أدب الرعب والعام

وأنام ..

“صدفة ؟ أنا لا أؤمن بالصدف. فكل شيء يحصل لهو مقدر له الحصول. كل شيء مدون في كتاب العلي القدير .. والذي يعلم ما ستفعلينه، قبل أن تفعليه.

أنتِ الآن تخطين خطواتك البائسة نحو الجامعة ككل.. يوم دراسي ممل.. بينما كان حلمك ارتياد معهد الفنون يوما ما. لا تجري الرياح دائما بما تشتهي السفن يا صديقتي .. وربما لم تجر يوما تبعا لرغبة سفينة أحدهم .. فما الحياة سوى رقعة شطرنج، وما نحن إلا بيادق تصطف على رصيفها تلعب بنا الأقدار وتسوقنا كما تشاء “

نهضت من فراشي على أثر صدى هذا الصوت الغريب المرعب الذي سمعته من العدم وقلت مذعورة :

_ من أنت؟ .. من تكون؟

فأطلق الآخر ضحكة طويلة هزت بصدى صوته أرجاء الغرفة، وإذا بدوامة صغيرة من الهواء أخذت تتشكل أمام عيني، وما تزال تدور وتدور إلى أن ظهر وراءها شيئا فشيئا شخص ما، شخص بهيئة رجل غريب المظهر، وسيم الملامح، ذو شارب أسود مسنن، وعينان زرقاوتان لامعتان. يرتدي رداء واسعا بنفسجيا مهيبا، وقبعة سوداء طويلة، وقف بين يدي و رد علي مادا يده إلي قائلاً :

_ أنا صديقك الخفي ، الذي أتى ليمد لك يد العون وينتشلك من بئر اليأس الذي وقعت فيه بغير طواعية.. بعد أن لم تنصفك الحياة ..”

تا دا !

أقفز من فراشي سعيدة ! أخيراً هناك من وجد لي حلا، اخيراً سأعيش ! سأتنفس ! لكن.. أين هذا الرجل السحري؟ أين اختفى؟ صدقوني أنا أيضا أبحث عن التتمة.. ثم ماذا؟ هل كان مجرد حلم ؟ لا يمكن ..

بفف..لم لا ؟ إنني كالعادة شخص حالم، مسكين لا يجيد سوى العيش على الخيال، رغم الكثير من الصفعات التي تلقيتها من واقعي العادي جدا بشكل مستفز، يأبى داخلي قبول هذه الحقيقية، وها أنا ذا أصبح على نفس الطاولة المفروشة بالأوراق، بفف.. منظرها وحده كفيل بأن يسد النفس على الدراسة. لقد دخنت لفافات علمكم وأدمنتها حتى الثمالة حتى لم تعد تهمني في شيء، أيقنت أنني فقط أسلم فرضيات العلماء الآخرين وأبني عليها مع أنها تحتمل الشك ! بدل التفكير قليلا خارج الصندوق، و ابتكار شيء جديد من عندي، أعرف أن هذا ما أحتاجه، لكني لا أزال لا أعرف كيف..

على أي فلتذهب فرضياتكم أيها العلماء إلى الجحيم، لم نستفد منها شيئاً، لا أدري أي لعنة أصابتني حتى اخترت هذا التخصص. لو أني اخترت شعبة الآداب لكان أفضل لي هناك حيث سأجد المزيد من الخيال وحرية التعبير والراحة والسكينة والإبداع، لكن الجميع يسيء لسمعة شعبة الآداب، يقولون أنهم لا يجيدون الرياضيات، أن واحد زائد واحد عندهم قد لا يساوي دائما اثنان قد تساوي ثلاثة في بعض الأحيان. أجل، قد تساوي ثلاثة إذا كان الواحد الأنثى حامل ! ما المشكلة في ذلك؟

يقولون أن شعبة الآداب ليس لها آفاق، وأن الأغبياء وحدهم من يختارونها، واحسرتاه على عقلية مجتمعنا السطحية.. إنما العيب في بعض الطلبة الكسالى الذين يختارونها كآخر ملجإ لهم بعدما لم يتوفقوا في العلوم، اما من يختارها عن طيب خاطر يخرج لنا منها كاتباً مبدعاً أو أستاذا عظيماً..

فتاة المواهب الضائعة هذه أنا.

لو سألتموني ما حلمك بعد الطب الذي لم تتوفقي فيه لقلت حلمي أن أغدو كاتبة أو رسامة، أو عازفة بيانو لعلي أرسل عبر ألحانه لقلبي ما يعبر عما كتمته لفترات طويلة من مشاعر مرهفة وحب للموسيقى ولكل ما هو فن، فقط لأنني تربيت في بيئة لا تقدر الفنون بل تسخر منها بحجة أنها “لا تؤكل عيش”

أفتح يوميتي، وأرسم فتاة تمسك بمظلة وتنظر للسماء الماطرة نظرة أمل وتبتسم، رغم مسحة الحزن التي تغطي عينيها، لتبدأ الأفكار بالانسياب تدريجيا لمخيلتي الحالمة من جديد، بينما عاودت سيمفونية بيتهوفن الجميلة ” ضوء القمر ” الصدح داخل دماغي من خلال سماعاتي المؤنسة.. أستنشق الهواء وأغمض عيني متحمسة إنه الأفيون ! وسرعان ما افتح عيني وأمسك بالقلم تلقائيا وأبدأ بالكتابة :

” طالبة “

في غرفة مظلمة بائسة، فتاة بشعر أشعث تجلس القرفصاء، وهي تلقي نظرة يائسة على أسفل التلة.. تلة من الأوراق المبعثرة التي تتربع هي على عرشها، ليحرر ثغرها نصف ابتسامة ساخرة قائلة بتأفف :

” بفف.. نعم، إنها حياة الطلبة “

كومة من المواد المتراكمة تصرخ أمامي كل واحدة تنسيك في الأخرى.. بماذا أبدأ؟ نسيت طرف الخيط.. يجب أن أهرب من هذا.. لكن إلى أين؟ لا أدري لقد بلغت سني العشرين فقط لكني اشعر كأني عجوز في أواخر الستينات لا أقوى على الحراك!

آه ظهري، وا أسفاه عليك، كل هذا التقوس بلا فائدة. أمضيت الليلة كلها أفكر.. في شيء لا أدري كنهه. ساهيةً في عالمي الخاص حيث تحققت أحلامي.. عالم ترددت عند عتبة بوابته كلماتي المتوهجة تلك التي كنت أرددها أيام الإعدادية الزاهرة.. ” سأصبح طبيبة رائعة يوماً ما ” قلتها حينها بعينين ملؤهما بريق ساطع وثقة كبيرة أخافت كل من حولي.. كنت أكدّ كل يوم حتى صرت نادراً ما لا أحصل على علامات كاملة ! كان الجميع مستغرباً مني، تلك الفتاة العادية التي بين ليلة وضحاها اشتعلت حماسة تفوقت بها على كل زملائها الذين كانوا يتنمرون عليها، حتى صارت تنافس أفضل تلميذ متغطرس في المؤسسة، لكن كل هذا انكمش في لحظة.. كأنه كان مجرد سراب تلاشت حبات رماله بين يدي، ماذا الذي يحصل لي الآن؟ أين أضعت بوصلتي؟ وأين ذلك البريق ماله لم يعد يظهر في عيني ؟..

أنا لست أنا..

أشعر بالوحدة، بأن لا أحد يفهمني، بأن العالم فقط يستمر في المسير دون أن يلقي بالا لأحد، أحيانا أرغب بالرحيل عن هذا العالم بدون رجعة، ولو لم يكن في ذلك عصيانا لله لاقدمت على ذلك على طريقتي .. أجل، ما تفكرون فيه صحيح. كنت لأرحل وأحزم امتعتي، فليس لدي ما أقدمه لهذا العالم على أية حال .. لا شيء آخر أقسى في الحياة من الفراغ، نحن الشباب نحتاج لأخذ قسط من التعب ! أجل، فرغم توافر كل الامكانيات، إن ظل الإنسان بدون عمل بدون مهمة أو دور يؤديه يحفزه ليعيش، فلا يحسب نفسه من الأحياء، ولو كسب قصراً فاخراً، تظل أفعاله لا تعدو أن تكون مجرد أكل ونوم، أكل ونوم، وحين يعذبه هذا الفراغ يرضخ لأول وظيفة ترمى على عاتقه كيفما كانت عساه يشعر بقيمة نفسه بها. هذا ما أظن أن تؤول إليه أموري في النهاية هه، مع أنني اعتقدت دوما أني في شيء مميز.. وأني أستحق الأفضل، لا بأس.. ربما كنت أتوهم..

الأحلام.. الأحلام..

جميعنا لدينا أحلام، فهذا ما يجعلنا نرغب في الاستمرار في العيش، الأحلام محركنا، منذ نعومة أظافرنا، وإلا فلمَ المناضلة؟ ومن أجل ماذا الكفاح؟ والنمو يوما بعد يوم؟ لكني الآن كبرت وصرت أعلم أن الأحلام مجرد أحلام.. أن علي القيام بالكثير من الجهد من أجل الحصول على القليل من النتائج.

لم أحب أبدا وضعي الذي أصبحت عليه، مذ حصلت على شهادة الباكالوريا، وعدم توفقي في الامتحان الذي سيؤهلني لولوج كلية الطب – رغم يقيني بالإجابات الصحيحة التي أسديتها بعد أشهر من الكد والتعب في المذاكرة، ربما لأني رفضت دفع رشوة لحجز مقعد أنيق لي هناك- لأنتهي أخيرا بقرار تسليم مصيري رهناً لتخصص آخر، وأنا أشعر بالضيق والضياع، أقضي نحبي ببطء في أيام جامعية رتيبة عبارة عن نسخ لسابقيها، لأنه لا انتاج يجعلني أشعر بالفخر، بل لا محفز لهذا الانتاج، وهذا ما يشعرني بالأسى، اذ لا أجيد فعل شيء آخر غير الاستهلاك من والدي المسكينين، وإن صبرت على انصاتي لهذه المحاضرات الجوفاء فإني بلا شك لا أصبر إلا من أجلهما.. رغم أني لم أعد أعرف من أنا.. ولا ماذا أريد أن أكون..

لقد انصهرت هويتي وذابت وسط جموع الطلبة الذين يسيرون كالروبوتات كل له شغله والذين حدست أن أغلبهم هم الآخرون لا يدرون حقا لماذا يدرسون. يمكنني التيقن من ذلك فقط بالنظر إلى أعينهم، أعينهم ميتة، أرى عليها غشاوة.. ضبابة كئيبة تغشي لمعتها.. المرء لا يدري لمَ يدرس؟ ولمَ اتبع ذلك التخصص من الأساس؟ ربما الأمر كله بدأ بمزحة طريفة أو تحدي، ربما لأن أحد أصدقائه اتبعه، أو لأن أحد أفراد أهله رشحه له، كأنما يرشح له إحدى الكتب، أو ربما فقط لأنه لم يعد لديه خيار آخر، برغم أنه قرار حتمي سيلازمه طيلة حياته، وقد يحدث أن يكرهه بعدها لكن عندها لن يكون بوسعه سلوك طريق آخر، فقد اختار بالفعل، وعليه أن يستمر على هذا النحو شاء أو أبى، إرضاءً للناس كي لا يقولوا عنه عاطل إن هو توقف.. إن هو توقف عن الدوران اللانهائي في العجلة كالهامستر الصغير.. لهذا السبب هم يدرسون من أجل أن يسموا يدرسون.. فقط. ومن أجل عدم إلحاق خيبة الأمل للعائلة.. أصبحت الدراسة لدينا غاية وليس وسيلة لتحقيق أهدافنا.. ننتظر فقط اليوم الذي سنحصل فيه على شهادة رمزية تطبطب على أكتافنا قليلاً ونقنع بها أنفسنا بأنا على الأقل أنجزنا شيئاً وان لم يتوافق مع ما نريده.. ثم سرعان ما نعتاد.

” أحد أخطر التعبيرات وأكثرها ضررًا.. الجميع هكذا! “

ليف تولستوي

صعب علي تقبل انعكاس وجهي الشارد على زجاج نافذة حافلة المواصلات، ألقي نظرات خاوية إلى الطريق الذي أعلم مسبقاً أنه طريق خاطئ.. تماما مثلما ذكر الكاتب الراحل جبران خليل جبران في إحدى قصصه من كتاب المعربة عن الذات العاطلة ” تراقب اللا شيء الذي وراء كل شيء “

لماذا صرت ما أنا عليه؟ لا أدري، فقط أدرس من أجل أن أدرس أنا الأخرى.. لكني سأحاول التأقلم أعدك يا أمي اثنتا عشر عاماً من حياتي كرستها فقط من أجل هذه الدراسة اللعينة لذلك لن أتوقف وسط الطريق، لا بد من نهاية لهذا .. وظيفة تحمر لكما وجهيكما أنت وأبي.. فأنا أعلم جيدا ماذا قد ينتظرني إن تعثرت قدمي ورسبت، أعلم أنك ربما قد تحظين بحفيدة مني عما قريب.. هه

في ظل التطورات الحاصلة كل شيء يتطور إلا الإنسان..! يعود للوراء، اتكل على الآلة اتكالا، حتى صار أصما بليداً أشد قسوة من الآلة نفسها. الهاتف، الحاسوب، الروبوتات، الذكاء الاصطناعي.. كل شيء يتجدد و يتوسع، لكن الإنسان هو الإنسان، ما يزال هناك فقر، مجاعة، عنصرية، رأسمالية، أنانية.. تفاهة ما تزال هناك حروب.. لكن من وسط الحروب، هناك دائماً أشخاص صنعوا من رحم المعاناة المعجزات، ابتكروا أشياء لم يكن العادي منا يتصور ابتكارها يوماً، مثل ذلك الطفل الفلسطيني الصغير “حسام العطار” الذي لقب بنيوتن غزة، غير أن الفرق هنا انه لم يكن مستلقيا تحت ظل الشجرة الوافر يستمتع بتأمل الغيوم وهي تسبح في الأفق، ولا إلى العصافير كيف تبني أعشاشها على الأغصان -إن ظل هناك أغصان- بل كان تحت القصف وتحت العدوان الاسرائيلي، حين سقطت عليه تلك الفكرة العبقرية في إضاءة خيمات منطقتهم المظلمة بواسطة مروحيتين فقط وبضعة أسلاك ومصابيح انتشلهم من سوق الخردة.. في جو مشحون بالقلق و التوتر من ترقب الضربة القادمة، وسوء المعيشة تحت سلطة سياسة التجويع القهرية التي يمارسها الصهاينة الأنذال بدون أي محاسبة قانونية، كل شيء يجرك للانهزام وفقدان الأمل. لا ماء، لا طعام، لا كهرباء، ولا مفر من الحدود. كأنهم يقولون لهم بمعنى صريح : ” أجل، إبادتكم في هذا السجن المفتوح هذا ما نريده، فلتذهبوا للجحيم أيتها الحيوانات البشرية !”

أعتقد أن سبب المشكلة من جذورها هي مشكلة العرق، فانه من الواضح أن الأجانب يستح قرون العرب منذ القدم، ولذلك لا يعيرون لأمرهم انتباها ولا يهتمون بحقوق الفلس طينيين البتة ولا ينظرون للقضية من نظرتهم، لو كان المشكل حدث في دولة اجنبية، يحملون جينات أجانب بيض شقر و بأعين زرقاء كما ادعى أحد الإعلاميين هكذا حرفيا بكل حقارة، لتدخلوا بسرعة وتضامنوا معهم وأرسلوا لهم آلاف المساعدات ولكنهم عن صريون جدا.. عن صريون بشكل يبعث على التقزز، وأعجب لبعض العرب كيف ما يزالون يقدسونهم ويبجلونهم كأنهم ملاك طائر رغم عن صريتهم، ويقتدون بهم في ثقافتهم رغم تاريخهم الأسود المليء بالجرائم ! اتحدث عن مدى ازدواجية معاييرهم في ما يخص حقوق الإنسان، وخير دليل هو الحرب بين أوك رانيا وروسيا، وكيف وقف الكل تضامنا مع أوك رانيا، ولم يقولوا لها لماذا تدافعين عن نفسك وتحاربين روسيا مثلما يقولون الآن للفلس طينيين بكل بجاحة لماذا تقاتلين؟ نعم أعلم أنهم احتلوا بلدكم لمدة خمس وسبعين عاما ولكن هذا ليس عذراً كافياً بعد كي تقاتلي..؟ أعتقد ان حقوق الإنسان عندهم ليس مصطلحا مناسبا بل حقوق الشقر بالأعين الزرقاء أو الخضراء بمعنى أصح، الحقوق التي تناسبهم هم وما عداها فلا. أين حقوق الإنسان وحقوق المرأة التي صدعو بها رؤوسنا لعقود، أم أن نساء غ زة لسن ضمن القائمة؟ لعنهم الله وأخزاهم ! قوم منافقون !

ورغم ذلك.. ورغم الواقع اليائس المظلم، هناك نفوس وعقول لا تزال تحتفظ بنورها و وميضها، تنافس هذا الظلام بتحد وإصرار.. يتمسكون بأرضهم ومبادئهم ودينهم بكل شراسة إلى آخر رمق..

هؤلاء هم الرجال حقا..

حقا لا يولد الإبداع إلا من رحم المعاناة.. لذلك تجدني أجلس على سريري الأثير لألقي بضع كلمات شكر وثناء على هذا الصبي في التعليقات على منصة الأنستغرام، قبل أن أباشر من جديد بالعودة بحركة آلية من لصبعي لقلب الصفحة الموالية في محاولة لتناسي الموضوع.. لتناسي الغصة المرة التي علقت بحلقي بطريقة ما بعد مشاهدتي لهذا الڤيديو دون أن أدري لماذا.. أتذكر حين كنت في مثل عمره، ما كانت أقصى اهتماماتي؟ عودتي من المدرسة سريعا لألحق بكرتوني المفضل في سبيستون على التلفزيون..؟ “سبيستون، قناة شباب المستقبل” التي علمتنا الالتزام بالقيم والمبادئ، ها نحن ذا صرنا شباباً يا سبيستون.. ثم ماذا؟ ماذا قدمنا للعالم ؟

صرنا شباباً بهذه الهيئة لتضيع وقتها في الانستغرام، لتثني في النهاية على اختراع طفل لم يجد حتى ثمناً لشراء مذياع ..

كم هي حقيقة مخزية !

ما الذي ينقصني؟ هذا هو السؤال.

أذاكر في غرفتي بالدور العلوي -أو هذا ما أدعيه- مع توافر كافة سبل الراحة، كتبي بجانبي، أقلامي ودفتري، والواي فاي مطلوق على الدوام، والحاسوب موجود يا سلام، أملك كنزاً لا يملكه الكثيرون ! وكنت دائماً أتساءل ما الشيء الذي يملكه بعض الفقراء مثلا لينجحوا ولا نملكه نحن؟ مع كل هذه النعم التي أغرق فيها والحمد لله.. لا أزال أشعر بأن هناك شيء ناقص، أقول في نفسي لماذا أصلا أدرس؟ لماذا أتعب وكل شيء متوفر.. أجل برغم معرفتي بأن والدي غير دائمين لي في هذه الحياة، لكن الطاقة، المحفز غير موجودين، أحتاج لأن أشعر بأني أحتاج لشيء ما كي أتحمس لبذل جهد أكبر في الدراسة لتحصيل هذا الشيء بعدئذٍ بالعمل .. فمع كل هذا الرخاء سيعتزل العقل الاجتهاد، وربما حتى التفكير قريبا.. فمن يدري مع هذا التطور التكنولوجي المخيف للذكاء الاصطناعي، ماذا يمكن أن يحدث لاحقاً للبشر..

كيف تريدون إقناعي بالدراسة الآن، بعد أن شاهدت بأم عيني أناساً يربحون الملايين في اليوم الواحد فقط بكلمة ” كبسوا كبسوا ” على لايفات التيك توك ! لا يتعبون ولا يكدون ولا يفعلون شيئا، سوى اختيار لقب حيوان وتقليده لساعات من أجل تلقي الأموال عبر هدايا متابعيهم البلداء.

شاهدت بعيني رجلاً بلحيته وجلبابه يصور لايڤا يعرضه في حمام بيتهم، وعند أول نظرة لملامحه الرزينة، يمكنك أن تكون عنه انطباع رجل حكيم و أنه على الأرجح سيطلع الناس -ممن لا يعلمون ربما- على مراحل الوضوء أو ما شابه ذلك.. فإذ بي أتفاجأ به يجلس بكل قامته في حوض الاستحمام، ويطلق عنان الرشاش بدون سبب ليصب الماء فوق رأسه بغزارة، ثم ما لبث أن ارتدى زعانف سمكة اصطناعية وأخذ يردد بصوت رفيع وبدون انقطاع ” أنا سمكة، أنا سمكة ” مقلدا حركات السمكة ! وتمر أربع ساعات له على اللايف وهو ما يزال مستمرا على هذا الحال فقط يردد ” أنا سمكة، أنا سمكة ” لكني لا آسف على كرامته التي ضاعت وباعها مقابل النقوذ، فليكن حتى قرداً لو أراد هذا شأنه، ولا على وقته الذي ضاع في جعل نفسه أضحوكة للآخرين، إنما آسف على رشاش الماء الذي لم يتوقف للحظة واحدة منذ ساعات عن الانهمار.. في حين أن هناك أناساً لم يجدوا حتى كأس ماء واحد صالح للشرب !

علاوة على ذلك، لا بد من توقف هذه المهزلة، وإلا فلا أحد سيبالي بعمله الحقيقي الذي يصنع منه مواطناً صالحاً للمجتمع، بل كل سيلقي بمستنداته وشهاداته في أقرب سلة قمامة، وكل سيبحث لنفسه عن لقب خاص به، فأقوم أنا الأخرى لأردد ” أنا بطاطا ” وتقوم صديقتي لتردد بدورها ” أنا باذنجان” ثم ماذا سيقول الطفل في المستقبل لأحدهم إن سأله عن عمل أبويه؟ سيقول له أبي سمكة، وأمي أخطبوط ؟ ما هذا الحمق ؟!

“لن يفنى العالم بسبب قنبلة نووية كما تقول الصحف، وإنما بسبب الإفراط في التفاهة التى ستحول العالم إلى نكتة سخيفة .”

كارلوس زافون

أحيانا أشعر بأن بعض النعم إن كثرت تحمل بين طياتها نقما مسمومة تجعلك تنسى معناك الروحي وتسعى فقط وراء الاستهلاك اللامشروط، هذا ما استنتجته فبمجرد دنو موعد الامتحانات، تجدني أجلس ساعات مقوسة الظهر لا لقضاء شيء مهم سوى لألعب ألعاب الڤيديو أو أضحك على ريلزات الأنستغرام أو أقرأ روايات بوليسية للكاتبة أغاثا كريستي أو أحيانا حين أمل من كل هذا أشاهد فيلماً إباحيا او اثنين ! وهذا كله لمحاولة التهرب من واجباتي.. أجل، ليس ذنبي إن زارني الاكتئاب أو ساءت حالتي النفسية في ذلك التوقيت بالذات، حتى الصلاة لا أجد لها وقتاً، لا بأس أو ليست هذه هي المراهقة التي صدعوا رؤوسنا بها ! ثم يهمس صوت الضمير المزعج بداخلي لماذا تكذبين على نفسك؟! إنها ليست مراهقة بل كسل ذميم ! لقد صرت تشبهينهم في نفاقهم وتستعيرين أفكارهم التي كما يعبر المثل عنها “يغطون المخاط بأحمر الشفاه” قريبا سيُغسل دماغك ! فأبلع ريقي وأطرق مفكرة.. إنني على وشك تدمير مستقبلي وزهرة شبابي بالفعل.. لكن .. لكن سرعان ما يلفت انتباهي ريلز جديد لأنسى تماماً جدية ما كنت أفكر فيه وأفتح فاهي مجددا بالضحكات التي لن تغنيني شيئا، وهكذا..

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : “إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه ..” لأني أشعر بأن قلبي ميت منذ زمن.. ولم يعد يهمني شيء.

سرعان ما أسمع خطوات قادمة على الدرج، فأفطن إلى أنها خطوات أمي كالعادة، أعتدل في جلستي وأمسك بقلمي متظاهرة بالانهماك في الدراسة، فلطالما كنت أنا الكبيرة والمجتهدة بين أخواتي لذلك علي دائما المحافظة على صورة الطالبة النجيبة المثالية.. نعم. ألعن نفسي في داخلي عندما تدق والدتي الحبيبة باب غرفتي دقا لطيفاً كي لا تسبب لابنتها أي ازعاج أثناء مذاكرتها.. تدخل باسمة وهي تحمل صينية مليئة بما لذ وطاب من جوز ولوز وعنب مجفف، تقول أنها مفيدة للدماغ وأنها تشحذ الذاكرة، أشكرها باسمة لتغلق الباب وراءها بنفس اللطف الذي فتحته به، وتتركني. تتركني أحدق بهذه المكسرات الشهية التي حتماً لا أستحقها على الطاولة وأنا أضحك، أضحك.. لا أستطيع تمالك نفسي من الضحك، المكسرات ليس بها أي شيء يضحك، لكن على ما يبدو أنا.. أنا التي صرت أضحوكة للمكسرات.. للهاتف، للغرفة بأكملها التي شهدت على الجنون الذي وصلت إليه، لتتبدل ملامحي إلى شيء قبيح، متقلص، غاضب ثم حزين.. و أعتصر رأسي بيدي ثم أبكي، وأبكي.. بكل مرارة أقول :

_آه يا أمي ! إن كانت المكسرات ستشحذ ذاكرتي، فما هذا الشيء الذي سيشحذ عزيمتي؟

ما هذا الشيء الذي سيرد نفسي إلي؟ معجزة ؟ صدفة؟ فجأة لم أشعر إلا وأثاث غرفتي يهتز، تلته ضحكات رجولية عالية لا أدري مصدرها، تلاه صوت مزلزل يقول :

“صدفة ؟ أنا لا أؤمن بالصدف . فكل شيء يحصل لهو مقدر له الحصول.”

لتعاود ضحكاته تلك الصدح في أرجاء الغرفة، رفعت رأسي بذهول وأنا أتساءل أين سمعت هذا الصوت من قبل وهذا الكلام المألوف.. لتتسع حدقتا عيني بعدما تجلى شبح ذلك الرجل الفاضل أمامي بحلته البهية تماما مثلما رأيت في الحلم، يتطاير رداؤه البنفسجي مع الريح، ريح قادم من نافذة ظهرت من العدم يشع منها النور، نظر إلي باسماً واقترب مني مادا يده إلي ليستكمل قائلاً :

_ تعالي معي إلى العالم الذي ستتحقق فيه كل أمانيك.. عالم تجوبينه راكبة على بساطك السحري بكل سعادة تنشرين الحب والسلام بين الجميع، تعيشين مغامرات حقيقية يدق قلبك مع كل تجربة تخوضينها فيها، كدقات طبول تعلن بداية حرب وثورة، ترقصين طربا، تلتمع عيناك كحبتي لؤلؤ بعدها كما لو لم تلتمع منذ زمن بعيد، هنا حيث لا شيء مستحيل، هنا حيث لا ضبابة تغشي العيون، هنا حيث تتلاقى كل الأرواح الجريحة كي تضمد، وتصبو لما تريد لأنه ببساطة هنا حيث تتحقق كل الأحلام.

_ أين؟

يرفع كتفيه باسماً ليهمس :

_ في أرض الأحلام بالطبع.

أومئ برأسي إيجابا باسمة، كي أمد يدي له دون تردد وأتقدم نحوه مغمضة عيني في كامل استعدادي لركوب هذا القطار.. قطار الأحلام !

وأنام..

guest
49 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى