أدب الرعب والعام

هباتٌ صغيرة

لم يكن يدري السبب، وقد قضى سنيناً من عمره في التساؤل: لماذا أنا بالذات؟

ليس تساؤل مظاليم، بل تساؤل مُنعّمين. وكأن هاجسه يخبره: هل أنا المختار؟ هل يجب عليّ فعل شيء معين بما ملكت؟
وقلبه يعنّفه: أرأيت ذو نِعم يسأل عنها بدلاً من الشكر! هكذا، يقضي يومه بالشكر وينام راضياً.

ذاكرته طويلة الأمد، ولا ينسى أبداً يوم شيّع أحبته لآخر مرة وهم يخرجون مودعين من غرفة التخدير بالمشفى. كان حينها يستعد لجراحة ضرورية في عينيه، وكان سعيداً أن ألم مخه وعينه سينتهي أخيراً، وينتهي أخيراً أخبروه، ولم يخبروه أنه سيفقد البصر. خافوا إن عرف رفض، وإن رفض مات، فأخذوا عنه قراراً لم يكن ليملك الشجاعة على أخذه لواحد منهم كما اعترف لنفسه فيما بعد وحينما علم بالحقيقة.

حاولوا تبرير الأمر له بعد علمه، فقال شقيقه الأكبر:

– الحياة لا زالت ممكنة، لا تيأس.

وقال والده الذي قارب الكهولة:

– الآن انس الأمر. عندي لك مفاجأة، وجدت زوجة هي لك ترضى، فما رأيك؟

وقالت أخته الصغيرة وآخر الحاضرين:

– ثمة عظماء فقدوا أبصارهم، وما زادهم ذاك إلا إصراراً.

ولكم كان القول قاسياً على روحه آنذاك!

كان كثيراً ما يفكر في حكايته. كيف البارحة كان سيتخرّج من كلية طب عريقة، واليوم لن يخرج حتى من بيتهم إذا أراد. في طريق العودة إلى البيت من المشفى رفع رأسه إلى السماء وسأل وطافت أفكاره “أشاب في العشرين يعيش هكذا يا رب؟ أمي، هل ترضين هذا؟ وليدك يريدك. لو كنت هنا لأقسمتي عليهم أن يخبروني بالأمر قبل الجراحة. أماه.. رحمك الله”

ظن أنها النهاية. كان الأمر قاسياً عليه لدرجة أنه عزم أكثر من مرة على الانتحار، لكنه دائماً ما كان يعود ويجبن ويتشبث بالحياة قرب الخطوة الأخيرة، وقد وجد نفسه في النهاية متأقلماً مع سودواية أفكاره حتى ما صارت تؤثر به الكثير سلباً، وقد آمن وارتاح لفكرة أنه سيعيش هكذا دونياً حتى يموت وحيداً على فراش دافئ، وسيسعد بهذا أيما سعادة.

لا يزال يذكر أيضاً يوم شعر لأول مرة بذاك الشعور الذي سيعاوده عشرات المرات بعد ذلك. كانت قد مضت عليه شهوراً من فقدانه لبصره، وكان يمشي في الشارع آنذاك، حينما أتته قشعريرة غامضة تُلهب عموده الفقري، وظهر له نور ساطع رآه في كل مكان، أما البصر الذي عاد له فجأة، فكان معجزة ويقين، معجزة أن يحدث، ويقين أن حدث وأنه لا يتوهم الأشياء. لم يفهم في بادئ الأمر، وأخذته صاعقة المفاجأة فراح يرمق النور حوله بانبهار شديد، كان ذلك قبل وقوع الكارثة. رجل دون تفصيل يطير في الهواء، وصوت ارتطام قوي. حادث شنيع ماتت على إثره روح غريبة. يرى طاقة بلون أزرق صاف تصعد للسماء، ويستمر الأمر لثوانٍ معدودات، ثم ينطفئ كل شيء ويعود الظلام لعينيه. يصرخ حينها هلعاً وهو يتحسس مكان عينيه. يكاد يجن. لماذا عاد بصره لثوان ثم اختفى؟ وما الذي رآه؟

قضى أياماً يفكر فيما حدث، ولما لم تكن أدلته كافية لتثبت شيئاً، ذهب إلى أدلة العلم التي قد تثبت أن استعادته لبصره ممكنة. كانت ضحكة الطبيب مجلجلة ترددت في أذنه ساعات بعد سماعها:

– ما لم تزرع عين جديدة، فالأمر مستحيل.

ولما رأى ذاك قرر إنه الوهم أو الخبال مسّ عقله ليس إلا، وترك الأمل ومضى. تمر الأيام و يتكرر الأمر مرة والثانية والثالثة، بدأ بعدها يفهم، هو لا يرى إلا لحظة موت قادمة، يبصر الروح وهي تصعد إلى السماء. أدرك أيضاً أنه ليس مجنوناً لأن الجنون لا يجيب على غيبيات، إنما تلك هِبة تعوضه عن فقدان البصر. في لحظات كان يظن أنها أحلام يقظة، وفي أيام تليها وحين يبصر للحظات معدودات أثناء موت صرصور أو نملة، يتراجع عما ظنه ويدرك أنها الحقيقة ولا شيء سواها. وكانت البصيرة تستمر بقدر حجم الروح، فالصرصور يعطيه رؤية لثانية تقريباً، والنملة أقل من الثانية بقليل. وقد أمسك شقيقه بفأر ذات يوم وأرد قتله، فطلب منه أن يفعل ذلك أمامه، ولما فعل رأى وجه أخاه الحزين لمدة ثانيتين أو ما يزيد بقليل. كانت أكبر فترة رأى فيها هي حينما رأى الأمر لأول مرة، في ذلك الحادث الشنيع، ولم ير مثله قط. وكان يمسح على رأسه ويردد في نفسه دوماً بعدما ينتهى إبصاره المحدود “تلك هبات صغيرة.. تلك هبات صغيرة”

لكم من مرة طار بأحلامه بعيداً جداً، إلى الماضي وإلى سنوات خلت، حينها كان شاباً يحمل آمال العالم على كتفيه، وقد رأى فتاة وأحبها حباً عظيماً، وتلك نهاية القصة. لم يقل لها شيئاً لكنه عزم بينه وبين نفسه على أن يخطبها بمجرد التخرج الذي لم يأتِ قط. كانت معرفتهما جيدة وبينهما صداقة متينة، وكان قلبه يرقص برؤياها ويهتاج قلمه حتى يكتب أشعاراً في جمالها، وحين حدث ما حدث، انسكب الحبر على الورق فلوّن صفحات أيامه كلها بالسواد والظلام، ولم يعد القلم قادراً على كتابة شيء رغم أن الصفحات كثيرة داخله، وكثيراً ما يقول لنفسه متعجباً حينما يحن إلى أيامهما سوياً، ما أمل الكتابة والصفحات كلها سوداء!

هو، ورغم كل شيء، لم ينسها قط، وقد آلمه أشد ما آلمه أنه لا يستطيع رؤيتها. حينما سأل عنها وأُجيب، آلمه أنها قد مضت هكذا دونه وهو الذي ظن العالم يتوقف دونه، غير أن السعادة وجدت له طريقاً حينما علم أنها صارت طبيبة أمراض نفسية حازت قدراً لا بأس به من الشهرة، هذا وقد جلبت له أخته الهاتف ذات يوم تقول:

– ثمة من يريدك.

زارته نشوة الشعور بالأهمية والتهم الهاتف منها بيده التهاماً:

– من؟

– سمعت أنك سألت عني.

كان يعرف الصوت جيداً بل يحفظه، وخفق قلبه بحب قديم وجديد وكل شيء.

– سارة؟

– وحيد؟

– هل هذه أنتِ حقاً؟

تضحك:

– نعم وسررتُ أنك تسأل عني.

تهرب الكلمات منه بخبث، ويخفق قلبه برهبة لم يشعر بها من قبل قط. يسمعها تكمل:

– للعلم، أنا أيضاً سألت عليك لما اختفيت فجأة قبل الامتحانات.

تصمت لوهلة ثم تقول:

– لم أزرك بعد العملية.. أعتقد أني مدينة لك باعتذار، لكن لم أحبذ أنك ستحب رؤيتنا.. قالوا إنك رفضت كل الزيارات حتى من أقاربك.

يحارب ويحارب. الكلمات ترفض أوامر عقله. يقول متمتماً بعد أشد الجهاد داخله:

– لم.. أحب أن يراني أحد.. هكذا.

لحظات قاسية تمر بينهما قبل أن تردد بأسى:

– أتفهم الأمر.. أتفهمه.

ومضى بينهما حديث بطيء عن الأحوال، وعرف أنها استقلت بذاتها عن أهلها بعد افتتاح عيادتها الخاصة للأمراض النفسية، وحازت على ماجيستير وفي طريقها للدكتوراة الكاملة. كانت محاربة كما عرفها فلم يغيرها الزمان كما فعل معه. في نهاية اتصالهما أصرّت على أن يزورها بين الحين والآخر للطمأنة على صحته النفسية، إذ قالت إنها تشعر بحزن عميق داخله وقد ظنّت أن هذا بسبب ما جرى له، ولم تدرِ أن الحزن كله أوانها كان لها وعليها. قالت قد تساعده بما أنها وظيفتها، وأنه يجب عليه اعتبارها جلسة علاج نفسي مجانية أيضاً، وقد تعجب من شجاعتها في شيء كهذا ولكنه عاد وتذكر أن تلك هي شخصيتها العملية المباشرة، وفكّر أنها ربما لهذا تسلقت سلم الحياة بسرعة نسبياً، فهو غالباً المطلوب في مثل هكذا عالم.

تقول وكان يدرك سمعاً أنها تضع قدماً فوق الأخرى أثناء قولها:

– أراك قد تحسنت عن المرات الماضية.

لا يستطيع منع البسمة عن الولوج إلى ثغره. يرد:

– بمعنى؟

– السلبية والكآبة والقنوط.

يحثها على المزيد:

– لا زلت لا أفهم.

تهمهم بغموض ثم تقول:

– اليوم، لستَ الرجل الذي عرفتُه بعد الجراحة، إنما الذي عرفته قبلها.

يقول بصوت مبحوح كأنه الهمس:

– وهل لا زلتِ تذكرين ذلك الرجل الذي كان قبل الجراحة؟

تصمت وتتراخى في مقعدها صامتة. يقول:

– ثم هذا يعني أنكِ تجيدين عملكِ حقاً، أليس كذلك؟

تجيبه وقد تسرب عبوس وجهها إلى كلماتها:

– أخشى ألا يكون هذا صحيحاً يا وحيد.

يقول بعد صمت:

– هل نخرج؟ إن لي جاراً في المشفى أريد زيارته معكِ.

– هل الزيارة واجب في مثل حالتك هذه؟

– بالنسبة لي، نعم. حادث مريع يا سارة، هو الآن في غرفة الجراحة وربما يموت. يجب أن أحضر جانبه في تلك اللحظة.

تضغط زراً يصنع صوتاً وهي تقول:

– لا بد إذن أنه صديق حميم.

آثراً الصمت يهز رأسه إيجاباً قبل أن تدخل عليهما سكرتيرة العيادة فتسألها:

– هل من مواعيد أخرى؟

ترد السكرتيرة بتردد وهي تنقل بصرها بينهما:

– نعم.

يمر صمت مريب على الغرفة، وتقطعه سارة:

– أريد الخروج، هل هناك فعلاً مواعيد أخرى؟

تهز السكرتيرة رأسها نفياً وقد ظنت أن طبيبتها تريد الهروب من ذلك الكفيف، وتفهمها سارة وكذا يفعل هو فيقول محادثاً السكرتيرة محاولاً تدارك الوضع:

– أيمكنكِ تأجيلها؟ تلك المواعيد أقصد؟

تقول سارة وهي تقف:

– نعم، بالطبع يمكنها أن تفعل. هيا يا وحيد هيا، لي أياماً لم أمشِ في الشارع.

ويسمع خطواتها تقترب منه فيقف، تتأبطه قائلة:

– يمكننا المشي، صحيح؟ قدماي ستضمران من قلة الاستخدام.

ويمشيان وهو يرد:

– نعم، المشفى قريب.

تمر أيامه هكذا بزيارة أسبوعية يسلمه أخوه أو أخته فيها إلى الطبيبة سارة، ويتركانه لها عارفين أنها إما ستتصل بهما ليعودان ويأخذاه، أو توصله هي بسيارتها كما فعلت في كثير من الأحيان، هذا قبل أن تصير الزيارة عادة لا تنقطع، وقبل أن يصير خروجهما لتمشية بعد الجلسة أمر محبب له ولها، ولما رأت هي منه ذلك كانت تضعه في آخر قائمة مرضى اليوم حتى تتفرغ له بعدها، واعترفت لنفسها أنها تتوق إلى ذلك الوقت مثله، إذ كانت تراه إجازة وراحة عن إرهاق عمل أسبوع كامل، مع الزميل الوحيد الذي كانت تستلطفه استلطاف الصديق لا الحبيب منذ أيام دراستهما معاً، ولم يدرِ هو هذا إنما ظن أنها تفعل ما تفعله لأنها تشفق عليه فقط لا غير.

….

مع الشهور والسنوات، بدأت تختفي الصور في أحلامه حتى صارت كلها صوتية، وكان يتعجب كلما استيقظ أن كيف حلم بأصوات دون صور، كيف خاف من كابوس صوتي فقط لا غير، ويقول في نفسه، إن تلك رفاهية مقارنة بأحلامي القديمة، لكنها رفاهية مخيفة. حكي لسارة عن الموضوع ذات مرة فأخبرته أنه أمر طبيعي لأن العقل تكيف على ألا يرى شيئاً، وقالت إن الباطن غير الواعي دون ألوان الآن، ولسبب لم يفهمه، شعر أن كلامها صحيح عموماً وليس على الأحلام فقط، فباطنه الواعي فعلاً صار كئيباً دون ألوان.

تقول له وكانا يمشيان في حارة ضيقة:

– لماذا دائماً تصر على أخذي لأماكن غريبة؟

– لن تفهميني أبداً.

– جربني. أنا طبيبتك النفسية.

– لنقل أنني أريد رؤيتكِ.

صمتت غير فاهمة لمقصده، ولم تدرِ أنه لا يريد إلا أن يراها وقد اشتاق لبسمتها أكثر من أي شيء آخر مذ فقد بصره، فهو الذي قد رأى كل الأحبة عداها. كان، كلما أراد أن يرى شيئاً أو شخصاً، يحتفظ في جيبه بورقة فيها دود صيد الأسماك الحي الذي يشتريه بالطلب من محل أدوات الصيد، وحينما يقف أمام ما يريد، يسحق الورقة بيده فيموت الدود فيعطيه ذلك ثلاث ثوان أو أكثر يرى فيها مبتغاه، وكاد يفعل ذات الشيء لما أراد رؤية سارة، لكنه أدرك أن ثلاث ثوان ليست كافية أبداً كي يرضى، وصار يبحث عن الموت في كل مكان هي معه فيه، حتى استقر أخيراً لفكرة أخذها لمذبح أبقار وماشية، هناك حيث سيراها على الأقل لعشر ثواني ويمتع ناظريه بحبه الأزلي.

لما وقفا أمام المعلم رضا الذي نُقد مالاً من وحيد في اليوم السابق، رحب بهما أشد الترحيب، ولم تفهم سارة أي مما يحدث، غير أنها لم تكن مستعدة لرؤية كائن مسكين تحت الذبح، وأدارت وجهها في اللحظة التي حدث فيها الأمر. حينما أبصر وحيد وجد سارة تنظر في جهة بعيدة مغمضة العينين، وبسرعة التف حولها ليراها. يومها، كان وحيد يعيش لأجل رؤية سارة، ويومها أدرك حقيقة غابت عنه سنيناً طويلة. إن سارة قد بدلها الزمان كما لم يبدل أحداً قط. لم تعد تلك الفتاة الرقيقة التي زاملته يوماً، كانت مختلفة كل الاختلاف عن الذي يتذكره. أبالحق يتكلم؟ يصارح نفسه؟ هو لم يحب تلك المرأة أمامه بل أحب النسخة الشابة منها. هو، ولما رآها، أدرك أن تمثال الكمال الذي تصورها فيه على وشك التحطم، والصورة الجميلة التي يحلم بها ويعيش أيامه على أمل رؤاها أصبحت على وشك الاحتراق. أدرك في لحظة أنه يريد أن يراها جميلة كما كانت في مخيلته، ولا يريد أبداً أن تتغير تلك الصورة التي لا يزال يتذكرها بها، لأن تلك الذكرى وذلك الاشتياق، هو كل ما يجعل طعم حياته حلواً ليس مر.

فجأة، ألفى نفسه بعد أول ثانية يغمض عينيه والدمع الحار يهبط منهما. حينما رأته سارة أمسكت بيده وشدت عليها، وكذا فعل هو.

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى