أدب الرعب والعام

من رفاتِ الذاكرة

هل يتبع قلبه أم عقله؟.. سؤال حيّر فلاسفة التاريخ، فماذا عنه هو؟

17-12-2003

_ صباح الخير!

التفت لؤي نحو مصدر الصوت الأنثوي الرقيق، ابتسم لها وقال بفرنسية جذابة :

_صباح النور كريستين.

كانت جارته صاحبة الشعر الأحمر القصير والعيون الخضراء اللافتة ترتدي ملابسا أنيقة خفيفة رغم برودة الطقس، حيث كانت تستعد للذهاب إلى عملها.

في الطابق الأرضي من المبنى الذي يسكنه. فتح صندوقه البريدي ليتفقد وجود أية رسائل، ودون أن يكون هنالك شيء هم ليعاود الصعود إلى شقته لكن كريستين استوقفته بقولها :

_ انظر، هنالك رسالة تحمل اسمك في صندوقي!

اتجه نحوها وتناول الرسالة منها حيث تابعت بلطف:

_ يبدو أن ساعي البريد أخطأ في أرقام الصناديق!

بفضول أنثوي سألته:

_ رائحة عطر نسائي تنبعث منها، أهي من رفيقتك؟

بدا مستنكرا الأمر ليجيبها بهدوء:

_لا رفيقة لدي، على أي حال إنها لا تحمل اسما، شكرا لك.

ابتعد عنها صاعدا إلى شقته في الطابق الاخير حيث اضطر لصعود سلالم الطوابق السبعة بسبب تعطل المصعد.

فتح الباب ودخل إلى الصالة الصغيرة ذات الديكور البسيط الذي يشبهه، أرائك جلدية داكنة وطاولة خشبية تتوسط الأرائك الثلاث.

على الحائط، علق لوحة كبيرة اقتناها منذ سنتين عند زيارته لأحد المعارض. اللوحة تجسد امرأة حزينة غارقة بين دموعها لا يبان سوى وجهها ذو الملامح الحادة الجذابة، وشعرها الأشقر المقصوص بطريقة عشوائية وبقاياه تطفو على سطح الدموع، يقال أن الرسام تولدت لديه تلك الفكرة عندما اختبر معنى الندم بعدما خان زوجته وانتحرت عند معرفتها لذلك من شدة عمق جراحها.

على الجدار المقابل للوحة، كانت مكتبة صغيرة تأخذ ركنها هناك، بجوارها وضع آلة تشغيل الموسيقى فوق منضدة زجاجية.

ارتمى على أحد الأرائك وفض الظرف بشيء من الفتور. ودون أن يعي ما يحدث، عرف صاحبة الرسالة..

إقرأ أيضا : ضحايا الحب

ذاك الخط الصغير المنمق الدقيق، كأنها ترسم قدرها خلال كل حرف، الخط ذاته لم يتغير منذ سبع سنوات.. كيف له أن ينسى امرأة عشقها خمس سنوات كانت ترسل له يوميا رسائل بهذا الخط؟، كلماتها التي تقتله وتحييه مئات المرات؟

امرأة ناعمة رقيقة كالنسمة هام بعذوبتها وحسنها، امرأة قد لا تكون الأجمل، بل عرف من هن أجمل منها بكثير.. لكنها كانت الأبهى والأنقى، كان تورد وجنتيها عندما يغازلها يفضح خجلها، وارتباك عينيها السودواتين يسحره.. وأكثر ما كان يحبه بها، عفويتها عندما تزيح خصلات شعرها الأسود الطويل عن وجهها المدور ذو الملامح الطفولية البريئة.

امرأة الحداد كانت..

ملكة الحزن رغم فرحها، ملكة الفراق رغم حبها..

رغم عشقه لها، لم ينس قط ما فعلت به، كانت امرأة تكره ما هو عفوي رغم أنها شكل من أشكال الجمال غير المبتذل، لكنها كانت تعاني من فرط التنظيم والدقة. تود كل شيء في موعد محدد، وقد كان هو مجرد مصادفة التقته في حفل توقيع كتاب الروائي المفضل لهما.

بدأت حكايتهما وسط عالم اللغة والأدب والخيال، لا بد أن تنتهي باستيقاظ مفاجئ على واقع مؤلم أثر انتهاء الرواية.

ملكة على عرش الخداع كانت، كاذبة محترفة وداهية، ملتوية كأفعى اجتازت حنكة فلاسفة العصر. لم يدر أن ما زال يحبها، أم بات يكرهها لتخليها عنه عندما دقَّ أول خاطب بابها؟

لقد قايضت الحب بالقدر، قايضت شاعرا بصائغ ذهب، قايضت رجلا شريفا نزيها بابن تاجر لا أحد يعرف مصدر أمواله.

لا يعرف كيف لم تعد ترى نفسها قصيدة وفجأة أصبحت عقدا ذهبيا، لا يعرف كيف تحولت من عصفورة تطير بين الكلمات إلى إسوارة مركونة فوق الرفوف منتظرة من ينتشلها. كيف استطاعت أن تغير مبادئها وأفكارها بهذه السرعة؟!

لم يدر إلى الآن بعد مرور كل هذه السنوات كيف استطاعت نسيان حكاية كحكايتهما.

منذ زواجها، جاء إلى فرنسا محملا بثقل الخيبات والانكسارات والأحزان، اختار الارتماء بين أذرع لا يعرفها بدل أن يبقى وسط أحضان امرأة دعست على قلبه وهشمته بكعبها الأحمر العال، اختار اللجوء نحو عوامل الغيب والمجهول هربا من واقع جارح.
قاسية هي، وهذا ما أدركه متأخرا..

إقرأ أيضا : الفصول الأربعة

لماذا تعود الآن؟ بعدما باتت مجرد ذكرى فوق رفوف النسيان فلماذا تظهر بعطرها الساحر من جديد؟ العطر الذي كان يستنشقه سنوات طوال ويعتبره مخزونا لأيام قد لا يراها بها!

كيف له ان ينسى.. غادة.. حبه الأول، خيبته الأولى، حزنه الأول، حقده الأول..

لماذا تعاود الظهور بعد كل هذه السنين؟!

هم لينهض ويرمي الرسالة دون أن يقرأها لكن يداه باتت ترتعش لتمنعه من فعل ذلك..

مرتبكا كسارق كشف أمره، عاد إلى الأريكة ليفتح الرسالة، تخيل شبحها أمامه تقرأها بصوتها الهامس الحنون الرقيق..

**

10-12-2003 لندن

عزيزي لؤي..

تحية مشبعة بعبق الذكريات..

ها قد حطت بي الرحال وأوصلتني الرياح العاتية إلى هنا، إلى هذا البلد الغريب الذي لا أملك به شيئا، لا عائلة، لا أصدقاء ولا حب.

جئت إلى هنا محملة بوجعي مستنجدة علاج جرح لم يبرأ منذ سبع سنوات. جئت إلى هنا وقد أثقلت الهموم كاهلي، فرسمت الدموع آثارها فوق خدي.

قدمت إلى هنا هاربة من الخذلان، هاربة من زواج خيب ظني، هاربة من زوج يتباهى بخياناته أمامي. هاربة من وطني الذي لم يعد، هاربة من كل شيء إلى لا شيء.

قررت الرحيل نحو جزر النسيان، ظنا مني بأني سأنسى لكني كنت اتعثر بك في كل محطة، رحلت وظل قطار الذكريات يقيم في نفقه لا يتقدم ولا يتراجع.

من بعدك، لم أعد أعرف الضوء من العتمة، الحياة من الموت، لا أعرف إن كان هذا الاحتضار أم ولادة جديدة لامرأة أخرى.. لم أعرف بوجودها إلى الآن؟ امرأة كنت أتمنى أن أتخلى بشيء من جرأتها وحيويتها.

عالقة في منتصف الأمور، بين الحب والكره، الموت والحياة، الوطن والغربة، العفو والانتقام، النسيان والاحتفاظ.

ليتني أستطيع إعادة الزمن إلى الوراء، كنت تصرفت بطيش أكبر، كنت منعت رصاصات الأمان المغرية من إصابة قلبي، فقد أدمته، جرحته وسببت نزيفه سنوات طوال، مستنفذة كل ما يملك من طاقة وقوة.

تمنيت لو بقيت طفلة، كلمة الوجع مرتبطة لديها بالسقوط أثناء اللعب لا سقوط الروح أثناء الهرب من الواقع.

إقرأ أيضا : قدر – الجزء الأول

لقد هرعت لأحتضن الأوهام الجميلة المعلقة في خزانة الأحلام، لكني بعد فوات الأول أدركت أنها لا تناسبني، فعدت باكية أرتدي ثوب الحقيقة العارية الموجعة.

لقد ختمنا ذاكرتنا بالشمع الأحمر يا لؤي واستسلمنا لغبار النسيان، سقطنا في الهاوية بعدما طحنت عربات الزمان عنفوان حبنا وروضنا سوط الأيام كأفيال السيرك الهرمة.

حبنا بات جمرة منطفأة لم يعد ملتهبا كما كان، فاستعاض الفتور الخامل مكان الحرائق والألغاز و التحديات والمتاهات واللغات المستحيلة.

حزينة لفراقك يا لؤي، وحزينة من أجلك، لقد أحببتني وأنت تعرف أني لن أصمد في وجه العواصف التي ستعترض سفينة عشقنا، وبأني سأنزل الشراع في أول ميناء يصادفنا.. كنت واثقا من ذلك، لكن الحب أعمى حيث غطت غشاوة العشق عينيك تمنعك من رؤية الحقيقة التي كنت تدركها.

نعم يا لؤي.. أعترف أني سبب تدمير علاقتنا بأنانيتي المفرطة ورغباتي البسيطة التي لم تكن تتكافئ مع جموح أحلامك المستحيلة.

سببت لك الكثير من الخدوش، بل كان بعضها عنق من أن تسمى خدوش، لكنك دوما حاولت أن تغطيها بمزيد من التضحية والتنازلات.

امتنعت النظر للمرايا سنوات لأنها ترسم وجوهنا الحقيقية من الداخل، ولم أكن مستعدة لاكتشاف حقيقتي البشعة بعد.

تخليت عنك يا لؤي ببرودة وقسوة، وها قد رد القدر اعتبارك وتخلى عني.

خسرت أغلى ما أملك يا لؤي، أغلى ما قد تملكه امرأة، فقدت حلم الأمومة ورحت أغرق وسط طيات الذاكرة.
كأن القدر أراد ان ينتقم لك..

سنين تمنيت خلال زواجي أن أرزق بطفل أهتم به، يسليني وينسيني وجعي، لكن كلمة واحدة من طبيب قطعت حبال آمالي المعلقة جميعها..

كان ذلك النقطة التي أفاضت الكاس..

مازلت أتقن فن الرحيل، فحاولت أن أعالج جراحي بالسفر بعيدا والقيام بتغيير جذري. طلبت الطلاق وصعدت أول رحلة إلى لندن عساني أشفى، عساني أنام دون كوابيس.

لكني فشلت.

ضائعة بك وبذكرياتنا، تائهة داخل نظراتك، حاوط الغربة طوق نجاة من ماضي يعذبني، لكن عيناك ما زالتا تلاحقاني.

كم كنت أحب خضرة عينيك! يبعثان الراحة والأمل باتقادهما، لكن مسحة من الحزن غطت تفاصيل وجهك المزوح يوم فراقنا لا أستطيع نسيانها.

أنت قدري يا لؤي ولا مجال للهرب منك أبدا.

أرى أحلامي العتيقة الآن تسقط في الهاوية وتتحطم كمرآة نسيت انتزاع وجهي منها، أرى عمري يتطاير في الريح مع أحزاني.

لقد أوصلني حبك إلى الموت، إلى نقطة لا نستطيع أن نرجع خطوة إلى الخلف أو نتقدم واحدة إلى الأمام، كمن يقف على لغم سينفجر قاتلا إياه أن تحرك.

أتمنى أن تعود لأستسلم لثمالة حبك وسحر كلماتك المصفوفة، لأستنشق عبير عشقك وأتأمل ألوانه.

إقرأ أيضا : لعنة قلم ج1

إني أهذي يا لؤي، أنا من أنهيت حكايتنا بموت بطلها الحب، لكني بالنهاية اكتشفت تعلقي بالأوهام السخيفة.

قد تكون رسالتي غير منظمة لأني لا أود أن أروي لك حكاية، بل رسالتي هذه المرة لأفتش عن أبجدية تحتوي حبي لك احتواء الريشة للحبر.

أكتب رسالتي، لعلي أعثر على فرصة العودة والمغفرة. امرأة كانت يوما تحبك ومازالت.

غادة..

**

تحسس على وجهه شيئا حارا، إنها دموعه.. لم يقوَ على المكابرة، ما زال يحب غادة كما السابق، لكنه لا يحتمل مسامحتها.

نهض ببطء كمن تلقى طلقة في ساقه وسار نحو المكتبة ليحضر قلما وورقة. لا يوجد ما يقوله لغادة بعد الآن، لقد تخطى مرحلة العتاب واللوم منذ مدة وبقي الحزن فقط.

بخطه العشوائي كتب لها يتمتم بكل حرف يخطه..

**

17-12-2003 باريس

غادة

لست قادرا على إرسال تحية لك ولو حتى مجاملة..
أشعر بأن استحضارك يا غادة خطيئة، لأني قد عاهدت نفسي على تخطيك، فلا يحق الظهور متى تشائين والتلاعب بعقلي وقلبي.

كفاك عبثا بمفردات اللغة، أنت تحاولين إخفاء حقارة ما فعلتيه تحت جمالية الكلمات وعذوبتها. أنت لا تعرفين سوى حب نفسك، ترين الناس مجرد ألعاب يين يديك تختارين منها ما تشائين.

أنت توهمين الآخرين بمدى رقتك وبراءتك، لكنك الخطر، وأنا أكثر من يعرف هذا.. فكيف أخاطر بالاقتراب منك مرة أخرى؟!

كان ثمة ما هو استثنائي بعلاقتنا، فقد باركتنا الورود والعصافير وحضننا الربيع ورائحة زهر الليمون كانت عطر حبنا. لكني الآن أحيا شتاء الفراق، فلا عصافير تغرد ولا زهر ليمون، تكسرت أغصان الأزهار يا غادة وجفت لتموت حزينة فراقنا.

أنت من ارتكبت جريمة قتل ذاك الشيء الاستثماري ليحل مكانه الحقد والكره. في اللحظة ذاتها أحبك وأكرهك، ذكراك هي الترياق والسم، الوجهة المنشودة لكنك ما دفعني للهرب.

لم أعد أفهمك يا غادة!

لن أكذب عليك، حزين لأنك لن تصبحين أما، وأذكر مدى رغبتنا بأن ننجب طفلة تحمل جمال عينيك وسحرهما.
لكن هذا لا يعني أني سامحتك..

لن أغفر لك ولنفسي ما كان بيننا يا غادة، ما حدث سيبقى ذكرى عالقة لا أكثر، ورسالة لم ترسل أو سترسل!

رجل أحبك يوما لكنك خذلتيه.

لؤي..

إقرأ أيضا : في الحب و الأمانة .. الغدر و الخيانة

**

وضع القلم على المنضدة وتردد إن كان يتوجب عليه إرسال هذه الرسالة.. شعر بحيرة شديدة، أيعود إلى ذاك الحنين ويمزق ما كتبه ليخط كلاما حلوا كالعسل بحق محبوبته؟ أم يرد اعتباره بسحق من احتقرته يوما أداة تعذيب كانت يوما وسيلة حب وهي الكتابة؟

هل يتبع قلبه أم عقله؟.. سؤال حيّر فلاسفة التاريخ، فماذا عنه هو؟

لقد اكتشف بعد هذه الحكاية أن الحب يغير جغرافية عقلنا وتضاريس قلبنا ليحولنا إلى شخص لا نكاد نعرفه، وبالنهاية نخسر أنفسنا، بهجتنا، فرحنا وأملنا بالحياة.

رفع نظره ليرتطم باللوحة..

كم تشبه غادة تلك المرأة! هي أيضا نادمة، لكنه أيضا لا يستطيع تقبل فكرة وجودها مرة أخرى بعد كل تلك السنين.

تنهد حيث كان يفكر بأن الحب لطالما كان وسيبقى لعبة قمار تحتاج إلى رصيد لانهائي من الصبر والكثير الكثير من الشجاعة، فهل يتمكن من التحلي بهما وغفران زلّة المحبوبة؟

النهاية..

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ انقر هنا

اية

سوريا
guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى