أدب الرعب والعام

التجربة 666: ولادة الشيطان

جلس منير على الأريكة، بينما ثبتت عيناه على ساعة الحائط وعلى البندول المتمايل يمينا وشمالا فأحس كأنه في جلسة للتنويم المغناطيسي إثر الصمت المريب الذي يعم المكان.. حتى قاطع تأمله ذلك الرجل المسن الذي أخذ يمشي في اتجاهه متمايلا كبندول ساعته، فجلس على الأريكة المقابلة للأريكة التي جلس عليها منير وتكلم قائلا بصوت مرتعش تكسوه بحة خفيفة:

” أرجو أني لم أجعلك تنتظر طويلا “

فأجابه منير:

“أبدا أبدا.. عذرا لم أقدم نفسي كما يجب، أنا منير الدمرجي حفيد عيسى الدمرجي أظن أنك تعرف جدي حق المعرفة”

فأجابه الرجل قائلا:

” لا أظن أنك أتيت إلى هنا دون أن تتحقق من ذلك.. فعلا كان جدك صديقي وزميلي في العمل منذ زمن، أظن أنك تعلم هذا أيضا، تشرفت بمعرفتك يا منير “

” الشرف لي يا سيدي، لقد قرأت عنك الكثير وبحثت عنك أكثر، علمت أنك كنت زميل جدي في العمل لمدة طويلة، ورأيتك تقف إلى جانبه في أحد الصور وهذا سبب قدومي، أعتقد أنك تملك إجابات لأسئلتي”

ابتسم الرجل ابتسامة خفيفة ثم أخذ نفسا عميقا ليقول:

” أرجو أن يكون لأسئلتك إجابات.. أو بالأحرى إجابات منطقية”

” لقد وجدت مؤخرا دفترا يحتوي على الملاحظات التي كان يكتبها جدي سابقا، لكن اعترضتني بعض الملاحظات التي لم تقدني سوى لمزيد من التساؤلات “

أنهى منير كلامه ثم اخرج من جيبه دفترا واخذ يقلب ورقاته حتى وقف على احدى الصفحات قائلا:

” التجربة 401 وصلت التجربة إلى نهاية مغلقة بعد أن أخذت الذبذبات تعيد نفسها على الرسم البياني مرارا وتكرارا في حركة دائرية لا نهائية عوضا عن رسم الخط الزمني المستقيم، النتيجة فشل التجربة نسبيا.. السبب مجهول !. اعتقد أنك تعلم ما حصل إذ كنتَ ضمن فريق العمل حينها “.

إقرأ أيضا : أوراق الزمن الأسود

نظر له الرجل لثوان ثم أجابه قائلا:

“حسنا إذا أعتقد أنك تسير على خطى جدك بطرحك لهذه الأسئلة، يبدو أن هذا الهوس وراثي في عائلتكم.. سأحكي لك ما حصل لكن أعتقد أنك على علم مسبق بما سأقول..

لقد كنا ثلة من العلماء والباحثين كانت قد وظفتنا الدولة لادإجراء بعض البحوث والتجارب ضمن مشروع يسمى شيفرة المستقبل، كنا نعمل على إنشاء آلة تمكننا من إرسال رسائل مشفرة للمستقبل عبر الذبذبات على أمل أن نستقبل بدورنا رسائل من المستقبل.. نظريا وحسب الدراسات التي قمنا بإجراءها كان الأمر ممكنا، لكن عمليا خالفت النتائج توقعات الجميع، إذ تبين لنا أن الذبذبات التي نقوم بإرسالها لا تسير نحو المستقبل بل كانت تعود لنا في كل مرة..

حينها أعلنت الدولة إيقاف المشروع إثر فشل التجربة، لكن كان الشخص الأكثر إصرارا على عدم إيقاف المشروع عيسى جدك، لقد كان يعتقد أن الآلة لم تفشل، و أن التجربة نجحت، بل أن أمرا آخر كان يتسبب في عودة الذبذبات، و عند إصرارا السلطات على إيقاف المشروع، أكمل عيسى العمل وحيدا في ملجأ العواصف المحاذي لمنزلكم أكمل بحثه في غرفة تحت الأرض..

إنه عبقري حقا ..لقد كنت على تواصل معه في تلك الفترة وكان يخبرني أنه يعمل على مشروع ضخم سيثبت أن التجربة 401 لم تكن فاشلة وأن الآلة التي قام بتصميمها أدت عملها على أكمل وجه.. إلى أن أتى اليوم الذي سبق الكارثة، لقد اتصل بي حينها وكان يهذي بجمل غير منطقية أو مفهومة، كان يتحدث عن ولادة الشيطان الذي سيتسبب في نهاية الزمان. وكان يخبرني عن الآلة التي صنعها والتي مكنته من رؤية مقتطفات من المستقبل داخل عقله..

أعتقد أن الهوس بمشروعه قد أذهب عقله في ذلك الحين، هذا أمر اعتيادي بالنسبه للعباقرة أمثاله، فلا تكون نهايتهم إلا بفقدان العقل، على كلٍّ ساخبرك بنظريتي عما حصل بعد ذلك .. أظن أن السلطات علمت بتجارب عيسى وأرسلت شخصا بغاية قتله، لكنه كان قد أحرق معمله في ملجأ العواصف قبل أن يتمكنوا من معرفة ما توصل إليه، لكن رغم ذلك أتى ذلك الرجل لا محالة وأطلق النار على عيسى مما تسبب في شلله الدائم، وأطلق النار على والدتك إذ كانت شاهدا على الجريمة و قد كانت في ذلك الحين حاملا بك. مما تسبب في ولادتك المبكرة و وفاة والدتك بعدها إثر فقدانها لكمية هائلة من الدماء..

إقرأ أيضا : تعويذة التحويل

لقى ذلك الحثالة جزاءه بطلقة في رأسه أطلقها والدك.. و كي تتأكد أن نظريتي صحيحة، أو ممكنة على الاقل، وأن ذلك القاتل مبعوث من قبل الدولة، عليك أن تعلم أن السلطات حاولت أن تتستر عليه بعد أن أعلنوا أنه شخص مجهول الهوية وأن بصماته غير مسجلة في الدفتر المدني.. وافترضوا أنه من خارج البلد و أنها جريمة فردية قام بها ذلك الرجل دون أن يعلم أحد دوافعه ..”

تكلم منير قائلا:

” هل كان آخر ما اخبرك به جدي أنه تمكن من صنع آلة لرؤية المستقبل ؟”.

” أجل هذا ما أتذكره”

” التجربه 666..”

” عذرا؟”

“لقد وجدت ملاحظة عن تجربته الأخيرة، كانت التجربة بعنوان 666 “

ثم قلب أوراق الدفتر حتى توقف على إحدى الصفحات فقرأ محتواها على محمد قائلا:

” إذ التزمنا بالقوانين الفيزيائية لنسيج الزّمكان، يمكن مشاهدة المستقبل عبر إبطاء سرعة الضوء على الآلة لتنخفض إلى 17 كلم في الثانية، وبذلك يمكن مشاهدة مستقبل المكان الذي تتم فيه التجربة دون أن تكون فاعلا فيه.. تجربة إبطاء سرعة الضوء رقم 666 عن طريق تبريد الغازات عبر الذبذبات الكهرومغناطيسية ، النتيجة: إنخفاض سرعة الضوء الى 16٫99 كلم في الثانية، نجحت التجربة”

أعتقد أن جدي لم يستطع أن يصنع آلة تقارب سرعتها سرعة الضوء، فقام بدل ذلك بإبطاء سرعة الضوء نفسه لتتمكن الآلة من الالتحاق بسرعته، وبذلك من الممكن انه تمكن من رؤية مقتطفات من المستقبل “

” أخبرتك أنه كان عبقريا لقد حطّم قوانين الفيزياء الحديثة عديد المرات، لكن أعتقد أن الزمن يعبث مع من يعبث معه، فقد أدى به ذلك إلى ما هو عليه الآن “

إقرأ أيضا : مذكرات الزمن

” في الواقع لا أعتقد أنه مجنون، لكن أعتقد أنه وقف على الخط الفاصل بين الجنون والعبقرية.. على كلٍّ سعيد لمقابلتك سيّد محمد أشكرك “

” لا عليك لم أخبرك سوى ما كنت تعرفه..”.


صافح منير العجوز محمد وهم بالخروج لكنه وقف فجأة وعاد مسرعا قائلا:

” عذرا سيّدي نسيت أمرا مهما…”

ثم أخرج من جيب سترته ورقة مهترئة و ناولها إلى محمد قائلا:

” أتساءل إن كنت تعلم ما كان على هذه الورقة، لقد وجدتها تلتصق على غلاف الدفتر ولم أتمكن من فهم محتواها..”

أخذ محمد الورقة وارتدى نظارته التي كانت معلقة على رقبته بخيط رفيع علّه يتمكن من قراءة ما عليها.. وكانت الورقة تحتوي على بعض المعادلات مع جملة كتبت على ظهرها غير واضحة بفعل الحبر الذي ساح على كلماتها .

قرأ محمد الورقة هامسا:

” أرجوك أرجوك..عد.. بيا.. لا أعلم حقا أعتقد أن بعض الكلمات قد محيت بفعل الزمن، ربما كتبها عيسى بعد تلك التجربة”

” على كل شكرا سيدي…”.

أنهى منير كلامه وغادر منزل محمد في عجلة من أمره فركب سيارته وغادر المكان، وبعد زمن من القيادة توقفت السيارة أمام باب حديدي كبير فنزل منير و فتح الباب ثم أدخل سيارته ليوقفها داخل تلك الباحة الكبيرة.. ثم أخذ يسير في ذلك الممشى المعبّد بحجارة متراصة جنبا الى جنب، حتى وقف أمام منزل ضخم يبوح مظهره بصموده منذ القرون الوسطى، كانت تحتل الشبابيك الضخمة أغلب جدرانه فكأنه منزل من الزجاج.. ومن خلف الواجهة الزجاجية للمنزل وقف ذلك الرجل ذو الشارب العملاق وقفة الجندي يطالع منير بنظراته الثاقبة، فبادل منير أباه منصور بنظرة مضطربة وأكمل طريقه نحو الباب، فدلف إلى المنزل وهمّ بالصعود على الدرج في عجلة من أمره وكأنه يتفادى أمرا ما، حتى استوقفه صوت أبيه:

” منير !”

” نعم أبي ..”

” أين كنت ؟”

“في المكتبة..”

” ألا تستحي؟ سنوات أنفق أموالا طائلة على دراستك وتعليمك فتجازيني بتسكعك طيلة اليوم دون عمل أو وظيفة!! لو لم تكن ابني الوحيد لأرسلتك للخدمة العسكرية “

” لقد أخبرتك يا أبي لكنك لا تستمع أبدا .. أخبرتك أني أعمل على مشروع سيغيّر حياتنا، سأجعلك فخورا بي…”

” ماذا ستخترع هذه المرة؟ آلة تطبع النقود !! أنظر إليّ عندما أكلمك !”

رفع منير رأسه قائلا بينما توقفت عينيه عن الحراك فجأة وكأنه في حالة من التأمل:

” الهاتف.. سيرن الآن !”

” ماذا؟”

فجأة رنّ ذلك الهاتف العتيق الموضوع فوق رخامة أحد الخزائن.. لمعت عينا منصور وظل يحدق بوجه ابنه بتعجب حتى توقف الهاتف فجأة، فتكلم منصور قائلا:

” هل.. هل كنت تنتظر مكالمة؟! كيف عرفت أنه سيرن؟”.

إقرأ أيضا : مصل الحياة

أجابه منير:

” لا.. لم أكن أنتظر أي مكالمة، لقد أخبرتك عن هذا الأمر الذي يحصل معي مؤخرا لكنك لا تنتبه كعادتك.. إنها ظاهرة يطلق عليها ”ديجافو“ حيث يشعر الشخص أنه عاش الموقف أو رآه من قبل أو حلم به، أخبرني الطبيب أن حبوب الدوبامين التي أتناولها هي ما تسبب تفاقم هذه الحالة، لكن ليس هذا ما يفترض أن تكون عليه هذه الظاهرة حيث من المفروض أن يحس الشخص أنه رأى ما يحدث و يتذكر ما يحدث في نفس وقت وقوع الحدث، لكن ما يحدث معي مؤخرا أني أحس أن بإمكاني معرفة ما سيحدث بعد ذلك، ولا يقتصر الأمر على التذكر فقط..”

ظل منصور يطالع ابنه بعينين ثابتين محاولا أن لا يبدي أي انفعال منه، ليتكلم قائلا:

” إذهب وأطعم جدك ، فطوره على الطاولة..”

ثم انصرف يصعد على الدرج .

اتجه منير إلى المطبخ فالتقط الطبق من على الطاولة الخشبية الفاخرة ثم اتجه إلى غرفة صغيرة في الطابق الأرضي، دفع الباب بلطف برجله و دلف فوضع الطبق على مائدة بلورية صغيرة وُضعت أمام ذلك العجوز الجالس على كرسيه المتحرك يطالع التلفاز بنظرات يغلبها النوم.

” جدي ، أحضرت لك الفطور “

أدار الجد رأسه ببطءٍ شديد ينظر إلى منير ثم تمتم بكلمات لم يتمكن منير من فهمها .

تكلم حفيده بينما كان يطعمه قائلا:

” لقد قابلت صديقك محمد” لم يجبه جده وظلت عيناه ثابتة على شاشة التلفاز فأضاف منير:

” لا أعتقد أنك مجنون يا جدي .. ليتك تخبرني ما الذي رأيته.. أقصد التجربة 666″

تكلم الجد لكن دون جدوى، فبحّة صوته وبطؤه عند الكلام يجعل من كلامه مستحيل الفهم .

حل الصمت بينهما لبرهة حتى أنهى منير إطعام جده، ثم صعد إلى الطابق العلوي واتجه إلى غرفته ففتح الباب ليرتطم بأحد الكراسي فتناثرت الكتب التي وضعت فوقه، لملم منير الكتب ووضعها فوق طاولته والتي كانت بدورها تتحمل وزن عشرات الكتب الأخرى. التقط علبة دواء كانت ملقاة على الأرض ثم ابتلع قرصا منها و ارتمى على فراشه فاستلقى على بطنه وأخذت يده تتدلى على أرض الغرفة ثم أخذ ينظر إلى كل تلك الأوراق التي احتلت جدار غرفته، فلم يشعر بالراحة فانقلب ليستلقي على ظهره ينظر إلى السقف..

أغمض عينيه حتى باغته النوم فجأة وأخذت حدقة عينه تتحرك بسرعة تحت جفونه وكأنه يشاهد كابوس، حتى انتفض فجأة من غفوته وأخذ يدور برأسه كالمجنون باحثا عن قلم.

اتجه إلى طاولته بسرعة حتى كاد يسقط فالتقط قلما وورقة وأخذ يكتب عليها بسرعة خشيت أن تندثر أفكاره، و بمجرد انتهائه من الكتابة رفع الورقة وأخذ يعيد قراءة ما كتبه وأخذ صوته يرتفع شيئا فشيئا حتى بدأ يصيح:

” لقد نجحت !!! وجدتها !! لقد وجدتها أخيرا !!”

إقرأ أيضا : أيام بلا ألوان

فتح الباب ونزل يجري على السلالم متجها إلى غرفة جده، دفع الباب بحماس وجلس على ركبتيه بسرعة فأمسك يد جده الذي كان نائما على كرسيه فاستفاق الجد ونظر إلى حفيده منير والذي كانت عيناه تكاد تنير من شدة حماسه:

” وجدتها يا جدي ! سأتمكن من إصلاح كل هذا سأعود إلى الماضي.. سأمنع ما حدث ! لقد تمكنتَ سابقا من إبطاء سرعة الضوء الى 17 كلم في الثانية أليس كذلك؟ لقد وجدت طريقة لجعلها مترا في الساعة، إن تمكنت من تجاوز سرعة الضوء سأعود إلى الماضي أليس كذلك!! سأستخدم كريستالة ”الباريوم تيتانيت المطعم بالكوبلت“ ثم سأقوم بمحاكاة لثقب أسود و…”

توقف منير عن الكلام وأخذ ينظر إلى دموع جده التي أخذت تنزلق على خديه بينما كان يحاول بكل جهد التكلم، فأخذ يعيد كلمة واحدة حتى باتت واضحة للسامع:

“أور..أوروب..أوروبروس.. أوروبروس”.

أخذ منير ينظر إلى جده دون أن يفهم سبب بكائه أو ما يحاول قوله فمسح له دموعه قائلا:

” أعلم أنك فخور بي يا جدي.. سأتمكن من تغيير الحاضر، وسأدعك تمشي مجددا.. سترى ابنتك مجددا، و سأعيش مع أمي للمرة الأولى..”

قبّل منير رأس جدّه بحرارة ثم غادر الغرفة في عجلة واتجه ناحية حاملة مفاتيح علّقت إلى جانب باب المنزل، فالتقط مفتاحا ضخما برونزي اللون، ثم فتح الباب وغادر المنزل.

اتجه مسرعا ناحية ملجأ العواصف، ففتح القفل وجذب الباب الحديدي ليفتحه على مصرعيه، فانبعثت منه رائحة الخشب العفن الممتزج برائحة شبيهة برائحة الفحم.. فتح الإنارة لتكشف عن تلك الفوضى العارمة التي تعم المكان.

كانت الكراسي المحروقة تحتل أرضية الملجأ الخشبية، والجدران السوداء تضفي مظهرا مخيفا للمكان فتجعل من الرؤية عسيرة حتى بوجود الإنارة ..

أخذ منير نفَسه بصعوبة وقال في نفْسه:

” أعتقد أن هذا المكان يحتاج إلى عمل أكثر من الآلة ..”

و لأكثر من أسبوع ظل منير يرمم ذلك المكان ليباشر بعدها عمله على الآلة، ولم يمر يوم واحد عليه لم يقضِ أغلبه في ذلك المكان حتى انقضت أشهر من العمل المستمر.

أنهى منير تعديل الأسلاك على تلك الآلة الضخمة ثم جلس على الأرض ومسح جبهته بكمّه وقال محدثا نفسه:

” لابد أن تعمل هذه الآلة، لا مجال للعودة الآن .. لكن قبل الذهاب أحتاج إلى شيء مهم، لأستطيع إصلاح ما حدث “

إقرأ أيضا : نيران صديقة – الجزء الأول

خرج منير من الملجأ وأخذ يمشي ناحية المنزل يفكر فيما قد يتغير في حياته بعد تغييره للماضي فارتسمت على وجهه تلك الابتسامة الخفيفة.

دفع الباب واتجه إلى الطابق العلوي فدلف إلى غرفة أبيه وفتح أحد أدراج الخزانة ليجد مسدسا بعثرت إلى جانبه بعض الطلقات.

لقّم المسدس و اخذ يطالعه و تكلم و كأنه يكلمه:

” لقد انطلقت منك رصاصة في الماضي لكن كان ذلك بعد فوات الأوان، أرجو هذه المرة أن تنطلق في وقتها..”

وضع المسدس في سرواله ثم غادر الغرفة ونزل على السلالم متجها إلى غرفة جدّه، فتح الباب و إذ بالجدّ يناظره بتلك النظرات الخاوية بأعين حمراء مغرورقة..

تكلم منير مخاطبا جدّه:

” جدي.. أردت أن أعلمك أني نجحت في صنع الآلة، أقصد نظريّا، إذ أني لم أجربها بعد، لكن أعدك أني سأبذل قصار جهدي لمنع ما حدث تلك الليلة..”

ظل الجد يطالعه بتلك النظرات دون أن ينطق بكلمة واحدة، حتى تكلم منير مجددا:

” على كل علي الذهاب الآن.. أرجو أن لا أتأخر، عند قدوم أبي لا تحاول إخباره بشيء”.

ثم غادر المنزل واتجه مسرعا إلى الملجأ فنزل على الدّرج وتقدم ببطء ناحية الآلة، ظل ينظر إلى تفاصيلها ويتأمل بابها وكأنه بوابة تقوده إلى جنات عدن.

التقط نفسا عميقا ثم تأكد من وجود المسدس في سرواله، ضغط بعض الأزرار فاشتعل ضوء أزرق اللون يطفو و يدور في حركة لولبية .

وقف للحظات يتأمل ذلك الضوء في حالة من الذهول والحماس، ثم تراجع إلى الخلف بعض خطوات ليندفع بقوة في اتجاه الضوء فارتمى ناحيته بكل ما أوتي من قوة..

اسودت الدنيا من حوله للحظات ليسطع فجأة ضوء أبيض عمّ المكان ثم انطفأ فجأة كما سطع..

فتح منير عينيه ببطء فظل تأثير الضوء على عينيه لبرهة ثم بدأ يتبين معالم المكان..

إقرأ أيضا : عواصف الغرام

وجد نفسه في ذات الملجأ، لكن كانت رائحة الحريق أقوى هذه المرة، وكان كل ما حوله أسود من جديد وكأنه لم يدخل المكان قط ولم يقم بترميمه.

أخذ يبحث عن الآلة فلم يجدها.. اتضحت له الصورة تدريجيا فوضع يده على رأسه وأخذ يتكلم بصوت مسموع كمواساة لنفسه:

” يبدو أنها نقطة اللّاعودة.. تبا كم أنت غبي !! إذا دخلت الآلة سنة 2027 وخرجت سنة 2000 فلن يكون للآلة وجود ، مما يعني أني نجحت في العودة إلى الماضي لكن لن أتمكن من الرجوع إلى المستقبل مجددا إلا إذا صنعت آلة ترجعني إلى المستقبل.. إنها نقطة اللاّعودة.. لكن على الأقل سأعيش حياة أفضل في نسخة أخرى من المستقبل.. تبا تبا لغبائك يا منير!!”

تمالك أعصابه لوهلة ثم قرر مغادرة الملجأ فاتجه إلى الدّرج آملا أن لا يجد الباب موصدا من الخارج، سحب القفل الداخلي للباب ليجده مفتوحا فاعتمرته فرحة فاترة وغادرته في الحين..

خرج ببطء واتجه متسللا إلى واجهه المنزل خشية أن يراه احدهم، بينما كان الظلام يسدل سواده على المكان ، تسللت إنارة طفيفة عبر الواجهة الزجاجية للمنزل تنير طريقه .

أخذ يختلس النظر من الزجاج فرأى تلك السيدة الجالسة على الأريكة تمرر يدها على بطنها المنتفخة بحركة لا إرادية، فنطق دون وعي منه:

“أمي!”

لكنه تمالك نفسه بسرعة وظل يطالع والدته التي يراها أمامه للمرة الأولى، كان يسمع ضحكتها المكتومة بينما كانت تشاهد شاشة التلفاز الخشبي لتنظر فجأة ناحية المطبخ فتغيرت ملامحها من الابتسامة الى الصرامة الممتزجة برهبة..

تقدّم ناحيتها ذلك الرّجل ببطء لكن لم تكن مشيته ثابتة، بل كان يغلبها الاضطراب والتردد.. فتكلم الرجل فجأة:

” لقد أخبرتك بما رأيته، لست مجنونا! كادت الأسلاك تحرق رأسي بينما كنت أشاهد دورة لا نهائية من الأحداث المتكررة.. يجب.. يجب أن نمنع هذا، وجب أن تتخلصي من هذا الطفل! ليس طفلا بل شيطان ..لقد رأيته! شيطان يخرج من بين الرماد ليجلب لنا الموت! سيتسبب في نهاية الزمن.. لقد رأيته يعيش بيننا لكنك لم تكوني معنا .. سيقتلك! لقد رأيت ذلك أقسم لك!!
رأيت نفسي أجلس على كرسي متحرك لبقية حياتي، لقد رأيت كل ما سيحدث .. رأيت كل تلك السنوات في بضع دقائق !! كان الأمر كالحلم، الثاني عشرة من إبريل .. الليلة، لو لم يمت فسينتهي الزمن الليلة !”

إقرأ أيضا : “تعالالي” يا أبي ..

قاطعته ابنته بينما أجهشت باكية:

” أرجوك يا أبي!! أرجوك لا تفقد عقلك إنه مجرد طفل طفل كباقي الأطفال .. أعتقد أن عملك المستمر ومكوثك المطول في تلك الحفرة قد أصابك بالجنون! أرجوك يا أبي أن تنسى كل هذا فلن يحدث شيء مما ذكرت، كيف لطفل أن يتسبب في شللك يا أبي !!! ماذا تفعل!!! منصور!! منصور!! “.

أجهش الرجل باكيا وتكلم بينما كان يوجه سكينا ناحيتها بيده المرتعشة:

” يجب علي فعل هذا أنا آسف يا بنيتي.. لكن لن أدعه يخرج من بطنك إلا جثة هامدة.. أنت لا تفهمين إنه شيطان..”.

بعد سماع هذه الكلمات انطلق منير يجري ناحية الباب فدفعه بقوة حتى انفتح على مصرعيه فأخرج المسدس بسرعة من سرواله ووجهه ناحية جده صارخا:

“توقف !! لا تتحرك، ألقي السكين من يدك !”

نظر إليه الجد ثم عاد ينظر إلى ابنته بوجه يخلو من التعابير قائلا:

” ها قد أتى.. أعتقد أن الأوان قد فات الآن، لقد حذرتك !”

أكمل كلمته هذه وأخذ يتقدم ببطء ناحيتها فأخذت ترجع إلى الخلف ببطء:

” قلت لك توقف !!”

أخذ الجد يتقدم أسرع فأسرع..

“توقف!!”

لم يكن الجد يبدي أي اهتمام بكلام منير، وظل يتقدم ناحية ابنته أسرع فأسرع ليرجع يده إلى الوراء استعدادا ليطعن بطنها، لكن كانت الرصاصات التي خرجت من مسدس منير أسرع من حركة يده.. سقط الجد على الأرض وقد استقرت الرصاصة في ظهره.

ظل منير ينظر إلى المسدس الذي استخدمه للمرة الأولى في حياته.. فجأة رفع رأسه ليرى أمه التي كانت الرصاصة قد أصابت أحد فخذيها، فاتجه ناحيتها مسرعا وجلس على ركبتيه يصيح في حالة من الهلع:

” لا تقلقي لا تقلقي لن يموت الطفل ! لن تموتي!” ورفع رأسه باحثا عن شيء قد يساعده لإنقاذها، فرأى ذلك الرجل الواقف بالخارج ينظر من خلف الواجهة الزجاجية والذي بمجرد أن رآه منير انطلق هاربا.

إقرأ أيضا : لا أريد الموت

فجأة انفجرت شاشة التلفاز الذي كان يحاذي منير نتيجة الرصاصة التي انطلقت من مسدس أبيه فأصابت التلفاز، نظر له منير في فزع بينما أخذ الأب يحاول من مكانه على الدرج التصويب على رأس منير .

وقف ابنه بسرعة وأخذ يجري ناحية غرفة جده فأغلق الباب بقوة وأدار المفتاح وظل يستوعب ما يحدث للحظات فأخذ يحدث نفسه بينما كان يجري في الغرفة كالمجنون:

” لقد كنت أنا منذ البداية !!الرجل الذي أطلق النار.. لقد كنت أنا طوال الوقت! أهذا سبب رؤيتي للأمور قبل حدوثها؟ يالغبائي.. لكن؟ لكن يموت ذلك الرجل على يد أبي!.. سأموت على يد والدي! لابد من وجود حل.. لابد من مخرج ..”

ارتعب منير من صوت ضرب أبيه للباب لمحاولة كسره فأخذ يصيح باكيا مخاطبا أباه بنبرة يكسوها اليأس:

” لا بد من وجود حل ! لابد من كسر الدائرة !! لا تقتلني يا أبي أرجوك أنا ابنك!”

صاح الأب من خلف الباب:

” سأفجر رأسك أيها المختل .. إفتح البااااب”

نظر منير بيأس إلى بعض الورقات الموضوعة على طاولة جده و التقط قلما كان موضوعا على دفتر صغير وأخذ يكتب على ظهر الورقة في محاولة أخيرة لتغيير المستقبل ” أرجوك.. أرجوك لا تعد، لا تكن غبيا أيها..” قاطع كتابته صوت القفل الذي انطلق من الباب كقذيفة بعد أن ضربه الأب بطلقة من مسدسه.. فتح الأب الباب ودخل سريعا في غضب شديد، وجّه فوهة المسدس ناحية وجه منير ، الذي كان في حالة من الفزع و اليأس و تكلم صارخا:

” لماذا فعلت ذلك !! أخبرني !! مالذي فعلته لك؟ لماذا تكلم تكلم!!”

أجابه منير بهدوء غريب:

” أعتقد أن الأوان قد فات الآن ، ستقتلني لا محالة، لقد كنتُ مخطئا ..أحيانا قد نعتقد أننا لو تمكننا بطريقة ما من تغيير الماضي سنعيش حياة أفضل، لكن ما يجب علينا فعله حقا هو تجاوز الماضي والعمل على الحاضر لتغيير المستقبل إلى الأفضل..”

قاطعت كلامه الرصاصة التي اخترقت جمجمته حتى غادرت الناحية الأخرى من رأسه منتزعة جزء هائلا من جمجمته ليسقط على الأرض جثة هامدة.

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا
guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى