؤ على قول ذلك أبدا . تلقف دمعتها على أصبعه ثم وجهها نحو الشمس فلمعت كحبة ماس ضخمة، انزلقت من على أصبعه وسقطت في الهواء فاخترقها شعاع من الشمس وانعكست صورهما عليها . ابتسم نور وقال :
«عيشي لأجل نفسك»
نظرت لعيونه بشك، لقد عاشت دوما لأجل أخيها فكيف تعيش لنفسها؟، قهقه نور مستمتعا ثم جذبها لتقف قائلا بسرور :
«دعيني أعلمك كيف؟»
سحبها رغما عنها لتقف ثم ركض بها خارج الحديقة .

إقرأ أيضا : فرصة أخرى للسعادة

الملابس، الطعام، الألعاب، المثلجات . غمرها بكل ما وصلت له يداه، ولو استطاع لدفنها تحت كل ذلك . يراقب بسمتها الخجولة فيبتسم، يسمع ضحكتها فيضطرب قلبه . لقد كانت نهى مليئة بالحياة وهو سيفعل أي شيء ليعلمها كيف تعيش تلك الحياة .


مطاعم، دمى، ألوان، زهور وكل ما تشتهي النفس من زينة وجمال . أنفق نور وأنفق، كل تلك الأموال التي جمعها من عمله، كل الأموال التي ورثها من أبيه الراحل . أنفق كل فلس وصلت له يداه، لأجل فقط أن يسمع تلك الضحكة العالية الرقيقة المليئة بالسعادة والبعيدة عن الألم . كانت نهى مليئة بالحياة وكان على أحد ما أن يعلمها كيف تعيشها .

لكن ظلا أسود مخيفا كان يحيط به كل مرة، كلما دفعها نحو الحياة سحب هو نحو الظلام . مع كل ضحكة رددتها نهى كانت رمال ساعته تتساقط دون عودة . مسح نور دمعة هاربة من جفونه وهو يدفع ثمن باقة زهور بيضاء رفعها أمام وجهه . لكن وهو خارج المحل دارت الدنيا به، الأضواء، الأصوات كلها تداخلت وبدأ صداع قاس وعنيف يهز رأسه هزا . تشبث بإطار الباب وضغط عليه بكل قوته حتى ابيضت مفاصله . لا! لن يسمح لنفسه بأن يغادر الآن، مهمته لم تتنه بعد، ليس الآن، ليس الآن ….الرحمة يارب! .
«هل أنت بخير أيها الشاب»
نظر نور بعينين زائغتين نحو الرجل الضخم الذي وقف أمامه . دفع نفسه ليستقيم بوقفته ورغم شحوب وجهه هتف مع ابتسامة واسعة :
«لا تقلق يا صديقي، لقد انزلقت قدمي، وداعا»
رمقه الرجل الضخم بفضول ثم هز رأسه دونما اهتمام وهو يعود لعمله .

انشغلت نهى باستنشاق رائحة الزهور وبفرحتها الواسعة بها فلم تنتبه لفكه المشدود ولا لوجهه الذي شحب شحوب الموتى .
ند عنه تأوه صغير فنظرت له مستفسرة وفوجئت بمنظره المخيف :
«نور!، مابك؟ مالذي أصابك»
وضع يده على جسر أنفه وقال :
«لم أستطع البارحة النوم جيدا، لذا لدي بعض الصداع»
اعترى القلق ملامحها البشوش :
«لما لا؟ هل أنت مريض؟،هل أصبت بالبرد؟»
أمسك يدها بلطف فارتعشت من ملمس اصابعه البارد
«لا هذا ولاذاك، لم أتعود بعد على التوقيت الجديد، انت تعلمين أني كنت في فرنسا»
نظرت له بشك :
«لكنك هنا منذ أربعة أشهر!»
دفعها بلطف وهو يقهقه مبتهجا ويغير الموضوع بسهولة :
« يا لشدة ذكاءك، تعالي، هيا تعالي لنأخذ سيارة أجرة ونعيدك للمنزل . إنها السادسة مساء وأنا وعدت والدك ألا أتأخر عن السابعة كل يوم»
حركت أرنبة أنفها في حزن :
” أريد أن أخرج معك ليلا، يقولون أن الجو يصبح جميلا جدا خلاله .”
رفع يده ليوقف سيارة أجرة وبينما يفتح لها الباب قال مقهقها :
«طلبك أمري يا حبيبتي، سأكلم أباك في هذا الشأن ، هيا اركبي وإياك أن تتوهي عن باب المنزل كما آخر مرة!»
نظرت له وهو يغلق الباب وسألته :
«ألن ترافقني؟»
«أريد العودة للمنزل سريعا كي أنام وأحلم بك . وأخشى إني رافقتك لن أرغب بالعودة أبدا، هيا رافقتك السلامة»
راقب السيارة الخضراء وهي تختلط بحركة السير وتبتعد عن مرأى عينيه . رفع يده لشعره وضغط على رأسه بشدة . إن لم يعد للمنزل الآن وفورا فهو لا يضمن ما سيحدث بعدها أبدا .

انتظر حتى مرت من أمامه سيارة أجرة فارغة . أدلى لها العنوان وطلب من السائق اختيار أقصر طريق للوصول سريعا . كان متعبا جدا والضباب بدأ يغلف عينيه . دفع للسائق أول ورقة نقدية خرجت من جيبه ولم يهتم بصراخ هذا الأخير الذي أراد أن يعيد له الفكة . ركض داخل الحي الجديد – الذي انتقلوا إليه بعد موت والده – على غير هدى حتى وصل للمنزل المنشود .

ارتجفت يداه وهو يحاول إدخال المفتاح في القفل . لكنه فشل بذلك لذا طرق الباب بما تبقى له من قوة . استند بجبينه على الباب البارد وانتظر ثوان بدت له كشهور بلا نهاية . فُتح الباب، وأطلت منه اخته صفاء وهي تمضغ علكة وتنفخها بتعجرف :
«مابالك تطرق هكذا، هل تود كسر الباب؟»
رفع عيونه المحمرة نحوها وابتسم ببلاهة، نطق حروف اسمها بلسان مثقل ثم خر مغشيا عليه أسفل قدميها .
كل ما يتذكره هو صورة تلك الفتاة الصغيرة التي مرت أمام عينيه، أسلم نفسه للظلام ولسان حاله يردد : «فلتغفري لي يا نهى» .


بدأ وعيه يعود له ببطء، تناهى له صوت شهيق يمزق نياط القلب . فتح عينيه ورمش حتى اعتادت عيناه الضوء وتعرفت على الصور المختلفة . جسده على الأريكة ورأسه في حجر أمه التي تبكي بحرقة، بينما تضع يدها على رأسه وتمتم بالدعاء . أخته صفاء شاحبة، متوترة وعينيها مبتلة بالدموع . تنهد متأوها ثم دعم نفسه لينهض عن حجر أمه، حينئذ انتبه لأخيه علاء الذي يجلس على الأريكة المقابلة وهو يضع رأسه بين يديه . وجهه الأسمر مظلم تماما وشفتيه مزموتان بحدة . انتفض حالما رآى نور يجلس ووقف بسرعة وعفوية .

مرّرت أمه يدها على وجهه وهي تتفقده بلوعة :
«هل أنت بخير يا حبيب أمك؟ هل تشعر بالألم؟ أخبرني يا حبيبي؟ .»
نظر لها وفشل في رسم ابتسامة مطمئنة على شفتيه، صوته كان مختنقا وهو يقول بلهاث :
«أنا بخير…أريد فقط… أريد أن أنام قليلا .»
دعم جسده ليقف لكنه كان ثقيلا للغاية، يأبى أن يستجيب له . رأسه لايزال مشوشا، ينبض الألم في مؤخرة رأسه بانتظام وبين فينة وأخرى يمر شريط ألم ساحق بكل رأسه .
أحس بيد قوية تدعم خصره، نظر في عيون أخيه الحازمة ورمقه بنظرة اعتذرا صامتة . أسنده أخوه، حاملا كل ثقله حتى وصل لغرفته واستلقى على سريره .

إقرأ أيضا :الموت لأبي حمدان

كان متعبا جدا، متعبا لدرجة أنه لم يعد قادرا على مقاومة النوم أو حتى تحريك أصبع من أصابعه . لكن الألم كان أقوى منه . أغلق جفونه بقوة وحرك رأسه في تذمر . تنفسه أصبح سريعا وكأنه ثور في أرض المعركة و رغما عنه أطلق صرخة وصلت لآذان كل من في المنزل .

وصل له صوت ارتطام قوي بالأرض، ثم صوت عدة أدراج تفتح بسرعة رهيبة وعنف . لحظات حتى دفعت أصابع خشنة بقرص صغير داخل فمه وأجبرته على ابتلاعها مع رشفة ماء . من تحت رموشه المبللة بدموع الألم رأى صورة مشوشة لوجه أخيه المظلم . فكه مشدود بقوة وعيناه لا تفصحان عن شيء لكن يداه كانت تهتزان وهما تدعمان رأسه .
«أسف»
كلمة يتيمة واحدة هي ما خرجت من فمه وسط تلك المعركة الحامية، ربت أخوه على كتفه دونما كلام وسريعا بدأ مفعول القرص يسري في جسده ويخفف من ألمه. ارتخت جفونه واسترخى جسده ثم استسلم للنوم بهدوء ودون مقاومة .


تمطى نور بجسده في راحة تامة، وخرج من غرفته نشيطا، بشعر مبعثر وخدود محمرة من أثر النوم . قصد المطبخ ثم دخل وهو يقول بابتهاج :
«صباح الخير .»
رفعت أمه رأسها عن صحن العدس الذي تنقيه، نظرت له بعيون لم تذق النوم وقالت بحنان وقد ارتسمت على وجهها المتعب ابتسامة مرتاحة :
«صبحك الله بالخير يا ولدي»
نظر لوجهها المرهق وابتسم ابتسامة صغيرة مثقلة بالندم . رفع نظره للشخص الثاني في المطبخ . فتح عينيه على وسعها وهو يرمق أخاه علاء منهمكا في تقشير الجزر . طغت الدهشة على صوته وهو يسأله :
«مالذي تفعله هنا؟ ألم تذهب لعملك… لا تقل لي أنهم طردوك!»
رفع علاء جزرة إلى فمه وقضم منها بعنف ثم قال بتحدٍ :
«أخذت إجازة»
استغرب نور نبرة صوته المتوعدة، ابتعد عنه ولم يرد على كلامه . فتح الثلاجة وسحب بيضتان وبعض الجبن . وضع الزيت بالمقلاة وطبخ بيضه ببطء شديد وهو يحس بنظرات أخيه النارية تحرق ظهره . أفرغ البيض في الصحن وانشغل يزيل غلاف الجبن ببطء وتمهل فصرخ به علاء بضجر :
«هل تحتاج ساعة كاملة لتقلي بيضة!، تحرك بسرعة»
كشر نور متذمرا، إنه متأكد أن هناك محاضرة جديدة في الطريق . سحب من فوق الثلاجة بعض الخبز وأطفأ إبريق الشاي ، وضع طعامه على المائدة ثم مد يده ليفرغ الشاي في الكأس .

طوال وقت إفطاره بقي علاء يرمقه بنظرات رجال الشرطة المخيفة . ارتعش جسده، فدفع الصحن الفارغ بعيدا عنه وسأل :
«ماذا هناك؟، لما ترمقني بهذه النظرات كأنك تود زجي في السجن؟ .»
مرر علاء السكين ببرود في الجزرة وقطعها لقطع صغيرة ثم قال :
«أصبت عين الحقيقة»
حرق نور لسانه من الشاي الساخن، نظر له مبهوتا ثم اتضحت الصورة أمامه فصاح محتجا باستنكار :
«لا! لا تقل لي أنك أخذت اجازة لتسجنني في المنزل!»
هز علاء رأسه في هدوء، وضع قطعة جزر تحت أسنانه وهرسها بعنف :
«بلى سأفعل، فسيادتك تخرج من المنزل في العاشرة صباحا وتعود عند السادسة منهكا . هل انخرطت في أعمال إرهابية؟»
لم يجب نور فضيق علاء عينيه وقال ساخطا :
«قل، انطق، أين تذهب؟»
وقف بسرعة وصرخ متمردا :
«أنا لست طفلا ليتم سجني، ولا دخل لك أين أذهب ومع من أقضي وقتي . سأخرج متى يحلو لي ولتمت بغيظك! .»
كانت والدته تتابع هذا الحوار بصمت، لذا عندما خرج ساخطا من الغرفة سمعها تلقي بتقريع شديد على علاء الذي بدوره فقد أعصابه صارخا :
«دلّيله، ثم حين يعود إليك جثة هامدة تعالي لتشكي لي، لا تنسي أنه لم يمر شهر واحد منذ أغمي عليه في السيارة! وسط الطريق .»
ارتجف نور لهذه الذكرى المخيفة، كان لايزال وقتها يتردد على منزل نهى محاولا التخفيف عنها ودفعها لتخرج معه بعيدا عن المنزل . ثم كان أن اغمي عليه في الطريق ودخل في عامود كهرباء . والحمد لله خرج منها سليما سوى من بضع رضوض في الرسغ لدى ارتطام يده بالباب . ونزيف في الأنف بسبب الصدمة القوية، ولكنه مكث في المشفى يوما كاملا حتى يتأكدوا من استقرار حالته .

إقرأ أيضا : عذاب الخطيئة

لقد سحب منه علاء يومها مفتاح السيارة ورخصة القيادة ورضي بذلك . لكنه لن يسمح له بسجنه في المنزل بعيدا عن نهى . لن يسمح له أبدا ولو عنيَ ذلك الهرب من المنزل .لكن هيهات، فعلاء بالفعل توقع كل خطط هروبه وتحصن لها . ولم يكن نور ندّا لشرطي يتعامل مع المجرمين ويقبض عليهم . لذا في اليوم الثالث من المحاولة الفاشلة جلس مغتاظا في الصالة وهو يرمق أخاه بنظرات كادت ترديه قتيلا .


زفر نور أنفاسه بقوة وهو يتقلب على الأريكة في الصالة بملل . هل سيقضي مابقي من حياته مسجونا في المنزل؟ . رفع بصره نحو أخيه الذي يتابع مبارة كرة قدم بتركيز تام . يصرخ ويشتم مع كل هدف ضائع ويصفق بحماس مشجعا فريقه . غير بعيد عنه كانت أخته الصغيرة منى منشغلة باللعب بالدمى . شعرها الأسود يفترق على شكل قرنين صغيرين . عيونها الرمادية التي تشبه عينيه تنظر للدمى بتركيز تام وكأنها قطعة حلوى . رفعت رأس الدمية لفمها وغمرت شعرها باللعاب، رفعت عينيها ونظرت له فابتسم بحنان أبوي .

كانت منى نطفة صغيرة في بطن أمه حين توفي أبوه قبل سنتين . ولكنها كانت بردا وسلاما وتعويضا لقلب أمه الذي وجدت في تربيتها عونا على تجاوز الألم . لقد وجدوا جميعا السلوان في تربيتها . وحده هو كان بعيدا عنهم، في دولة أجنبية، يعاني ألم الفقدان وحده . ويعيش في غربة ووحدة قاتلة .
لن يسمح لأخيه أن يسلبه ما بقي من حياته ويسجنه هنا. تنهد متأففا بقوة، وكرر ذلك عدة مرات لعله يحصل على انتباه أخيه لكن هذا الأخير لم يعره اهتماما. صرخ نور غاضبا :
«أطفأ هذا التلفاز اللعين، أو اخفض صوته، إن رأسي سينفجر منه .»
سدد له علاء نظرة ساخطة غير أنه أطاع وأخفض صوت التلفاز حتى الصفر، وعاد يتابع مباراته الصامتة بنفس التركيز السابق .
أصدر هاتف نور صوتا، فحمله بين يديه وضغط أسنانه بقوة . كانت نهى تسأله من جديد متى سيخرجان . تصف له خوفها من البقاء وحدها في المنزل أو المرور بغرفتها هي وأيهم سابقا . وبدا أنها كانت تجد في الخروج معه تسلية وكذلك هروبا من الأشباح التي تملأ منزلهم . ضغط مفاتيح الهاتف :
«سنخرج قريبا، لا تقلقي يا حبي لم أنس وعدي لك .»
«سأذهب لزيارة أخي اليوم، هل سترافقني؟ .»
تنهد نور :
«لربما حان الوقت لتفعلي ذلك بمفردك حبيبتي، انفردي بأخيك وبثيه شوقك .»
«لكني لا أريد الدخول للمقبرة وحدي ووالداي لا يستطيعان مرافقتي . أرجوك نور، إن كنت تحبني فعلا كما أخبرتني، تعال معي .»
«أنا أحبك فعلا، وسأحبك دائما وأبدا، لكنك بحاجة لهذا، كوني شجاعة يا حبي، ذاك بيت أخوك الثاني، هل تخافين مكانا يوجد فيه أخوك؟ .»
قرأت نهى رسالته ولم تجب، ثم اختفت الدائرة الخضراء من صورتها. تنهد نور، أتراها غاضبة وزعلانة، أم أنها تفكر بكلامه؟ .
اعتصرت قبضة باردة قلبه، الوقت يداهمه وقد تسقط آخر ذرة رمل من ساعته ثم ينتهي كل شي .
كور قبضته وضغطها بشدة ثم نهض واقفا بحزم وسرعة . نظر إلى أخيه وقال بصوت لا جدال فيه :
«سأخرج يا علاء، ولن يمكنك منعي أبدا .»
نظر له أخوه باستفهام واحتدت نظرته، لكن تلك النظرة الغاضبة تحولت لأخرى هلعة قلقة ورآه نور يقف في سرعة ويركض نحوه .


مالذي حدث؟، وكيف حدث ذلك؟ .خلل نور يده في شعره بعصبية شديدة وشده بقوة . كل من علاء والطبيب نظرا له بصمت ولم يتفوها بكلمة .. رغم أن علاء بدا غاضبا أكثر منه وعلى وشك إخراج مسدسه ليفرغه بأقرب شخص .
أخذ نفسا عميقا ثم رمى رأسه على مسند كرسيه، نظر لأخيه برجاء وهتف :
«دعنا نعود للبيت، أرجوك .»
نهض علاء من مكانه وأمسك مقبض الكرسي المتحرك ثم دفعه وخرجا معا . كان نور مدمرا تماما . فقط قبل أسبوع كان لايزال يقف على قدميه مستعدا للركض إلى أبعد مكان في العالم كي يرى وجه نهى ويحررها من حزنها . لكنه الآن بات بحاجة لمن يحرره أيضا، يحرره من هذا الكرسي اللعين الذي علق به .

إقرأ أيضا : عازف الأحزان

أغمض نور عينيه بألم وشعر بخنجر حاد يخترق قلبه . لماذا هو؟ . لماذا هو من بين الآلاف من الناس؟، فقد والده . فقد أمه ثم تبناه عمه عندما كان صغيرا . رضع مع أولاده وعاش كفرد منهم . التقى فتاة صغيرة وأحبها، سافر لفرنسا وتعذب بالغربة وبالبعد عن أهله وحبه . توفي والده الذي رباه دون أن يستطيع حضور جنازته . توفي صديقه الوحيد دون أن يكون موجودا لمواساته وليصافحه لاخر مرة . وهاهو سيفقد كل ما تبقى مرة واحدة، حبه، جسده، عائلته، وطنه . كل شيء يحبه سيفقده للأبد .

رفع شعره عن عينيه بيد ترتعش . تنفس بعمق ثم دفع عجلاته خارجا من غرفته . نظر نحو أفراد عائلته، كل يخيم عليه الحزن .
«أريد أن أخرج»
وقف علاء معترضا فأكمل :
«الليلة سأخرج، ثم… ثم سأجري العملية»
احتدت نظرات علاء، نكس نور رأسه وقال :
«هذا شرطي الوحيد»
اغرورقت عيناه بالدموع ونظر لأمه مترجيا وناداها لأول مرة بكنيتها الحقيقة :
«خالتي، لقد ربيتني كابنك، أحببتني كابنك وأرضعتني من صدرك وغمرتني بحنانك . لكني قد أحببت يا خالتي، أحببت فتاة لم يرضها القدر لي أبدا، أحببت من قلبي وكل شيء وقف في طريقي . حتى ابنك يا خالتي سجنني في البيت ومنعني عن رؤيتها .»
شد يده على مسند الكرسي ونظر في عيني عائلته :
«أنا أعرف مقدار حبكم لي، ويشهد الله اني لم أعتبر أيا منكم غريبا . كنتم إخوتي، عائلتي التي لم أولد من دمها . كنتم سندي وكل شيء . لكن… لكني أحببتها وأريد رؤيتها لآخر مرة، فقط لآخر مرة .»

نظر نحو أخيه علاء فتقدم منه هذا الأخير ورفع يده عاليا ثم فوق راسه تماما لكم الباب بقوة حتى ترك به حفرة من لكمته . همس بصوت مختنق :
«من هي؟ .»
ضم نور يديه، سيفصح لعائلته عن هذا السر لأول مرة :
«نهى، نهى الفردوس .»
ظهر الفهم على وجه علاء وعرفها على الفور :
«اذا هي من كنت تقضي وقتك هاربا معها في كل مكان؟ .»
هز نور رأسه ببطء، بلع ريقه وقال :
«أردت أن أتزوجها، لكن لم يكن ذلك ممكنا بسبب وجود أخيها . وكانت هذه أنانية مني فقد دعوت دائما أن ينفصلا .»
تهدج صوته بالبكاء :
«دعائي استجيب، مات أيهم وانفصل عن أخته، لكن الله عاقبني على أنانيتي، وفصلني عنها أنا أيضا .»
رفع عيونه المبتلة :
«لا أعرف كم بقي لي من الوقت، وأعرف يقينا أن العملية لن تنجح . فأنا لم أقضِ ثلاث سنوات من حياتي في الغربة أتدرب على الجراحة هباء . لذا.. لذا.. أريد رؤيتها… أرجوكم»
وقفت صفاء بسرعة وركضت نحوه . ولم يجد أحد الفرصة ليمنعها عن فعلتها الشنيعة. دوت صفعتها القاسية في الغرفة كدوي قنبلة . وخيم الصمت على رؤوس الأربعة . صرخت فيه بصوت يائس محطم :
«ستنجح، أنا متأكدة أن العملية ستنجح .»

إقرأ أيضا :موت وطن

نظر نور لها معتذرا ونطق الكلمة بصوت خفيض . كانت صفاء أخته بالرضاعة وكانت دوما سندا وتوأما له منذ أدخله عمه تحت جناحه . ولا يوجد أحد يمكن أن يفهم طبيعتها المنطوية والهادئة، مثلما يفهمها هو . رمت نفسها فوق صدره وبكت طويلاً . بكاءها الحار جعل كل العائلة تنخرط في البكاء حتى منى الصغيرة التي لا تفقه حرفا مما يقولون أخذت تبكي . وتعلقت بتلابيب أمها بقوة . كانوا جميعا بحاجة لهذه الجلسة، جلسة يفرغون داخلها ألما دام شهورا وسنوات عديدة ثم انفجر في لحظة . ألم بدأ منذ وفاة والده قبل أربع سنوات وازداد بعد عودته من فرنسا . ألم احتاج قطرة واحدة ليفيض الكأس ويلفظ ما بداخله . مسح نور على رأس أخته بحنان وضحك وهو يقول باكيا :
«توقفي عن البكاء يا صفاء، لقد جعلتينا جميعا نبكي، إن علاء يبدو أحمقا بهذه الدموع التي تتعلق بمقلتيه .»
نظر له علاء بحدة ومسح بقبضته الدموع التي فرت من عينيه رغم محاولته لمنعها . رفعت صفاء عينيها ونظرت لأنف علاء بالمحمر وقالت :
«يبدو أحمقا بالفعل .» .

ابتسم نور ابتسامة واسعة وهو ينظر لعائلته الصغيرة وقد رسمت البسمة على وجوههم . يعرف يقينا أنه سبب هذا البكاء، يعرف جيدا أنه سيسبب لهم المزيد من الألم حتى بعد رحيله . لكن لا سلطة له على القدر . سيشعر بالذنب أكثر إن رحل عن عالم نهى دون كلمة . لن يتركها محطمة دون اعتذار لذا عليه الليلة أن يضع كل النقاط على الحروف .
رفع بصره نحو علاء، تنهد هذا الأخير مستسلما ولكنه قال بلهحة حازمة :
«سأذهب معك»


«نور؟»
ركضت نهى عبر المسافة التي تفصلهما وقلبها ينبض بسرعة . وقفت أمامه لاهثة وهي تنظر لجسمه الرشيق حبيس كرسي أسود بعجلات ضخمة .
«مالذي حدث؟ هل كسرت قدمك؟ . لهذا رفضت الخروج معي. لما لم تخبرني؟ من حقي أن أعرف . صحيح؟»
نظر لها نور، عاجزا عن إيقاف سيلان الأسئلة الذي أمطرته به . تنفس بعمق ورفع صوته على صوتها
«نهى، استمعي لي .»
نظرت له مبهوتة فأكمل بحزم :
«لدي ما أقوله لك .»
تأتات وتلعثمت في الكلام، ثم أخيرا رفعت بصرها إلى علاء الذي يقف ممسكا بذراع الكرسي بحزم . أدار نور رأسه نحو أخيه :
«علاء، من فضلك .»
ترك علاء الكرسي وأقفل عائدا نحو سيارته وهو يقول بحزم :
«نصف ساعة فقط»
هز نور رأسه موافقا على كلامه بمضض، نظر نحو نهى وقال بابتسامة :
«دعينا نجلس تحت تلك الشجرة هناك، هل يمكنك دفع الكرسي من فضلك .»
اتخذت نهى لها مجلسا على أحد المقاعد الخشبية في المتنزه، وقالت بقلق :
«أخبرني يا نور، مالذي حصل معك، هل سقطت؟ هل تأذيت؟ .»
أمسك يديها بين يديه وقال بلطف :
«اهدئي يا نهى، سأشرح لك كل شيء »
هزت رأسها متوترا الأعصاب، مطمئنة لدفء يديه الحانية وصمتت منتظرة منه الكلام .
أخذ نور نفسا عميقا، وقعت عيناه في عيني أخيه الذي يدخن سيجارة بشراهة . حانت لحظة الحقيقة!، ولا مجال للتراجع . احتاج خمس دقائق كاملة قبل أن يجد الجملة المناسبة ليبدأ بها الكلام .
«نهى، أعرف أني أخطات كثيرا بإخفاء أمر مهم كهذا عنك . لكنك لم تكوني في حالة تسمح لي بمصارحتك بما أنا نقدم على قوله . لربما لم أكن لأخبرك أبدا، ولم تكوني لتغفري لي أبدا . لكن الوقت يداهمني لذا أنا مضطر لقول هذا لك والآن .»
شدت يده بقوة، جحظت عيناها :
«نور!، ماالقصة قل لي بالله عليك، لقد أقلقت قلبي .»
زم شفتيه ونظر في عينيها عميقا ثم أطلق قنبلته :
«نهى، أنا سأموت»
تعالت ضربات قلبها، شحب وجهها وأمسكت تلابيبه بقوة :
«ما الذي تقصده بقولك هذا؟ . مالذي تهذي به يا نور؟ .»
رمى علاء سيجارته وتحرك خطوة نحوهما لكن نور نظر له نظرة حازمة فعاد لمكانه متأففا .
أمسك يدي نهى بحزم وقال :
«نهى استمعي لي، فقط اسمعيني ، أرجوك .»
أخفضت يديها عن عنقه وجلست مكانها متوترة تنتظر كلماته التي كانت القشة الأخيرة التي دمرت عالمها بأسره :
«نهى، قبل موت أيهم بحوالي شهرين كنت في المشفى أتدرب . حينها عاودني صداع كنت قد بدأت اعتاده منذ فترة من الوقت . لكنه كان أشد في ذلك اليوم، انهرت بسبب ذلك ونقلت لغرفة الفحص .»
التقط أنفاسه وأكمل بسرعة وهو يمسك يديها بإحكام :
«أخبرني الطبيب بعد ظهور النتائج أن لدي ورما في المخ . وأن ما كنت أظنه مجرد صداع وإرهاق من العمل كان نوبات خطيرة لمرضي . تجاهلي لذلك طوال سنة كاملة جعل المرض يصبح في مرحلة متقدمة جدا لذا لم يكن لدي فرصة .»
ذبلت عينيها وهو يكمل آسفا :
«أخبرني الطبيب، أن أمامي ستة أشهر لأحيا قبل أن تداهمني نوبة أخيرة . كان بإمكاني إجراء عملية جراحية لكن الطبيب شرح لي جيدا كم هي خطيرة، وأن نسبة فشلها أكبر من نسبة نجاحها .»
نظر نحو علاء شاردا وأكمل :
«لم أرد أن أخاطر بإجراء العملية وتقليص الوقت الذي بقي لي في هذه الدنيا . لذا أخفيت الأمر شهرين كاملين اعتزلت فيهما العمل . أردت من شدة ألمي وخيبتي أن أبقى حبيسا هناك للادأبد، ثم وصلني نبأ وفاة أيهم لذا عدت مسرعا .»
نظر لها مبتسما ورفع يدها لقلبه :
«عندما رأيتك، علمت أني أريد أن أبذل كل ما بوسعي لأعيش معك ما بقي من حياتي . وفعلت ما بوسعي لكي أدفعك لتعيشي معي»
لمس خدها الزهري :
«عندما مات أيهم، ترك لك فرصة العيش، لكن كان يجب أن يكون هناك أحد يعلمك العيش . أردتني أن أكون ذلك الشخص يا نهى، أردت أن أدفعك لتعيشي وتضحكي . أردت أن أملأ عيناي برؤيتك، واشبع قلبي منك قبل الرحيل .»
ابتسم ابتسامة صفراء شاحبة :
« في الغالب، لم يتبق لي سوى بضعة أيام أو لربما ثلاثة أسابيع . لقد انهار جسدي ووصل الورم لمركز حساس في دماغي، مما سبب لي شللا نصفيا، لربما أصاب بشلل كامل بعد بضعة أيام لذا…»
حمل يدها لشفتيه :
«هل ستكونين معي يا نهى حين تحين النهاية، هل ستغفرين لي وتعيشي معي ما تبقى من أيامي؟ .»
سحبت نهى يديها من فوق شفتيه ونهضت كرجل آلي لا يعي شيئا . وقفت مبتعدة بصمت فوضع نور يده على عجلاته بسرعة وقال :
«نهى أرجوك.. استمعي لي»

إقرأ أيضا :حجر من الجحيم


استدارت له والدموع في عينيها :
«أستمع؟ . لمَ قد أستمع؟ .كذبت علي يا نور، منحتني من نورك وحياتك بينما كنت أنت تذبل في الظلام بعيدا عني . ظننتك أحببتني، ظننتي أخيرا وصلت لأعمق نقطة في قلبك لكن ها أنت الآن تتركني مثلما تركني أخي من قبلك .»
مسحت دموعها المتساقطة :
«أنتم خونة، الرجال خونة . منذ ولدت وعدني أيهم أنه سيرافقني دوما، وعدني أن نعيش معا الحلوة والمرة . ثم في أول فرصة تخلى عني وفصل بيننا للأبد . أتيت أمت بعد غياب واخترقت ضباب حزني، اخترقت قلبي اليتيم وعشت داخله ثم كبرت حتى احتللت قلبي كله . وعدتني بالخروج معي ليلا، وعدتني بالبقاء معي دوما، لكن ها أنت تكشف كذبتك بكل براءة بل وتطلب الغفران! .»
احتدت نظرتها وصرخت بقوة فجذبت انتباه الناس جميعا :
« لن أغفر لكما أبدا، لن أغفر .»
استدارت مبتعدة وغرقت وسط روؤس الناس دون أن تستمع لنداءه المستمر .
أدار نور عجلاته بدون تردد وهو ينادي اسمها برجاء . حركته السريعة تلك أفقدت الكرسي توازنه وانقلب للخلف . سقط نور منه وضرب رأسه بقوة في صخرة كانت هناك . تدفقت الدماء وصرخ نور متألما . انزلق جسده وتدحرج عدة مرات قيل ان يهرع الناس لإمساكه . حاول بقوة أن ينظر من بين الرؤوس المتجمهرة حوله . لعلها عادت بعد سماع صرخته، لعل قلبها حن إليه . لكنها لم تعد وعلم نور أنه سيموت وحيدا، مكسور القلب، بعيدا عن حبه وعائلته .
دب الصداع قويا في رأسه وانسحب وعيه منه ببطء . رأى أخاه يدفع بيده الناس بعيدا وهو يصرخ بهم ثم جثى أمامه وقد اصفر وجهه . حسِبه نور نهى فنظر إليه راجيا دامع العينين ورفع يدا ضعيفة لوجهه :
«نهى، فلتغفري لي… إغفري لي أرجوك»
أمسك علاء يده في إحكام، ابتسم نور بانهاك وسقط في ظلام حالك بلا عودة .


النهاية

في ممر الانتظار وقف كل من علاء وعائلته أمام غرفة العمليات بتوتر . مرت ساعة ونصف منذ أدخل نور على عجل لإجراء الجراحة . فقد سببت له الصخرة جرحا عميقا كما وأنه تعرض لضغط كبير أضعف جسده . وأدخله في غيبوبة . ولم يكن لدى الأطباء خيار سوى إجراء العملية لإنقاذ حياته وقد راهنوا بكل شيء عليها لكن مشيئة الله كانت أقوى من رهانهم .

خرج الطبيب ببذلته الخضراء المميزة، أنزل الكمامة عن وجهه تقدم منه علاء قلقا وقد انعصر قلبه وضاق نفسه، هز الطبيب رأسه آسفا :
«فعلنا ما بوسعنا، البقاء لله»
زاغت أعين علاء وأمسك تلابيب الطبيب بقوة وقد طار عقله من رأسه من وقع الصدمة :
«إذا لم تستطع إنقاذه فالحق به»
«ولدي! نور ولدي .»
أغمي على أمه فصرخت صفاء منهارة وتدفقت الدموع بقوة . هل تبكي على أمها؟، هل تبكي وفاة أخيها أم تبكي حزنها؟ .
«أمي ،أفيقي، أمي، علاء ساعدني .»
لم يهتم علاء لها، بل لكم الطبيب بقوة صارخا :
«مالذي تفعلونه إن لم تستطيعوا إنقاذ حياة طفل؟ لما تسمون أنفسكم أطباء إذاً إن لم تحاربوا لأجل مرضاكم»
جذب الطبيب الذي صرخ مستنجدا، حدق في عينيه بتركيز :
«هل المال المشكلة، سأعطيك كل ما تحتاجه، سأعطيك عشرة ملايين، بل عشرين . فقط قم بعلمك أيها الوغد، قم بعملك»
«سيدي، نحن فعلنا ما بوسعنا ولم ندخر جهدا، أرجو أن تفهم ذلك. إننا أطباء هذا صحيح لكننا بشر ولدينا مشاعر، لا تعتقد أن رؤية مريض يموت أمامنا سهل علينا كموت بعوضة . نحن نقدر الأرواح والا لما اخترنا هذه المهنة .»

استطاع بعض الممرضين تخليص الطبيب من قبضة علاء الذي بدل أن تهدئه كلمات الطبيب زادت في هيجانه :
«تقدرون الأرواح!، بل تعبدون المال أيها الأوغاد، إلى الجحيم.. فلتتعفنوا في الجحيم»

إقرأ أيضا : العشق المظلوم – الجزء الأول


ركضت صفاء إلى علاء وأمسكت يده لتجذبه بعيدا عن قبضة الممرضين، نظرت في عينيه بعيون مبتلة منكسرة :
«علاء، لا تفعل ذلك أرجوك، هو لن يعود… أبدا لن يعود .»
نظر علاء اليها بعينان خاويتين، كور قبضته وفر هاربا من أمامهم وقد تساقطت دموعه على خده . لقد فقد اخاه الصغير الوحيد، أخاه الذي رباه على يديه وعاش كل يوم لتجل حمايته . استند على باب المشفى وأغلق عينيه يتذكر أول ذكرى له مع أخيه :
“_ أبي، من هذا الصغير؟ .
_ هذا أخوك الجديد يا علاء، اسمه نور وهو سيعيش معنا .
_ هل يعني هذا أنه ليس فتاة مثل أختي، هل أستطيع مشاركته مسدسي؟ .
_ بلى، تستطيع ذلك، لكن عليك أن تحميه أيضا بمسدسك .
_ سأفعل، سأحمي أخي نور دائما .”

بقيت صفاء وحدها في غرفة الانتظار . أمها نقلت لغرفة أخرى وأخوها فر هاربا . ضمت يديها لصدرها بقوة، وتمنت لو أن نور موجودا لتضع رأسها في حجره، لتخبره كم تشتاق إليه . أردات نور بجانبها ليقول لها ماذا تفعل بغيابه، الم يكن هو من قال لها :
” صفاء، يمكنك دائما أن تلوذي إليّ حين تشعرين بالضعف، أنا أخوك الصغير، لكنني سندك وقوتك ” .
أين هو الآن؟، أين ذاك الملاذ؟، أين سندها؟، أين أنت يا نور! .
أسندت رأسها للجدار البارد، تحدق بلافتة غرفة العمليات التي أُطفأت بعدما كانت مضاءة . حياتها مثل تلك اللمبة فقدت نورها وأُطفأت للأبد . وأرادته من جديد، أرادت أخيها، أرادت نورا .

كانت أم نور تهذي داخل الغرفة البيضاء وتنادي اسم ابنها . نظرت لها الممرضة بشفقة بينما تعلق لها كيس المحلول، المسكينة!، لقد مات ابنها في غرفة العمليات
«نور، ولدي نور… ولدي .. ولدي»
تغضنت ملامح الأم وهي ترى كابوسا مريعا، ذاك اليوم الذي أحضر لها زوجها لفة بيضاء صغيرة تحمل قطعة جمال لم يرها أحد . ابن اخته الصغير، مات أبوه في حادث وماتت أمه متأثرة بالصدمة بعد ولادته . ولم يبقى له معين ولا حسيب .
كان الطفل هادئا، أبيض الوجه، صبيحه، صافي العيينين، حملته بين يديها وتمتمت بحب :
” الصغير المسكين، مات والداه وتركاه وحيدا، أعطه لي يالحاج ابراهيم سأرضعه مع صفاء وسأعامله مثل علاء إبني، سيكون ولدي… ولدي نور “
ارتجف جسمها بقوة وهزت رأسها بعدما سرقت منها تلك اللفة الصغيرة . فجأة رأت نورا ساطعا يقطع كابوسها المظلم . تقدم نحوها بوجهه النير وثيابه البيضاء النظيفة . أمسك يدها وقبلها عميقا وقال بابتسامة حلوة لطالما عهدتها منه :
«نامي يا أمي، نامي… فأنا سأبقى دائما وإلى الأبد ولدك نور» .


كانت نهى منهارة تماما، لم يكن عليها ترك نور وحده هناك . لكنه كذب عليها ودمر فؤادها . سترسل له رسالة غدا تعتذر فيها منه و تطلب مقابلته من جديد . ستدعمه وستكون معه حتى آخر لحظة . بل لن تتركه يذهب . جففت دموعها وتساءلت؛ ترى أين نور الآن؟ . لاشك أنه عاد للبيت، إلى عائلته التي تنتظره وستسامحه دوما .
ابتسمت وهي تهيم في ذكرياتها، إلى اليوم الذي قابلت فيها توأمها الثاني، توأم روحها، اليوم الذي قابلت فيه نور .

” _ أيهم، ذلك الفتى قادم نحونا، دعنا نغادر أرجوك .

_ انتظرا لحظة، لا تذهبا .

_ ماذا تريد؟ .

_ أنا نور، انتقلنا للعيش هنا منذ شهر، هل يمكنني أن أكون صديقكما .

_ صديقنا؟! ألم تأت لتتنمر علينا؟ .

_ لا!.. أنا في الحقيقة ليس لدي أصدقاء، لذا هل يمكنكما أن تكونا صديقاي؛ سأقول اسمي مجددا إنه نور، نور عبد الهادي .

_ أنا أيهم، وهذه أختي نهى .

_ مرحبا نهى! .”


كان الجو ممطرا، تقدمت نهى داخل المقبرة بخطى بطيئة مثقلة بالألم . لقد مر شهر واحد! . لكنها لم تعد تحتمل الألم داخل قلبها، لقد كانت السبب في موت أخيها، والسبب في موت حبيبها . أصبحت حياتها بعدهما جحيما، لا أخا يضحكها ولا حبيبا يمسك يدها .
مشت بين القبور كمن أسكره الخمر، أو فقد عقله، وقفت تنظر للقبرين المتلاصقين، جذبت ورقة مكرمشة من جيبها وقرأت آخر جملة :
«لا أريد أن تتعبي مستقبلا بالركض بيننا يا نهى، لذا فكرت أن نجتمع معا في مكان واحد، سأكون سعيدا بجوار أيهم، لذا زورينا دائما وكثيرا . »

انهارت نهى على ركبتيها بجوار القبرين ونظرت إليهما شاردة، رمت مظلتها بعيدا وتركت دموعها الساخنة تنفجر من عينيها . غمرتها الأمطار وتطاير الوحل حولها، وضعت يدا على كل قبر وانخرطت في نشيج يقطع نياط القلب :
«لقد غفرت… غفرت لكما.. غفرت لكما .»

فلتغفري لي

انتهت بتاريخ 11/09/2022

رنا رشاد

المغرب
guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى