أدب الرعب والعام

لا أريد الموت

بقلم : نوار – سوريا

شعرت بالاختناق وأخذت أهذي : لا أريد الموت ، مازال الوقت مبكراً على الموت
شعرت بالاختناق وأخذت أهذي : لا أريد الموت ، مازال الوقت مبكراً على الموت

إهــداء ..

إلى موقع كابوس الذي جعلني أكتشف قدرتي على تأليف وكتابة القصص ، والذي قضيت بعملي فيه أجمل الأوقات .  

إلى القراء الكرام الذين احتضنوا كتاباتي وكانوا لي الداعم والحافز لأقدم أفضل ما لدي .

إلى اياد العطار .. مشجعي الدائم على الاستمرار بالكتابة وصاحب الفضل على الجميع بإنشائه هذا الموقع الرائع . 

نوار
29 أيار 2019  

                                      – 1 –

اليوم عرفت بأنّي مصابٌ بسرطانٍ في الدم . كنت قد هيّأت نفسي لهذه النتيجة منذ أن طلب مني الطبيب إجراء التحاليل إلا أنني لا أُنكِر صدمتي ، وبتعبيرٍ أدق خيبتي ؛ فكلُّ واحدٍ منا في هذه الحياة يظن نفسه بطل الحكاية ، والأبطال عادةً مهما واجهوا من صعاب فإنهم سيتخطونها ، ومهما كانت لديهم خيارات فإن الموت ليس أحدها بالتأكيد . ظننت لوهلة أن الأمر برمَّته مجرّد مزحة ، لكن صمت الطبيب وسيماء الجد في محياه جعلانني أدرك بأنها الحقيقة ولا شيء سواها . أجل أنا مصابٌ بالسرطان ، ذلك المرض الذي يخشاه الجميع . الموت هو أول شيءٍ تبادر إلى ذهني بعد معرفتي النتيجة ، كيف لا وكل من أصيب بهذا المرض من معارفي قد مات ! خرجت من عند الطبيب وكلماته مازالت ترنُّ في أذني ” المرض في مرحلةٍ متطوّرة ويجب علاجه بأسرع وقت ، لا تيأس ولا تفقد الأمل ، كن قوياً ، فنفسية المريض تلعب دوراً كبيراً في علاجه ” .

لا أعرف إلى أين كنت سائراً ، وجدتُّ قدماي قد قادتاني إلى الحديقة العامة ، اجتزت بوابتها ، جلست على أقرب مقعدٍ فيها وأخذت أتأمّل الأطفال الذين يلعبون . رفعت بصري للسماء فوجدتها زرقاء صافية إلا من بعض الغيوم البيضاء المتناثرة ، إنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بجمال الكون ، ربما لأني منذ هذه اللحظة اعتبرت نفسي في عداد الأموات ، و بأنّي راحلٌ عن كلِّ هذا . 

دخلت المنزل أجرُّ قدماي جرّاً ، أطلّيت على أمي في المطبخ فاستقبلتني روائح الطبخ الشهيّة . إنها كبّة لبنيّة ، أكلتي المفضلة ، ترى هل ستكون المرة الأخيرة التي أتذوّق فيها هذه الأكلة ؟ كم يوماً بقي لي لأعيش في كنف أسرتي ؟ أسرتي دائم التذمر منها ؛ أبي الإنسان الصارم ، المستقيم ، والذي أراد مني تحقيق حلمه الضائع بأن أصبح طبيباً لامعاً لكني أبيت ، فلم أجد نفسي يوماً أميل لهذا المجال ، وأنا في هذه اللحظة نادم ، فلو درست الطب ربما لعرفت بمرضي في وقت مبكر ولارتفعت لدي نسبة الشفاء . وأمي دائمة القلق علي والتي تخنقني بحرصها الزائد عن الحد ، فأنا وحيدها على ثلاثِ بنات ، ماذا ستقول أمي عندما ستعرف أنّ المرض قد تجرّأ ونال من وحيدها الغالي ! أشفق عليها من معرفة الحقيقة . وأخواتي وأبناءهن الأشقياء ، أكاد أفقد عقلي عندما يجتمعن في نهاية الأسبوع ويمتلئ البيت صراخاً وفوضى . الآن فقط اكتشفت أننا كنا عائلة سعيدة ، ويا لغرابة اكتشافي وتوقيته !

استفقت من شرودي على صوت أمي تسأل :
– ما رأيك بالفكرة ؟
قلت متلعثماً :
– أيّة فكرة ؟!
فأجابت معاتبة :
– لي ساعة أكلّمك بشأن الرحلة التي أنوي التّخطيط لها مع العائلة وأنت سارح التفكير لا أدري أين !
قبّلت رأسها وقلت معتذراً :
– آسف أمي ، بالفعل كنت شارداً . على كلِّ حال خطّطي كما تشائين وأنا موافقٌ دون اعتراض . الآن عن إذنك أريد الذهاب لغرفتي .
– ألن تتناول الغداء معنا ؟ سيأتي والدك بعد قليل وسنضع الطعام 
هممت لأعتذر عن مشاركتهما الطعام ، لكن لم أشأ أن أُثر التساؤلات من حولي خصوصاً وقد طبخت أكلتي المفضلة ، وأنا لا أنوي إخبارهم الآن بمرضي ، لذلك طلبت منها مناداتي عندما يجهز الأكل .

دخلت مخدعي وجلست أتساءل عن شعور من يدركه هذا المرض الخبيث ، ماذا يفعل وفيمَ يفكر ؟ لم أكلّف نفسي سابقاً عناء التّفكير في هذا الأمر ، كنت عندما أسمع عن شخص لديه سرطان أو أقابله أتعاطف معه وأشفق عليه لكن بصراحة أنسى الموضوع بمجرّد أن يغيب عن ناظري . الآن أنا المصاب وقد أدركت أنّ أوّل تساؤلٍ يخطر في بال المريض هو لماذا أنا ؟ وبعد أن يستوعب الحقيقة يبدأ يفكّر بمراحل العلاج وكمية الألم الذي ينتظره والمعاناة التي سيعانيها ذووه معه ، ويتراءى له شبح الموت في كل نظرةٍ أو التفاتة ويشمُّ رائحته مع كلّ نسمة هواءٍ تهب .

أخرجت هاتفي من جيب سترتي وفتحته ، أخذت أصابعي ترتجف وهي تكتب في محرّك البحث “سرطان الدم”. دخلت على إحدى المقالات التي تتحدث عنه ، وما قرأته جعلني ألقي بالهاتف وأنتحب ، أجل لقد استسلمت لنوبة بكاءٍ كنت قد جاهدت ألا ينفجر أمام الطبيب ، أمام الناس السائرين في الشارع وأهم شيء أمام أمي . كيف لا أبكي وبتُّ منذ الآن لا أفكّر إلا بوحشة القبر . كيف سأدفن تحت التراب ، كيف سأوضع في حفرةٍ ضيّقة بالكاد تّتسع لجسدي . كيف سيبدأ جسمي بالتحلل ، هل سأشعر بكل هذا ؟! 

كفكفت دموعي ونهضت متوجّهاً إلى النافذة وألقيت نظرةً على الخارج ، بدأ الطلاب بالعودة من مدارسهم ، وها هم يحثّون الخطى للوصول إلى بيوتهم ، ممنين النفس بعطلةٍ ممتعة . وتلك أم رباح عائدة من عملها . بالتأكيد ستتوجّه مباشرةً -رغم تعبها- لتجهّز طعام الغداء ، لطالما تساءلت كيف توفّق المرأة العاملة بين عملها في الخارج وبين واجباتها تجاه زوجها وأطفالها ! وذاك مروان “الخضرجي” يزن طماطم لأحد الزبائن . يا الله إنه نهارٌ عادي كغيره من النهارات ، يفعل فيه الناس ما اعتادوا فعله كل يوم . لماذا لديَّ نقمةٌ عليهم وعلى الدنيا ؟ وكأنّي أريد من العالم أن يعلن الحداد حزناً من أجلي !! وما أنا سوى شخصٍ من بين ملايين الأشخاص على هذه الأرض ولن يفنى الكون بموتي . 

جاء صوت هاتفي لينتشلني من أفكاري ، وكانت المتّصلة مخطوبتي تالين . تُرى كيف ستستقبل خبر مرضي ؟ هي تنتظر أن يزفّوها إليَّ بعد شهرين وربما سأزفُّ إلى القبر قبل ذلك !

**

عدتُّ إلى حجرتي بعد انتهائي من تناول الغداء الذي لم أشعر أن له نكهةً أو طعم ، أكلت فقط لأبين لأمي أنّي جائع ومستمتع بالكبّة . كنت متعباً جداً لذا ألقيت برأسي على الوسادة وأغمضت عيناي مستسلماً للنوم ، نومٌ قطعه رنين هاتفي اللعين . مددتُّ يدي بتثاقلٍ باحثاً عن الهاتف ، التقطتُّه من على المنضدة وفتحت الخط ، فسمعت على الطّرف الآخر صوت امرأةٍ عرّفتْ عن نفسها بأنها ممرضة الطبيب سامي وتريد مني الحضور إلى عيادته بعد الظهر لأمرٍ هام . أصابتني الدهشة من هذا الاتصال لكني سأذهب على كل حال .

استقبلني الطبيب مرحّباً ، وما أن استقريت في مقعدي حتى بادرني القول وابتسامةٌ عريضةٌ مطبوعة على وجهه منذ أن دخلت :
– سيد جبران أقدّم لك شديد اعتذاري على الخطأ الذي حصل ، لكنّه غير مقصود صدّقني 
قلت ببلاهة :
– عن ماذا تتكلم ؟
أجاب وقد شبك أصابع يديه ببعض :
– بشأن التحليل الذي طلبت منك إجراؤه . لقد حدث لبسٌ في الموضوع ، والنّتيجة التي أخبرتك بها صباح هذا اليوم لم تكن لك بل كانت لمريضٍ آخر . لا أعرف كيف حدث ذلك لكن تمّ وضع اسمك على فحوصاتِ شخصٍ آخر ، وقد انتبه العاملون في المخبر إلى هذا وأخبروني فوراً .. أجدّد اعتذاري لك 
لم أُرِدْ أن أتسرّع بتصديق ما سمعت فقلت مستوضحاً بوجل :
– تقصد أنني لست مصاباً بالسرطان ؟
أجابني ضاحكاً :
– أجل ، لست مصاب . ونتيجة تحليلك الحقيقية هذه هي أمامي . أنت تشكو من فقرٍ في الدّم يزول مع العلاج واتّباع نظامٍ غذائيٍّ معيّن 

فقدت السّيطرة على أعصابي فقفزت صائحاً بفرح :
– أنا سليم من مرض السرطان ، هذا يعني أني لن أموت ، لن أموت ، لن أموت !

فتحت عيناي ليطالعني سقف غرفتي وعلى لساني عبارة “لن أموت” . احتجت لبعض الوقت حتى أدرك أن لقائي بالطبيب والحديث الذي دار بيننا كان حلماً . يا لحجم الفرحة التي شعرت بها وأنا داخل الحلم ، ويا لكمية الإحباط الذي أشعر به الآن . لماذا لم يكن الحلم حقيقة لماذا لماذا ؟ شعرت بالاختناق وأخذت أهذي : لا أريد الموت لا أريد الموت ، مازال الوقت مبكراً على الموت ..  ودخلت بعدها بنوبة بكاءٍ هيستيريّة أخرجني منها صوتٌ انبثق من العدم سمعته بوضوح :
– أيّها البائس الخائف من الموت ، لكَ عندي حياةً جديدة وصحّةً وفيرة

انتفضتُّ جالساً في سريري وعيناي تبحثان برعبٍ عن مصدر الصوت ..

– لا تتعب نفسك في البحث لأنّك لن ترني ، لكني أراك ، وأرى مدى تشبّثك بالحياة ، فجئت لمساعدتك .

سألت مستفهماً وقد نال مني الخوف كلَّ منال :
– من أنت وكيف ستساعدني ؟

– أما من أنا فلا ضرورة بأن تعرف ، وأما كيفية مساعدتك فسأشرح لك ؛ هناك ، في مكانٍ ما ، طفلٌ يتمنّى الموت في كل لحظة ، ستنتقل روحك إلى جسده وبالمقابل ستخرج روحه لتسكن جسدك ، وبذلك ستتحقّق أمنية كلٍّ منكما .. هو سيموت بجسدك المريض وأنت ستحيى بجسده الفتي وعمره المديد 

صمتُّ محاولاً استيعاب ما سمعت . فعاد الصوت مجدّداً :
– ما لي أراك صامتاً ؟ هل أنت موافقٌ على هذا العرض ؟
– تقصد بأنّي سأعيش بجسدٍ طفل سليمٍ ولن أموت ؟
– الموت مقدَّر على كلِّ البشر ، لكنك على الأقل لن تموت الآن .. سيكون لديك سنين عديدة قبل أن توارى تحت التراب 

عندما أتى على ذكر التراب تذكّرت وحشة القبر فأسرعت بالقول :
– موافق ، أنا موافق

بعدها شعرت بشيءٍ يقترب منّي و بيدٍ توضع على جبيني ، فدارت بي الدنيا وأخذت شيئاً فشيئاً أغيب عن الوعي ..

                                        – 2 –

استعدت وعيي فوجدّت نفسي ملقىً على الرصيف والناس من حولي سائرون كلٌّ في طريقه غير آبهين بي ! نهضت نافضاً التراب عن ثيابي فلاحظت أنني أرتدي سروالاً مهلهلاً تعلوه سترةٌ مرقّعة . توجّهت لأقرب واجهة محلٍّ عاكسة فرأيت نفسي طفلٌ ربما في العاشرة من عمره ، أشعث الشعر متّسخ الوجه نحيل الجسد . وبينما أنا واقفٌ أتأمّل نفسي إذ بيدٍ ثقيلةٍ توضع على كتفي وصوتٌ خشنٌ ينهرني بشدّة :
– لي مدّة أبحث عنك وأنت تتسكّع هنا أمام المتاجر والمحلات ؟ 
استدرت إليه فوجدتّه رجلاً ضخماً مخيف الهيئة ، نصف وجهه يختفي خلف شاربٍ كثيفٍ ولحيةٍ كثّة . رمقته بعدم فهمٍ فأكمل :
– ما بك ؟ لمَ هذه النظرات البلهاء ؟ ثمّ كيف تترك العربة مرميّة هناك في الطريق وتبتعد عنها ، ألم أطلب منك أن تبقى إلى جانبها ريثما أعود ؟
نظرت حيث أشار فرأيت بالفعل عربةً صُفَّت فيها بعض الأغراض ، تبيّن لي عندما اقتربت منها أنها حليٌّ وأساور رخيصةٍ ومستحضرات تجميل رديئة وبعض الأشياء الأخرى التي تهم النساء . 
مدّ يده تحت العربة حاملاً طرداً من علب التبغ ، ناولني إياه قائلاً : هيا انطلق إلى عملك ، وإيّاك ألا تنجح في بيعها 

أخذت الطرد منه وقد ملأ الخوف قلبي ، سرت محاولاً حفظ الطرق التي أقطعها حتى أتمكّن من العودة إليه . بيع الدخان في الشوارع ليس بالأمر السهل ، فما أن تقترب من المارة لتعرض عليهم الشراء حتى يُعرِضوا عنك وكأنّك وباءٌ قادمٌ ليحمل إليهم المرض . في البداية حاولت أن أقنعهم بالشراء بصوتٍ خافتٍ خجول ، بعدها صرت أركض خلفهم متوسّلاً ، وهم غيرُ مبالين . نابني التعب واليأس فعدت أدراجي إلى حيث كان ذلك الرجل يعرض بضاعته على بعض النساء . التفت لي بعد أن انتهى منهنَّ قائلاً : كم بعت اليوم ؟ . أجبته وركبتاي ترتجفان : لم أبع شيئاً . قال والشرر يتطاير من عينيه : ماذا كنت تفعل إذاً ؟ بالتأكيد أضعت وقتك بالتسكع واللعب . أقسمت له بأنّي حاولت ولم أنجح ، فجاء ردّه لطمةٌ على وجهي وركلةٌ في قفاي ، ثم شدّني من أذني صائحاً : اليوم أنت محرومٌ من الطعام . الآن ساعدني بتوضيب العربة فقد حان موعد العودة إلى البيت .  

طيلة الطّريق كنت أدعو الله في سرّي ألا يكون هذا الوحش أباي ، لكن للأسف أيقنت أنه والدي عندما دخلت معه إلى زقاقٍ ضيّقٍ في حيٍّ فقير . وقف هناك أمام بيتٍ متداعٍ ، فتح بابه بركلةٍ من قدمه ودلف إلى الدّاخل دافعاً عربته أمامه وخلفه دخلت أنا . فركض إلي طفلٌ صغيرٌ وفتاة ، قدّرت أنهما بالتأكيد أخواي ، قائليَن بفرح : لقد عاد سامر .. اسمي هو سامر إذاً ! 

كان المنزل يتكوّن من فناءٍ تحتل العربة جزءاً منه ، وإلى اليمين غرفة فُرِشَت أرضها بسجادةٍ متآكلةٍ ذهب لونها ، ووضعت في جانبٍ منها أريكةٌ قديمة ، وفي أحد الزوايا صُفّت بعض الأغطية والفرش البالية . وإلى اليسار من الفناء مطبخٌ صغير وقفت فيه امرأةٌ بائسةٌ ينضح وجهها بالتعب والإرهاق ، تُحرّك حساءً موضوعاً على النار . وبجانب المطبخ حمام ضيّق بدون باب ، وقد وُضِع عليه شرشفٌ مقرف ليستر الداخل إليه . إذاً هذا هو بيتي وتلك هي عائلتي ..

ألقى الرجل بجسده الثقيل على الأريكة فخشيت عليها من الهبوط لكنها بقيت ثابتة ، يبدو أنها قد اعتادت وزنه وأصبحت مقاومةً للصدمات ! . صاح قائلاً : أين الطعام يا امرأة ؟ فجاءه الرد من المطبخ : قادمةٌ حالاً . التفت صوب الفتاة فنهرها : اذهبي وساعدي أمك ، هيا أيتها الحمقاء . فيما صاح على الطفل الذي كان يعبث بالعربة : دعها أيها الشقي وإلا أشبعتك ضرباً . فأسرع الطفل بالابتعاد وجاء ليختبئ ورائي باحثاً عن الأمان . 

وضعت المرأة الطعام المؤلّف من حساء العدس وبصلٍ وخبز ، وعندما أرادت أن تسكب صحناً لي منعها قائلاً أني اليوم معاقبٌ وممنوعٌ من الطعام . صمتت زامّةً شفتيها وقد اختزنت في عينيها دمعٌ خشي النزول . مسح الرجل شاربيه بطرف كمّه بعد أن انتهى من الأكل ونهض متوجّهاً نحو الأريكة المسكينة مجدداً . تمدَّد عليها وقال متوعّداً قبل أن يغطَّ في النوم : إيّاكِ ثم إيّاكِ أن تستغلّي نومي وتعطيه طعاماً ، تعرفين ماذا سأفعل بك . 

ضممتُ ركبتاي إلى صدري سادّاً أذنيَّ عن صوت شخيره المزعج ، وقد اختلط مع صوت قرقرة أمعائي الخاوية ..

**

بعد أن استيقظ من قيلولته نده عليَّ قائلاً :
– سامر ، تعال إلى هنا 
تقدّمت منه مطأطأ الرأس ، فطلب منّي الاقتراب أكثر . قال بهمسٍ من بين أنفاسه المشبعةِ برائحة البصل : اليوم مساءً عندما ستخرج معي إلى العمل سنعرّج على منزل السيد منير ، أريد منك إرضاءه . كلّما كان راضٍ عنك كلما زادت النقود ، أتفهم ؟ ثم ابتسم ابتسامةً لم أعرف مغزاها 

مساءً حمل طبلاً من تحت الأريكة لم أنتبه لوجوده من قبل ، ثم أشار عليَّ بأن أتبعه ، اعترضت طريقه أمي قائلةً بتوسل : دعه أرجوك ، طفل بعمره لا يجوز أن يدخل هكذا أماكن ، أنا لا أمانع عمله معك صباحاً في السوق ، أما العمل في ملهىً ليلي فذلك جريمةٌ في حقّه ، ألا يكفي أنّك أخرجته من المدرسة ؟
اقترب منها مكشّراً عن أسنانٍ صفراء متآكلة وقال محاولاً كبح غضبه : ألا تملّي يا امرأة من إعادة نفس الاسطوانة كلّما أردتُّ أخذه معي إلى العمل ؟ أنتِ تعرفين أنني لا آخذه يوميّاً ، ثم ما المانع طالما سيرث مهنة أبيه ؟ أم أنكِ تنتظرين أن يصبح طبيباً أو يسلّموه إدارة أحد البنوك . 

ثم نحاها جانباً ومضى خارجاً وقد شدّني بقسوة من يدي لأتبعه .

**

أخذ يسير وأنا خلفه إلى أن وصلنا إلى حيٍّ راقٍ ، توقّفنا هناك أمام أحد المنازل ، طرق الباب بلحنٍ معيّن فانفتح بعد بضع ثوانٍ وأطلَّ منه رجلٌ لم أرتح لرؤيته . طويل القامة حليق الذقن ، له عينان ضيّقتان وأنف مستقيم نبت تحته شارب دقيق . قال موجهاً الكلام لي متجاهلاً أبي : أهلاً سامر كنت أنتظرك بفارغ الصبر .
أفْسحَ لي المجال للدخول ثم سمعته يقول لوالدي قبل أن يغلق الباب  : اذهب بسرعة قبل أن يلمحك أحد واقف هنا ، فطبلتك تلفت الأنظار .

بقيت واقفاً مكاني لا أعرف لماذا جاء بي والدي إلى هنا . ناداني الرجل قائلاً : لماذا تقف هكذا ؟ تعال إلي ، وخذ راحتك هذه الليلة ، فالمنزل ليس فيه أحد سوانا . ازدرتُّ ريقي بصعوبةٍ ومشيت بحذرٍ متأمّلاً المكان حولي ، كلُّ شيءٍ فخمٌ و ينمُّ عن ثراءٍ فاحش ، منزلٌ لم أرَ مثله حتى في حياتي السابقة . سحبني من ذراعي وصعد بي إلى الدّور الثاني وأدخلني إلى غرفة نومه ، ألقى عليَّ منشفةً وقال : الماء ساخن ، ادخل واستحم ريثما أضع لنا طعاماً . 

فتحت الماء على جسدي وعقلي يرفض الفكرة التي طرأت على بالي ، فليس من المعقول أن يجلبني أبي إلى هنا من أجل.. قاطع حبل أفكاري طرقٌ على باب الحمام وصوت الرجل يقول : وضعت لك ثياباً نظيفةً على السرير ، ارتديها عندما تخرج والحق بي في الأسفل .

نزلت إلى أسفل فوجدتّه قد أعدّ مائدةً عامرةً بأطايب الطعام ، كنت أتضوَّر جوعاً لذا لم أرفض دعوته بل انطلقت أملأ معدتي بما تطاله يدي من أكل .
اقترب منّي بعد أن انتهينا وسألني : هل شبعت ؟ قلت له بخجل : أجل شكراً لك ، فوالدي اليوم عاقبني وحرمني من الطعام . أمسك يدي قائلاً : يبدو أنّك تعاني مع والدك ، لكن لا بأس ، كلّما جئت هنا سأضع لك أشهى المأكولات .. والآن تعال إلي.. 

لم أصدق نفسي عندما ضمني إليه وقبّلني ، لقد كانت ظنوني بمحلّها إذاً . هذا الرجل يريد ممارسة الجنس معي ، ويبدو أنها ليست المرة الأولى ! أبعدتّه عنّي ونهضت راكضاً نحو باب الخروج لكنّه لحق بي وأمسكني ، قال وقد بدا مهتاجاً : لماذا تهرب منّي ؟ كنتَ في المرة السابقة عاقلاً ، هل عدتَّ إلى عنادك ؟ . قلت وقد بدأ جسدي يرتعد خوفاً : ابتعد عني ، ابتعد عني ، دعني أخرج . لكنه شدّد قبضته عليَّ وحملني صاعداً نحو مخدعه ، وهناك فعل فعلته الدنيئة وأشبع رغباته المريضة في جسدي . 

تكوّرت على نفسي بعد أن انتهى وأنا غير مصدّق لما جرى ، والدي قادني بنفسه إلى هنا وهو يعرف ما الذي سيحصل لي ، أيّة مصيبةٍ هذه ؟! أخذت دموعي تنهمر بشدة وأنا أفكّر أن هذه الليلة ستتكرّر كثيراً ، وبأنّ هذه هي حياتي وهذا هو قدري.. 

بينما كنت أرتدي ثيابي ألقى إليَّ الرّجل الدنيء بعض النقود قائلاً : خذ أعطها لوالدك ، وفي المرّة القادمة لا أريد منك أيّة مقاومة فقد أتعبتني اليوم .

جاء والدي لأخذي فخرجت إليه متمنياً امتلاك القوّة والجرأة على صفعه ، مدّ يده طالباً المال الذي جنيته فأعطتيه إيّاه ، قال وهو يعدّه : في المرّة الماضية جنيت أكثر ، يبدو أنّك كنت مشاكساً اليوم . همس لي عندما اقتربنا من البيت : لا تنسى أن تتظاهر بأنّك كنت معي في الملهى ، والويل لك إن أخبرت أحداً بما يجري . أعرف أنّك حفِظت الدّرس لكن لابدّ من تذكيرك .

**

مضت أيامي هكذا ، أنهض صباحاً أجوب الشوارع لبيع علب التّبغ ، وهناك أتعرّض لشتّى أنواع الذّل والمهانة ، أنظر بحسرةٍ إلى السيارات التي يقودها رجال مع عائلاتهم وإلى الأطفال العائدين من مدارسهم أو من يلعبون في الحدائق . لماذا لم أُخلق مثلهم ؟ لماذا خلقت ابناً لرجلٍ ليس لديه ذرّة شرفٍ أو رحمة ؟ وإلى متى سأظل هكذا ؟ أبيع جسدي من أجل حفنةٍ من النقود ؟ فوالدي لم يكتفِ بذاك الرجل بل طمع بمزيدٍ من المال وأصبح يأخذني إلى رجال آخرين تعرّف عليهم في ملهاه الذي يعمل به .

**

كنت نائماً في إحدى الليالي فصحوت على يدٍ تغلق فمي وأخرى تعبث بسروالي ، يا إلهي إنه أبي ، يغتصبني !! تمنّيت الموت في تلك اللحظة وشعرت أنّ عيناي تسكبان دماً وليس دمعاً . قمت راكضاً بعد أن نهض عنّي وخرجت إلى الشارع ، أخذت أصيح :
– أنت يا من ألقيتني في هذا الجحيم ، أعدني لحياتي السابقة ، حتى وإن مِتُّ هناك فذلك لم يعد يهمّني .. الموت أرحم من عيشةٍ كهذه 

سمعت صوت قهقهةٍ فعدت إلى الصراخ :
– لماذا تضحك ؟ أعدني أتوسّل إليك
استمرَّ صوت القهقهة فندهت : 
– أين أنت ؟ اظهر لي أرجوك
لكن لم ألقَ سوى صوت الضحكة فأخذت أركض باتجاهها ، وكلما اقتربت شعرت أنها تبتعد ، أقترب فتبتعد ، أقترب فتبتعد ، إلى أن تعثّرت وسقطت أرضاً ، وفقدت الوعي..

                                        – 3 –

صحوت على صوت طرقٍ على الباب ، فتحت عيناي فإذا بي ممدّد على سريري وصوت أمي تقول بعد أن أطلّت من خلف الباب : كفاك نوماً يا جبران ، لقد حلّ المساء وأنت مازلت في الفراش ، انهض واجلس معنا . نظرت لها غير مستوعبٍ بعد لأيّ شيءٍ حولي ، فاقتربت مني وسألت بقلق : بُنَي هل تشكو من شيء ؟ . فقلت لها مطمئناً وقد بدأت أعود إلى رشدي : لا أمي لا شيء ، اذهبي وسألحق بك بعد قليل .

أبعدتُّ الغطاء عني بعد أن خرَجت وتوجّهت نحو المرآة ، نظرت فيها فوجدّتني أنا ، جبران ، تنفست بارتياحٍ وسجدت لله شكراً على عودتي إلى حياتي الحقيقية ، وبدأت أتساءل عن ماهية ما مررت به . هل كان حلماً ؟ لكني أتذكّر كلّ شيءٍ بالتفصيل وكأنني عشته بالفعل ! ثم إن لم يكن حلماً فما هو ؟ كيف خرجت روحي لتسكن جسداً آخر ! وكيف عشت هناك أياماً عديدةً بينما في الواقع لم أبرح حجرتي منذ أن تركت مائدة الغداء ؟! ومن هذا الذي ظهر لي وكلّمني ! . يا الله أكاد أُجن ، فإحساسي يخبرني بأنّي فعلاً عشت في جسد سامر وجرّبت حياته بكلِّ تفاصيلها ، لكن عقلي ينفي هذا الأمر ويقنعني أنه مجرّد حلم ، أو بالأحرى كابوس . فالجحيم اليومي الذي يعيشه سامر لا يستطيع أحداً تحمّله ، وربما لو بقيت في جسده لقتلت نفسي .

وقع نظري على المنضدة حيث كان موضوعٌ فوقها نتيجة تحاليلي التي جلبتها اليوم من عند الطبيب فتذكّرت مرضي ، لكن لا أعرف لمَ بقيت هادئاً ولم أتوتّر ، سلام داخلي وارتياح شعرت به قد اجتاح قلبي وجعلني أفوّض أمري إلى الله .

خرجت لأجلس مع والدَيَّ في غرفة المعيشة ، كانا جالسين يشاهدان مسرحيةً كوميديةً ويطلقان الضحكاتِ بين الفينة والأخرى . أخذت أراقبهما بصمت ، نظرت إلى أبي فشعرت أنّي لم أنظر إليه منذ زمن ، اللون الأبيض في شعره بدأ يكسب المعركة ويتفوّق على اللون الأسود . كيف كبر والدي دون أن ألحظ ذلك ؟ . وأمي أيضاً التجاعيد زائدة حول عينيها وفمها ، يا الله كم كنت بعيداً عنهما في الفترة الماضية ، العمل ومخطوبتي والتفكير بمستقبلي شغلوا جلَّ وقتي وجعلوني أنسى عائلتي . انتبه أبي لنظراتي فسألني : ما بك ؟ . قلت له دون وعي منّي : لا شيء ، لكني اشتقت لك ..

**

سامر ، ذلك الطفل البائس المسكين ، ترى كيف يعيش الآن ؟ أقول هذا الكلام لأنّي واثقٌ أنّه موجودٌ بمكانٍ ما في هذا العالم ، فروحي ذاقت جزءاً من عذاباته ومازلت أشعر بمرارتها . شعرت بضعفه وقلّة حيلته ، قهره وظلمه ، حرمانه من طفولته وتشويه براءته . وأيّاً كان تفسير ما مررت به ، حلماً أم رؤية أم معجزة ، فأنا على يقينٍ أن ما حدث لي ليس عبثاً ، بل هو رسالة من الله لأرضى بقدري وأتقبّل إصابتي بالمرض ، فلكلِّ إنسانٍ نصيبه من هذه الحياة . لن أقول بأنّي لست حزيناً أو حتى خائفاً من مجرّد ذكر اسم ذلك المرض الخبيث ، لن أقول بأنّي بتُّ لا أخشى الموت ، بل للموت رهبة وما بعد الموت رعبٌ وغموض لم يكشفه إلا من سبقونا إليه . لكنّي تصالحت مع حقيقة مصابي ولن أفقد الأمل ، بل سأخضع للعلاج وسأدعو الله أن يشفيني ، فأنا محاطٌ بأناسٍ يحبّونني ويتألّمون لألمي ، سأتماسك من أجلهم .

**

أنا الآن في المشفى ، مضّجعٌ في السرير أنتظر مجيء الطبيب للقيام بأولى جلساتِ العلاج . حاولت شغل نفسي بالتّفكير في أمور سعيدة فأغمضت عيناي واسترجعت النزهة التي قمنا بها كما خطّطت أمي . لقد ضحكت ذلك اليوم كما لم أضحك من قبل ، إنها المرّة الأولى التي أستمتع فيها بضجّة أبناء أخواتي ، بل إنني لعبت معهم وشعرت بنفسي قد عدّت طفلاً . وأمي وأبي .. يا الله كم كنّا عائلةً رائعة ، عائلة يتمنّى الكثيرون الحصول عليها .

دخل الطبيب الغرفة واتّجه نحوي ، سألني وهو يضغط على يدي مؤازراً :
– كيف هي معنوياتك ؟
تذكّرت انهيار أمي عندما علمتْ بمرضي ، انكسار والدي ومحاولته التماسك أمامي ، دموع شقيقاتي وحزن مخطوبتي . فقلت للطبيب بقوّة :
– في الخارج هناك من ينتظرني ويبتهل لشفائي ، أنا مستعدٌّ للعلاج ومعنويّاتي مرتفعة . سأعيش ، من أجلِ أحبّائي سأعيش .

انتهت 

 

تاريخ النشر : 2019-06-18

نوار

سوريا
guest
42 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى