هناك عند التلة كنت أقف بوجوم أحاول السيطرة على شعري البني المنسدل ، الذي يتطاير بفعل الرياح.
أرتدي فستاني الأبيض البسيط ، إن رأيتني حسبتني عروس القمر لكن إن اقتربت أكثر ستجزع من تلك الخصلات الدقيقة القاتمة التي تنبثق من ثوبي الحافي ، فتحيطني بهالة سوداء منفرة.
لقد كنت أرمق بترقب البحيرة العملاقة أمامي ، أتفحص منظر البجعات وهن يتراقصن بخفة على أنغام فاتنة ، تنافي برقتها و سحرها ، ذلك الرجل الملتحف ببذلته السوداء المبتذلة و الممسك لنايه الخشبي باحتراف ، لوحة فنية مشحونة يتصارع فيها الجمال و القبح .
تفتن البجعات بتناغم الألحان فيتذللن لماء البحيرة عساه يرأف لحالهم، فيأخذهم بسرعة لصاحب الناي ، ثم يتمايلن بليونة حتى يصلن أطرافها ، حيث يقبع الكيان بقامته الطويلة ، ينظر إلى البجعات بسحر، ثم يلتفت إلي ، فأضم ذراعي الجامدتين إلى صدري ، في محاولة خائبة لصنع درع جسور يقيني.
يزيد الكيان من حدة ألحانه فتهيم البجعات أكثر، ثم تتوغل في شباكه الشوكية المغلفة بالجمال ، يلقي الرجل بالناي في البحيرة فيغيب في أعماقها ، فيتحول ماؤها الزلال إلى علقم مرير يعيق حركة البجعات ، و يطيح بأرواحهم إن حاولن ارتشافه ليسقطن الواحدة تلوى الأخرى .
كنت أتابع المشهد بسخط فقررت أن أنزع عني عباءة الجبن ، هرولت مسرعة لأساعد البجعات ، لم أعد خائفة من الكيان ، ها أنا أخرج البجعة الأولى ، ثم الثانية ثم الثالثة ، يمسكك الكيان بقبضته يدي الهزيلتين فيلقي بي في أعماق البحيرة لأغرق في الظلام مجدداً.
انتفضت من مكاني بهلع ، لقد كان مجرد حلم ،
ضلالات ينسجها دماغي المضطرب ، أجزم الآن أني الداخل الحافلة أجلس على كرسي متهالك غير مريح ، دخان السيارات المتصاعد ، السائق العجوز الذي لا بد أنه يحكي للفتيان جانب من صعوبة حياته ، و كيف ساقت به الأقدار إلى هذه المهنة التي لم يعد يطيقها البتة ، كلها مشاهد خالية من الشوائب تؤكد أن عقلي لا زال قادراً على تحليل الأمور بشكل جيد ، لكن هواجسي لم تمنعي التأكد ، التفت إلى الرجل الذي يجلس قربي اسأله ، تفرست ملامحه بعمق لأتفاجأ بهول المنظر ، أنه ذلك الكيان المظلم الذي تسلل إلى أحلامي ليحولها إلى فلم دموي مريع ، ملامحه المريبة ، بذلته السوداء قديمة الطراز ، إنه ينظر إلي بترقب ، يتلذذ برؤية الدهشة الممزوجة بالفزع التي نقشت على ملامحي ، تعلو وجهه ابتسامته المقيتة ، اقترب مني ثم همس بصوت أشبه بالفحيح .
– لقد اشتقت لك يا فتاة ، ظننتك خائنة ، لم أكن أعلم أنك بهذا الدهاء لتجدني بسرعة ، لم تستغرقي سوى ثلاثة أيام .
– (صحت بفزع) من أنت يا هذا؟ لقد رأيتك في حلمي ، هل أنت معتوه ؟ أم قاتل متسلسل ، أم أنك تخطيت قدرات البشر فأصبحت عابث أحلام ؟.
أصدر الكيان ضحكة شيطانية متزعزعة ، ثم أمسك بمعصمي و ضغط عليه بقوة ، كنت مستغربة كيف أن ركاب هذه الحافلة اللعينة بلا نخوة ، كيف لم يستجب أحد لنجدتي ، صرختي المكتومة ، عيناي الملبدتين بالدمع ؟ كلها مؤشرات تدل أني أحتاج المساعدة ، قطع الرجل الأسود أفكاري المشتتة ثم استطرد قائلاً :
– أحقاً لم تعرفيني ، أم أنك أصبتي بداء البلاهة ؟ لكنني لا أراه في الجوار … حسناً سأختصر عليك الوقت ، أنا اسمي شيزوفرينيا ، هل تذكرتني الآن ؟ أنا ماضيك المبهم ، و حاضرك البغيض ، مرضك الذي ينهشك ببطء ، هلوساتك المتكررة سلوكك العدواني المفاجئ ، كنت أظن أنك ستستسلمين للعقاقير في ذلك المصح البائس ، لكني تخطيت توقعاتي ، لقد فررتي بجلدك ، أعترف بذكائك يا فتاة ، لكن ماذا الآن ؟ سأخبرك ، لقد اجتزت اختبار الثقة بنجاح ، أصبحت عميلتي المفضلة ، لهذا لن أدخر جهداً معك ، سأغرقك في الظلام ، ظلام دامس ليس له عمق أو نهاية.
استجمعت رباطة جأشي ثم اطلقت ضحكة عالية اهتز لها ركاب الحافلة ، نظرت إليه بتمعن و أردفت :
– إنك حقاً معتوه يا هذا ، أم أنني الآن في برنامج هزلي ؟ حسناً قل لي أين الكاميرا ؟ سأتظاهر بالرهبة ، و في آخر الحلقة سألقي كلمة شكر، و سأشيد حتماً بأدائك المقنع ، أعترف أنني هربت من مصح عقلي ، أنني رأيتك في أحلامي ، لكن ما تقوله مجرد هراء ، ترهات لا معنى لها ، ( ثم استرسلت بجهر ) و هل تتجسد الأمراض على هيئة البشر ؟
نظرت إلى الحشود التي نهشتني بنظراتها ، منذ صعودي هذه الخردة ، ثم استرسلت:
– ما الذي يثير دهشتكم هكذا ؟ همساتكم تزعج تفكيري ، أريد هدوء من فضلكم ، دعوني ألقن هذا المعتوه أمامي أداب الحوار، و إذا بصوت من الجموع يقول :
– هل أنتِ مجنونة أيتها الفتاة ؟ منذ صعودك و أنتِ تهذين بكلام غير مفهوم ، لم يستطع أحد الجلوس بجانبك ، و ها أنت ذا تكلمين كرسياً فارغاً ، و تجبريننا على الصمت كي لا نزعجك ، هل أنت حمقاء ؟ أطفالنا الآن خائفون بسببك ، هيا انزلي الآن و إلا سنلقنك درساً قاسياً لم يكن ينقصنا سوى المجانين في هذا البلد.
– (صرخت بصوت عالي ) أنا لست مريضة ، لست مجنونة ، هل تسمع ؟.
أخدت نفساً عميقاً ثم جلست على الكرسي ، فتحت محفظتي البالية و أخرجت العلبة التي تحتوي أقراصاً مهدئة ، ابتلعت واحداً ، و رحت أحدق في الكيان الذي كان يراقبني ببرود و ابتسامة ماكرة ، كأنه يقول : لقد هزمتك يا فتاة ، نعم لقد هزمني ، عقلي لم يعد يفرق بين الواقع و الهلوسات ، استسلمت لواقعي المرير، و أغمضت عيني ليختفي كل شيء ، و أجد نفسي داخل غرفتي بالمصح اجلس القرفصاء على سريري و أتفحص ملامح الطبيب الذي
بدا في قمة تركيزه طول جلسة العلاج ثم قال بصوت هادئ :
– هل حقاً كنتِ تفكرين بالهرب يا مرام ؟.
– ( قلتها ببرود ) : نعم ، لكنني تخليت عن الفكرة ، ذلك الشخص الذي اسمه شيزوفرينيا فسيقتلني حتماً.
– (بتعجب): حسناً … أتقصدين أنك واعية بكونك مريضة فصام ؟.
– أنا أعي إصابتي بالهلوسات ، لكن ليس لأنني مريضة ، أنا لست مجنونة ، بل بسبب ذلك الرجل ذو البذلة السوداء ، يريد قتلي ، لقد خدعكم جميعاً أيها الحمقى ، هو يملك قوى قاهرة جعلته خفياً يتلبس الشخص فيجعله غارقاً في الأوهام والضلالات ، فتظنوه مريضاً ، لقد حاول خداعي أيضاً لكن لم يفلح.
– ما الذي أخبرك به هذا الرجل أيضاً ؟.
– صحيح أنه أخدني إلى عالمه المليء بالهلوسات ، إلا أنه شاركني بنقطة ضعفه ، دون أن يعي ذلك المغفل ، لكن أجزم أنه ضعيف أمام تلك العقاقير التي تقدمونها هنا ، مدعين أنها الترياق الشافي، لكن لا يهم سأتحملها طالما تبقيه بعيداً عني.
– أنتِ فتاة ذكية حقاً مرام ، لقد كشفت سره ، لكن ما الذي يضمن عدم قيامك بخطة الهروب هذه في وقت لاحق ؟.
– أنظر أسفل السرير ، هناك عصاة حديدية عثرت عليها في البارحة أثناء فترة الاستراحة ، كنت سأهوي بها على رأس الممرضة التي بتقديم الدواء و أقدم على الهرب ، لكن تغيرت الأقدار ، يمكنك أخدها و أرحل ، شيزوفرينيا ينظر إليك بغل ، صحيح أنه مكبل ، لكن قوته لا تكمن في جسده كما تعلم ، و تذكر إن راودك كابوس و رأيت فيه رجل يرتدي بذلة سوداء ، احذر فهو ليس عابثاً بالأحلام إنه الوغد شيزوفرينا.
النهاية……..