تجارب ومواقف غريبة

لغز الرجل العجوز

هذه القصة حصلت معي أواخر الحرب العراقية الإيرانية، كنت أخدم في شمال العراق وإضافة لقتال إيران في الحرب كان علينا أن نكافح تمردا في شمال العراق أيضا. وفي شهر أيار أو حزيران حسب ما تسعفني ذاكرتي من عام 1988.. في إحدى الليالي القاتمة تعرض موقعنا لهجوم مشترك معزز بهجوم جوي بمروحيات كوبرا وكان هجوما كبيرا ولم تتمكن حاميتنا الصغيرة من صده وتعرضنا لخسائر كبيرة من شهداء وجرحى ولم يكن عندنا وقت كافٍ لطلب النجدة.

كنا أمام خيارين الاستسلام أو الفرار بما أمكن وكان عندنا عدد كبير من الجرحى. كان الاقتراح أن ينسحب الأحياء منا ويترك الجرحى لعل العدو يعتني بهم ولكن لم نكن نأمن لهم خاصة في جبهات كانوا يقتلون الأسرى الجرحى. لذا اقترحت أن تحمل مجموعة الجرحى وتنسحب بهم.. وأتولى أنا وعشرة جنود مقاومة وإشغال العدو حتى يتمكن رفاقنا من الإنسحاب مع الجرحى بسلام.

إقرأ أيضا: شبح العجوز في البيت المرعب

بدأنا إطلاق النار وإشغال العدو كما قلت، ليتمكن رفاقنا من الإنسحاب مع الجرحى. وظلت المعركة أكثر من ساعتين ونحن نقاوم حتى هدأت المعارك قليلا وللأسف سقط منا ستة شهداء. وبعد تأكدنا من انسحاب الرفاق بسلام تركنا الموقع على عجل بأسرع وقت ممكن نحن الخمسة المتبقون.. ولم نكن نعرف الطريق جيدا في تلك الليلة الظلماء وكنا نخشى أن ندخل خطوط العدو بطريق الخطأ.

ظللنا خمسة ساعات ونحن نتحرك ذهابا وإيابا وكنا نتصل باللاسلكي بقواتنا دون رد. وكان هذا خطرا كون العدو كان يقدر أن يتنصت علينا ويحدد مكاننا. وبعد مسير طول الليل وصلنا إلى بيت من حجر وطين لم يكن له باب. دخلنا فيه ووجدنا أنه مؤلف من غرفة واحدة فقط، ووجدنا فيه رجلا عجوزا من الشعب الكردي كما يبدو من لبسه الشعبي جالسا على كرسي خشبي قديم. حاولنا التحدث معه وكانت لغته العربية صعبة، ووجدنا صعوبة بالتفاهم معه وشرحنا له الوضع قدر الإمكان. أننا تائهون وبحاجة لماء وطعام.. فقدم لنا ماء من إبريق طيني وخبز وجبن، وشكرناه. وصراحة أحسسنا أنه لم يعجبه وجودنا خاصة أننا كجيش هناك مكروهون من لأسباب معروفة.

سألناه عن الطرق التي تؤدي بنا إلى خطوط قواتنا فرد برأسه أنه لا يعرف، وسألناه إذا التقى بأحد من قواتنا التي انسحبت قبلنا، فرد برأسه بالنفي مرة أخرى.

إقرأ أيضا: العجوز حافي القدمين

تشاورت مع زملائي، منهم من اقترح قضاء الليل في هذا البيت حتى حلول الصباح. ومنهم من اقترح إكمال الطريق، فقررنا أن نبقى خاصة أن حدة المعارك كانت قد خفت بشكل كبير، وشرحنا الأمر للرجل العجوز فلم يمانع.

العقبة كانت أن الرجل العجوز لا يملك فرشا وأغطية، واستغربنا ذلك فكيف ينام ويغطي نفسه! ورغم ذلك لم يكن مشكلة لنا نحن الجنود المدربين على هكذا ظروف قاسية ففرشنا بدلاتنا العسكرية على الأرض وجعلنا أحذيتنا وسادات نوم.. واستلقينا لنرتاح بعد ليلة دموية متعبة من المعارك وغفا بعدها كل زملائي. ولكن ما أثار ريبتي أن الرجل العجوز ظل جالسا على كرسيه الخشبي القديم ينظر إلي متسمرا دون حراك.. وسألته لماذا لا تنام فرد عليّ بكلمتين مرددها ثلاثة مرات لا نوم لا نوم لا نوم .. وكان النعاس يغلبني، وكل مرة أحاول فتح عيني وذلك الرجل جالس كالتمثال دون حراك لا يبعد نظره عني.. وبدأ الشك يزرع في قلبي وقلت لو غلبني النعاس ماذا يمنعه من قتلي أنا وزملائي ونحن نائمون.

صحيح يبدو كهلا و بالكاد يقدر على حمل نفسه، لكن ممكن أن يقتلنا ربما يأخد قنبلة يدوية منا ويفجرها بنا. أو ربما بأي طريقة أو ربما يذهب ويبلغ العدو عنا. وبينما أنا مستغرق بالتفكير غلبني النعاس وذهبت في نوم عميق فشاهدت كابوسا مرعبا يتعلق بذلك الرجل وجدته جالسا مع عدة رجال يشبهونه تماما كإخوته التوأم حول حلقة نار يرددون كلمات غريبة. ووجدت نفسي وحيدا أنظر إليهم وقلبي يكاد يقف من الخوف ولكن الجملة التي زرعوها في عقلنا يوم التدريب العسكري أنتم جنود العراق والجندي العراقي لا يخاف من شيء أبدا. لا أحد يقدر على الجندي العراقي إلا خالقه فقط.

إقرأ أيضا: العجوز الغريب في المستشفى

تذكر ذلك قوّى قلبي مجددا. اقتربت منهم وفجأة نظروا إلي جميعا نظرة غضب، وقاموا يريدون إمساكي ورميي بالنار، فتماسكت وكبرت بالله بصوت عال وقرأت آية الكرسي بصوت عالوجدا. وهنا استيقظت من النوم ووجدت زملائي يوقظوني ويخبروني اني أشاهد كابوسا مرعبا على ما يبدو. نظرت حولي ولم أر الرجل العجوز، قالوا لي أنهم استيقظوا ولم يجدوه.

بدأ الفجر ينبلج ويظهر الصباح، واستعدينا للرحيل لكن قمنا قبل ذلك بتفتيش المنطقة للعثور على هذا الرجل.. ولم نجد أثرا له، لقد اختفى!

أكملنا طريقنا حتى التقينا بقواتنا أخيرا واطمأنا أن الفرقة التي انسحبت مع الجرحى وصلت بسلام لخطوط قواتنا. لكن لم تفارقنا قصة هذا الرجل العجوز، من يكون؟ هل كان جنيا أو مجرد رجل ناسك يعيش وحيدا؟ بالنهاية أختم هنا مقالي بالرحمة على شهدائنا الذين استشهدوا في ذلك اليوم ولكل شهداء العراق الأبرار.

التجربة بقلم: خالد الراوي – العراق

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا
guest
33 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى