أدب الرعب والعام

المتروكون في الظلام

بقلم : هدوء الغدير – العراق

عدّلت نظارتها و دارت عينيها باحثة عن تلك الورقة الصفراء وقد لمحتها بأخر لحظة تسبق سقوطها
عدّلت نظارتها و دارت عينيها باحثة عن تلك الورقة الصفراء وقد لمحتها بأخر لحظة تسبق سقوطها

تجلس ككتلة مجعدة و منسية قد تم رميها منذ فترة لا يصدر منها ذلك الصوت الذي يبعث الحياة في الأرجاء ، سوى نعيق كرسيها المهتز كالحان ناي عتيق يثير الحنين ، حيث تبدأ صور الماضي بمراودتها مستغلة تلك الوحدة المريعة التي تشكل ثقبا تتسرب منه الذكريات و ما أن تبدأ بقطرة حتى تنتهي بفيضان مريع يغمرها كلياً و يخنق انتظارها الباهت ، و لا شيء يضفي الحيوية على وجودها سوى حركة يديها ، الذي التف جلدهما على عظم دقيق و قد بزغت عروقهما كنهرين أزرقين ، تنحدران على ظهر كفيها محتقنتان بالزمن و على وشك الانفجار مخلفة سيلا من العطاء الداكن ، تتمسكان بسنارتي حياكة و تغزلان ببطء رتيب وقد أخذت تتسارع وتيرة حركتهما متزامنة مع ذلك الفيضان الذي أخذ يخنقها كسمكة يؤلمها الهواء فتصفق زعنفتيها بقوة و لا جدوى من ذلك .

تشعر أن معالم الغرفة تتغير و عقارب الساعة تعود بالزمن لتجد نفسها مجدداً هناك تعايش الأم ذلك اليوم مرة أخرى ، حيث كانت تجلس كما تجلس الأن كطفل وديع يتقي بهدوئه شر العقاب معتكفة في غرفتها و تغزل قطعاً صغيرة من الثياب على أمل أن يرتديها حفيدها الذي لا زال مخبأ في بطن منتفخة ، رغم أنها تعلم أن وسن لن تسمح أن يرتدي بكرها أسمال تصنعها أيدي عجوز تثير الغيظ في قلبها. 

 هي على يقين أن وسن تخشى صمتها و تكره ذلك الوجه المجعد الذي لطالما أيقظ بداخلها دوماً فكرة الزمن و ما ينحته على الجسد الطري ، فتتسأل تارة بسر تكشفه نظراتها و أخرى بنبرة مسمومة تصبها على مسامعها عن أتراها كانت حسناء ذات يوم ! أم خُلقت هكذا متكومة بصمت على مقعدها الهزاز و كأن وجودها سرمدي سبق وجود البيت و المدينة و الوطن ؟ .

كما لم يخفى عليها أن الفتاة وسن تراقبها خلسة بينما تجلس هي مولية ظهرها للباب تسمع صوت خطواتها الذي يتوقف عند عتبة الباب و يتكرر ذلك مرار في اليوم.

عادت العجوز سناء يومها من المطبخ مكتفية بتلك الكسرة و كوب ماء، حيث أن وسن نسيت إكرام ضيفتها بطعام تنتشله من قعر الحلة ، و لم تستطيع أن تحظى العجوز بأكثر من هذا كوجبة غداء بما أن باب الثلاجة حصن منيع و مغلق بأقفال ضد أي غزو خارج رغبة وسن .

دخلت غرفتها كناسك يعتزل العالم و لم تمر بضع دقائق حتى سمعت خطوات لوهلة توهمت أنها وسن ، استدارت و ضيقت عينيها قليلاً لترى شبح أبنها فراس منتصبا أمامها ،  انحنى عليها ليلثم جبهتها و كفها ، فمسحت على رأسه برفق و أخذت رأسه بين يديها ، الرؤية مشوشة عليها رغم نظاراتها السميكة لكن لم يخف عليها أن نظراته هذه المرة تحمل كلاماً يقال كلام سيوجع قلبها ، حدست بذلك قبل أن يشيح بنظره عنها و كأنه يعلم خواطرها فاستغربت ذلك منه قائلة :

– ماذا هناك يا بني ؟  هل تعاني من خطب ما ؟.

أمسك يديها براحته و جلس على ركبتيه عند قدميها يفرج تارة شفتيه و أخرى يعاود زمهما ، لكن الكلمات كانت هذه المرة أقوى من أن تُحبس أو يتمكن من كبحها ، لقد حسم قراره قائلاً:

– كل شيء بخير يا أماه ، كيف صحتك اليوم ؟ هل أخذت دوائك أم أجلبه لك ؟.

– والدتك قد غلبها العمر و باتت تنسى كثيراً ، و للأمانة أنا أتناساه أحياناً ، حقاً أكره ابتلاع تلك الأقراص الكبيرة .

تجهم وجهها كطفلة صغيرة مما جعله يداعبها بكلامه :

– سأجبرك عليه كما أجبرتني من قبل ، ابتسم بخباثة و ناولها من الدرج الدواء و أتى لها بكأس ماء ، تجرعته على مضض ثم صمتت لوهلة قبل أن تقول :

– حسناً اذاً اخبرني ما عندك الأن ، ما الذي يكدر خاطرك ؟.

تنهد قليلاً و نكس بصره فوقعت عينيه على كاحليها و كم تبدوان نحيلتين إنها تزداد نحافة كل يوم :

– لدي خبر سار لك يا أمي ، لكن هناك جانب سلبي ، و كل ما أريده منك أن تتمني لي الخير.

توقف قليلاً و دار بصره بين والدته و بين وسن التي كانت تقف عند فرجة الباب تنتظر أن يتحقق حلمها .

– لقد مُنحت فرصة عمل خارج البلاد و ..

تهلل وجهها فرحاً فقاطعته قائلة :

– إن الله قد استجاب دعائي لك يا ولدي ، كل شيء بعد هذه البشارة طبعاً لن يكون سيئاً .

– أرجو أن يكون كذلك يا أمي ،  سأبدأ بإجراءات السفر و ربما أبقى هناك ، لا أعلم كم من الفترة تحديداً ، لذا سأعرض البيت للبيع و أرسل وسن لأهلها لحين استقراري هناك و ..

– تراجعت إلى الخلف بكرسيها و همهمت بصوت كافي ليسمعه و يثير رعب الصغير في داخله ، كانت الهمهمة هذه في الماضي تسبق عقابه دوماً. أكمل قائلاً :

– و ستبقين يا أمي في دار المسنين ، أعدك إنها مدة يسيرة ، سأحاول الإسراع بأقصى ما يمكنني لنجتمع سوياً ، و تحملين حفيدك بين ذراعيكِ و أنتِ مطمئنة على مستقبله ، سنعيش جميعاً عيشة كريمة و …

لم تعد تسمع ما بعد “دار المسنين” قلبها هوى في قعر لا نهاية له ، ربما لو كان ذلك الطفل الصغير لضربته و طلبت منه أن يمحي الفكرة من رأسه ، لكن كيف يطاوعها قلبها أن تقف عقبة في طريقه إلى المستقبل الواعد .

– أسأل الله أن يفتح لك أبواب الخير في وجهك .

– أذن هل توافقين ؟.

– بالطبع ، كيف سأعترض على طريق سعادتك ؟ .

– أشكرك يا أمي ، و أدع الله أن تجري الأمور على خير.

قبّل كفها و رأسها قبل أن يغادر الغرفة .

في طريق خروجه كانت تقف وسن في المطبخ تفتعل الانشغال بالتنظيف و ما أن لمحته أقبلت مسرعة .

– هل جرت الأمور على ما يرام ؟.

رمقها بنظرة ازدراء قبل أن يلسعها بكلامه :

– نعم ، و لتتهللي بشرى بنجاح كذبتك .

فتصنعت بعض الألم و ضغطت على بطنها .

– لكن هذه حقيقة أنت ستسافر فترة و أنا لن أعود قادرة على خدمة والدتك ، أترى أن حملي ثقل و سيكون هناك طفل و …

– حصل ما تريدين و كفي عن أزعاجي بثرثرتك

، نظر لها بحدة أجبرتها على قطع كلامها ثم تجاوزها مسرعاً .

***

تبادر إلى سمعها صوت تلك الخطوات التي ترتطم بالبلاط تشبه خطوات وسن وكأنها تعبر الزمن لتسخر من وحدتها في المنفى ، أعادها صوت قدوم أحدهم من الغوص في الماضي ، لكنها لم تكلف نفسها عناء الاستدارة فقد اعتادت الروتين اليومي منذ شهرين ، تدخل الطباخة صباحاً توزع تلك اللقيمات الصغيرة عليهم و في أحيان كثيرة كانت نفسها تعافها ، لا لأنها كريهة بل لأنها على يقين أنها لم تعد بحاجة إلى شيء يمد وجودها في الحياة ، إنها تسير نحو النهاية ، تملك ذلك الحدس الذي يخبرها أنها ستدفن وحيدة ولن يعلم ولدها فراس عنها شيء ، عندما أتى بها إلى هنا وعدها أنه سيقوم بمراسلتها كل يوم و مرة أخرى لم تفلح ملامحه بإخفاء كذبه عليها .

– صباح الخير جدتي.

القت الطباخة تحيتها  و التي ردت عليها العجوز بفتور ثم سألتها :

– كم يصادف اليوم ؟.

أجابت الطباخة و هي تزيل الغطاء عن الطبق الذي احتوى بيضتان و أخر يحتوي على قليل من القشطة .

– إنه الخامس من حزيران .

تمتمت العجوز بصوت خفيض :

– قد مضى شهران أليس كذلك ؟.

حكت المرأة رأسها و هي تحاول التذكر .

– نعم ، أظن ذلك ، لا بأس جدتي ، بالتأكيد أنه سيرسل لك ، هيا تعالي لتتذوقي فطور اليوم و بعدها سنبدأ فعاليات المهرجان ، أظن انك لم تشهديها من قبل .

انتظرت الطباخة البدينة أن تسمع جواباً من العجوز ، لكن لا شيء سوى صوت كرسيها الهزاز يتردد في المكان ، همت بمغادرة الغرفة و شددت على رغبتها في حضور العجوز قبل أن تختفي في الرواق قائلة: – أمل أن أراكِ هناك جدتي.

..

” شهرين مضى ” عادت لتهمس بتلك الكلمات لنفسها و هي تحدق في النافذة ، التي شمخ قبالتها شجرة جف جذعها و نحلت أغصانها ، فلم تعد تقوى سوى على حمل تلك الورقة الصفراء التي تتأرجح معلنة عن نهاية رحلتها.

شعرت أن قلبها أنقبض و هي ترى تلك الورقة على وشك السقوط ، لا بأس هي تعلم أن في الربيع سينمو غيرها ، لكن أن تراودها فكرة أن البشر لا يملكون ربيع ليعودوا مجدداً أثارت بداخلها غصة ، زفرت بحرارة نافذة معها فكرتها ، و استجمعت قوتها لتنهض من كرسيها حيث في الآونة الأخيرة باتت و كأنها تحمل جبلاً فوق ظهرها يضطرها للانحناء ، التقطت عصاها من جانب الكرسي و خطت بجوار السرير بخطى بطيئة لم تستشعر بنفسها ادنى رغبة لتذوق الطعام فمرت من جانب الأطباق دون أن تلمسها أو تلقي عليها نظرة .

*** 

في تلك القاعة حيث يُقام المهرجان ، تجمع العجائز يجلسون على كراسيهم بحلقات منفصلة يسعل أحدهم ، و يلتقط آخر طقم أسنانه من كوب ماء أمامه ، و أخر يشتم امرأة نحيلة من العاملات دعست رجله أثناء سيرها ، بينما أخر يجلس في الزاوية يعلو صدره و يهبط سريعاً ، يخرج الفنتولين يستنشقه ثم يعيده إلى الطاولة أمامه ، نعم إنه مستودع الخردوات التي تم استخدامها و ها هي تنتظر إعادة التدوير لتكون سماداً طبيعياً .

في يوم ما كانت العجوز سناء تعمل مديرة ميتم ترى الصغار يتقافزون ، أشياء مهمشة لفظتها الحياة بعيداً عن من أحاطتهم برعايتها ، لم يكونوا مشاكسين و لم يكونوا مزعجين فقط ، أنهم جاءوا في الوقت الذي لا ينبغي فيه مجيئهم ، خالفوا مشيئتها فعاقبتهم بالنفي ، همست لنفسها بصوت منخفض : 

– أليس أفضل أن تكون الحياة فظة من البداية خير من أن تستهلكك على مدار أعوام ثم ترميك على القارعة فلا موت يدركك و لا حياة تكرمك ؟.

– أتكلمين نفسك جدتي ؟.

انتفضت قليلاً و هي تسمع الصوت أتياً من خلفها ، عدلت من وضع نظارتها تتساءل في سرها عن تلك الطباخة البدينة التي تلاحقها أو ربما وضعتها الصدفة كل مرة في طريقها ، أكملت الطباخة كلامها :
جدتي هل تسمعيني ؟ سنبدأ الفعاليات بعد قليل ، اختاري لك مكاناً لتجلسي فيه .

تمتمت العجوز بهدوء :
– حسناً.

و استدارت باحثة عن طاولة فارغة أو شبه فارغة في القاعة التي كانت تضم قرابة ثلاثين طاولة ، كل طاولة محاطة بأربعة كراسي .

مشت تدق عصاها في الأرض لتختلط بضجيج العجائز و سعال المريضين و هلوسة الرجل في الزاوية و كأنه يحادث شخص ما .

توجهت إلى أحد الطاولات حيث كان هناك ثلاثة عجائز أحطن بها ، اشترك الثلاثة بكونهن ممتلئات الحجم حتى و كأنهن قد ساحن من على كراسيهن ، و ما أن لمحن اقتراب العجوز سحبت إحداهن الكرسي الفارغ قائلة بفظاظة : 

– محجوز عزيزتي .

مما جعلها تتراجع بضعة خطوات ثم أكملت مشيها و قد شيعتها همسات لم تلتقط منها سوى كلمات مبتورة ” إنها غريبة ” لم تكلم أحد منذ جاءت ” تبدو كساحرة “.

لم تحرك في داخلها أدنى شعور لا بغيظ و لا بكراهية ، صقيع شديد بداخلها يحجبها عن الانفعالات الحادة ، هكذا كانت منذ زمن ليس ببعيد و لا شيء يستحق أن تثور من أجله على الأقل ليس الأن.

تجاوزت الطاولات تبحث من خلف نظارتها السميكة عن مكان أخر، لم تكن تريد أن يرحب بها و يحتفي بها الجالسون بقدر ما تريد أن تقتل بضع ساعات من الوقت و إن لم تجد قررت أنها ستعود إلى غرفتها .

كان عقلها منشغلاً بين الاستمرار في التقدم بهذه القاعة ذات الضوضاء العالية و بين العودة .

– أنظر لقد أتت العجوز الصامتة كما توقعت ، لنرحب بها .

صدر الصوت من جانبها الأيمن ، أمعنت النظر أنه ذاته الرجل الذي كان يكلم نفسه ، أرادت أن تتجاوزه بالطبع لن ينقصها الأن إلا أن تجلس بجانب رجل يكلم نفسه ، و هي تحاول أن تتمسك بأخر ذرات العقل لديها ، دعاها للجلوس قائلاً :

– تفضلي أيتها الحسناء .

لم ترد على كلامه و قد أصرت أن تتجاوزه أو تعود إلى غرفتها ، لا يستحق المهرجان البائس كل هذا .

– جدتي تفضلي هذا مكان فارغ ، سيبدأ العرض الأن ، انظري أنه المدير يعتلي المنصة .

صوت الطباخة البدينة يأتي من خلفها بصدفة أخرى .

أمسكت العجوز من كتفيها و أجلستها على الكرسي ، ثم انحنت عليها هامسة و هي تشير بأعينها إلى الرجل المجنون :

– لا تخافي منه ، لن يفعل أكثر من الثرثرة .

قطع همسها صوت جهوري قدم من المنصة ليجتاح القاعة ، و كأن ذبذباته هزت جدران القاعة بعنف مما دفع الطباخة البدينة لتعتدل مباشرة و تلقي نظرة على الجالسين أخيرة ، ثم غادرت لتصعد المنصة و تجلس على الكرسي المخصص لها ضمن قسم فريق العاملين في المؤسسة .

– بدايةً أود أن رحب بالجمع الحاضرين و أرجو أن يكون الجميع بصحة جيدة ، كما أرحب بالوافدين الجدد على المؤسسة ، منكم من يعرفني و منكم من يجهل من أنا ، لذا سأعرفكم بنفسي ، أنا عبد الباسط الحسيني مدير المؤسسة الخيرية ، أتشرف بحضوركم جميعاً في هذا اليوم المميز الذي تم تخصيصه على سبيل إضافة مزيد من الرفاهية و قتل الروتين الممل ، و كما تعلمون نحن نبذل قصارى جهدنا في تأمين العيش الكريم للجميع .

اختلط كلامه بصوت المجنون الجالس أمامها، و الذي قال معلقاً على افتتاحية المدير :

– يثرثر بتلك البداية كعادته ليخلق تلك الصورة عن أنه منزه عن الأخطاء و أنه الرسول ليحمي شعب المنبوذين ، نعم نحن أولئك المنبوذين ، خردة تم استعمالها و لما انتهوا منها رموها ،  استمعي الأن لقد وصل إلى الجزء الذي يستحق جائزة نوبل بالكذب ، قال أخر جملته هامساً و هو يقدم رأسه تجاهها ، مما دفعها لتصغي السمع لما سيقوله المدير .

– كما أرى اليوم فأن هناك مقيمين جدد بين الحاضرين شرفونا بحضورهم و بالتأكيد لا يملكون خلفية عما أتحدث عنه الأن ، لذا سأكتفي بتوضيح بسيط قبل أجراء القرعة.

الكثير منكم سمع عن منتجع الحياة الذي قمت بتأسيسه منذ أربع سنوات و الذي عملت عليه ليتوسع و يتطور حتى حصد على المرتبة الأولى في البلاد من حيث الأقبال سواء من داخل البلاد و خارجه ، و في هذا اليوم سيتم الاختيار بالقرعة عشوائياً أسماء من المقيمين هنا ، لكن المفاجئة هذه السنة سيتم اختيار شخصين بدلاً عن واحد ليقضيا عطلتهم الصيفية فيه ، ستتوفر هناك كل سبل الراحة مع طاقم من الممرضين الذين يسهرون على راحة الشخصين.

و لن أطيل عليكم كثيراً لأنها حتماً ستكون تجربة العمر الرائعة .

ما إن اكمل جملته حتى أقبلت فتاة ممشوقة القوام تتنافر مع بيئة العجائز بالشباب الذي يتوقد في جسدها و بتلك الملابس الأنيقة وفق أخر صيحات الموضة ، وضعت صندوق صغير أمام المدير ثم تراجعت إلى الخلف لتختفي كما أطلت فجأة .

مد يده في الصندوق لينتشل ورقة صغيرة ، ثواني و صدح صوته معلناً عن أسم سعيد الحظ الأول “محمد حسين فوزي” علا صوت التصفيق مشيعاً الرجل الذي كان يتهلل فرحاً ، صافح المدير و لم تخفي ملامحه أثار فرحته العارمة في العام الماضي قد اشتد البؤس بمحمد مخلفاً كم من الغيظ تجاه الشخص الذي تم اختياره و لم يحسن بإخفائه جيداً فقد أفتعل معركة في المهرجان تخللها السباب و الشتائم و لم يترك الرجل في حال سبيله إلا بعد أن فصل العاملين بينهم و تم حبسه في غرفته لحين هدأت ثورته و سافر الرجل إلى المنتجع في اليوم التالي .

أعلن المدير الاسم التالي “كريم غازي فائق” و اشرأبت الأعناق باحثة عنه حيث ساعده اثنين للوقوف ، أمسك بعصاه ثم سار بخطى وئيدة تتناقض مع حماس التصفيق الذي علا بالقاعة.

– يا لهم من مساكين !.

انتبهت للعجوز المجنون الذي رمى تعليقه على مسامعها فتساءلت ، و قد استغربت من جلوسه مربعاً كتفيه و نظرة البؤس تتقافز من حدقتيه.

– ماذا قلت ؟.

قرب رأسه تجاهها و قال بصوت خفيض :

– الجميع هنا يعلمون ذلك لكن لا أحد يستطيع الإعلان بهذا ، جميعهم خائفون .

– من ماذا ؟.

– من المدير ، أنه كذاب كبير أختلق أمر المنتجع .

– كيف تقول هذا ؟ منتجع الحياة موجود سمعت عنه كثيراً من قبل .

– انصتي أيتها العجوز ما أقوله لك الأن محرم الإفصاح عنه و لا يجب أن يتكلم فيه أحد ، إياك أن تقولي أنك سمعتي شيئاً مني ،  أتفقنا ! منتجع الحياة موجود فعلاً و لكن الكذب تحديداً في هذا المهرجان ، أصمت أنت دعني أتكلم لا بد أن تعلم ما يحدث هنا ، أشار بأصبعه محذراً للكرسي الفارغ بجانبه و كأنه ينهر أحدهم .

مما أوقظ السؤال الذي بدأ يدور بداخلها هل ما يقوله حقيقة أم مجرد خزعبلات يمليها عليه جنونه.

– أسمعي محمد أتى به أبنه إلى هنا و كان أبنه الوحيد الذي بقي على قيد الحياة ، أستمر بزيارته فترة ثم انقطع بعدها لنعلم أنه توفي ، و له حفيد و أحد صغير و بما أن ليس هناك أقارب له فقد استولت زوجة ابنه على البيت و لا مكان له آخر يذهب اليه ، كريم هو الأخر قد رموه أولاده وسافروا تباعاً خارج البلاد ، مرض عدة مرات و كتب لهم المدير ليخبرهم بحالته و مع هذا لم يأتي أحد لزيارته ، هناك قاسم مشترك بين هذين أرأيتي ؟.

نظرت متسائلة :

– ما الذي تقصده ؟.

– ليس لهم أحد يسأل عنهم أو يتفقد غيابهم .

ابتسمت ملأ شدقيها ليزيد تجعد وجهها ثم لم تتمالك انفسها فانفجرت ضاحكة مما أثار غيظ العجائز الثلاثة فنظرن لها شزراً و  أشرن لها بالصمت ، توقفت عنها نوبة الضحك و على وجهها وجوم غريب قبل أن تقول:

– أظن هذا القاسم المشترك لجميع المتواجدين هنا.

– معك حق الأغلبية هكذا ، و لكن هناك من يوجد لهم أهل يسألون بين الفينة و الأخرى ،  و هذا يعني أن استمر المهرجان فالأغلب سوف يقعون في دائرة الخطر.

– و ما هو الخطر الذي سيسببه المهرجان برأيك ؟.

– أرجوك توقف ، أنا أعلم ما الذي أفعله ، أنظر إنها تبدو جيدة ، من المؤسف ألا تعلم ما يجري هنا ، لا عليك أنا أحادثه هو .

هزت رأسها متسائلة.

– أنسي أمره ، الخطر يقبع في الحقيقة الثابتة أن أحداً من الذين ذهبوا إلى المنتجع لم يعودوا من هناك ، و منهم ماتوا قبل السفر بيوم ،  غريب أليس كذلك ؟.

لم تجيب على كلامه إذ كانت مقتنعة أنه هراء ينتجه عقل مخبول ، أنهى المدير كلمته و هو يلقي تحيته على الجميع متمنياً يوماً سعيداً ، نزل عن المنصة و قد أحاط به جمع من الصحفيين ، أبرقت كاميراتهم لتوثيق الحدث و بعد فترة قصيرة انسحب متوارياً عن الأنظار ثم تبعه الموظفين و بعض من الصحفيين الذين لحقوا به بينما غادر البقية القاعة ، فلم يبقى بالمكان سوى العجائز ، منهم من صمت و منهم أكمل ثرثرته التي تحولت إلى تهلل عند قدوم وجبات الطعام الفاخرة التي كانت تقدم سنوياً في المهرجان.

طافت المرأتين البدينتين على الطاولات يوزعن الصحون التي حوت ما لذ من الطعام ، ثم خرجتا تاركتين القاعة تضج بمضغ الطعام و السعال بين الفينة و الأخرى و أصوات ارتطام الملاعق بالصحون .

– هيا تفضلي أيتها الجدة ، لن تري كرم الضيافة هذا كل يوم.

قال ذلك وهو يشمر عن ساعديه حيث بدا و كأنه سيغوص في الأكل .

– ألا ترى أن هذا دليل يفند ما زعمته منذ قليل ، اذا كانوا سيقتلون الناس فلما قد يكرمونهم بهذا الشكل ؟.

ابتلع اللقمة التي حشرها في فمه و كأنه في سباق مع الزمن و تبعها برشفة كبيرة من الماء قبل أن يجيب عليها :

– ألم تسمعي عن الغولة ، التي تسمن ضحاياها قبل أكلهم ؟ .

و بعد أن أكمل جملته تبعها بقهقهة عالية لو كانت في وقت أخر لقوبلت بنظرات الازدراء ، شعرت حينها أن طاقة صبرها قد نفدت و لم تعد تحتمل هذه الترهات أكثر ، وضعت راحتيها على الطاولة و قد علا صوتها :

– هراء.. ما تقوله هراء.

التقطت عصاها و هبت واقفة لتغادر.

– لا عليك ، إنها مزحة سمجة ، يفعلون هذا طبعاً ليثبتوا للناس و الأعلام أنهم الأفضل ، كما سيساعد المدير بالفوز في انتخابات السنة و منها أيضاً يسكتون روع المساكين هنا ، ا تركي عنك الكلام الأن و اجلسي لتأكلي قليلاً.

– شكراً ، لا أشعر بالجوع

****

بعد مرور سنة…

– حضرة المدير قد وصل الجواب اليوم.

ترك الملفات التي كان يقلب فيها و أشار للسكرتير بيده ليضعها على المكتب و يخرج من الغرفة .

تناول الرسالة بيديه و أمعن النظر في أسم المرسل و في كل مرة يعتريه شعور مريب ، خوف يداخله لم يعلم مصدره ، لكن متأكد أن له علاقة بالزمن الذي يسير بلا توقف و يمتد إلى الجسد متلاعباً بخباثة في هيئته ثم يسترد بعدها شيئاً فشيئاً منحاته له من طاقة و شباب .

فض الظرف بهدوء يحاول أن يتناسى هواجسه و قد خمن مسبقاً مضمونها.

” يؤسفني حقاً هذا الخبر و يثير بداخلي الشجن ، لطالما تمنيت أن أكون بقربها كما كانت بقربي في جميع اللحظات التي كنت فيها ضعيفاً ، لا تعلم يا حضرة المدير مدى بؤسي في هذه اللحظة كل كلمات الأرض لن تعبر عن ذرة مما يخالجني و لكن ما باليد حيلة ، عودتي من خارج البلاد ستكلفني وقتاً سيما أن هناك اجتماع طارئ سيعقد بعد يومين و سيحدد مسيرتي المهنية ، أتمنى أن يقوم حضرتكم بتكاليف الدفن و الجنازة و سأرسل المبلغ في غضون أسبوع “.

ايقظه من شروده في كلمات الرسالة طرقات على الباب و دلفت منها فتاة أثارت فرقعة كعبها صخباً في الغرفة الصامتة .

– سمعت أن الرسالة قد وصلت .

أشار بيده إلى الطاولة بلا مبالاة :

– نعم ، ها هي ..

نظرت متسائلة فبادرها قبل أن تتكلم :

– كما خمنت لن يأتي ، من يضع أحداً هنا يعني أنه يود إقصاءه فكيف تتوقعين خلاف ذلك أنستي ! كما أنه سيقوم بتوفير تكاليف الدفن ، أي لن نخسر بنساً واحداً .

– لكن لم يمر على وجودها سوى سنة ، ظننت أننا نصفي الأقدمين فقط !.

أبتسم بمكر .

– بالله عليك إنها عجوز صامتة ، حتى المقيمين هنا لم يشعروا بوجودها كما لن يؤلمهم غيابها ، ألا ترين أنها الصيد الأفضل لهذه السنة ؟ ظننتك أذكى من أن أخبرك بهذا ، قال جملته الأخيرة بابتسامة صفراء .

مما جعلها تشعر بشيء من الإحراج :

– حسناً قد فكرت في هذا أيضاً ، لكن تشككي نابعاً من الخبرة الحديثة التي لا تقارن بما عندك .

قالت ذلك نافثه بعض السم المخدر في كلامها لينقذها من موقف عدم الحرص أو الغباء في الوظيفة كما يسميه المدير ، مما جعله يتخم بالغرور كطاووس أفرد ريشه ، أرضتها نتيجة جملتها فأكملت قائلة :

– سأذهب الأن لإكمال إعداد مهرجان الغد.

غادرت الغرفة تتمايل بجسدها الممشوق و تطرق الأرض بكعبي حذائها ، و لا زال وجودها و هيئتها تتناقض مع المكان الذي تعمل به ، كما لا زالت تحمل سراً يمكنها من أن تمسك زمام الأمور كلها و الأدهى أن تستحوذ ثقته كاملة بكل ما تفعل ، يذكر الأن اليوم الذي أتت فيه من تلقاء نفسها ، أرادت أن تتطوع بالعمل الخيري و عندما توغلت بأسرار المؤسسة بدت أكثر حماساً من المدير نفسه ، ربما استهوتها شهوة السلطة في تحديد المصائر، ولكن أياً كان السبب فقد نتجت عنه نتيجة مرضية تماماً .

****

عند الباب لقيت الطباخة البدينة تحمل كوبي شاي رمقتها بنظرة ازدراء فأفسحت الأخيرة مجالاً لمرورها قائلة :

– صباح الخير سيدتي.

تجاوزتها دون أن ترد عليها بكلمة و توجهت إلى غرفتها ..

****

لم تعد العجوز سناء تعلم عداد الأيام و لا الأشهر ، تنبأها تلك الشجرة قبالة نافذتها بالفصول حيث أيقظ الشتاء مخاوفها وتمردت في لياليه الطويلة وحدتها ، لكن لم يلبث أن عاد الربيع ليحيي الأمل في قلبها و يمنحها السكينة ، ثم تلاه صيف حارق سخن الشوق و الذكريات و الأن يؤلمها الخريف الباهت و ما أشبهه بها .

عادت تراقب مجدداً تلك الورقة التي تجاهد للتشبث في غصنها الذي راح يهزها بعنف يؤلمها و لا زالت تتمسك به إلا أنها باتت تصفر ، تشحب ثم قريباً ستنكسر و تفترش الحديقة بانتظار أن تدفن الرياح جثتها المهشمة تحت وطأة أقدام السائرين .

سمعت الباب يُفتح لكنها لم تستدر ، لا بأس أنها الطباخة البدينة ، اعتادت أن تأتي بهذا الوقت تجلب لها بعض الفطائر التي تصنعها خصيصاً لها ، إذ لطالما أخبرتها أنها تشبه جدتها كثيراً بهدوئها و صمتها الموغل ، فحرصت على أن تعد لها الفطائر في وقت العصر كما اعتادت أن تفعل مع جدتها ، تجلس لتثرثر قليلاً معها ثم تغادر بعدها لتكمل أعمالها .

أغلقت الطباخة البدينة الباب بهدوء ، وضعت طبق الفطائر ثم تقدمت بسرعة باتجاه النافذة لتتأكد من خلو الحديقة أو على الأقل عدم وجود أذان متنصتة ، و عادت بعدها بسرعة ناحية العجوز سناء ، أمسكتها من كتفها و همست بخوف:

– جدتي عليك بالمغادرة الليلة ، لا تقلقي سنجد لك مكاناً ، فقط عليك أن تحزمي أمتعتك الأن.

تساءلت العجوز باستغراب بدا جلياً على وجهها :

– لكن لماذا ، و أين سأذهب ؟.

صمتت الطباخة قليلاً و قد غلبت دموعها كلماتها ثم هوت جالسة على السرير :

– صدقيني سيجبروني أو يجبرون أحداً أخر .. و لن نملك أي خيار ، وقتها الحل الأمثل أن تهربي .

تناولت عكازتها من جانب الكرسي و توجهت ناحية الطباخة ، مسحت على رأسها و ظهرها في محاولة منها لتهدئتها.

– حسناً عزيزتي ، أهدأي  قليلاً و اخبريني ماذا هناك ؟.

– غداً المهرجان ، سيتم فيه اختيار شخص للذهاب إلى المنتجع ، لكن الحقيقة أنه لن يذهب فعلاً إلى المنتجع ، إنها حيلة يستغلها المدير في جلب متبرعين للمؤسسة ، أتذكرين في العام الماضي تم اختيار محمد و كريم ،  محمد قد أصيب بالأم حادة في كليته و تم الإعلان على أنها فشل كلوي بالاتفاق مع الطبيب الذي يخرج شهادة الوفاة ، لكن الحقيقة أني أُجبرت ، صدقيني أُجبرت على وضع السم .

أجهشت في البكاء ثم أخذت نفساً لتكمل كلامها :

– أما كريم فقد أخذوه إلى منطقة نائية و تم قتله هناك و أُخرجت له كذلك شهادة وفاة مزورة في حال تم مطالبتهم بإثبات .

سرحت العجوز لتفلت من بين شفتيها

– أخبرني العجوز المجنون كذلك لكني لم أصدقه ، يبدو أنه كان على حق.

– حتى المدير يعلم أن المجنون كشف ما يدور هنا ، لكن لا يستطيعون التخلص منه ، أولاده يدفعون مبالغ كبيرة لقاء العناية بوالدهم و بالطبع أن لا أحد من الموجودين سيصدق هذا المجنون ، المهم يا جدتي أن تخرجي من هنا .

– و هل تعلمين من سيتم اختياره غداً ؟ أظن أن عليك أن تخبريه في حال كنتِ تعلمين ..

تنهدت و هي تنظر في وجه المرأة العجوز ، إنها تشبه جدتها كثيراً ، يذكرها الأمر الأن عندما كانت تشاكس بشيء و تختبئ عندها فتعاملها جدتها بهدوء لينتقل هدوئها المحبب إلى نفسها فتطمئن و تنام لتجد أن الأمور بخير في اليوم التالي ، قد كبرت و كبرت مشاكساتها حيث طالت قتل الأرواح بدلاً عن تمزيق الأثاث .

– نعم علمت ، صباح اليوم .. منذ بضعة أيام قد درسوا إحصائية المقيمين هنا و تم إحصاء عدد أكثر الأشخاص الذين لم يسأل عنهم أحد ، و يشكلون استهلاك في الدرجة الأولى للموارد الخيرية التي تأتي من المحسنين و الذين لم يدفع أحد من أهلهم لقاء وجودهم و لم يسأل عنهم أحد منذ فترة ، و قد تم الاختيار بسرية تامة ، لكن صباح اليوم أتت الرسالة في البريد و قد كنت في الخارج ، استلمت الرسالة و قرأت مرسلها ، إنها من “سمير غالب”

تهلل وجه المرأة فرحاً ، فقاطعتها متناسية موضوع المهرجان :

– أبني لقد أرسل لي ! أين هي الرسالة ، لماذا تم إخفاؤها ، هل تخبئينها عندك أيتها المشاكسة ؟ هيا أخرجيها و أقرأي لي ما كتبه ، هيا ما الذي تنتظرينه ؟.

لا زالت الطباخة تجلس في مكانها تراقب تهلل البشرى في وجه العجوز و الفرحة التي جعلت منها كصغيرة تنتظر أن يعطوها هديتها ، أجابتها و قد أشاحت بنظرها إلى النافذة :

– لم يرسل هو شيء ، بل تمت مراسلته هذا ما علمته عندما أعطيتها للسكرتير الذي قام بتوبيخي بشدة ، تحينت فرصة للدخول على المدير و تذرعت بإدخال الشاي لكني لم أدخل و وقفت لأتنصت ، سمعته يحادث مسؤولة المهرجان السنوي و قد علمت أنهم أرسلوا برقية إلى أبنك اخبروه أنك بحالة سيئة جداً و طالبوه أن يأتي بزيارتك لكنه تعذر عن المجيئ و أخبرهم أنه سيرسل تكاليف الجنازة ، هذا يعني أنك في خطر محدق طيلة وجودك هنا ، عليك أن تغادري الليلة قبل أن يُقام المهرجان حيث سيتم فيه اختيارك .

انتظرت أن ترد العجوز بشيء إلا أنها بقيت صامتة ، هبت الطباخة واقفة و فتحت خزانة ملابس العجوز و بدأت تجمع بعشوائية ما تطاله أيديها.

– عليك أن تغادري ، لا وقت أمامنا لنضيعه.

صمت قليل تبعته النبرة الهادئة للعجوز :

– لن اذهب لمكان عزيزتي ، لا تتعبي نفسك .

استدارت مستغربة مما سمعته للتو :

– لكن ..

– لكن ماذا ؟ ماذا سيحدث إن خرجت من هنا ، هل سأعيش ما تبقى من حياتي مشردة ؟ و كم تبقى من الحياة لأعيشه ؟ لا تقلقي نفسك عزيزتي بشأني ، من كان يحق له القلق فعلاً سيكتفي بتوفير أموال الجنازة .

ابتسمت ساخرة و عادت إلى كرسيها الهزاز مجدداً ، معها حق فيما تقوله،  لكن لم يمنع المرأة من أن تشهر آخر محاولاتها قائلة :

– سأوفر لك مكاناً ..

أجابت العجوز دون أن تستدير لأنها تعلم أن كلامها لن يخطأ هدفه هذه المرة :

– كلانا نعلم حقيقة ذلك ، لو كنتي تملكين ما يمكنك من إيجاد مكاناً لما بقيتي هنا تشاركيهم أفعالهم .

رنت كلماتها في الغرفة لتضعها أمام الحقيقة الكاملة و كان كافيا ذلك لإيقاف محاولاتها ، هي لا تملك مكان و بالكاد تعيل صغيريها اليتمين الذين تركتهم عند أختها و ترسل لهم راتبها عند أول شهر كاملاً ،  مما دعاها لتنسحب بهدوء من الغرفة تاركة أنين الكرسي الهزاز يجتاح المكان مجدداً ، لم يعد يزعج العجوز بل كانت تشعر أنه يؤانسها بلغته الخاصة ، و تخيلت أنه سيكف عن الأنين بمجرد أن ينزاح عنه هذا الحمل الثقيل في غضون اليومين القادمين . 

عدّلت نظارتها و دارت عينيها باحثة عن تلك الورقة الصفراء وقد لمحتها بأخر لحظة تسبق سقوطها ، أخذت الرياح الهادئة تأرجح الورقة الباهتة بلطف قبل أن تتوسد الأرض و قد لفظت انقاس الحياة الأخيرة ، عندها شعرت العجوز أن سكيناً قد غُرس في أحشاؤها و لم تعد تقاوم ، لم تعد تقوى على أن تكبح بؤسها فشعرت أنها تنهار ، تنزلق في وادي لا قرار له من البكاء المرير ، تستشعر أن شيء ما في داخلها يحترق و يحرق معه تلك السنين التي قضتها ترعى ولدها و ترفض جميع الخاطبين بعد وفاة زوجها لأنها تخشى أن ترسم حياة جديدة تشعره فيها أنه خارج الصورة و ، لكن هيهات للإحسان أن يُكرم بالإحسان ..

***

في الصباح الباكر كان المدير في غرفته يستعد للمهرجان ، يعدل ربطة عنقه أمام المرآة ، حين دلفت عليه مسؤولة الحفل الشابة و قد شحب وجهها ، ألتقت أعينهما في برهة من الصمت قبل أن تخبره :

– لقد ماتت العجوز سناء ، وجدوها ميتة في كرسيها أمام النافذة و يبدو أن سكتة قلبية قد انتابتها.

تجهم قليلاً ثم عاد إلى وضعه الهادئ قائلاً :

– بشرى جميلة ، قد رحلت دون تدخل منا ، أعلني نبأ وفاتها و كذلك تأجيل المهرجان إلى الأسبوع القادم .

شعرت بانقباضه في قلبها من بروده و من ضياع يومين تستعد فيهم للمهرجان و قد دعت الصحافة كذلك للحضور ، و ستضطر الأن إلى إلغاء كل ذلك .

ضغطت على أسنانها متصنعة بعض الهدوء :

– حسنا سأتولى الأمر قبل مجيء الصحافة .

نظر لانعكاسها في المرأة ثم أخبرها مذكراً :

– لا تنسي أن تخبريهم أننا قمنا بتأجيله حداداً على روح العجوز التي توفت.

ابتسمت لفطنته في تسخير جميع الأمور لصالحه و هزت رأسها إيجاباً.

– بالطبع ، لن أنسى ذلك.

 

ثم غادرت الغرفة و بقيت فرقعة كعبها الصاخبة كموسيقى تعزف على أوتار عطرها الأخاذ الذي ملأ أرجاء الغرفة .

النهاية ……

تاريخ النشر : 2020-05-14

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى