أدب الرعب والعام

الحلقة المفرغة

أنهى الأستاذ يوسف عمله في المدرسة و خرج متثاقل الخطى بعد يوم شاق كالعادة وسط ألعن مجموعة من المراهقين ذوي الشنبات النصف النامية والحبوب والهرمونات الصارخة والأصوات النصف خشنة لكن المزعجة حتما .. يسير ببطء تحت شمس حارقة . لماذا لا يغرسون الأشجار قال في سره ؟ فرد عليه صوت داخل رأسه :

« و لم لا تملك سيارة ؟ »

« أصمت عليك اللعنة . »

استرعى انتباهه صوت بوق عال ، التفت منزعجا ، فتوقفت أمامه سيارة فارهة لا يعرف حتى نوعها ، خرج صاحبها بطريقة استعراضية كأنه من نجوم السينما . كان هذا صديقه القديم ” حسام ” ، اقتربا منه ببطء ، و بعد السلام و السؤال الروتيني ، أشار لنافذة سيارته قائلا :

ــ أعرفك على زوجتي الجديدة « جولي ».

التفت إليها بمودة زائفة فانبهر من حسنها ، بينما نظرت إليه شزرا محيية إياه بهزة رأس و متمتمة بشيء بالانجليزية على طريقة أغنياء البلد . ابتسم يوسف ببلاهة مفضلا الصمت في حرم هذا الجمال الفتاك ..

قال له الصوت داخل رأسه :

« لا تشعر بالغيرة .. لا يوجد أي رابطة حب بينهما أنت تعرف كيف تجري الأمور .. مستحيل أن لا يجد رجلا غنيا فتاة لتحبه .. بل ربما تجد عدد محباته أكبر من عدد مرات دخوله الحمام . »

إقرأ أيضا: لعنة قلم ج1

فرد عليه :

« صدقت إنها مجرد ” قردة سيرك ” يستغلها لتسوية صفقاته . »

« كيف حال جيل المستقبل ؟ » قالها حسام و هو يبتسم بخبث .

اضطرب يوسف و تلعثم بينما صديقه القديم يجول ببصره من أخمص قديمه إلى جبهته متأملا ملابسه الرثة وحذاءه المتهرئ والعرق والغبار الذي يغطيان وجهه بعيون شامتة دون أي مداراة .. يتذكر يوسف لما كانا شابين و عرض عليه حسام مشاركته في مشروع تجاري، كان المبلغ المطلوب في حوزته لكنه فضل العمل في التعليم ، كان يوسف ومازال أكبر جبان في الجزء الشمالي من البلد .. فضل الراتب الثابت الصغير الذي يناله في التعليم عن المغامرة بدخول عالم التجارة . رغم أنه كان قد أعطاه موافقته المبدئية ، ثم تراجع مبررا أن تنشئة و تعليم جيل المستقبل أهم من أي شيء و النتيجة أنه أصبح هو وجيل المستقبل بدون مستقبل .

« أعتذر أنا مشغول » قالها يوسف و هو يهم بالانصراف ، فأمسكه حسام من يديه بكل بجاحة و قال :

« و ما الذي يشغلك إلى هذا الحد؟ هل تحضر لمارتون المشي مثلا » قالها و هو يبستم شامتا .

أسرها يوسف في نفسه و لم يرد على الاهانة و انصرف موليا الأدبار ، يعلم أنه لم يغفر له التخلي عنه في أصعب أوقاته ، لهذا فإنه يتعمد أن يكون وقحا كلما التقيا.


توجه يوسف إلى السوق ــ أبغض مكان إلى قلبه ــ لشراء حاجيات البيت التي لا تنتهي. السوق مكان مشؤوم حشرت فيه شياطين الجن و الإنس ، فيه يستنزف راتبه و جهده وعرقه . تجمع هنا أقوام لا يفقهون إلا الصياح و الكلام البذيء . قام بجولة خفيفة بين المحلات فتفاجأ بارتفاع جهنمي في الأسعار يقابله بضاعة لا تتمتع بجودة كبيرة ، توقف أمام أحد الباعة محاولا أن يستفهم سبب الزيادات الجديدة ، لكن نظرة حادة من عين البائع جعلته يكمل طريقه و لا ينبس ببنت شفة ..

اقترب من بائع آخرــ و الذي بدا له ودودا نوعا ما ــ و قال :

« من فضلك يا أخي ما سر هذه الزيادات .. هل نحن في حالة حرب مثلا ؟ »

« ماذا أقول لك يا سيد .. قانون العرض والطلب كما تعرف .. تبدو متعلما وتفهم هذه الأمور! »

كل شيء يبرر بقانون العرض و الطلب و التضخم.. وارتفاع سعر صرف الدولار.. و الغريب أن أغلب الباعة والمشترين لم يسبق لهم و أن درسوا و لو صفحة واحدة في كتب علم الاقتصاد .. المصيبة أن جلهم واثقون من كلامهم و علمهم ، و كأن الواحد منهم كان نديما لـ ” آدم سميث ” أو ” كارل ماركس ” ، لم ينتبه أنه أطال الوقوف بالمكان حتى صاح به البائع :

« هل تريد شيئا ما ! ؟ »

طلب منه أن يزن له من بعض الخضار و دفع له وهم أن يغادر ثم توقف و سأل البائع :

« هل أنت من أقرباء الكونت دراكولا .. أظن أنك تشبهه قليلا .. أليس كذلك؟ »

« لم أسمع به من قبل . »

« على كل حال هذا ليس اسمه الحقيقي . إنه يدعى فلاد الوالاشي و أنا متأكد أن شجرة عائلتك تنتهي إليه . »

قالها و غادر حانقا ، يعلم أن البائع الخبيث يستغله لكن ما باليد حيلة.

إقرأ أيضا: ضيف بلا ميعاد

لطالما تساءل يوسف في نفسه عن هذا القانون العجيب ، المنطق يقول أن كثرة العرض و قلة الطلب تخفض الأسعار .. لكنه وللمفارقة لم يسبق طوال سنوات عمره الأربعين أن سمع بسلعة انخفض ثمنها في بلده، الأسعار المجنونة لا تعرف طريقا إلا لأعلى.. تجول بين المحلات ليلاحظ جنون الغلاء و قد مس كـل صنف.. شـراء الفواكه أصبح خيالا علميا و الاقتراب من محلات الجزارين فيلم رعب .. بينما (السوبر ماركت) أصبحت تشبه بورصة (وول ستريت ) كل دقيقة أسعار جديدة .. ابتسم و هو يقول :

« شر البلية ما يضحك .»

أسرع إلى بيته ليضع المقتنيات في يد زوجته الحبيبة ، وغادر دون أن يطيل المكوث ليلحق بموعد الطبيب .. طال انتظاره رغم الموعد الذي حجزه مسبقا ، شعار البلد ” في التأني السلامة و في العجلة الندامة ” .. نادت عليه الممرضة بعد أن حان دوره فلحقها إلى حجرة الكشف .. لم يستغرق الفحص إلا بضع دقائق و كل الأسئلة التي وجهها للطبيب اكتفى هذا الأخير بهز رأسه و التبسم حينا و الإجابة بتحفظ في أحيان أخرى ، كأنه يدفع فاتورة عن كلماته أو يملك سر الخلود .. دون له الطبيب بعض الفحوصات واقترح عليه أن يجريها في عيادة (…) المحاذية لعيادته .

سبق و أن سمع من قبل بعض الهمسات تقول أن هذا الطبيب يتحصل على عمولة من كل زبون يرسله هناك .. طبعا لا دخان بلا نار . تفاجأ بتضاعف سعر الكشف رغم أنه كان هنا منذ أسبوعين فقط .. لكن من الأفضل أن يدفع له و يغلق فمه فهذا أسلم له .

عاد إلى بيته و تناول طعام الغذاء و نام قليلا كعادته .. بعد العصر يكون وقت الدروس الخصوصية التي يعطيها لطلبته . ضميره غير مستريح من هذا الدخل الإضافي فهو يتعمد في المدرسة أن يكون شرحه مبهما حتى يضطر طلبته إلى الدروس الخصوصية لكنه دائما ما ينجح في إقناع نفسه أن كسبه حلال و من عرق جبينه ثم إنه لا يسرق و لا يختلس كما يفعل (…) لو فهمتم قصدي .. بعد نهاية الدرس أخبر الأستاذ يوسف آسفا طلبته برفع سعر الدروس و طالبهم بمبلغ إضافي في الحصص القادمة .

جلس في صالة البيت يتناول كوب الشاي الذي أحضرته له زوجته .. أخبرها بارتفاع الأسعار و ما سينجر عنه من مشاكل لميزانية البيت .. ثم قال :

« آه لو سافرت إلى أوروبا في شبابي و عملت بالتدريس هناك، لكنت من الأغنياء الآن .»

ردت عليه ببرود :

« الحمد لله انك لم تفعل .»

« و لم ؟»

« لا أعلم يا عزيزي .. المهم هنا أحسن لك. »

« و لم تقولين هذا ؟ »

« أنت تعلم الفرق في المستوى بين المدرسين هنا و هناك .. لو سافرت لكشفوا أمرك في ربع ساعة وطردوك ، أنت تدرس الرياضيات هنا منذ خمسة عشر سنة و لم يسبق أن تعرضت لأي مشكل. »

إقرأ أيضا: ابن الشجرة

انتفخت أوداجه و احمرت عيناه و رد عليها :

« و هل كنت سألاقي مشاكل هناك ؟ »

« نعم بكل تأكيد .. ألا ترى علامات ابنتنا في مادة الرياضيات التي تدرسها أنت؟ كأنها درجات الحرارة في سيبيريا .»

« ألا تعلمين سبب تدني مستواها في الرياضيات رغم جهودي معها ؟»

« لا يا أخي .. ثم أنت المدرس هنا و أنت أعلم بهذه الأمور .»

« الذي أعمله أنك تسخرين مني و تريدين استفزازي .. ألا ترين أن ابنتنا ورثت غبائك . »

« آه .. فهمت و أين نصيبك من الذكاء في جيناتها ؟»

« نصيبي من الذكاء جعلها لا تعاني من تأخر عقلي ! »

يعلم أن زوجته صعبة المراس . لم يفلح في تغييرها نحو الأحسن ، فهي نكدية بامتياز ، سليطة اللسان ، كل ما تغير فيها طوال زواجهما أنها اكتسبت عشرات الأرطال من الدهون .

سكت قليلا ..

عادت به الذاكرة إلى زمن شبابه لما كان يعتبر الكتاب صديقه الأثير و المكتبة بستانه .. يذكر أنه و بعد أولى الاختلافات مع زوجته لاحظ سلاطة لسانها فأحضر لها كتاب ” النساء من الزهرة و الرجال من المريخ ” .. ظن أنها عاشقة للكتب مثلما أوهمته في فترة الخطوبة .. لكنه تفاجأ بعدها بالكتاب في سلة القمامة .. و لما سألها قالت :

« أنا لا أصدق هذه الخرافات .. لست من الزهرة.. أعلم نسبي جيدا .. أنا من دمنهور .. »

حاول أن يفهمها أن محتوى الكتاب ليس مثلما ظنت لكنها زجرته بحزم :

« أرجوك توقف ! لدي مشاغل كثيرة في البيت . اقرأه أنت إن كنت من المريخ أو البطيخ أو … »

بهت المسكين .. إن أقسى شيء في العالم أن تفشل في إقناع من تحب أن يحب ما تحب .. لكنه لم يدعها إلى القراءة من ذلك اليوم ، هو أيضا ليس بريئا إلى تلك الدرجة فقد أوهمهما أنها ستكون بعد الزواج الملكة المتوجة على عرش قلبه و ستعيش معه عيشة الدعة والرغد و أن الحياة ستكون وردية .. في النهاية انتهى مهرجان الخداع المسمى خطوبة .. و انتهت معه الأكاذيب و الألاعيب و لم تبق إلا الحقيقة ــ أكبر مظلوم في العالم ــ .. كل واحد منهما ظن أن صاحبه تغير عن فترة الخطوبة لكن الحقيقة أنهم لم يتغيرا مطلقا ، و إنما كل واحد ظهر على حقيقته .

الآن هي تعلم أنه في أسوء حالاته لكنها تجلس على الأريكة واضعة رجلا على رجل غير مبالية .. عيناها تراقبانه بثبات و تحد ، كأنها تقول هيا « افعلها و مد يديك علي إن كنت رجلا .. » ، الدم يغلي في عروقه من الغيض .. يهم أن يفتك بها .. ثم يتريث و يراجع الأمر في عقله ، لو ضربها فلن يتأخر شقيقها في القدوم و الانتقام منه ــ أكيد سينال علقة محترمة ــ و ربما يجد ورقة الطلاق على عتبة الباب بعدها ، إنه في حاجة لوجود زوجة تخدمه فهو كهل موظف في حالة صحية ضعيفة و لا يملك إلا راتبه الشهري المتواضع .. خياراته بعدها ستكون قليلة أو شبه معدومة ، غالبا الأشخاص في مثل سنه يصلون إلى مرحلة الإنجاز وتقدير الذات لكن المسكين يعيش في دوامة ضبابية أرضيتها الخوف من الغد و سمائها القلق و جدرانها التوتر ــ رفيقه الدائم ــ .

إقرأ أيضا: جاءتنا امرأة

نهض من مكانه حانقا واتجه إلى الحمام .. غسل وجهه ليسكن غضبه يعرف إنها صريحة لحد الإيذاء ، قال له الصوت داخل رأسه ــ صوت ضميره ــ على الأرجح :

« هل تعلم أنك مسؤول عن هذا نوعا ما ، أين وعودك لها بحياة وردية ، ألا ترى أن المسكينة صبرت طويلا على الواقع المر من فقر و جفاف عاطفي ؟ »

قال يوسف :

« ألا تعلم أن كل خاطب كاذب .. ثم ما ذنب يوسف أن النساء يصدقن كل ما يسمعن » ارتدى جلبابا واسعا وخرج متوجها إلى مقهى الحي .

في الطريق أوقفه أحدهم :

« عفوا يا أستاذ .. هل تدلني على بيت السيد (…) .»

« نعم .. في الحقيقة سأمر بالمكان .. اتبعني. »

« شكرا لك .. هل لديك سيجارة ؟»

« نعم تفضل .. لا تقل أنك لا تملك ولاعة أيضا .»

ابتسم الغريب و غمغم :

« لا . لدي واحدة .»

استغرب يوسف من تصرف صاحبه .. يعلم أن إيقاف غريب في الطريق في أي بقعة من العالم أمر مثير للريبة .. لكن أن يقودك هذا الغريب إلى مبتغاك بنفسه ويعطيك سيجارة فهذا يعني أنك في بلدنا الحبيبة .
بعد الوصول تفاجأ أنه هناك فرحا يقام بالمكان و لمح أحد أصحابه الذي لم يتردد في أن يدعوه للداخل وقدمت له أصناف الطعام و الشراب كغيره من المدعوين ..

بعد الانتهاء من الأكل أمسكه صديقه من يديه وقاده إلى مجلس به علية القوم يتوسطهم رجل ضخم يرتدي جلبابا بلديا وعليه شارب كث و تظهر على ملامحه سمات الخطورة و الاعتداد بالنفس .. بدأ يوسف يصافحهم مركزا عينيه على الرجل الصعيدي ــ كما يظن ــ ، يشعر في داخله أنه يخيفه ، لا شك أنه يذكره بوالده ، قال له صوته داخلي :

« نعم .. واضح أنه من النوع الذي إذا أمر يطاع و إذا … »

سكت فجأة شاعرا أن عظام كفيه يتطرقعان .. يا للهول .. يده في يد ذلك الرجل المخيف .. يعصرها بقوة متصفحا وجهه بعيني صقر ، ثم قال بصوت غليظ يليق بهيئته :

« الشيخ عطية من أعيان الصعيد ! »

يشعر أنه يكاد يختنق ، ابتلع ريقه و رد عليه :

« الأستاذ يوسف من مفلسي القاهرة . »

إقرأ أيضا: الطريق إلى المنارة

ثم انزوى في ركن قصي وجلس إلى زمرة من المدخنين ، دارت بينهم محادثات لطيفة و هم يمررون بينهم الأرجيلة و أكواب القهوة و الشاي كأنهم أصدقاء طفولة ، رغم أنهم لم يلتقوا إلا بهذا الحفل اندمج مع جلسائه و انبسطت أساريره منهم . و شيئا فشيئا أصبح يبتسم لأحاديثهم وطرفهم ثم يضحك و أخيرا يقهقه ملء فيه .


عاد إلى بيته ووجد ابنته الصغيرة جالسة على الأرض بكل هدوء و ترسم شيئا ما فسألها:

«ماذا ترسمين حبيبتي؟»

« أرسم بابا و ماما لما كانوا عروس وعروسة .»

«أرني أنظر .. لكنهما يبدوان عابسين لماذا ؟»

« أنا التي جعلتهما سعيدين يا بابا .»

قالتها بكل براءة و هي تقفز في حضنه و تقبله .

حملها إلى غرفتها لتنام و هو ضاحكا مستبشرا و يحدث نفسه :

« ما زالت الدنيا بخير.»

دخل على زوجته فوجدها متهللة الأسارير ، على غير الوجه الذي تركها عليه ..

« خير إن شاء الله » قال يوسف .

ردت عليه بصوت ناعم لم يخرج منها منذ زمن طويل :

« خير يا حبيبي .. الحقيقة بعد مغادرتك طرق بابنا شخص ادعى أنه صديق قديم لك اسمه . لا أذكر جيدا ربما حسان أو شيء كهذا .. توجست منه في البداية لكن شكله و لباسه يدلان على هيئة رجل غني .. المهم ترك لنا هذا و أشارت إلى ظرف سمين موضوع على طرف السرير . »

حمل يوسف الظرف و فتحه و كاد يسقط من الصدمة ، بينما زوجته تنظر إليه بطريقة ساحرة و تضحك ملء جفنيها ببراءة كالأطفال .


تمت

مصطفى 2018

- الجزائر - للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى