مذابح و مجازر

أطفال هيروشيما: حكايةُ أبطالها الأموات

هيروشيما مدينةٌ توجد على ضفة البحر الداخلي لليابان، تستوعب من القاطنة حوالي 300 ألف. في نهاية الحرب العالمية الثانية، تكبّدت أول قنبلة ذريّة والتي أُسقِطت على هيروشيما، خسائر وإصابات بشرية تُقارب 160 ألفًا. في عام 1951، طلب الدكتور أراتا أوسادا من ناجين، وقد كانوا ما يزالون أطفالًا في العام 1945 أي عام نهاية الحرب، أن يقصّوا عليه الوقائع التي شهدوها وعايشوها في سياق فاجعة هيروشيما.
بعد ثانية أو ثانيتين ..


يقتضي علي يوميًا أن أقوم بتسخين الماء للاستحمام، وعند تفرغي من ذلك فإنني أرجع إلى المنزل حتى أُتْمِمَ واجباتي المدرسية. وعند حلول الساعة الخامسة أذهب إلى محطّة الترام لِلُقْيا أختي وأبي، ثُمّ إننا نعود سويّة إلى البيت لتناول العشاء. كان هذا حال جميع الأيام في حياتي.
في صباح الـ 6 من شهر غشت، أُصيب أبي بنزلة برد وهو ما جعله طريح الفراش. قال أخي إنه سيتناول الغداء في المَصنَع الذي يشتغله فيه وهو ما لا يزيد على حبّارٍ مُجَفّف.
غادر الجميع ولم يظل في المنزل سواي وأبي وأمي وأختي الأخرى، فاستعددنا للتوجه إلى المدرسة.
أختي تذهب للمدرسة بمعناها الحقيقي أما أنا فأذهب إلى ما أُطلِق عليه بالمُلْحَقة، وهي في الحقيقة تكون معبدًا ليس ببعيد عن المنزل. تحدّثتُ وَرِفاقي عن الحرب. سمعنا صوتًا يقول : “تحذير جوّي.”
هممت بسرعة إلى المنزل وأنا ألعب فقد اعتدت على حدوث مثل هذه الأمور. انتهى التحذير وعدت للمدرسة. لم يعد المُدرّس للفصل فاستأنفنا أحاديثنا.
تناهى لمسامعنا صوت طنين فأبصرنا طائرةً في السماء تحلّقُ في الجانب الجنوب-شرقي. بدأت تقترب وتكبر شيئًا فشيئًا حتى مرّت من فوق رؤوسنا. إنّي في كلّ مرة أرى طائرة. لا يسعني القول يقينًا عما إذا كانت طائرة تعود لليابان أو إلى دولة أخرى. ثم ها هو شيء من مثل من مِظلَّة”باراشوت” بيضاءَ تسقط. مرّت خمس أو ست ثوانٍ على ذلك فإذا بكل شيء يصبطغ بالأصفر. كان الأمر أشبه بتأثير الشمس عند النظر إليها. بعد ثانية أو ثانيتين، حدث انفجار. كان الصوت مُدوّيًا بحقٍ.

blank
القصف الذرّي على هيروشيما وناجازاكي هو هجوم نووي شنته الولايات المتحدة ضد الإمبراطورية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945، قامت الولايات المتحدة بقصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي باستخدام قنابل ذرية بسبب رفض تنفيذ إعلان مؤتمر بوتسدام وكان نصه أن تستسلم اليابان استسلاما كاملا بدون أي شروط


غدا كل شيء حالكًا مُسودًّا، وبدأت الأحجار وقرميد الأسقف يتساقطون على رؤوسِنا. فقدت الوعيَ لبعض الوقت. ألفيت نفسي عالِقًا تحت كومة من ألواح خشبية تضغط خِصري وانتابتني رغبة في أن أقول: “كفى، هذا مؤلم ..” فالألم هو ما أعاد إلي وعيي. أسرعت لأن أتملص من تحت الألواح. كان ثمة الكثير من الناس مُمَدّدين على الأرض وقد كان أغلبهم محترقي الأوجه. دلفت إلى الشارع وأطلقت تنهيدة ارتياح بيد أن يدي اليمنى طفقت توجِعُني. لاحظت أن جلد ذراعي قد تقشّر بدءًا من مرفقي حتى أصابعي ثم إنه كان مُحْمَرًا. أردت الدخول إلى المنزل من فوري، فحاولت التوجُّه إليه فإذا بي أسمع صوتًا يُناديني : “سومي تشان ..”
التففت وأدركت أن النداء كان يصدر عن أختي. كانت ثيابها أشبه بالأسمال وكان مُحيّاها مُتغيِّرًا جدًا وهو ما أفزعني.
ذهبنا إلى منزلنا سويةً، وعند وصولنا وجدناه مُدمرًا عن بكرة أبيه ثم إننا لم نجد أحدًا. بحثنا في الحيّ ثم عدنا أدراجنا ونحن نجول بأعيننا في كل مكان فإذا بنا نرى أبانا.
كان يجرّ في سقفٍ كما لو يحاول استخراج شيء من تحته. بدا عليه أنه استسلم ثم دنا مِنّا.
أخبرته : “أمي ؟” فأجابني بصوت مُنهك : “لقد ماتت.”
شعرت كأنني تلقيت ضربة في رأسي. تبلَّدَ ذِهني فلم يسعني التفكير في شيء.
بعد هُنَيْهَة، سألني أبي : “ماذا حلّ برأسك ؟”


بادرت بلمسه أي رأسي فكان مُلطّخًا كثيرًا بالتراب. وسَاعَةَ بَسَطْتُ يدي على عنقي ألفيتها مضرّجّة بالدماء كثيرًا. توفيت أمي مُباشرةً بعد تلقيها مسمارًا بطول 12 سنتمترًا اخترقَ جُمجُمتها.
بعد وقت قصير، بدأت الأمطار تنهمر عَكِرةً فأسرعنا إلى الاختباء تحت جسر للسكك الحديدية.
كان الجسر يبرد عند ملامسته الماء وكان يُصدِر صوتًا متقطعًا خفيفًا نتيجة لذلك.
عندما توقف المطر، أصبح الجو باردًا على حين غرّة. اقتربنا من منزل كان يحترق حتى نتدفأ من نيرانه. كان الناس غيرنا يفعلون المثل. لم يكن بالكاد أحد سليمًا بينهم فقد كانت أوجههم مُنتخفة وشفاههم مُسودّة اللون.
كان أحد منهم يُلوّح بالعَلَم الياباني كفاقد العقل صائحًا : “بانزاي ..”
وكان آخر يمشي في دوائر زاعِمًا : “أنا جنرال ..”
كان الظَمَأ يحزّ حلقي لذا ذهبت إلى جَدْوَلٍ لأشرب. بالقُرْبِ من منبعه توجد جثث سوداء متفَحِّمة تطفوا. أزحتها حتى أشرب. على ضفاف الجدول كانت ثمة جثث متراكمة. ومن بين هذه الجثث كان هناك أشخاص لم يموتوا بعد إضافة إلى أطفال يصرخون قائلين : “أمي .. أمي ..”
حين رأيت هذه الجثث، وجدت نفسي معتادًا على المشهد بحيث لم أتأثر بالأمر أبدًا.
رأيت أشخاصًا يمشون مترَنِّحين حتّى ضفة المياه ويهوون إليها غارقين ببساطة. ثُمّ ها هِيَ أختي أيضًا، ولكن أيُعقل أن هذه أختي فالحروق تُغطيها كلها ؟ خرّت ساقطةً على الأرض. حملها أبي بين ذراعيه وأخذها إلى حيث يوجد بيتنا. في المساء، عاد أخي .. هممنا ببناء كوخٍ مؤقت لننام، لكننا ما استطعنا الخلود للنوم ونحن نسمع أصوات أناسٍ يستغيثون ويَئنّون ألَمًا. كنت أغفو وأستيقظ ثم أخلد للنوم مجددًا. استمر الوضع هكذا حتى حلول الصباح. غادر أخي إلى القرية عند منزل أبوينا ليجلب عربة ثم عاد على الساعة الثالثة مساءً. وضعنا من فورنا أختي على مَتن العربة وقد صعدتُ أيضًا وتوجّهنا نحو القرية.

هيروشيما
قتلت القنابل ما يصل إلى 140,000 شخص في هيروشيما، و80،000 في ناغازاكي بحلول نهاية سنة 1945


بمجرد أن وصلنا إلى المنزل الذي في القرية، انهار أبي .. أوَكان السبب في انهيارِه افتقاره للشجاعة ؟ .. عندما حطّ الليل، شعرت بالوحدة حقًا فأمي ماتت وقد كانت أمس في أحسن حال. لم ترجع أيٌ من أختيَّ. لم أجد القوّة حتى أنبس ببنت شفة. كنا في أذهاننا منفصلين عن الواقع مَغْشِيين إلى حدٍ ما. في هذا المساء، لم يُغالبني النوم بتاتًا. نهضت لقضاء حاجتي وناديت : “أمي.”
لكن أمي ليست على مقربةٍ بعد الآن. وَعيتُ أنها ماتت .. ولا يسعني أن أصِفَ لكم الشعور الذي خالجني بشدة الوحدة والحزن الذي انهال علي.
أجهشت بالبكاء من أعماق قلبي وروحي. بكيت بحُرقة أكثر فأكثر لكن ذلك لم يُعِدْ لي أمي. وكلّما فكرت في الأمر كان حزني يزداد وَطأة علي. فَهِمتُ أنّي لن أرى أبدًا من مِثلِ هذه الأم الحنون الطيّبة فأحسست كأني أختنق وشعرت بذهني مشوّشًا. استمررت في البكاء.
قالت لي جدّتي : “إنَّ أُمّك الآن في أحضان بوذا فلو أردت أنت تراها مرة أخرى، عليكَ بالصلاة على بوذا.”
ورغم أن أبي قد رآها تموت أمام ناظِرَيْه فلم يسعني تصديق ذلك.
مرّ بعض الوقت، فأصابتنا مصيبة أخرى. ففي الـ 15 من غشت على الساعة الثالثة .. ماتت أختي. أيقظوني وفي الوقت الذي استيقظت فيه كانت قد ماتت بالفعل. لا جَرَم أنها عانت في موتها فقد كانت عيناها مفتوحتان وبارزتان. ظننت في اليوم كله أنها ترمقني بنظراتها وبدون تفكير قلت : “أختي، أختي”، أخذت أُحرّكها قليلًا لكنها كانت قد ذهبت إلى أحضان بوذا أيضًا.


بدأ يعود أُناسٌ كانوا قد اختفوا عن الأنظار حتى الآن، الواحد تلوَ الآخر. ظننت أن أمي ستعود ربما. كان ينبغي لي أن أدرك أن الأمر لا يستحق العناء رغم أنني انتظرت. في هذه الأثناء، عاد أخي من الحرب. لكن لوقت طويل تلت أيام تطغى عليها العزلة أيامًا أخرى مثلها. لم يكن باليد حيلة فالأجدر تقبل فكرة أن أمي وأختَيَّ قد مُتْنَ بالفعل. ومع المرور الوقت بدأت أستطيع تقبل ذلك أكثر فأكثر.
لم نعثر على جسد أختي الكبرى بَيْدَ أن أبي حصل على بعض الرماد من حرقٍ جماعي للجثث يُمكن أنه شَمَلَ جسدها. لكن رغم كل مجهود لم أتمكن من نسيان أمي ولا أختيّ اللتان ماتتا واللتان كانتا تلطفان بي حقًا. كانت أمي دائمًا تُعِدُّ لي الحلوى أو شيئًا غير ذلك، وحتى لو غادَرَت المنزل كانت تعود دومًا لانتظاري حتى أعود بدوري من المدرسة. وحتى أختيّ فقد كانتا تُحضران إلي اللُّعَب والكتب كلما عادتا من عملهما. أمي الحنون، أمي الطيبة، رغم أنها قضت نحبها فأنا على يقين بأنها في مكان تملؤه السعادة. كثيرًا ما يُخيّلُ إلي أن أرى وَجْهَ أُمي يطفو في السماء أمامي. إنها ترتدي فستانًا بديعًا وإني لا أتبين فرقًا بينها وبين ملاك.
تقول لنا أمي دائمًا : “يا أولادي، تعاملوا بالود بين بعضكم البعض.”
بعد مضي كل هذا، عُدنا إلى هيروشيما وتزوّج أبي امرأة ثانية تكون أمي الثانية. لكن ثمة أشياء لا يسعني أن أُطلِعهها عليها. وفي هذه الأثناء أفكر : ليت أمي الحقيقة كانت معنا ..
لم أكن أفكر هكذا من قبل، لكن في يومنا هذا، إني أمقت من صميم قلبي شيئًا اسمه الحرب. فقد فقدت أمي الطيبة وأختيّ بسببها. لا أريد أن أربط حقدي بأي أحد تحديدًا بجعله المسؤول عن موت والدتي. لكن الحرب فإني أكرهها حقًا وأتمنى ألّا تتكرر هذه البغيضة أبدًا.
فالحرب عدو للجميع. إن استطعنا التخلي عن الحرب وإذا ما حلّ السلام، فأنا على يقين بأن أمي المتوفية ستسعد بذلك.

guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى