أدب الرعب والعام

الفراق

بقلم : بائع النرجس – مصر
للتواصل : [email protected]

كيف بإمكاني تحمّل هذا الفراق ؟

الوحدة أصعب شيء يمكن ان يعيشه انسان صاحب شعور و احساس مُرهف ..لا أستطيع أن أصفّ لكم كيف أشعر بالوحدة و أنا وسط الجموع , و كأني أتيت من عالمٍ آخر ..لا أفهم أحد , و لا أحد يفهمني ! كثيراً ما أهرب لدنيا الكتب و الروايات حتى أشتمّ نفسي .. و أحسّ بالحياة بين تلك الشخصيات الخيالية , رغم معرفتي بنهايتها دائماً ..و قد كبرت معها حتى صار عمري عشرين ..و كنت في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية , و ما زالت خجولة بدرجة كبيرة .. أحب العزلة و البُعد عن الجموع .. و في هدوء , تودّد لي شاب كان في مثل عمري .. فرفضت تودّده و صددّته كثيراً ..لكنه لم يبالي , و كأنه مصرّ على اقتحام أسوار قلعتي ..و لا أعرف كيف نجح في ذلك , فقد فتح قلعتي الحصينة , و زرع الياسمين و الرياحين في حدائقي .. و بتّ أسهر أفكر فيه بدون توقف , و كأن حياتي توقفت أمام نظرة من عينيه ذات اللون الأسود .. حيث تميّز بوجهٍ خمري و جسدٍ ممشوق , و شعرٌ اسود فاحم , و له وسامة شرقية مُحبّبة للنفوس ..كان يدعى (رياض) و كنا نتقابل كل يوم في الجامعة .. يشاركني في كل شيء .. حتى أحلامي لم يتركها لي , فقد كنت أحلم به طوال الوقت .. و بسببه ودّعت أحزاني , و ألقيت بها في جبٍّ سحيق .. و أحسست بأن السعادة اخيراً فتحت لي ذراعيها .. و مرّت الأيام بسرعة ..و نجحت بإمتياز .. و تمنيت هنا لو مازالت أمي حيّة , لكانت فرحت بي كثيراً , لكنها رحلت منذ خمسة عشر عاماً , و تركتني أعاني وحدي .. فأبي تزوج بأخرى ..و من أجل زوجته الجديدة , تركني أعيش مع جدتي التي كانت حنونة عليّ , قبل ان تفارقني في صمت ..لأعود ثانيةً الى والدي و زوجته , التي تعاملني بلا مبالاة و تهتمّ فقط بشؤون أولادها ..حتى أبي نسي وجودي , فلم يعد يطمئن عليّ ابداً ! و كثيراً ما كنت أبكي لوحدي .. كم تمنيت الموت ! لكن ظهور (رياض) غيّر حياتي من حالٍ الى حال .. لذا إنتظرت يوم تخرجي بفارغ الصبر , حتى أستطيع أن أغير واقعي , اقصد حين يتقدّم (رياض) لخطبتي .. و في يوم .. لمّلمت قوتي , و طلبت منه بنفسي هذا الطلب ..فأنا متأكده أنه ينتظره مثلي , و ما منعه غير حياءه الغير عادي ..
و كأن العالم كلّه توقف فجأة في هذه اللحظة , حين سألته بتردّد و خجل :
– حبيبي .. اما آن الوقت لكيّ تتقدّم لي بشكلٍ رسمي ؟
و لأول مرّة ! اجدهُ يشيح بنظراته عني , و احسسّت على الفور بالقلق يتسرّب الى قلبي .. فسألته و أنا أقترب منه أكثر , و أنظر الى عينيه :
– حبيبي ! هل هناك خطب ما ؟
و طال صمته .. الى ان قال بلهجةٍ تشوبها لمحة حزن
– انت لا تعرفين كل شيء عن خلفيتي و عن أهلي , و لا كيف أعيش و…
فقاطعته رافضة حديثه , قائلة :
– لا يهمني كل هذا !! انا يكفيني انك تحبي .. فقد عرفت معنى الحياة و أنا بجوارك ..وعرفت معنى السُهاد و أنا بعيده عنك ..أرجوك لا تخذلني , و تطفىء شمسي .. لقد تمنيتك من الله أن أعيش فقط لأجلك .. فأرجوك لا تعيدني الى تلك الوحدة القاتلة مرّة أخرى
و لم اشعر الا بالدمعات و هي تنساب على خديّ ..
فمدّ أنامله و أخذ يمسح دموعي , و يقول بعذوبة :
– هذه الدموع غالية عليّ كالألماس .. و لا أحب أن أراها تنزل , لا من اجلي و لا من أجل ايّ شخصٍ آخر ..و اريدك دائماً ان تكوني قوية كالجبل في مهبّ الريح
ثم صمت قليلاً , و هو سارحٌ في عينيّ .. فهِمْتُ في دنيا غير الدنيا ..
ثم قال لي بصوته العذب :
– اتدرين ماذا !! سأفرض على والديّ الأمر ..و في الغد أخبرك بالنتيجة ..و إن شاء الله خير
و وقف مودعاً .. فشعرت انه اختلق هذا الكلام ليتهرّب مني ! و قد أحزني فعلاً ردّة فعله , و كأن هناك خنجراً ماضي يقطّعني لأشلاء .. ثم تركني .. و ترجّل بضع خطواط , قبل ان يتوقف.. و حينها تمنّيت لو بإستطاعتي أن أجري اليه , و ألقي بنفسي بين ذراعيه , و أشتم رائحته و أبكي و أتوسل و أترجاه ..و لا ملامة عليّ في ذلك , و كيف لا ؟! و أنا أحبه , فهو من أخرجني من أحزاني ..هو من جعلني أحب الحياة , هو دنيتي و…
ثم عاد و نظر الى الخلف , و وجدني مازلت أنظر اليه في ترجّي : بأن لا يتركني وحيده وسط الطريق , حائرة في أمره .. حيث بتّ لا أعرف مالذي عليّ فعله ! و أحسسّت بأن الدنيا كلها تنهار في تلك اللحظة .. لكنه لم يبالي ! بل أدار وجهه , و أكمل طريقه ..و أنا أتابعه , الى ان إختفى …وعدت إلى منزلي ..و سجنت نفسي بين جدران غرفتي , و بين أطلال الحب الذي إفتقدته كثيراً ..
و بهذه الليلة , لم استطع ان أنام ..و ابت دموعي ان تجفّ ..و صارت الأفكار تعصف بي , و انا أشعر بثقل الدقائق و الثواني , بينما وحش السهاد يعبث بقلبي و عقلي ..و كأني أصبحت مثل الريشه في مهبّ الريح , لا تعرف الى أين ستذهب .. لكن كيف بإمكاني تحمّل هذا الفراق ؟ و عقلي يأبى ان ينسى كل كلمة قالها لي يوماً , كل همسة , و كل شيء بالتفصيل المملّ !
…. آه !! كم كان كريماً في حبه , مؤدباً , عطوفاً في معاملته لي ..
و بعد طول عذاب .. طلع النهار .. و كنت على وشك الإنتهاء , كسمكةٍ حيّة رُميت فوق الجمر ..لا راحة لي بعد اليوم , طالما ان لهيب عذابي في توّهجٍ مستمر .. حتى بتّ لا أفكر في شيءٍ غيره .. كنت أراه في كل شيءٍ حولي .. و اتوهّم احياناً بأني اسمعه , و اتخيله في غرفتي ! و بقيت على هذه الحالة , الى ان مرضت و أصابني الهزال .. و صرت اسأل نفسي :
– كيف ينسى كل هذا الحب ؟ هل كان يلعب بي ؟! ..لا , لا مستحيل !!! فأنا لا أستحق هذا منه .. طيب لم لا يجيب على محموله ؟ كيف لا يتصل بي طوال هذه المدة ؟!
و لم أصل الى ايّ إجابة .. و مع هذا , فقلبي مازال يرفض ان يصدّق بأنه تركني .. و أخذ يلتمس له الأعذار : ربما حدث له خطب ما , جعله ينشغل .. نعم …ربما !
و مرّت الأيام .. و كنت قد شارفت على الموت .. و بالطبع لم يلاحظ احد ذلك ! اصلاً لم يطرق احد باب غرفتي , منذ انتقالي لمنزل ابي !
و بينما انا في فراشي أودّع الحياة , اذّ بمحمولي يرنّ بجانبي :
– (هدى) !! أنتظرك في الغد .. عند مكاننا المعتاد , أسفل شجرة السوسن .. في تمام التاسعة صباحاً
لم أصدق نفسي ! انه هو … و هببّتُ من سريري و كأن شيئاً لم يكن ! فقد أشفاني صوته العذب ..و أقبلت بنهمّ على الطعام ..و سهرت طوال الليل أهندم نفسي , حائرة فيما سأرتديه بالغد ..و منذ الصباح الباكر .. كنت انتظره هناك بفارغ الصبر و قد إرتديت أجمل ما عندي ..و حاولت أن أتماسك كي يراني كما تعوّد عليّ ..كانت ما تزال الساعة السابعة .. و أخذت أفكّر فيما سأقوله .. و أنا أنتظر أسفل شجرة السوسن العجوز , التي تطلّ على هذا المجرى المائي في شموخٍ و كبرياء ..و أخذت أنظر بين الحين و الآخر الى الساعة , و كأن الوقت لا يمرّ ! و بدون مقدمات , سمعت صوته :
– هل تأخّرت عليك ؟
فوقفت بجانبه , و انا انظر بهيام الى عينيه .. و مرّت ايام الفراق كالثواني , و نسيت على الفور كل احزاني .. و تذكّرت فقط شيئاً واحداً : و هو حبي له ..
و بسرعة !! القيت بنفسي بين ذراعيه , و كأني طفلة صغيرة في أحضان والدها ..و تمنيت ان لا يمرّ الوقت و يتوقف عند هذه اللحظة ..
و هنا همس في أذني برقّة :
– كم اشتقت اليكِ 
فابتعدتُ عنه و اتجهت الى شجرتي العزيزه (فبيننا ذكريات كثيرة نحتفظ بها سراً) ..ثم سألته بعتب
– اذاً أين كنت طوال الأيام الماضية ؟! لما لم تتصل بي ؟ لما لم …
لكنه إقترب مني و أمسك بكفّي ..و قال مبتسماً :
– سأجيبك على كل اسئلتك .. لكن لي رجاء : لتكن الإجابة في نهاية اليوم .. ممكن ؟
لم اجيبه , فأتبع قائلاً :
-اليوم سننسى كل شيء , و نعيش يوماً من أجمل ايام حياتنا .. لأن اليوم هو عيد ميلادك
فابتسمت لأنه تذكّر عيد ميلادي , بعكسي انا !
ثم صار يأخذني الى أماكن ساحرة , لم أتخيلها يوماً و لم أشاهدها الاّ على شاشة السينما …
و صرت أضحك و أتحدث , و نسيت كل شيء .. حتى سؤالي عن غيابه , نسيته !
و انتهى اليوم سريعاً .. و في آخر النهار , جلس بجانبي .. ثم قال و هو يتلعّثم , و الدموع تتراقص في عينيه :
– اليوم …. اليوم كان آخر لقاء بيننا
هتفت , و أنا غير مصدقة :
– ماذا تقول ؟!! أظن أنني سمعت شيءً , لا أحب سماعه
نظر اليّ بعد ان أمسك بيديّ , و قال وهو يضغط عليهما :
– إسمعيني يا (هدى)
فأشحت بوجهي بعيداً , و قد إنفجرت دموعي كشلالٍ منسكب من العالي بلا توقف ..فقال بحزن :
– لكل شيء نهاية يا عزيزتي ..و أنا أبتعد , لأن من مصلحتك ان ابتعد عنك
قلت بكلماتٍ اتشحت بالألم و الحزن :
– اكنت تلعب بي طوال هذه المدة ؟!
– لا أبداً !! والله وحده يعلم كم أحبك و اعشقك .. بل ان عشقك امتزج بدمي ..و إذا كان الفراق صعبٌ عليك , فالموت أهون عليّ من تركك , لكن…
أحسست وقتها بأن العالم يدور بي ..لكن عقلي كان يأمرني بقوّة : بأن لا أذلّ نفسي أكثر , و يقول لي : إنه شاب هوائي , و لا طائل منه ..
و حينها وقفت , و إبتعدت عنه بخطواتٍ متثاقلة .. ثم إستدرت له , بعد ان مسحت دموعي كي أظهر نفسي مُتماسكة ..و قلت بحزم :
– ليتني لم اعرفك !!
وإستدرت لأبتعد , لكنه أوقفني بصوته الذي يحمل أشدّ نبرات الحزن :
– أنا لن أتركك أبداً !! سأبقي بجوارك لأحرسك , و أكون لكي ظهراً
إبتسمت بسخرية , و قلت :
– و كيف يعقل هذا ؟ ألم تكلمني الآن على الفراق .. كلامك مُتناقض يا عزيزي .. اذهب و إبحث عن غيري , فربما تصدّق الاعيبك .. أما انا !! فكفاني تمثيل , بعد ان نجحت في مسعاك و حطّمتني .. يمكنك ان ترتاح يا هذا !
– أرجوكِ !! لا تظلميني ! فأنت لا تعرفين شيئاً .. صدقيني ! فنحن الإثنان كُتب عليهما الفراق , قبل حتى أن نلتقي .. و قد منعني أهلي من الإقتراب منك .. لكني رجوتهم في لقاءٍ أخيرٍ بيننا , كيّ اودّعك
فهتفت أنا :
– انا لا أفهم شيء من كلامك , سوى كلمة الفراق
فأقترب مني , و وضع في كفّي ورقة .. وهمس و دموعه تنساب على وجهه :
– هذه الورقة ستشرح لكِ كل شيء
فتحت الورقة بسرعة و قرأت ما فيها , لتتوقف على الفور دموعي ! بينما حلّ محلها رعشة اجتاحت كل جسمي .. فرفعت بصري , فوجدته يتلاشي من أمامي و يختفي , بنظرة اخيرة كنت اعرفها جيداً : هي نظرة حبيب يفارق حبيبته
ثم وقعت الورقة على الأرض , و قد كتب عليها :
(أنا جني …سامحيني)

تاريخ النشر : 2015-12-17

guest
64 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى