أدب الرعب والعام

للمَاضِي الْوَبِيل قَتِيل

أداعب تلك الخصلات الحريرية التي سرقت لونها من عتمة تلك السماء الساحرة. تسبح ببركة خيالها الصغيرة وهي تغطس وتخرج مسرعة خائفة من الغرق ببحر تلك الأوهام السعيدة. تحملق بتلك العيون اللعوبة وتبتسم لتلك الوجوه المشرقة وهي تراهم يتراقصون ويلعبون مرحا و تراقب من بعيد وتخاف أن تقترب منهم فيردوها ظلما.

أنظر إليها بكل استغراب وكل مكنوني في عجلة، لما لهذه الطفلة كل هذه الوحدة؟ تجلس بعيدا عن من هم في عمرها.. تكتفي بالالتفات إليهم ببعض النظرات المتحسرة. قادني فضولي إليها فجلست بهدوء إلى جانبها وأنا أرجو أن تجري معهم وتضحك مبتسمة.. تنهدت بحزن على حالتها العجيبة، تمتمت بهدوء وكأن الأمر لا يعنيها :

“لما لا يجعلوني ألعب معهم يا ترى؟”

مرت الأيام وهي على هذه الحالة تراقب البشر وكل فؤادها يرجو منهم القليل من الشفقة، حاولت بعض مرات الاقتراب منهم ولكنهم ردوها خائبة ربما لأنها قليلة الكلام أو متمردة. طردت بضع مرات حتى الآن وهي لا تزال مبتسمة.. يا لكِ من طفلة غريبة !.

إقرأ أيضا: جارتي في القبر 2

فجأة انبثقت يد من جور هذه الدنيا و أمسكت بيدها وراح يجرها ويحاول أن يتحاور معها. ابتسم بكل إشراق لينير داخلها وكأن الشمس تجسدت بها و قال سعيدا :

“لما أنت وحيدة ؟ أنا لن أسمح لك بالبقاء بعيدة عنا “

بكل حيرة من أمرها أردفت متفاجئة :

“لما أنا ؟”

ليرد عليها وكان الأمر واضح بكل هذه الدقة :

“كل الأطفال هنا وأنت منا، لن أسمح لأحد أن يبتعد عنا “

كان مختلفا , مبتسما ومتوهجاً , لو وصفت بأنه اللؤلؤة التي تضيء في المحيط لن أكون كاذباً.. كان غريباذمشاغبا ولكن لا يترك أحدا مكسورا. تعلقت به تلك الصغيرة ولا أزال أراقبها كظل يترقب من بعيد مسروراً.

مرت الأيام وهي تلحقه كالخرز داخل حلقة، تراقبه وتضحك على تصرفاته الغريبة. تبتسم لضحكاته المتهيجة، وتستغرب من مدى كرمه وحبه لكل الأطفال ذوي الأصول المختلفة.. لما هو هكذا ؟ الطيبة أم الوحدة ؟ فلا أحد هكذا من دون سبب .

مرت الأيام ولا نزال على حالنا هكذا، ولكن لا تدوم الفرحة على معشر الإنس دائماً، ففي أحد الزيارات المعتادة تقابلا مجدداً وكانت الفتاة سعيدة كالعادة.. ولكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة له أيضاً.

ضياء القمر لم يكن على ما يرام فقد كان يتصرف بطريقة طبيعية وهذا ليس طبعه طبعاً.. استغربت منه وحاولت أن تبهجه قليلاً ولكن كل محاولاتها أطمرت سدا.. وبعد بضع ساعات قرروا اللعب جميعاً كان الأمر مسلياً، ولكن ضياء القمر لم يكن سعيداً كان غاضباً يحدق للسماء وكأنه ينتظر شيئا.

إقرأ أيضا: عيون فضية ـ رسالة من قرطاج

ما الذي يلهيك عنا هكذا ؟ و ما الذي تفكر به وتنتظره؟ جاءنا الجواب مساءً.. سقط ذلك القبس من نور اللهب فجأة أرضاً راح يتقلب متألماً.. حمله الكبار وسرعان ما أخذوه بعيدا لم تفهم الصغيرة ما هول هذه المصيبة؟! إلى أين أخذوه ؟ ما الذي حدث له ؟ هل سيكون بخير ؟ .

مرت الساعات ولم يصدر أحدهم صوتها، ولكن فجأة انهمروا جميعهم أرضاً باكين مكسورين.. ما الذي حدث ؟ لم يأتها الجواب سوى كلمة واحدة :

” مات “

ابتسمت الصغيرة وقالت ببراءة :

“ما معنى هذه الكلمة ؟”

لم يكن الأمر سهلا، استغرق اقناعها وقتاً .. مرت السنين وهي لا تزال مصدومة , مقاومة لآثار الحياة وحائرة تلقاها توزع الابتسامات كالمجنونة. أهي الطيبة التي انتقلت منه أم هي فقط تحاول أن تبقى قوية؟ لم يلاحظ أحد مدى تعاستها سواي، أراقبها من بعيد وأنا اعرف كم هي مهزوزة .

سقطت ذات يوم على فراشها مريضة تراقب الوضع وهي تتمنى أن تنتهي هذه الحظات الحزينة، وأنا اجلس بجانبها وأمسح رأسها كالعادة، التفتت إلي فجأة بابتسامة لطيفة غير مخادعة وقالت:

“أخيراً أظهرت ذاتك الحقيقية “

إقرأ أيضا: العشق الممنوع

كنت مصدوماً، كيف استطاعت رؤيتي هكذا ؟ لطالما كنت مجرد خيال يراقبها. لم أفهم أو ربما حاولت عدم الفهم. بقيت معها أعزز أحلامها وأبني معها مستقبلها، أراقبها من قريب و أواسيها.. كنت الظهر الذي استندت عليه في الأوقات الصعبة.

مرت الأيام وهي لا تزال بي متعلقة، تراقب أقرانها من بعيد وتجلس بجانبي مرتاحة. تخاف الاقتراب كي لا يعود الماضي مجددا و صارت وحيدة مجددا. ولكنها لم تعترف بهذا أبدا، لطالما قالت بأنها لا تشعر بالوحدة برفقتي، ولكني أعرف الحقيقة المرة، إنها حزينة، كئيبة وحيدة. هي عالقة ببحر من أوهام وتائهة بغابات مظلمة. كان القرار صعباً ولكنه بالنسبة لي كان مرضياً.

نهضت من جانبها و أخبرتها بأني سأذهب و سأعود مجدداً. ودعتني بابتسامة صغيرة.

لم أعد بعدها و أعرف بمدى تعاستها ولكني ظللت أراقبها من بعيد وأنتظر أن تباشر بالاقتراب من البشر مجددا. مرت الساعات و الأيام وهي لا تزال تنتظرني أن أعود إليها بسلام، لم يرف لي جفن لها واكتفيت بمراقبتها من بعيد متحمساً، عليها أن تعيش بالعالم، عليها أن تتركني وتترك الماضي، أنا مجرد وهم وهي إنسان.

نهضت بعد فراقي لها بسنة وحاربت هذا العالم مجدداً، عادت قوية من حطام الماضي والتعلق بالكائنات الوهمية ،كنت اعرف هذا.. ولدت لتكون قوية. صادقت البشر مجدداً ، وراحت تجمع الأطفال حولها كما فعل ، فراقه كسرها ولكنه زادها قوة ، سأراقبها وأدعو بكل خطوة أن تعلو بما تصبو إليه، فهي لها .

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

Krawre

العراق - للمزيد من القصص حسابي على الواتباد Krawre-sama
guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى