أدب الرعب والعام

العطر الجذّاب

بقلم : ابن اليمن – اليمن

أخذ يتشمم ذلك العبق الجذّاب التي حملته أمواج النسيم الشمالي
أخذ يتشمم ذلك العبق الجذّاب التي حملته أمواج النسيم الشمالي

 
في أطراف احدى القرى البعيدة عن المدينة ، و في ساحة بيت صغير مكون من أربع غرف و ساحة صغيرة تكتنفها أربعة جدران أسمنتية ، كان وديع ساهراً خلف باب بيته يتصفح هاتفه الجوال بينما كان جميع الأهل و الجيران يغطون في سبات عميق ، فالساعة أخذ بندولها يزحف نحو الواحدة و النصف بعد منتصف الليل ، الأجواء هادئة و ساكنة جداً ، و الليل حالك السواد و كأنه رمالاً من الكحل الأسود زحفت على بيوت تلك القرية القصية ، و على بعد ثلاثة كيلو مترات من مكان وديع الذي هو ساهراً فيه تقع غابة شاسعة مترامية الأطراف غاية في الكثافة و العمق ، مزروعة بالحشائش الملتفة و مُحاطة بأعداد لا حصر لها من أشجار الصنوبر المعمرة.

كان وديع غارقاً في محادثات تطبيق الواتس أب غافلاً أو متغافلاً عن وحشة المكان من حوله والصمت القبوري الذي يلف أجواء القرية ، و بينما كان الجو ساكن من أي ريح أو حتى أرفع هبّة نسيم حالمة ، فجأة تهب ريح شمالية بارده من ناحية تلك الغابة ، و حينما مسّت بموجاتها و أناملها المخملية خد وديع الذي أفاق سريعاً و انتفض من القشعريرة و كأن أحدهم جر قطعة ثوباً خشن حول وجهه ، و أخذ يتشمم ذلك العبق الجذّاب التي حملته أمواج النسيم الشمالي ، و كلما زاد استنشاقه و أخذ شهيقاً أعمق كلما كانت رائحة العطر أكثر جاذبية و سحراً ، فوثب من مقعده ذاك بعد أن زاد تنشقه لتلك الرائحة العبقة و أخذ يتتبع رائحة العطر الآسرة بجنون حتى أنه ترك هاتفه دون شعور و سرى يمشي و يتعثر و رأسه و أنفه متجهاً صوب مصدر الرائحة ،

و كلما أخذ شهيقاً أعمق كلما حصل على دفعة أكبر من ذلك العطر الأخاذ ، و لم يفق من جنونه ذاك إلا و هو في قلب الغابة تماماً و في جوف ظلاماً دامس لا يدري من أين أتى و أين وصل ؟ فقد انقطع العطر قليلاً ، وما أن دب الخوف في قلب وديع حتى انساب من بين جذوع أشجار الصنوبر ذلك العطر النفّاذ من جديد فوقف يشتمه برغبه عارمة حتى أنه فقد إحساسه من فرط النشوة و أخذ يتجه صوب مصدر العطر ، لأن العطر ينقطع اذا وديع انقطع عن السير و يتدفق اذا تحرك ومشى ، فقد غطت نشوة العطر وسكره مشاعر الخوف عنده فأخذ يتوغل مترنحاً نشواناً لا يلوي على شيء حتى توقفت شذرات العطر من جديد ، و قبل أن يسيطر عليه الخوف من جديد صدح بصوتاً هادئ وادع ، صوت عزف في منتهى الشجن والإطراب على أوتار قيثارة لا يقل سحراً و جذباً من ذلك العطر ،

فاهتاج قلب وديع واختلب لبه و أخذ يرهف السمع و ينصت بكل جوارحه إلى تقاسيم و مواويل ذلك العزف الشجي العذب لم يعد يملك من أمره شيء فقد أصبح رهين ذلك العزف ، أسير العازف المحترف ، ثم انبعث العطر من جديد و كأن أشد عبقاً و طيباً من ذي قبل ، مع الحان تلك القيثارة الساحرة أخذ يمشي و بدون أي حاسة فقد بلغ ذروة الانجذاب والسكر ، و كلما تقدم نحو مصدر العزف والعطر أخذ يتباعد عنه ذلك اللحن الشجي و يقل شذى العطر الفوّاح ، لذلك جد في السير يرتطم يمنةً و يسرة في جذوع أشجار الصنوبر العملاقة ، و كلما توقف أزداد العزف سحراً و شجواً و العطر فوحاً و جاذبية ، فيعود للسير الحثيث من جديد حتى أفاق مرةً أخرى على رأس منحدراً شاهق أسفله بحيرة زرق كأنها السماء أو أشد زُرقة ، فارتد مذعوراً على عقبيه ينظر إلى كل النواحي و يتسأل : أين أنا ، و ما هذا المكان ؟ ينظر لحوله لا يرى شيئاً سوى محيطاً أزرق لا نهاية له ، يقع أسفل ذلك الجبل و يمتد جنوباً منبسطاً كأنه وجه صحراء لا يرى فيها عوجاً ولا أمتى ،

و فجأة عاد العطر يتدفق من جديد أشد جاذبيةً و طيباً من كل المرات السابقة ، و العزف أشجى و أطرب مما كان من قبل ، و كان وديع قد تراجع عن حافة الجبل بعد أن أفاق عدة أمتار إلى الخلف ، و حينما تهادا العطر والعزف من جديد عاد ليتقدم إلى رأس الجبل ، لأن العطر والعزف يأتيان من قبل البحيرة التي تقع أسفل ذلك الشاهق المرتفع ، و بما تبقى لديه من وعي حاول ألا يتقدم أكثر ناحية الجرف السحيق الذي يقف على مقربة منه ، إلا أن العطر والعزف أخذا بتلابيب قلبه و سلباه إرادته من جديد ،

و قبل أن يهوي و حينما وضع قدمه ليرتمي فداء و ضحية و قرباناً لساحر العطر والعزف غرق في جذب تام و فقد ذاته و حركاته ، وعندما أرتمى من على قمة الشاهق و تجاوز الارتفاع نحو نصف قدم نحو الانخفاض الهائل ، تلقفته أيدي مخمليه حريرية ناعمة و احتضنه صدر حنون و دثره شعراً حريرياً ناعم ، أخذته فتاة لها جناحان آية في الحسن والروعة ، و أخذت تطير به تصف جناحها و تقبض متجهةً به صوب البحيرة ، و هو ساكن الحركة ، مشلول القوى ، فاقد الإدراك ، كأنه جثة هامدة لا يحس و لا يشعر بشيء ، استيقظت عائلة وديع في صباح ذلك اليوم بعد أن أسفر الفجر و دبت الحياه من جديد في أرجاء القرية ،

أفاقت تلك الأسرة على اختفاء وديع ، و هرعوا إلى جميع غرف المنزل ، بحثوا في قن الدواجن و في حضائر الحيوانات و لم يدعوا مكاناً في القرية إلا و بحثوا فيه عن وديع ، وانتشر الخبر عن اختفاء شاب ليلة البارحة من أحد بيوت القرية ، فدب الخوف و الرعب في قلوب الجميع ، فتوجه حشد كبير من الناس وانتشروا في مجاميع تمشط أطراف القرية متراً متراً ، و لكن دون جدوى ، فقد بحثوا في جميع الأماكن و سألوا جميع أهل القرية و لكن دون جدوى ، فلم تبقى سوى الغابة التي تبعد نحو ثلاثة كيلو مترات إلى شمال القرية ، هي المكان الوحيد الذي لم يبحثوا فيه ، لذلك شدوا الرحال إلى هناك ، و توجهوا قاصدين الغابة عند التاسعة من صباح اليوم التالي ، و أخذوا في الانتشار في تعرجات الغابة وأغوارها وكهوفها المظلمة ، و بين أشجارها العملاقة و الحشائش الكثيفة التي تحجب السير بينها إلا بصعوبة ، فقد أزمعوا على البحث إلى قبيل الغروب ثم العودة إلى للبحث في صباح اليوم التالي ، لأن الغابة موحشة في الصباح فكيف بالليل ؟

استمر البحث حتى قبيل الغروب و لم يعثروا على أحد و لا حتى على أثر أقدام أتت إلى هذا المكان ، رجعوا بخفي حنين خاليي الوفاض ، ثم عادوا للبحث في صباح عدة أيام في الغابة و في غيرها من الأماكن الأخرى ، غير أنهم لم يجدوا أحد ، أستمر الأمر و البحث لنحو شهر كاملاً دون جدوى و لا بصيص أمل في العثور على وديع ، نادوا و صاحوا و أرسلوا الباحثين و الشرطة و عمموا الخبر على جميع القرى المحاذية ،  بل و إلى المدينة التي تبعد نحو خمسين كيلو متر عن موقع القرية ، و لكن لا خبر و لا أثر عن وديع ، فزاغ بصر أمه و امزق فؤادها و كادت أن تهلك حزناً عليه مع بقية أفراد الأسرة  ، فلم يدعوا وسيلة و لا حلية إلا أستخدموها في البحث عن وديع ، حتى أنهم ذهبوا إلى العراف و لكن لا فائدة تُرجى و لا بارقة أمل تلوح ،

و في احد صباح الخامس من أذار مارس و في مثل ذلك اليوم التي اختفى فيها وديع ، أفاقت العائلة المكلومة على ظهور ميؤوس منه من أبنهم ، اتجهت أم وديع إلى غرفت أبنها لتشم أشياءه و ثيابه لعلها تجد سلوى في ذلك أو لتفرغ بحوراً من الحزن في ثنايا ملابس أبنها الغالي ، فتحت الباب لتلج إلى الغرفة ، و كانت المفاجأة التي ألقت بها فاقدة للوعي في الحال ، و قبل أن تسيطر عليها نوبة المفاجأة صرخت صرخة سمع دويها أخر بيت في أقصى القرية ، فانطلق كل أراد العائلة تاركين كل ما بأيديهم جانباً حتى دخلوا إلى حيث سقطت الأم ، فإذا هم بالمفاجأة ، نعم وديع بشحمه و لحمه يقف أمامهم ، يتفحصهم بعينين تكاد أن تخرجن من محجريهن من الحيرة والاستغراب ، وهم واضعين أيديهم على رؤوسهم و فاغرين أفواههم من هول الصدمة ، فأخذ يسألهم عن حالهم هذا و لما هم متفاجئين ، و لما أمه طريحة هنا ؟.

ثم رشوا الماء على والدته فأفاقت و احتضنته طويلاً ، ثم اخذوا يبكون من شدة الفرح و القرية بقضها وقضيضها على باب منزل وديع تنتظر ما الخبر وما الذي أصابهم ؟ ثم سألوه وعنفوه : أين كنت و إلى أين ذهبت ؟ فمنذ شهرين  ونحن نبحث عنك فلم ندع مكاناً ولا وكراً إلا فتشناه بحثاً عنك ، فأين فررت و لما لم تخبرنا ، و لما غبت كل هذه الفترة الطويلة ؟ و كأنت المفاجأة الكبرى حين أخبرهم أنه لم يذهب إلى أي مكان و أنه كان نائم و فجأة أفاق على صوت صراخ ، ثم وجد أمه ملقاه على الأرض ، و وجد أخوته و أهل القرية أمامه و يسألونه هذه الأسئلة الغريبة ، فعنفوه أكثر و أكثر واستجوبوه طويلاً ، فلم يزد على ما قال و هو يقسم أنه لم يذهب إلى أي مكان.

لتنتهي بذلك أحدى أغرب الحكايات والروايات في تلك القرية الحالمة.
 

تاريخ النشر : 2021-02-12

guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى