أدب الرعب والعام

وحوش ومشاعر..

رفعت فلة رأسها من على الورقة وأسندت ظهرها على الكرسي وقالت متصنعة البكاء :

_ إنها الساعة الواحدة بعد الظهيرة.. أووه أنا أتضور جوعا!.

أردفت أمينة ممسكة رأسها بيديها :

_الدروس كثيرة.. رأسي يؤلمني، هل تملك إحداكن دواء للصداع؟

أخرجت لها يسرى العلبة من حقيبتها وأعقبت:

_ والله صرت مدمنة عليها يا عزيزتي.

لم تجبها الأخيرة وابتلعت حبة الدواء برشفة ماء من القارورة الموضوعة على الطاولة. وأشارت لها بحاجبيها أنه ليس باليد حيلة.

فلة، فتاة في الواحد والعشرين من عمرها، سمراء البشرة، شخصية مرحة وبنفس الوقت قوية ولها كلمة مسموعة.

أمينة، تبلغ ثلاثا وعشرون عاما، بيضاء البشرة مع انتشار واضح للنمش على وجنتيها. شخصيتها غامضة، وطيبة إلى درجة لا توصف.

أما يسرى، فقد كانت آية في الجمال، طغت زرقة عينيها على بياضهما، رموش صفراء انتصبت بطول واضح على حواف جفنتيها راسمة بذاك عيون تأسر كل من رآها. 

بشرتها بيضاء ناعمة وصافية، شفتيها حمراء بدون حمرة، طولها يناسب جسمها الممشوق. وما زاد البهاء حليا هو احتشامها وحجابها الذي لم يترك شرطا شرعيا إلا وأوفاه حقه.. كانت بنفس عمر فلة. فتاة خجولة لدرجة أنها تبدو للغريب متكبرة، صامتة وكلماتها محدودة، محل ثقة واستشارة، على عكس كينونتها مع صديقتيها المقربتين.. فقد كانت جد مرحة وصحبتها طيبة وممتعة.

بالنسبة لفلة فقد كانت خطيبة لشاب اسمه حسان تعرفت عليه بمواقع التواصل الإجتماعي. وأمينة جميلة بقدر أنه يتقدم إليها الكثير من الشباب بنية التعارف لكن لم تعثر على المنشود بينهم. وأما يسرى فكانت محط أنظار الكثيرين لكن لم يتجرأ أحد على التكلم معها.. ربما تعطي انطباعا بأنها ليست من ذاك الوسط وفعلا كانت كذلك.. لكن هناك ذاكا الشابين الذين لم يخف على أحد اهتمامهما الملحوظ بها .

كانت الفتيات الثلاث يدرسن بمكتبة الجامعة معا بعد انتهاء ساعات الدوام، وبنفس القاعة يوميا خاصة أيام الامتحانات .. حتى أطلقن عليها  إسم “دارنا”. كان الشابان من نفس المجموعة أي صديقين.. لاحظت يسرى نظراتهما لها لدرجة أنهما يلاحقانها أينما ذهبت. لم ترد إخبار صديقتيها حتى لا تصبح حديث الساعة وخاصة أن الشابين صارا يمضيان النهار كله بالقاعة يراقبانها. لكن أيخفى شيء على فلة!.
 
_ أنظري ها قد جاءا.
 
أمينة  : من؟.

فلة : عبد الحق وسالم .

انتبهت يسرى لحديثهما بعد أن سمعت الإسمين، بحكم عامهن الثاني بالجامعة. صار مرتادو نفس القاعة يعرفون أسماء بعضهم البعض .. خاصة الشباب فهذا ينادي ذاك.

احمرت وجنتاها ونظرت صوب فلة متفاجئة.

أطلقت الأخيرة  ضحكة مستفزة وقالت بنبرة تخالجها غيرة واضحة:

_ أتخالينني لم أنتبه للعاشقين الولهانين؟! من الصباح حتى المساء وهما يتناوبان على القاعة.. هذا ينظر لك ولا يزيح عينيه عنك والآخر يشير عليك لأصدقائه، والأول يتبعك إذا ما غادرت.

فأجابت يسرى بهدوء تام: لم أنتبه لذلك وحقيقة لا يهمني الأمر بتاتا.

ابتسمت فلة تلك الابتسامة الخبيثة وأجابت:

_أنظري لعبد الحق.. طويل، أبيض البشرة، عيناه واسعتان ورموشه بارزة، مكتمل البنية، ابتسامته ساحرة.. لتكمل لك  تلك اللحية الخفيفة والمهذبة صورة جذابة لا يمكن لأي فتاة أن تتجاهلها..

وأردفت:

_أما سالم، آه سواد عينيه ثاقب، حقيقة أنه هزيل نوعا ما لكن لم ينقص ذلك من وسامته الطاغية شيء، شعره الناعم ولحيته الكثيفة  – والتي من الواضح أنه يعتني بها كثيرا – منحته جمالا أخاذا. لو ترينه عندما يركب سيارته وينطلق بها .. إنه يبدو من نجوم السينما .

ضيقت يسرى عينيها  وأجابتها:

_يبدو أنك لاحظت أدق تفاصيلهما، هل تنوين تغيير المخطط من حسان إلى أحدهما ؟.

نظرت إليها الأخيرة ومازالت تلك الابتسامة تعلو محياها وقالت بنبرة جادة:

_أتحداك إن لم تقعي بحب أحدهما .. أمهلك حتى نهاية السنة الدراسية.

_حسنا أقبل تحديك بصدر رحب.

لكن بداخلها كان هناك ذاك الشعور الغريب .. الممزوج بالتوجس والخوف.

إقرأ أيضا : خيط الجنون

توالت الأيام، لتبدأ امتحانات منتصف العام الدراسي، طبعا المراجعة مكثفة والدروس متراصة كالجبل. وصلت يسرى إلى القاعة باكرا لتبحث عن طاولة شاغرة، فالمكتبة تجدها مكتظة بالطلاب هاته الأيام.

جلست.. رتبت دفاتيرها وشرعت بالدراسة .. وهي بانتظار صديقتيها. بعد مدة قصيرة رفعت بصرها متفحصة باب القاعة لربما وصلت إحداهما.. فهي تكره كثيرا الجلوس لوحدها، حتى التقت عيناها لأول مرة بعيني سالم الذي كان جالسا قبالتها يراقب تحركاتها.

كانت تلك الثواني كفيلة بأن تجعل نبضات قلبها تتسارع كلما تذكرتها لبقية اليوم.

كما انضمت لها صديقتيها .. انضم له أصدقاؤه. مرت تلك السويعات كأنها دقائق. كانت يسرى تختلس النظر إليه  لا إراديا، ثم تقول لنفسها :

_ ياإلهي مالذي دهاني؟! .. لكن لم تعلم أن ذلك كان بداية نمو لتلك المشاعر الوليدة بقلبها.

لاحظت الفتاتين اضطرابها..

مابك لا تركزين اليوم.. أبك خطب ما؟. أمينة متسائلة .  

أجابت متلعثمة واحمر وجهها خجلا:

_لا أبدا .. أشعر فقط بالتعب لا غير.  

فلة رافعة حاجبيها: تعب أم …

لم تكمل الأخيرة جملتها حتى سمعن صياحا يشق الأرض والسماء قادما من ناحية النوافذ. اندفع كل الطلاب نحوها محاولين رؤية ما يحدث خارجا، إلا يسرى وصديقتيها. بدأت الوجوه تكتسي بملامح الخوف والهلع وتعالت أصوات الشهقات والبكاء .. وهناك من يردد اسم الله.

وقفت يسرى واتجهت صوب أقرب نافذة لها .. لترى ذاك المشهد المريع .. الطلاب يأكلون بعضهم البعض !،  نعم كان حقيقي ما تراه عيناها .. طالب ينهش رأس آخر كأنه وحش ضاري و الأشلاء والأمعاء مترامية في شتى بقاع ساحة الجامعة.. تبعتها فلة وأمينة لتصدما أيضا بتلك المشاهد التي تبدو لوهلة أنها تصوير لفيلم رعب.

قشعريرة سرت بكامل جسدها وبدأت أطرافها بالارتعاد، كيف أستطيع مغادرة الجامعة؟ سأصبح طعاما للأشخاص الذين لا أعرف كنههم. مالذي يحدث؟ لماذا؟، هل سننجو؟. ثم تذكرت عائلتها، دقت على والدتها، ثم والدها، فإخوتها لكن هواتفهم  مغلقة .. لا إجابة !

_ يا إلهي هل ما يجري بالجامعة فقط أم بالمدينة أيضا

ودخلت بنوبة بكاء مرير  غير آبهة بما يجري حولها بالقاعة. لتتفطن أخيرا .. ماذا لو دخلت تلك الكيانات المكتبة؟! اكن يبدو أن هناك من سبقها بالتفكير بذلك.. عبد الحق، سارع بصوت عالي:

_ساعدوني لأغلق باب القاعة وأوصده جيدا بالطاولات .. لكي لا يتمكنوا من الدخول إلينا.

وفعلا تم إغلاق الباب. تتكون المكتبة من طابقين إضافة للأرضي، كل طابق به قاعتين متقابلتين لكل واحدة منهما باب يخصها، أما الأرضي فبه قاعة واحدة كبيرة وطبعا البوابة الرئيسية للمكتبة، و كذا مكتب حارس الاستقبال. تقع ” دارنا” بالطابق الأخير.

كانت الخامسة إلا ربع مساء، عمت الفوضى المكان  وتعالت الأصوات بين من يبكي وبين من يندب حظه وآخر يريد افتعال المشاكل.

قالت فلة والحيرة والرعب باديان على وجهها :

_ يا إلهي .. ماذا سنفعل؟ مالذي يحدث؟.

أمينة بيأس : كيف سنعود إلى منازلنا؟ تمنى أن لا يصاب أهالينا أذى.

أما يسرى فكانت غارقة بصمتها وآلاف الأفكار والتساؤلات تجوب بخاطرها، وبين الفينة والأخرى تنساب دمعة من عينيها، لكن لا فائدة من الكلام فلا وجود للأجوبة.

وقف عبد الحق فوق طاولة وسط القاعة وحام حوله مجموعة من أصدقائه من بينهم سالم، وقال :

_حاولوا التزام الهدوء فهاته الفوضى لن تكون بمصلحتنا

نجح بذلك في لفت أنظار الطلاب وأذعنوا له منصتين.

فأردف قائلا :

_سنحاول النجاة وتمضية الليلة بسلام مع اتباع بعض القواعد التي من شأنها إبعاد الخطر عنا  .. أولا يمنع منعا باتا إصدار الأصوات العالية فقد لاحظت أنها تجذب أنظار تلك المخلوقات ألم تروا الكم الهائل منها المجتمع أسفل النوافذ؟! بما في ذلك الهواتف يرجى وضعها على الصامت وإخفاض إضاءتها مما يقودنا للقاعدة الثانية، عند المغيب سنطفئ ضوء القاعة حتى لا نكون مصدرا للضوء وسط الظلام فتتجه المخلوقات نحونا. بالنسبة للهواتف فتلك الشاشة الصغيرة من الممكن أن تتسبب بهلاكنا جميعا .. وغدا سنعقد اجتماعا لنرى مالخطوة التالية.

إقرأ أيضا : سر لعنة النسيان

على لسان يسرى:

_ استسلمنا للأمر الواقع، ونفذنا ما قيل لنا فليس لدينا ما نخسره، على الأقل سنحاول، فقد اعتبرنا  عبد الحق قائدنا وقررنا التمسك بيده واتباعه لعلنا ننجو.

لم نتناول أو نشرب شيئا، وكيف يمكننا ذلك في خضم ما يحدث لنا! .. أصلا لم نكن نملك الطعام.

غفت صديقتي للقليل من الوقت، لكن لم أستطع كنت خائفة جدا وبقيت مترقبة ربما هجم علينا أحدهم أو كلهم ! وأنا على تلك الحال تقدم مني شخص ما لم أتبين ملامحه فقد كان الظلام دامسا، جلس بالكرسي الذي بجانبي .. إنه عبد الحق وقال  :

_ مرحبا، كيف حالك ؟.
 
_ نظرا للأوضاع .. ما يسعني القول إلا الحمد لله.
 
_ رأيتك تبكين .. أعرف أنك خائفة لكن أعدك أنني سأحاول إخراجك بسلام من هنا.
 
_شكرا لك كلنا نعتمد عليك .. لكن ما أدراك مالذي يحدث خارج أسوار الجامعة ! ربما بقاؤنا هنا أأمن.  

_ليس لي أي إجابة فحالي هو حالك، هذا عامي الأخير بالجامعة، حلمت بالتخرج وبدء حياتي العملية .. أفكر في إيجاد زوجة مناسبة.

عقب جملته تلك بنظرة متفحصة لملامحها وردة فعلها حتى تغير الوضع، من أين أتت تلك الكائنات؟الغريب بالأمر أنني أعرف وجوه بعضهم، إنهم طلاب بنفس تخصصي .
 
_ربما تكون عدوى من نوع ما ! 

_لا أدري، سنرى غدا بالاجتماع مالذي سنصل إليه.
 
في تلك اللحظة استيقظت أمينة، فاعتذر مغادرا.

قالت:

_ يا إلهي .. لا أحد من أهلي يجيب على الهاتف.

أجابتها يسرى:

_وأنا مثلك .. حقيقة لا أود الاتصال مجددا حتى لا أسمع أو أصل إلى استنتاجات سيئة، ربما المشكل في شبكة الاتصال. إكتفت الأخيرة بإيماءة بالإيجاب، ولاذت كلتاهما بالصمت، فلم يعد للكلام معنى.

الرابعة صباحا، أثناء انغماس الكل في دراسة أسوء الاحتمالات وتخيل أدمى السناريوهات .. ليرن ذاك الهاتف الذي نسي صاحبه إطفاءه. دب الرعب في قلوب الجميع، ليبدؤوا بسماع غمغمات صادرة من المخلوقات خارجا. أشار عبد الحق للطلاب كي يلتزموا الصمت وحاول سالم والبقية تهدئة الأوضاع.

لكن كان قد فات الأوان، بالفعل بدأت تلك المخلوقات بالتسلق نحو النوافذ متتبعة مصدر صوت الهاتف.. وما زاد الوضع سوءا هو نحيب بعض الفتيات. شرع المتحولون بالتراص فوق بعضهم البعض صانعين بذلك جبلا يمكنهم من الوصول إلى وليمتهم التالية.

تقدمت يسرى وفتحت النافذة بدون شعور منها. تتفرس وجوههم، إنهم بلا تعابير، كأنهم سلبوا أرواحهم وحلت محلها وحوش لا تعرف الرحمة.. ناهيك عن أشكالهم المخيفة.. فبعضهم يمتلك نصف جسم ونصفه الآخر منهوش، ووجوه مشوهة بعضها مجرد عظم مكسو بقطع من اللحم الأحمر.. والبعض الآخر لا يمتلك أعين، وغيرهم وجهه مأكول بالكامل..

لم تكمل تأملها حتى وقف أحدهم على حافة النافذة وأوشك على الانقضاض عليها، تراجعت خطوتين إلى الوراء و تجمدت مكانها ولم تحملها رجلاها على الفرار.

وبحركة سريعة من سالم أمسكها من يدها وأبعدها عن الكائن الذي قفز باتجاهها. سارع أحد الطلاب بإغلاق النافذة المفتوحة لكنه تعرض لعضة من واحد آخر كان رأسه يطل منها ولم ينتبه له، انسابت الدماء من ذراعه المصابة كالشلال. لكن لا يزال المخلوق داخل القاعة !،

اتجه الطلبة لزوايا القاعة مبتعدين عنه، أما هو فقد تعددت الوجبات أمامه حائرا في اختياره، وبضربة قوية من عبد الحق صوب رأسه -مستعملا الكرسي – خر ساقطا على الأرضية دون حراك.

ثارت الوحوش وعلت أصواتها ودوت بالأرجاء، واعتلت النوافذ بتلك الوجوه القبيحة.. فصار الحائل بينهم هو تلك الصفيحة الزجاجية التي بدت في تلك اللحظة أضعف مما كانت عليه سابقا.. أثناء تصديها للمطر والثلوج والرياح العاتية. إنها النهاية، سنموت، أليس كذلك؟. قالتها فلة وهي تكتم شهاقاتها.

إقرأ أيضا : مذكرات عاهرة

أجابت أمينة باكية: يا الله ساعدنا.

أما يسرى فلم تنتبه وسط ما يحدث لسالم الذي لا يزال ممسكا بيدها.

“الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله”

فجأة بدأت الكائنات بالسقوط أسفل دون هوادة، وسبب ذلك هو تغيير الصفوف السفلى لوجهتها. نعم إنه صوت الآذان الصادر من المسجد.

لم يصدق الطلاب المعجزة التي حدثت، المئات منهم يرحلون !.

فتح عبد الحق النافذة ورمى بجثة المتحول. سحبت يسرى يدها مرتبكة، لا تدري أكان رحيل المخلوقات أم يده الدافئة من بثت في نفسها الإطمئنان.

شكرا لك على إنقاذي. قالت يسرى بخجل واضح
سالم :

_هل أتركك له كي يلتهمك أمام عيني؟!

في تلك الأثناء تقدم نحوها صديق الطالب المصاب.

صديقي أصيب بسببك، هل أنت حمقاء؟ أي عاقل يفتح النافذة ليطل على الموت بعينه !   آسفة.. لم أقصد.
 
_إن حدث لصديقي مكروه، لن أرحمك.

تدخل سالم بعنف وكاد أن يشب شجار بينهما. وما أوقفهما هو تلك الصرخة المتألمة الصادرة من المصاب، إنه يتلوى من شدة الألم، ركض نحوه صديقه ليسعفه فعضه من رقبته. يا إلهي إنه متحول آخر !.

قتله عبد الحق ورماه، توجهت الأنظار صوب صديقه، فاتجه مسرعا نحو يسرى وقال متوعدا : 

_كل هذا بسببك.. لن أموت وحدي.

استوقفته مجموعة من الطلاب ورموه من النافذة بدون أي مقدمات، ولم يعقب أحد لسبب يوقنه الجميع بقرارة أنفسهم. إلا يسرى التي أجهشت بالبكاء إثر الشعور بالذنب واتهمت نفسها بقتل اثنين من رفاقها.

سالم الذي يكاد يبكي لبكائها:

_لا عليك يا يسرى، كان مقدر لهما ما حصل، لا أكاد أجزم أننا سنلقى المصير نفسه، هل كانا سيخرجان من هنا حيين ! لا أظن ذلك.. الأمر برمته رهن بالوقت وبعودة تلك المخلوقات.

نظرت إلى عينيه، لمست بهما صدق ما يقول.. ففي تلك اللحظة كانت تتمنى كلمة عكس ما يخالجها، مسحت دموعها.. لكنه سيبقى وزرا يطاردها حتى قبرها.

ضمتها صديقتاها لتواسياها، وبذلك لم تنتبه لعبد الحق الذي كان يستشيط غضبا بعدما رأى تلك النظرات بينها وبين سالم، فكلاهما على علم بحب الآخر لها، لكن لم يصرحا بذلك لبعضهما.

قال عبد الحق بعدما توسط القاعة :

_آذان.. يعني هنالك ناجون غيرنا، حاليا لا يهمنا إيجادهم لأن ذلك سيزيدنا عبئا، لكن علينا إيجاد الطعام كأول خطوة وأخطرها.

نظر للوجوه المتحيرة وأردف:

_ يجب علينا الخروج من المكتبة متفحصين الطريق جيدا .. ثم نتوجه لمطعم الطلاب لجلب ما نقتات عليه، وسنقوم بكسر الكراسي لنستعمل أرجلها الحديدية كسلاح. وأثناء ذهاب الفريق الأول لجلب الطعام المتبقون سيقومون بتغطية زجاج النوافذ الأوراق.

سكت لبرهة وأكمل: نحتاج إثنتا عشر شابا – أريدهم متطوعين.. حتى لا أجبر أحدا على المجازفة -.

تطوع من الشباب أكثر من المطلوب، أولهم سالم وعبد الحق.

ثم قال عبد الحق :

_للأسف نحتاج للعنصر الأنثوي، باعتبارهن أسرع منا من ناحية تنظيم الأشياء.

دب الرعب في وسط الفتيات، كانت يسرى أولهن وانضمت لها ثلاث أخريات.

فلة بهلع:

_ أجننت سوف يقضى عليك !

أردفت أمينة ببكاء : أرجوك تراجعي.. لا نستطيع خسارتك.

لتجيبهما يسرى بحزم :

_اعتبرنه تكفيرا عن الذنب الذي اقترفته.

لم يعجب سالم وعبد الحق تطوع يسرى أيضا، لكن لم يتفوها بشيء أمام الملأ. صلوا الفجر جماعة وتوكلوا على الحي الذي لا يموت.

إقرأ أيضا : فوق رماد الرّجال

كانت خطة عبد الحق كالتالي:

يسبق عشرة شباب حاملين العصي، ليمهدوا الطريق للبقية. فيما يبقى شابين مع البنات فوق لحراستهن. ويغلق باب القاعة تحسبا لأي هجوم.

سالم وعبد الحق ترأسا مجموعة العشرة.. إلتفت عبد الحق ليسرى قائلا للجميع :

_ من أصيب أو هوجم يترك.

واتجه نحو الدرج رفقة البقية.

على لسان يسرى:

_أغلق باب المكتبة.. أي لا رجعة، كل أوصالي ترتعد، قلبي يكاد يقتلع من مكانه..في لحظة ضعف كدت أتراجع لكن خوفي عليه هو من شجعني. رأيته راحلا، إستدار لي كأنه يرسم الوداع بنظرته الحانية وابتسامته اليائسة.. بتلك اللحظة أيقنت أنني تعلقت به أيما تعلق، تسارعت نبضات قلبي مع ابتعاده كأنما يود قلبي اللحاق به، أن لا تتركيه يذهب بمفرده.. وددت لو أصرخ وأتمسك بيديه راجية: سالم لا تذهب.. خذني معك.. أنا خائفة من أن يصيبك مكروه.

لكن بقيت هناك كالجبانة، متوجسة.. مشخصة سمعي لما يحدث أسفل. وفجأة سمعنا صرخة بل صرخات وضربا بالعصي. قفز شاب من الذين معنا وصاح مناديا على رفاقه، لكن ما من مجيب!

خيم صمت رهيب وبدأ الحزن يتسلل إلى نفوسهم، فحتما قضت عليهم تلك المخلوقات. ليأتي إليهم أحد  الشباب ملوحا  من الأسفل :

_ هيا تعالوا الطريق خال تماما.

فانطلقوا وراءهم. في الطريق لمحوا عدة مخلوقات مقتولة.. فعرفوا مصدر الصوت الذي سمعوه سالفا.

وصلوا إلى قاعة الاستقبال وأثناء نقاشهم حول الخطوة الآتية.. حتى انضم لهم ثلاثة شبان آخرين ناجون من الطابق الأول. وبعد تفحص كامل لقاعات المكتبة وجدت خالية تماما وبها عدد يعد على الأصابع من المتحولين الذين قضوا عليهم بسهولة تامة.

قال عبد الحق : بسرعة فالوقت يداهمنا، سننطلق أولا نحو المطعم ونمرر الفتيات بعدها.

خرج خمسة شباب رفقة عبد الحق.

نظر سالم ناحية يسرى ودنى منها هامسا :

_هل أنت بخير؟ .. تبدين خائفة.
  
نظرت إليه ودقات قلبها تتراقص على نغمة لم تعهدها من قبل: لن أكون بخير حتى نرجع للقاعة سالمين.

ابتسم وأردف : إن عدنا، سأخبرك بشيء مهم.

_ ماذا لو لم نعد؟.  

سآخد سري الثمين معي إلى القبر.

لقد تأخر الشباب كثيرا، ماذا لو أصابهم مكروه! قالت إحدى الفتيات.

أسرع سالم إلى الخارج. وددت لو أمسكه أن لا تذهب، هي لحظات مرت ثقيلة جدا.. حتى عاد وعادت لي روحي معه. قالت يسرى في نفسها.

” أيمكن للحب أن يجتاح القلب بهاته السرعة”.

 
وجدوا مطعم الطلاب خاويا.. هناك من سبقنا إليه، غيرنا وجهتنا صوب الخاص بالأساتذة، سيبقى خمسة شباب هنا لنقل الطعام للقاعة عند وصوله إليهم وسيرافقني البقية. وأردف :

_نحن الشباب سنقف على بعد مدروس من بعضنا  البعض ونمرر الطعام من واحد للآخر حتى نصل باب المكتبة .. أما الفتيات ستدخلن المطعم وتجمعن كل ما تصل إليه أيديكن.

إقرأ أيضا : رعب العنقاء – الجزء الثالث

 
تمت المهمة بنجاح.. شكرا للجميع، شكرا لك يسرى. قال عبد الحق.

هم الكل بالعودة إلى المكتبة، كانت يسرى آخر المغادرين من المطعم. فجأة أمسكتها يد قوية من الخلف وأسقطتها أرضا.. لتجرها نحو مصيرها الذي صار محتوما.

تذكرت أنه من هوجم لن يعود من أجله أحد فكتمت صراختها، حتى لا تكون سببا في هلاك المزيد من الأشخاص. فتحت عينيها إثر الضربة العنيفة التي تلقاها الكائن الساقط عليها.. ليقابلها وجهه الممسوخ الملاصق لوجهها، جعلها منظره تطلق صرخة مدوية – لفتت بذلك انتباه المخلوقات القريبة -.. فأمسكها سالم من يدها راكضا بها نحو مطعم الأساتذة. أغلق قفل بابه الداخلي والذي للأسف كان عبارة عن قضبان حديدية، فاستطاعت الكائنات إدخال أيديها منها في محاولة منها لإمساكهما.. كان عددهم حوالي العشرة. اختبأ الإثنان خلف إطار البائع.
 
_ سأحاول لفت انتباههم.  

_ مالذي ستفعله؟!.

سأخرج من النافذة فيتبعونني.. ثم اهربي وعودي إلى المكتبة. وهم واقفا بالمغادرة، وأخيرا استجمعت شجاعتها وقالت :

_ لا تذهب أرجوك.
 
_كن لن يرحلوا، وربما سينجحون بالدخول.. أو حتى يزيد عددهم.

_لقد أنقذتني مرتين، وهاته المرة مصيرنا سيكون نفسه، لن أتركك تجعل من نفسك طعما. ثم واتتها فكرة فواصلت قائلة : سنختبأ بالمخزن.

مرت الساعات، استيقظت لتجد نفسها مسندة رأسها إلى كتفه فلم تنم الليلة الماضية، ابتعدت معتذرة فلم يعقب.

_ ألم تنم؟ قالتها بخجل.
 
_كنت أحرصك.. بدوت مرهقة فلم أشأ إزعاجك.

_عم الصمت للقليل من الوقت ثم أردف :

_ تمنيت لو عرفتك قبلا، أتعرفين.. لدي الكثير من الكلام الذي أود إخبارك به.  

_ تفض….

ليقطع حديثهما صوت عبد الحق! :

_سالم… سالم.. بسرعة أين أنتما؟

خرجا مسرعين وفتحا له الباب، كان برفقة صديقتها أمينة.. لقد جاءا من أجلهما. فقال عبد الحق : هيا بنا ليس لدينا الوقت.. دعونا نعد بسرعة.

قاطعه سالم : لن نعود للمكتبة. فنظر إليه الكل مستغربين. واصل كلامه : سنتجه إلى سيارتي ونغادر المكان، إلى كم من الوقت سنبقى أحياء هنا؟.

اقتنعوا بكلامه، ومشوا خلفه متخلين عن البقية.

“عندما يتعلق الأمر بالحياة أو الموت غالبا ما تتغلب  الأنا”.

تعدوا باب الجامعة، ليجدوا أنفسم في الفضاء المفتوح، والكائنات – التي انتبهت لوجودهم – منتشرة بالشارع.

سالم : أركضوا خلفي… بسرعة!

ما إن ركبوا السيارة حتى قال عبد الحق:

_صراحة بعد رؤيتي للشارع.. لا أظن أن أهالينا من الناجين.

صمت الجميع ولم يعقب أحد.. فواصل حديثه:

_ ما هي وجهتنا؟، لن نذهب لبيت أرضي فذلك خطر والولوج إليه سهل. فأجابت يسرى :

_أنا أقطن بالعمارة، ودلتهم عليها.

كانت بالطابق الثالث، حيث أنهم تجنبوا الطرق المكتظة بالمخلوقات، وحتى عند وصولهم وجدوها منتشرة بالحي.. فقتلوا بعضها وفروا من الأخرى.

وصلت يسرى لتجد باب الشقة مفتوحا على مصرعيه، أيقنت مصير والديها واخوتها، مسحت دمعت حارقة تسللت من عينيها ودخلت.

مرت الأيام، كانت يسرى تهتم بالطبخ وأمينة بالتنظيف، وتطفأ جميع الأنوار بالليل ويأوي كل إلى مضجعه..

يسرى وأمينة بغرفة وعبد الحق وسالم بغرفة أخرى.

حاول كل منهما التقرب من يسرى بطريقته الخاصة، لكن الانسجام الذي كان بينها وبين سالم لم يتحمله عبد الحق إطلاقا. فقد كانت تبادله نفس المشاعر لكن لم يعترف أحدهما للآخر بعد. مع مرور الوقت لاحظت يسرى أن أمينة بدأت تهتم كثيرا لسالم من طريقة حديثها عنه، ومن طريقة معاملتها له حتى أنها كانت تطالبه بغسل ملابسه بنفسها.

اشتعلت نار الغيرة بقلبها، وعلى عكس ما تفعله الفتيات عادة فقد قامت بتغيير معاملته إلى الجفاء، ظانة بذلك أنه سيضطر لمصارحتها بمشاعره. وما زاد الطين بلة هو مواجهة عبد الحق لسالم.
 
_ سالم أود استشارتك في موضوع مهم.
 
تفضل سأساعدك على قدر المستطاع.   أنا أريد الزواج وقد اخترت رفيقة دربي، لكنني مرتبك بعض الشيء.. أنت تعرفني لا افقه شيئا في معاملة النساء.

 سالم يعرف الإجابة على سؤاله مسبقا، لكنه متردد بشأن طرحه.. فإذا فعل سيقطع أي بصيص أمل له، لكن تذكر معاملتها له بالآونة الأخيرة ورجح أنه ربما تبادل صديقه المشاعر.. ومن هو حتى يقف بطريق عاشقين؟.. ومن؟.. صديقه المقرب وحبيبته التي لطالما تمناها زوجة له.

فوجه إليه السؤال القاضي : أمينة أم…. يسرى؟
 
_ يسرى.. أحببتها منذ بداية السنة و راقبتها كثيرا حتى تيقنت أنها الزوجة المثالية.

_ حسنا.. توكل على الله وأنا بصفك. وانصرف متجها نحو الحمام، أغلق بابه والألم يعتصر قلبه وانهار باكيا بصوت خفيض. قائلا لنفسه :

_كيف له أن يظفر بها وقد أحببتها منذ عامين، لمحتها لأول مرة داخلة باب الكلية.. عشقتها بكل ما تحمله الكلمة من معاني، لكنها للأسف لن تكون ملكي.

إقرأ أيضا :


 
على طاولة الغداء بعد يومين من حديثهما.

عبد الحق باستغاضة  : أود أن أفتح موضوعا مهما إن أمكن ذلك.
فأنصت له الجميع فاسترسل موجها نظره ليسرى:

_أود التقدم لك أمام الجميع.. وجدت فيك ما كنت أحلم به طيلة حياتي، فهل تقبلين بي؟.

احمرت وجنتاها وأول من نظرت إليه لترى ردة فعله.. كان سالم، فأنزل عينيه وهم بتناول ما بصحنه – بالعا معه ألمه – .

أمينة بسعادة مبالغة :

_ إنه خبر مفرح، وأعقبت قاصدة إيصال المغزى لسالم :

أنتما متلائمان، أحسست منذ البداية أن بينكما أمر ما لكن لم أظهر ذلك.

على عكس عبد الحق الذي شقت الضحكة وجهه.. ابتسمت يسرى ابتسامة باهتة وقالت له :

_سأجيبك لاحقا.

ربما هو يحب أمينة؟ واسترجعت ما حدث صباحا حين قدمت إليها تقفز فرحا.. لقد طلب منها سالم أن تجلب له قهوته الصباحية بنفسها ! يسرى من اعتادت على تقديم القهوة للكل لتسمع منه تلك العبارة مع أول رشفة ” الآن عادت لي روحي، سلمت يداك”. حتى أنه صار يناديها إذا احتاج شيئا! كتمت شهاقاتها وضربت صدرها بكفها في محاولة بائسة لإيقاف الألم الذي يخنقها خنقا.


يا إلهي المؤونة على وشك الانتهاء ! .. قالت لأمينة بفزع.

طرقت باب الغرفة ودخلت، تسارعت دقات قلبها عندما تلاقت أعينهما.. أشاحت ببصرها وقالت لعبد الحق :

_ إن المؤونة على وشك الانتهاء يجب أن نجد حلا.

عبد الحق مجيبا :

_لا تقلقي، سنذهب بالسيارة لأقرب بقالة ونجمع ما نستطيع.

سالم : دعنا نحضر أنفسنا للمغادرة قبل الظهيرة.

لم تمسك دموعها التي بدأت تنهال على وجنتيها. ظن عبد الحق أنها خائفة عليه فربت على رأسها وقال :

_سأعود من أجلك أعدك، وإن مت سيكون ذلك فداء لك.. لكن أريد إجابتك إن عدنا سالمين. أما سالم فقد غادر يحث الخطى، لم يستطع مواصلة المشهد.

بقيت تراقبهما من النافذة، قائلة بصوت مسموع :
يا إلهي هناك الكثير من المتحولين خارجا !.

قاطعتها أمينة : أنا أحب سالم.

تظاهرت يسرى بعدم الاكتراث وجابت الغرفة ذهابا وإيابا من شدة التوتر والخوف عليهما، تقف تارة وتجلس أخرى.. ودموعها المنسابة كالشلال التي لم تستطع السيطرة عليها..كأنها وجدت الفرصة لتفريغ حزنها وألمها.

مرت ساعة ،ثم اثنتين.. أطلت من النافذة لكن لا أثر لهما. أخيرا لتظهر السيارة مسرعة باتجاه الحي، وخلفها الألوف من المخلوقات. توقفت أمام العمارة وحملا ما استطاعت يداهما حمله – من حسن الحظ أن الكائنات بطيئة جدا -..

فتحت لهما الباب متسائلة : لقد تأخرتما كثيرا ؟! خفت لدرجة الموت.

أجابها عبد الحق الذي يلتقط أنفاسه: إن عددهم مهول.. جبنا الكثير من الطرقات لمحاولة تجنبهم.

أما سالم فقد عاد إلى الغرفة بهدوء تام.

كانت تحضر الطعام بالمطبخ، وكانت تسرع قبل حلول الظلام، دخل عليها عبد الحق وتذوق منه قائلا :

_إن زوجتي المستقبلية تجيد الطبخ.

في تلك اللحظة كان سالم قد قرر مصارحتها بمشاعره، فلم يعد يحتمل.. الصمت يضيق صدره ويكاد يحبس أنفاسه.. فكل استنشاقة صارت مؤلمة، ولها حرية الاختيار بينهما وسيتقبله مهما كان.

سقطت عليه كلمات عبد الحق كالصاعقة، عاد أدراجه ظانا أنها قد وافقت عليه سالفا.

يسرى بارتباك  : عبد الحق، لايمكنني إنكار أنك ستكون زوجا مثاليا، مراعيا.. محبا وحنونا فالعديد من الفتيات يتمنيك لكن… لست منهن. تفرست ملامحه للحظة وأردفت :

_ أعتذر بشدة أعرف أنني لن أستطيع إسعادك. كان صامتا.. فواصلت : أتمنى أن لا تغضب مني ولا أريد خسارتك فأنا أعتبرك أخا لي.

فقال  لها بصريح العبارة وقد تلألأت عيناه معلنة خسارته  :

_طبعا لن أجبرك على القبول، أحببتك منذ وقت طويل وسيظل حبك خالدا بقلبي ما حييت.. أريدك أن تعلمي هذا، ولن يتغير شيء. اعتبري أنني لم أتقدم لك مطلقا حتى نرفع الحرج بيننا. وأردف متسائلا : إنه سالم.. أليس كذلك؟

إقرأ أيضا :

أوطأت رأسها بحزن يخالجه الخجل :

_ لكنه اختار غيري.
 
من؟.. أمينة؟.   نعم.. أظن ذلك.
 
أطلق ضحكة مدوية ورحل تاركا إياها في حيرتها.

حل الليل وأوى الكل إلى فراشه. كان سالم مندثرا ببطانيته معانقا الحزن الذي صار ملازما له. نظر له عبد الحق وقال بنبرة انهزام:

_لقد اختارتك أنت.

لم يصدق سالم ما سمعه ونظر لصديقه ببلاهة.
 
_أطلب يدها قبل فوات الأوان فهي تظنك مغرما بغيرها.
 
اعتدل سالم جالسا وقال :

_ هل ما تقوله حقيقي؟.
 
أعرف أنك هائم بحبها، أعتذر لأنني جعلتك تمر بوقت عصيب. تركت زمام الأمور لقلبي متجاهلا حكمة عقلي فقد كان واضحا أنكما تحبان بعضكما لكنني كنت عنيدا واسترسل بنبرة آمرة : هيا اذهب إليها.  

_ الآن ؟.. ربما تكون نائمة.
 
_أنا متأكد أنها ليست كذلك.. أسرع.
 
دق على الباب بلطف والإبتسامة تشق وجهه، فتحت له أمينة فقال لها :

_من فضلك أريد يسرى.. أخبريها أنني بالصالة أنتظرها.

فهمت ما ََستؤول إليه الأحداث وجرت ذيول الخيبة خلفها.  

قبل أن تقولي شيئا.. أنا أحبك.. أريدك لنفسي ولا يسعني العيش للحظة بدونك، فهل تقبلين بي زوجا؟.

أجهشت بالبكاء، وهزت رأسها ردا على طلبه بالإيجاب.
لم يستطع منع دموع الفرح من الخروج.. بعد عذاب دام لعامين، أخيرا ستكون ملكا له، ولو لم يكتب لهما النجاة.


بعد مدة من الزمن اكتشفت الحكومة سبب العدوى، وهو هروب أحد فئران التجارب من المخبر بوسط المدينة.. والذي كان حاملا لفيروس مصنع تحت الدراسة. كما استخرجت مضادا  له رشته باستعمال الهيليكوبتر على كامل المدينة.. قضى الأخير على المصابين.

تزوج سالم ويسرى، أما عبد الحق لم يجد بعد الفتاة المنشودة التي تستحق مكانة يسرى بقلبه، انقطعت أخبار أمينة بعد تطهير المدينة. أما الذين كانوا بالمكتبة فقد أصيب أحد الطلاب، وأخفى ذلك عن البقية.. مما تسبب في القضاء عليهم جميعا.

إنها النهاية الجميلة، والمنتظرة.. أليس كذلك؟

** مشهد استرجاعي لما بعد الاعتراف

مرت الأسابيع بسرعة، لم يشعر أحدهما بذلك فما كان يضيق الصدر قد بيح به.. حتى بتلك الأوضاع المزرية.

ومن شعر بثقلها عبد الحق وأمينة – أو لنقل الأطراف الثانوية التي أنهكها ألم العشق -.. قد انتهت المؤونة للمرة الثانية، وككل مرة يجب على عبد الحق وسالم الذهاب بالسيارة بحثا عن لقمة العيش.

لكن تأخرا كثيرا هاته المرة، فقد انطلقا صباحا وها قد حل المغيب وليس لهما أي أثر يقتفى.

قالت يسرى بفزع :

_ لم يظهرا يجب أن نخرج  للبحث عنهما.

أمينة باستنكار :

نخرج للبحث عنهما !.. هل تعين ما الذي تقولينه؟

أمينة بعزم : سأخرج وأرى بالأرجاء، سأحاول الوصول إلى نهاية الشارع ثم أعود.

أمينة بفزع : هذا هو الجنون بعينه، أنا لن أرافقك.. أختار الموت جوعا عوض أن أكون عشاءا لتلك المخلوقات المقيتة.

بعد حوالي الساعة عاد عبد الحق وسالم.

قالا بتساؤل : أين يسرى؟

أمينة وهي تبكي : لقد خرجت للبحث عنكما.
 
_كيف لم تمنعيها !.. ألا ترين المئات المنتشرة خارجا.

_حاولت كثيرا ،لكنها لم تستمع لي إطلاقا.

أسرعا للبحث عنها لكنهما عادا مع بزوغ الفجر دون جدوى..آملين أن تكون مختبئة بمكان ما وستظهر صباحا.

مع شروق الشمس سمعوا أمينة تبكي وشهقاتها تدوي بالمكان، كانت واقفة كالصنم أمام النافذة، ليصدموا بذاك المنظر المروع.. نعم إنها يسرى الفاتنة التي صارت وحشا عفنا.

لايمكن وصف صراخ سالم الذي يوقظ الميت من قبره، ولا بكاءه الذي يشق الحجر.

سالم :

_يااا إلهي لم ألمس حتى يدها، لم أسمع منها حتى كلمة أحبك، لم أشبع حتى من نظراتها، لم أحتضنها يوما !.

ووقف كالمجنون ودلف إلى الخارج يركض ركضا، تبعه عبد الحق ليتوقف مشدوها أمام ما ترى عيناه ويعود أدراجه.

أسرع سالم نحوها واحتضنها ليحظى أخيرا بقبلة منها أو لنقل بعضة أولى وأخيرة.

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

 

أزيز الصمت

الجزائر
guest
5 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى