أدب الرعب والعام

متمرد بدون قضية

إنه شهر سبتمبر الذي تختلط فيه البدايات بالنهايات، تنزع فيه الطبيعة ثوبها تحسبا لارتداء آخر جديد.. وحده الإنسان من يصر على البقاء داخل قوقعته في منطقة الراحة..

لا أعرف كيف تمضي بنا سنون العمر سراعا هكذا، من رضيع إلى طفل مشاغب يحب كل شيء و يدهشه كل شيء إلى مراهق عنيد صعب المراس يرى نفسه الوحيد الذي احتكر الحقيقة و اطلع على بواطن الأمور.

نشأت في حي شعبي بوسط البلد في أسرة متوسطة، وكنت عكس إخوتي و معارفي أميل إلى الهدوء والتروي.. أعشق السينما و الكتب، محب للعزلة. ليست تلك العزلة الزائفة الكاذبة التي يدعيها رواد الانترنت وهم في الحقيقة لا يكفون عن الطنين هنا و هناك مالئين الدنيا صخبا.. لا أبدا.

عزلتي المحببة هذه ستنتهي إجباريا، فبعد أيام قليلة ستبدأ السنة الدراسية الجديدة و تختلط الكلية بوجوه قديمة كالحة، وأخرى نضرة جديدة تمتلىء حماسا وشوقا لما هو قادم.. لكن هيهات بالنسبة لي فالجامعة لغز شديد التعقيد. فأنا و بكل صراحة لا أعرف بصفة دقيقة ما أفعل هنا؟ أو ما يفعله الإخوة الزملاء هنا؟ بل و حتى السادة الأساتذة.. فقط نأتي ثم نعود كل يوم، دون أي جديد. و الأمر برمته يشبه أسطورة سيزيف إن كنتم تفقهون ما أقول.

إقرأ أيضا : المتمرد

فجأة لمعت في ذهني لقد “عرفت الحقيقة المروعة لا أحد يعرف شيئا على الإطلاق.. نحن فقط نتظاهر بالحكمة والعلم “

لم أعد أطيق نفسي و غمامة السلبية هذه التي سيطرت علي مؤخرا. فتحت هاتفي من أجل بعض المرح فوجدت أحد الأذكياء على إحدى الصفحات الفايسبوكية سأل متابعيه سؤالا مهما :

ــ ما هي البلد التي تشتهر بالمعكرونة و البيتزا؟

كما ترون هذا السؤال رائع ويجب شنق كل من لا يعرف الجواب..

كان هناك تعليق لحساب مسجل باسم شاب يقول : إيطاليا.

كدت أطير فرحا، لكن جوابه ظل خاليا من الإعجابات والردود .. لا يهم، لكن تحته مباشرة حساب مسجل باسم فتاة يجيب بنفس الجواب ” إيطاليا “حسنا، الصدمة أن تعليقها تهاطلت عليه مئات الإعجابات و عشرات الردود المستحسنة التي تشكر عبقريتها الفذة. وربما يكون بريدها يكاد ينفجر من عشاق العلم والمعرفة الذين يرجون صداقتها بكل براءة، فقط لينهلوا من بحر علومها. ليس هناك أي فرق بين إيطاليا التي كتبها هو أو هي .. لكن هي تبقى هي إن كنتم تفهمون ما أقصد .. سريعا شعرت بالملل و أغلقت الهاتف لأستسلم للنوم..

استيقظت و أنا أشعر بنشاط كبير، فاليوم موعد بداية السنة الدراسية الجديدة .تجهزت سريعا و غادرت البيت.. كانت الكلية كعادتها كل سنة، الكل يرتدي ملابس جديدة و يحاول الظهور في أبهى حلة إيذانا ببدء موسم الحب و التزواج. كنت أسير ببطء متجها إلى المكتبة حتى لاحظت في ركن قصي شابا و فتاة مختليلن ببعض و سمعت أحدهما يهمس للآخر :

ــ أحبك ٫٫٫ أحبك إلى الأبد.

ليرد عليه الطرف الآخر :

ــ و أنا أيضا أحبك..

توقفت عن السير لبرهة، نظرت لهما شزرا و كدت أصرخ و أقول :

” كفوا عن هذا أيها الحمقى، الحب ينتهي دومًا بالفراق أو الزواج.. ثقوا أن هذه اللحظات لن تدوم ..”

إقرأ أيضا : الغريب – قصة قصيرة – (فانتازي-رعب)

لكني تراجعت في آخر لحظة و فضلت أن أبقي رأيي لنفسي .. لقد أصبحنا نحيا في زمن غريب، زمن انقرض فيه الحوار و النقاش و أصبح الكل سعيدا بأفكاره و معرفته و يثق تماما أنه لا يناقش، بل هو قادر على تغيير العالم بضربة واحدة.

طبعا لقد حاولت سابقا إجراء نقاشات مع الغرباء كلها باءت بالفشل و الإحباط.. كل طرف يتكلم فقط ليفرغ ما في جعبته و لا يعبأ أصلا بما عند الآخرين، بل هو ربما لا ينصت لك أصلا والكل سعيد ببضاعته.

انتهت ساعات الدراسة الرسمية و غادرت متجها إلى بيتي. لحظة نزولي من الحافلة لاحظت جمعا كبيرا من الناس فتحرك الفضول داخلي، واقتربت منهم لمعرفة ما يحدث. كان هناك رجل قد تبعثرت ثيابه و تغطى وجهه بالدم و الجمع منهال عليه بالضرب وهو يقسم لهم أن تلك السيدة التي تشاجر معها زوجته ..

سألت أحد الأشخاص :

ــ ماذا يجري يا أخي؟

أجاب:

ــ لا أعلم بالتحديد.

سألته بعجب:

ــ هل كنت تضرب الرجل دون سبب؟

ــ في الحقيقة لقد رأيت الناس تضربه فتدخلت، ثم ليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء الرجال المحترمين على خطأ و يضربون شخصا غير مذنب!

قلت في نفسي: كلامك سليم و هذا هو منطق القطيع..

تدخل أحد المتحمسين في الحوار و أردف :

ــ لقد رأيته يصفع امرأة و لما تدخل الناس بينهما قال أنها زوجته.

فأجبت :

ــ رجل اختلف مع زوجته فصفعها، ما دخلكم أنتم؟

ــ و ما دخلك أنت؟

تراجعت إلى الخلف و غادرت، فلن أطيل الجدال مع هكذا أشخاص، صدق من قال أن ” الغوغاء إذا اجتمعوا غلبوا و إذا تفرقوا لم يعرفوا “

إقرأ أيضا : صراع العروش .. الجزء الثالث

عدت إلى البيت بخطى بطيئة و أنا أجر نفسي حرفيا، لم يعد بيدي حيلة و أنا أشعر بخواء رهيب.. وجودي أو عسكه لن يؤثر بشيء.. أعلم أن منظر جنازتي سيكون مهيبا و ستخشع الوجوه و ربما تدمع بعض العيون لكنهم بمجرد وضعي داخل تلك الحفرة و يعودون إلى بيوتهم سيبدؤون بنسيان كل شيء بسرعة. و مع أول وجبة طعام و الشعور بالانتفاخ المحبب سيبدأ المزاح، ربما سيلقي أحدهم نكتة صغيرة حذرة و تظهر قهقهة خجولة ثم تتبعها قفشات أخرى .

دخلت مباشرة إلى غرفتي وأخرجت الحبل الذي كنت أخفيه لمثل هذا اليوم.. علقته في السقف و صعدت إلى الكرسي، فكرت قليلا .. ثم عدلت عن قراري، لا تزال هناك أشياء جميلة تستحق ..

فجأة صرخت بقوة و لم أقدر على نزع الحبل من عنقي، لقد انكسرت رجل الكرسي و هويت إلى أسفل .. لحظة سقوطي تذكرت والدتي و هي تلح علي عدة مرات بإصلاح ذلك الكرسي.

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

مصطفى 2018

- الجزائر - للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى