سيزيف الجزء الأول
و كانت تتجوّل في الكوخ , شبح السيدة مريم |
***
لم أكد أتم عامي السادس حتى غيّب الموت والدتي , إثر سقوطها عن الدرج في إحدى أمسيات الصيف ، في كوخ المزرعة , الذي إعتدنا على قضاء الإجازة فيه , بعيداً عن ضوضاء العاصمة و زحمتها.. و لذلك لا املك ايّ ذكرى لها في ذهني , عدا بعض الصور المشوّشة و الضبابية .
كانت وفاتها بمثابة الحدّ الفاصل بين مرحلتين في حياتي : مرحلة الطفولة و براءتها , و بلوغي المبكّر…
كما ان الحادثة جعلت والدي يغلق كوخ المزرعة المحبّب إلى قلبه إلى الأبد , و منعنا جميعاً من الإقامة فيه أو حتى زيارته ! … بل و حرمه على نفسه , بعد أن كان ملاذه الوحيد.
***
و في إحدى الليالي ..و بينما كان والدي في إحدى رحلات عمله , هاتفنا “محمود” الحارس الذي كُلّف بحراسة الكوخ و حمايته من اللصوص ، و قد تملّكه الرعب و كاد يُذهب عقله ، قائلاً : بأنه قد رأى نوراً خافتاً صادراً من الكوخ في منتصف الليل ..و لما ذهب ليتحقّق من الأمر ، أحسّ بحركةٍ غريبة في غرف المنزل , و كأن هناك من يراقبه عن بعد ! و مع ذلك , فقد ذهب لتفقد ما يحصل .. و ما إن اقترب من الكوخ , حتى سمع وقع أقدام .. و صوت صفق بابٍ , إرتعدت له فرائصه .. فظنّ بأنه لصّ قد غافله و تسلّل إلى المنزل .. فسحب بندقيته و فتح باب الكوخ , و مشى على رؤوس أصابعه , حتى لا يفطن إليه اللص و يلوذ بالفرار … و قد بحث في كل الغرف و لم يجد أثراً لمخلوق ! فظن بأنه ربما يكون طيراً او حيواناً .. فأنار الأضواء , علّه يظفر بضالته , و يعود إلى نومه الهانئ في غرفته القريبة..
و فجأة !! إنقطع التيار الكهربائي ..و وجد عم “محمود ” نفسه وحيداً في الظلام الدامس ! فأخذ يتلمّس طريقه إلى القبو مذعوراً .. و قد زاد من هلعه , إنعكاس ظلال بعض التماثيل التي يعجّ بها الكوخ ، على ضوء البدر المتسلّل من شقوق نافذة القبو …سلك الرجل طريقه بصعوبة بين قطع الأثاث و التحف ، مُتجهاً نحو القبو .. أين كان مولّد الكهرباء ؟!! قالها بضيق .. و ما كاد يصل اليه , حتى مزّقت صرخة قويّة سكون الليل !! فارتعب العم “محمود” ! و سقط أرضاً , و سقطت منه بندقيته ..فنهض مُسرعاً يتلمّس الأرض , باحثاً عن سلاحه , و هو يلهث بخوف
و في تلك اللحظة .. سمع وقع أقدام تدقّ درج القبو الخشبي , مُتجهة صوبه .. فتنبّه الحارس و أخذ يزحف باحثاً عن بندقيته الواقعة على الأرض , إلى أن سمع طرقاً شديداً على الباب !!! و صوت زمجرة و عويل مكتوم , و كأن مخلوقاً ملعوناً قد عُتِقَ من عقاله , و إندفع نحو الرجل يريد به السوء..
فما كان من العم “محمود” الا ان أطلق ساقيه للريح , و هو يصرخ متعوّذاً , يتلو آيات بلسانٍ متلعّثم , و يطلب الصفح و الغفران .
***
أثارت رواية الحارس سخرية الدادة “جيهان” مربيتي الجامعية ، المُثقفة ..و لم تصدّق حرفاً مما قاله .. بل طلبت منه أن يتأكّد مجدّداً , لأنه لا يسعها أن تنقل روايته الساذجة و المستحيلة إلى السيد .. لكن الحارس اخبرها : بأنه يرفض العودة الى الكوخ رفضاً قاطعاً !! و طلب منها إبلاغ “السيد سليمان” بالحادثة فور وصوله…
لكن آثرت “جيهان” أن لا تبلّغ والدي بهذيان الحارس “محمود” و خرافاته .. فطويت حادثة الكوخ , لكن ليس لوقتٍ طويل..
***
فبعد شهرين و نيف على تلك الواقعة , أقبل العم “محمود” إلى قصر السيد في العاصمة (لأول مرّة) و طالب برؤيته لأمرٍ هام… كنت يومها ألعب مع كلبي في الحديقة .. بينما جلسا (غير بعيدان عني) والدي و العم “محمود” , و هما يتحدثان عن أمرٍ ما ..
و قد بدا العم “محمود” شاحباً و مذعوراً .. و كان يتحدّث بإضطراب , و يلوّح بيديه في الهواء باستمرار , و هو يصف لأبي ما رآه من أحداثٍ مرعبة , تكرّرت للمرّة الثانية في الكوخ.
و قد أثار إنفعال الحارس فضولي .. فقطعت لعبي المملّ ، و إقتربت بحذر من مجلسهما .. فسمعت العم “محمود” يقول بصوتٍ مُرتعش :
-أنا متأكد مما قلته لك يا سيدي .. أيّا كان من تسلّل إلى الكوخ ليلتها , فهو بالتأكيد ليس إنساناً !
فأجابه والدي ببرودته المعتادة , ساخراً : و ما هيأته إذاً ؟ بعبعاً ام جنيّاً ؟ أم شيطاناً ملعوناً ؟
لاذ العم “محمود” بالصمت ..و هو لا يفتأْ يسترق النظر إلى والدي , و كأنه يريد الإفصاح عن أمر ..
و جاء ردّ والدي المتبرّم : صمتك لا يطمئنني يا محمود ! أفصح بوضوح عما تريد قوله
و هذا ما شجّع الكهل على الإعتراف له , بما يدور في ذهنه منذ الليلة الأولى :
-في الحقيقة يا سيدي.. اظن انّ …. ما لمحته في الكوخ .. أظنّه شبح المرحومة “مريم” سيدي
إنتفض والدي بعصبية , و صرخ في وجه العم “محمود” : كيف تجرأ أيها الخرِفْ , أن تتفوّه بكلامٍ كهذا عن زوجتي المرحومة ؟!!
أسرع الرجل و إنقضّ على يد والدي يقبّلها مُعتذراً , طالباً الصفح : اُعذر وقاحتي يا سيدي .. و أرجو حقاً أن يكون كل ذلك كابوساً أو مجرّد تخاريف.. فأنا رجلٌ بسيط .. لكني أقسم لك !! بأن ما رأيته و سمعته في الكوخ لم يكن ضرباً من الخيال.. بل كان أمراً لا يصدقه عقل !
***
كنت في السابعة من عمري آنذاك .. و أذكر بأنني عجزت عن النوم في تلك الليلة ..فكلما داعب النعاس أجفاني , عاد كلام العمّ “محمود” عن شبح والدتي يرنّ في أذنيّ ، فيزرع في قلبي الخوف و الرعب .. مما دفعني إلى مغادرة غرفتي و التوجّه إلى غرفة الدادة “جيهان” و التي رغم صرامتها , الا انها أشفقت عليّ , و سمحت لي بقضاء تلك الليلة في فراشها.
اما والدي و بعد زيارة حارس الكوخ لنا , قرّر بعدها بأيام أن يذهب بنفسه للتحقّق من الأمر ..
فقضى إحدى الليالي في المزرعة .. لكنه عندما عاد الينا , كان عاجزاً عن تمالك نفسه ! فقد بدت عليه رغم تماسكه الظاهري , علامات الخوف و التوجّس التي رافقته لأيام بعد عودته من المزرعة.
و قد أكّد تهامس الخدم في القصر , ما شكّكت فيه .. فقد كان الجميع يتناقلون ما عاينه السيد بنفسه في ليلة الرعب التي قضاها في كوخ المزرعة .. فلم تكن رواية العم “محمود” هلوسة و لا تهيّؤات ، كما ظنّ الجميع .. فالكوخ كان بالفعل مسكوناً بشبح امي “مريم” ! و هي تظهر مرة أو مرتين في الشهر ، ترتدي نفس الثوب الذي توفيت فيه ..و تتجوّل في الكوخ إلى بزوغ الفجر .
و كان سكان القرية المجاورة و حرّاس المزرعة و من ضمنهم العم “محمود” يروُون ما يتناهى إلى مسامعهم من صراخ السيدة المكتوم ، و اصوات اخرى غريبة كصوت أزيز محرّكات أو أدوات منزلية ، و اصوات الطرق الأخرى … كما كانوا يشاهدون ضوءاً خافتاً مُنبعثاً من الكوخ , و ربما من القبو تحديداً .
و قد كانت هذه الظواهر العجيبة كفيلة بإبعاد الفلاحين و المتطفّلين عن الكوخ ، خاصة بعد أن نُسِجَت حوله الحكايات التي غذّاها خيال سكان الريف البسطاء ، و أضحت ضرباً من الأساطير الخرافية مع مرور السنين .
و قد فكّر والدي في عرض المزرعة للبيع , لكن لم يجرؤ أحد على شرائها ، بعد ما انتشر في كل المنطقة خبر الشبح و زياراته الشهرية .. فلم يكن من والدي إلا أن سيّج الكوخ , و طلب من العمّال و الفلاّحين عدم الإقتراب منه مجدداً .
و مرّت السنوات بسرعة ، و بلغتُ سن الثانية و العشرون .. و أضحى لغز كوخ السيد “سليمان” و شبح سيدته , قصة مرعبة ترويها الأمهات لأبنائهنّ الأشقياء في الريف.
***
لم يتزوج والدي قطّ بعد وفاتي والدتي .. و صبّ جلّ اهتمامه في تدليلي و تنفيذ طلباتي , مهما كانت مستحيلة او غريبة ..ربما كانت تلك الوسيلة الوحيدة التي تمكّنه من التعويض عن غيابه لأيام عن المنزل , في رحلات عمله التي لا تنتهي ..او ليكفّر بها عن جلوسه لساعات في مكتبته الضخمة , التي كانت بمثابة محرابه المقدّس الذي حُرِّمَ على الجميع تدنيسه.
و في غياب الأم و انشغال الأب ، تربّيت انا في احضان الخدم و المربيات .. و كلّما تعلّقت بإحداهنّ , رحلت لتأتي واحدة غيرها ! و لذلك تسلّحت بالبرود ..و انشأت من حولي مساحة خصوصية شاسعة , لا اسمح لأحدٍ كائناً من كان بإقتحامها .. مما حماني من مشاعر التعوّد و الألفة , و ما يليها من أحاسيس الفقد و الحنين و الألم .
كما لم أشذّ عن القاعدة التي تحكم حياة الورثة المستهترين ، الخاملين ، و المنغمسين في اللهو بكل اشكاله.
و سارت حياتي على وتيرة واحدة مُملّة .. فأحداث يومي تمضي وفق روتين لا تجديد فيه و لا تغيير ، إلى أن كان اليوم الأخير من شهر ديسمبر… كانت المنطقة الشمالية بأكملها قد تعرّضت لعواصفٍ لم يُسبق لها مثيل منذ عقود .. فانهمرت الأمطار غزيرة و إندفعت سيولها المُتلاطمة .. و فاضت الوديان و الأنهار ، و اُغرقت المدن و القرى المتاخِمة لمجاري المياه , مما اودى بحياة عددٍ كبير من الناس ..فأُعلنت حالة الطوارئ , و إستنفر الجميع طوال أسبوعين كاملين.
تلك الأمسية الأخيرة من السنة ، كانت أول ليلة رأس سنة أقضيها برفقة والدي منذ سنوات .. إذّ دأبَ كلاً منّا على إحيائها على طريقته .. لكن رداءة الطقس و المآسي التي خلّفتها تلك العواصف , جعلت والدي يُجبرني على ملازمة القصر برفقته ، فقبلت على مضضّ .
و لم يكد الربع الأول من السهرة يمضي , حتى طرقت بابنا فرقة من الشرطة ، تحدثوا مع والدي قليلاً ..
فطلب معطفه و مظلّته , و رافقهم دون أن ينبسَ بحرف !
يتبع …
تاريخ النشر : 2016-01-30