بائعة القرنفل
كانت تعيش حياةً سعيدةً في مدينتها حلب |
جميع شخصيات وأحداث القصة من خيال الكاتبة ، وأي تشابه بينها وبين شخصيات حقيقية هو من قبيل الصدفة لا أكثر .
**
نظرت سيما في ساعة يدها فوجدتها تقترب من العاشرة صباحاً ، حثّت سائق “المكرو باص” على الاستعجال ، فأجابها باستهزاء : تعالي وخذي مكاني في القيادة
قالت غاضبة : هل تسخر مني ؟!
وماذا تريدين مني أن أفعل ؟ ألا ترين زحمة الشوارع ؟ قال متذمّراً .
ردّ عليه رجلٌ يجلس خلفها : هذه الأزمة جعلت المدينة مكتظّة بسكّانٍ نزحوا من المدن الأخرى ، وكأنّ دمشق ينقصها ازدحاماً !
توتّرت سيما من كلام الرجل وأرادت الردّ عليه ، لكنّ المكرو باص كان قد وصل عند النقطة التي يجب أن تنزل فيها . حملت حقيبة يدها ونزلت صافقةً الباب خلفها بكلِّ ما أوتيت من قوّة ولم تعبأ بالسباب الذي أطلقه السائق خلفها ، أرادت بذلك التّنفيس عن غضبها واستيائها ، فما ذنب من نزحوا تاركين خلفهم بيوتهم وأملاكهم واستقرارهم ، هل هم من اختار الحرب والنزوح والاغتراب ؟
***
كانت تعيش حياةً سعيدةً في مدينتها حلب ، أسرتها المكوّنة من أبٍ يمتلك متجراً لبيع الألبسة الجاهزة وأمٍّ متفانيةٍ بخدمة زوجها وأبنائها الأربعة ، يضمّهم منزلٌ جميل يقع في حيِّ “المشارقة” ، تغطّي بابه الخارجي شجرة وردٍ جوري نمت أغصانها وتشابكت لتلبسه حلّةً خضراء وأزهاراً حمراء طيلة العام تقريباً . لا شيء يعكّر صفو حياتهم سوى مشاكلٌ صغيرةٌ تحدث في كل البيوت . لكنّ سوريا بعد العام ألفين وأحد عشر كانت موعودةً بأحداث ستقلب كيانها وتنشر الفوضى في ربوعها .
منذ بداية الأحداث وانتقالها إلى حلب كانت والدتها تلحّ على والدها ببيع أملاكهم ومغادرة المدينة ، لكنّ الوالد أصرّ على البقاء ، ودائماً كان يقول لها : استهدي بالرحمن يا امرأة ، لن يحدث شيء ، نارٌ اشتعلت سرعان ما ستنطفئ ويعود كل شيءٍ كما كان . لكنّ هذه النار لم تنطفئ ، بل كانت تزداد اشتعالاً . تحوّلت شوارع حلب إلى معسكراتٍ للقتال ، القذائف تنهال عليها من كلِّ اتجاه . لم تشعر سيما بفداحة ما يجري إلا بعد أن فقدت شقيقها الأكبر حسام ، سقطت عليه قذيفة عندما كان متوجّهاً إلى جامعته . موت شقيقها صنع شرخاً بين أبيها وأمها ، فقد حمّلت الأم زوجها مسؤولية خسارة ابنهما . لم يحتمل والدها خساراتٍ أخرى ومزيداً من الّلوم ، فقرّر النّزوح إلى مدينة دمشق تاركاً متجره مغلقاً بعد أن فشل في بيعه ، فقد كانت الأوضاع سيّئة والجميع يريد الفرار من المدينة . ألقت سيما قبل الرحيل نظرةً أخيرةً على منزلهم حاولت من خلالها اختزان أكبر قدرٍ ممكنٍ من التفاصيل في ذاكرتها . سورٌ من القرميد يتوسّطه بابٌ حديديٌّ مصبوغٌ بالّلون الأسود ومكلّلٌ بشجرة الورد . إلى جانب الباب وضِعت لوحةٌ صغيرة كتب فيها الرقم ١٧ ، رقم منزلهم في الحي . بعض قطع القرميد متآكلةً نتيجة مرور الزمن . وفي القطعة الثامنة إلى اليمين طلاءٌ بنّي وضعه شقيقها حسام ليمحو عبارة “بحبك سيما” التي كتبها ابن الجيران أيام مراهقتهم . فاضت عينا سيما بالدموع وهي تدير ظهرها للمنزل ، تساءلت في سرّها هل ستعود يوماً إلى هنا . لكنهم فيما بعد سمعوا بأنّ الحيّ الذي يقطنون فيه قد دُمّرت منازله ، وفي تلك اللحظة أيقنت سيما أنّ نظرة الوداع التي كانت قد ألقتها على المنزل هي الأخيرة .
***
كانت صباح هذا اليوم متّجهة إلى حي “الربوة” حيث تقع شركة المنارة للتمويل والاستثمار ، من أجل إجراء مقابلة عملٍ هي بأمسِّ الحاجة له . فبعد نزوحهم من حلب وخسارتهم لكلِّ شيء ، كان عليها أن تساعد والديها في مصاريف الحياة اليوميّة ، لذا عملت بعدّة وظائف ، من نادلةٍ في مطعم إلى معلمة دروسٍ خصوصيّة لأطفال الحي بأجرٍ لا يكاد يساوي تعبها إلى عاملةٍ في متجرٍ لبيع الورود . سئمت هذه الأعمال ذات الأجر الزهيد ، لذا عندما رأت إعلان الوظيفة الشّاغرة في تلك الشركة سارعت في التّقدم لها .
عند وصولها إلى هناك صُدِمت برؤية طوابير المتقدّمين لهذه الوظيفة لكنها مع ذلك تمسّكت بالأمل . وعندما حان موعد مقابلتها مع مسؤول التوظيف سألها عن الشهادات التي تحملها فأجابت بأنّها كانت تدرس اللغة الانجليزية في حلب لكنّها نتيجة الأوضاع السيئة غادرت المدينة ولم تكمل دراستها .
طالعها الموظّف -وكان يشغل منصب مدير الموارد البشريّة في الشركة- بخيبة أملٍ وقال :
تقصدين أنّك لا تملكين سوى شهادة التعليم الثانوي ؟!
أجابت بنعم
عندها قال :
آسف ، مؤهّلاتك العلميّة لا تسمح لنا بتوظيفك ، جميع من قابلتهم لحد الآن يستحقّون الوظيفة أكثر منكِ
لم تشعر سيما بنفسها إلا وهي تقول :
لكنهم لا يحتاجون الوظيفة أكثر مني . أنا نازحة منذ أربع سنوات من مدينة حلب ، خسرنا كل ما نملك وجئنا إلى هنا . لدي إخوة بحاجة لإكمال تعليمهم ، وأبي رجلٌ كبيرٌ ذاق الذلّ في آخر عمره وأصبح يعمل أجيراً في محلٍّ لبيع الأقمشة بعد أن كان يمتلك متجراً بأكمله ، وأمي امتهنت الخياطة رغم الألم في مفاصلها ، أنت قاسٍ إن لم تقبل بتوظيفي .
ونزلت دمعة من عينها رغماً عنها ، فنهض الرجل متّجهاً نحوها ، أعطاها منديلاً لمسح دموعها وقال :
تؤسفني حالكم حقاً ، لكنّي رجلٌ مستقيم في عملي ويجب أن أوظّف الأجدر من بين المتقدّمين بعيداً عن العواطف .
نظرت إليه قائلةً برجاء :
يعني لا أمل ؟
– أعتذر منكِ ، قال لها وصمت منتظراً منها الخروج ، لكنه عندما رآها مازالت واقفة اقترب منها أكثر وقال :
فتاةٌ تمتلك هاتين العينين الساحرتين لا يجب أن تبكي . ما رأيكِ بالعمل في منزلي ؟
فما كان منها إلا أن صفعته بقوّة قائلةً :
كَوْني نازحة وبحاجةٍ ماسّة إلى عمل لا يعني أنني فتاةٌ بدون شرفٍ أو كرامة ، ماذا تعني بمخاطبتكَ لي بهذه الطريقة وطلبكَ مني العمل في منزلك أيها السافل .
ثم خرجت من مكتبه تاركةً إيّاه متسمّراً في مكانه واضعاً يده على خدّه المصفوع وفي عينيه دهشةٌ واستغرابٌ كبيرين .
***
عادت سيما يائسةً ومنهارة إلى منزلهم القابع في حيٍّ تكثر فيه البيوت العشوائيّة المتهالكة يقع في أطراف منطقة “المهاجرين” . دفعت الباب ودخلت ، جلست على أريكةٍ قديمةٍ موضوعةٍ في فناء المنزل ، وبدأت بنزع الدابيس عن حجابها لخلعه ، فسمعت صوت والدتها تكلّم إحدى زبوناتها :
بيتنا في حلب كان واسعاً ويحوي أفضل الأثاث لكن يا حسرة ، سمعنا أنه دُمّر بالكامل . وزوجي كان تاجراً كبيراً و..
أغلقت سيما أذنيها عن سماع الباقي ، وعندما خرجت المرأة من المنزل قالت لأمها ساخرةً :
ألم تملّي من إعادة تكرار أمجاد الماضي ؟ كنا وكنا وكان لدينا ..
– حتّى يعلموا أننا كنا من الناس الميسوري الحال في حلب
هبّت سيما واقفة تنظر بغيظٍ إلى أمها . قالت صارخة :
حلب ؟ ماذا بقي لنا فيها إذا كان البيت قد دُمِّر وكذلك المتجر ! اصحي أمي اصحي وكفاكِ تفاخراً بماضٍ ذهب ولن يعود . هل تظنين أنك مازلتِ الـ “ست سعاد ” ؟! أنت الآن لست سوى خيّاطة تقطن في بيتٍ متآكلٍ لا يقيها برد الشّتاء ولا حرّ الصيف ، وفوق كلِّ هذا بالإيجار . وزبائنك أغلبهم من الطّبقة المعدمة التي تتعبك كثيراً وتلوّعك قبل دفع ثمن خياطة ثيابهم . أنت خيّاطة فقيرة في حيٍّ فقير ، لذا أرجوكِ عيشي الواقع وانسي ماذا كنا لأنه لا أحد يهتم بكِ وبماضيكِ .
تلقّت سيما بعد هذا الكلام صفعةً من أمها طرحتها أرضاً وجعلتها تصحو على نفسها فانهارت باكية . جثت الأم على ركبتيها إلى جانب ابنتها وضمّتها إلى صدرها وأخذت تمسح على شعرها بحنان . قالت سيما من بين دموعها :
آسفة أمي لم أقصد جرحكِ
– لا بأس حبيبتي أنا أعرف أنكِ متضايقة ، ما الذي حدث معكِ في مقابلة العمل ؟
– طبعاً لم يوظًفوني ، ما هي مؤهَلاتي للعمل في شركةٍ مرموقة ؟ ذهابي هناك كان حماقةً منذ البداية . تصوري يا أمي ، لقد رجوت الرجل المسؤول لكي يوظّفني ، حاولت استدرار عواطفه وكانت النتيجة أنه حاول التحرّش بي وإهانتي بعد أن عرف أنني نازحةٌ وأعيش حياةً صعبة .
تنهّدت الأم وأطلقت آهاً خرجت من قلبها الموجوع ، ثم قالت :
لا عليكِ يا ابنتي ، عملنا أنا ووالدكِ يدرُّ دخلاً لا بأس به . لا تفكّري بالبحث عن عملٍ الآن ، بل فكّري بإكمال دراستك . بقي لكِ سنتان حتّى تتخرّجي ، وقد سمعت أنّ الأوضاع الآن في حلب أصبحت أفضل ، وقد فتحوا الرحلات إليها برّاً . ما رأيكِ بالذّهاب إلى هناك والسؤال عن إمكانيّة عودتكِ للدراسة ؟
– ربما معكِ حق . عندما يعود أبي من العمل سأناقشه بالموضوع .
نهضت الأم وهي تقول :
لقد تأخّرت عن إعداد الغداء ، سيعود فريد متعباً ولن يجد شيئاً ليأكله .
– ليست المشكلة بوالدي فهو على كل حالٍ صبورٌ ولا يُظهِر امتعاضاً إن تأخّر الطعام ، المشكلة عند إخوتي طارق وملاك إن عادا من المدرسة ولم يجدا الغداء قد جهز . قالت سيما ذلك ضاحكةً وهي تمسح بيدها ما بقي من دمع عن خدّها ، ثم أكملت : سأغيّر ثيابي وألحق بكِ لمساعدتك .
***
قال والد سيما بينما كان يتناول كوب شايٍ من يد ابنته :
أُؤَيّد قراركِ هذا ، فأنتِ يجب أن تكملي دراستك . لكنّي أقترح أن تنقلي أوراقك إلى جامعة دمشق .
– أنا أيضا كنت قد فكرت في ذلك .
– إذاً على بركة الله . سأذهب غداً وأحجز لنا تذكرتَي سفرٍ إلى حلب .
قالت سيما مستغربة :
هل ستذهب معي يا أبتي ؟
– أجل
تدخّلت الأم :
لكنّك قد لا تحتمل مشاقّ السّفر ، فالطريق إلى هناك أصبح طويلاً بسبب الحواجز ونقاط التفتيش الكثيرة
وضع الوالد كوبه جانباً وقال :
لن أدع سيما تذهب وحدها فالوضع لم يهدأ في كافّة مناطق حلب بعد ، هذا بالإضافة إلى أنّني أودُّ رؤية مدينتنا بعد هذه السنوات .
***
كان طريق السّفر طويلاً ومتعباً ، خصوصاً الانتظار عند نقاط التفتيش . نصف الطريق قضاه والد سيما في النوم بينما هي لم يغمض لها جفن . عندما كان يدخل العسكري إلى الحافلة ويطلب رؤية الهويّات الشخصيّة كانت سيما تعطي هويّتها وهويّة والدها دون أن توقظه ، ثم تعود للغرق في أفكارها وذكرياتها ، وتوجّسها من رؤية مدينتها التي شهدت مولدها وطفولتها وشقاوة مراهقتها وازدهار شبابها . مدينةٌ ماتت فيها أحلامها وأحلام جيلٍ بأكمله .
وصلا إلى حلب مع غروب الشمس . استقلّا سيّارة أجرة كانت تنبعث من مسجّلتها أنغام أغنية “آه يا حلو يا مسليني” لـ”صباح فخري” ، فتأكد والد سيما بأنّ السّائق حلبي أصيل مما جعله يبتسم في سرّه . وجهتهما كانت حي “السليمانية” ليحلّا ضيفان على صديقٍ قديمٍ للعائلة ، وحي السليمانية من الأحياء التي لم تتأثّر كثيرا بالأحداث .
لم يتبيّنا الطريق جيداً بسبب الظلام الذي انتشر لكنّهما في الصباح الباكر عندما خرجا ليذهبا إلى الجامعة هالهما منظر الدّمار الذي قد حلّ في المدينة وغيّر معالمها ، فحلب التي كانت تمتاز بطراز عمراني مختلف عن بقية مدن سوريا يوحي بعراقة تاريخها قد أضحت الآن مدينة تسكنها الأشباح وتلهو في أنقاض بيوتها .
تطلّب نقل أوراق سيما من الكليّة تقديم طلبٍ لتسوية وضعها في الجامعة أولاً بعد كل هذا الانقطاع ومن ثم مناقشة إمكانية انتقالها من عدمه ، الأمر الذي يستغرق بعض الوقت . فوعد صديق والدها بمتابعة موضوعها بنفسه وطلب منها العودة إلى دمشق مطمئنّة .
قال والد سيما لصديقه : أودّ الذّهاب إلى حي المشارقة لرؤية ما تبقّى من منزلي .
– نصيحتي لك ألّا تذهب ، لأنك لن تجني من الذهاب إلى هناك سوى الألم والحسرة . قال صديقه معترضاُ على ذهابه . لكنّ الوالد بقي على موقفه ، عندها أصرّت سيما على مرافقته .
***
وقفا عند مدخل الحي فاستقبلتهما آثار القصف والقنابل . كانا كلّما توغُلا فيه أكثر كلّما تحوّلت البيوت إلى أنقاضٍ وبقايا حجارة . وقف الوالد حائراً يقول :
أين يقع منزلنا يا ابنتي ، في أيّ شارع ؟ جميع الشوارع متشابهة وقد تحوّلت إلى ركام ! انتظري ، ربما هناك . قال مشيراً نحو اليمين ثم اتجه مهرولاً إليه ، عاد ليغير رأيه ويقول : بل بعد هذا الزقاق ، ركض نحوه بينما سيما تحاول اللحاق به ، لكنه توقف مستسلماً يلهث ، التفت إلى ابنته قائلاً بأنفاس متقطعة : ليتني استمعت إلى نصيحة صديقي ولم آتي إلى هنا . ليتني لم آتي
أمسكت سيما بذراعه وقالت :
لا بأس أبتي ، فلنعد إلى دمشق . لم يبق لنا هنا شيء لنفعله .
***
لم يتكلم والدها طيلة طريق العودة بل لم ينم حتّى . كانت سيما تسترق النظر إليه بين الفيَنة والأخرى ، فتجده ساهماً ينظر عبر النافذة إلى الفراغ ..
وصلا دمشق مساءً ، استقبلهما شقيقاها بفرح ، فتساءلت سيما عن أمها ، أجاباها أنها في المطبخ تعد العشاء .
خرجت الأم من المطبخ تقول والابتسامة تغمر وجهها :
حمداً لله على سلامتكما ، هل كانت رحلةً موفّقة ؟
لكنها بترت كلامها عندما رأت زوجها يتداعى على الأريكة فتساءلت :
ما بك يا فريد ؟ تبدو هذه الرحلة وقد جعلتك تهرم فجأة ! لقد خشيتُ عليك منذ البداية مشقّة السفر ولم أكن مع ذهابك ، لكنك..
– ماما أرجوكِ كفى . قاطعت سيما والدتها وهي تجرّها إلى المطبخ . قالت بعد أن أصبحتا لوحدهما :
إنه هكذا منذ أن عاد من زيارة حينا في حلب . لا أعرف ما الذي أصابه ، يبقى صامتاً وشارداً طوال الوقت ، أنا قلقة عليه .
– لا بأس سأكلّمه بعد تناول الطعام .
تحلق الجميع حول سفرة الطعام ، أكل الوالد بضع لقيماتٍ ثم نهض ليجلس على الأريكة اليتيمة في فناء المنزل . لحقت به زوجته قائلةً ما بك ؟ فوصل للأولاد صوت والدهم المهزوز يقول :
خرجت من مدينتي خائفاً وطالباً الأمان كما فعل الكثيرون مثلي . خرجت على عجلٍ قائلاً في نفسي أنني سأعود . تحمّلت الذلّ والمهانة هنا ، الفقر والحاجة . أتجلّد بالصبر والقوة أمامكم ، وفي الليل عندما أخلو مع نفسي أستسلم لضعفي وقلة حيلتي ، وأسمح لبعض الدموع بالتدّحرج من عينَي ماسحاً آثارها بسرعةٍ خشية أن يشعر بها أحد . كل هذا وأنا أقنع نفسي بأني مازلت أمتلك منزلاً ومتجراً في حلب ، وبأني سأعود إليهما يوماً ما . لكني الآن أيقنت أنه لم يعد لي شيء في هذه الدنيا . هل تصدّقين يا سعاد بأني لم أستطع تمييز الشارع الذي يقع فيه منزلنا ؟! فجميع أنقاض المنازل والشوارع تتشابه . ليتني لم أذهب إلى حلب ، ليتني بقيت هنا أحيا على أمل العودة . لم تعد لي رغبةٌ بالحياة ، بل لم أعد أمتلك الطاقة التي تجعلني أستمرُّ في هذه الحياة .
ثم نهض متوجّهاً إلى غرفته وأغلق على نفسه الباب .
حل الوجوم على وجوه أفراد العائلة ونهضوا جميعهم عن الطعام الذي بقي في الأطباق لم يمسسه أحد . خرجت سيما لتجلس مع أمها . قالت :
إن والدي يمر بفترة حرجة يجب أن نراعيه جميعنا فيها ، سأذهب وأطيّب خاطره ببضع كلمات . لكنها عادت سريعاً تقول :
وجدته نائماً في الفراش فأغلقت الباب فوراً ولم أرد إزعاجه ، طريق السفر كان متعباً جداً ، سأخلد للنوم أنا أيضا .
غسلت الأم آخر طبق على ضوء الشاحن ، فالتيار الكهربائي كان مقطوعاً . وانقطاع الكهرباء عن أغلب مناطق وأحياء دمشق لساعات طويلة أصبح أمراً اعتيادياً منذ بدء الأزمة . مسحت أرضيّة المطبخ ثم غسلت يديها ، حملت الشاحن وخرجت تتلمّس طريقها بهدوء ، أطلّت على أبنائها فوجدتهم يغطّون في النوم تركتهم ودخلت إلى غرفة نومها . وضعت الشاحن على الأرض بجانب الفراش ثم غيّرت ثيابها واندسّت تحت الأغطية إلى جانب زوجها ، عدّلت الغطاء عليه وهي تقول له بهمس : فريد هل أنت نائم ؟ لكنها لم تلقَ ردّاً . انتابها القلق عندما لم تسمع صوت تنفّسه المنتظم ، أخذت تهزّه بهدوءٍ سرعان ما تحوّل إلى عنفٍ وهي تنادي عليه ، إلى أن أيقنت الحقيقة ، فزوجها قد مات .
استيقظ الأولاد على صراخها كانت سيما أوّلهم ، اندفعت تدخل الغرفة لتجدها غارقة في الظلام إلا بقعةٍ مضاءة صنعها ضوء الشاحن الضعيف ، كانت فيها أمها تجثو على ركبتيها وتكلّم جسد والدها الفاقد للحياة :
لمن تركتني يا فريد ؟ ماذا سأفعل بدونك ؟ أنا ضعيفة ، ضعيفة يا فريد وقوّتي كنت أستمدّها منك . أنت قاسٍ وأناني ، لماذا رحلت قبلي ؟ لماذا لم تأخذني معك ؟ رُدّ عليّ أرجوك . كيف سأصارع الأيّام لوحدي ؟ لمن ذهبت وتركت أولادك ؟ أولادك بحاجةٍ إليك وأنا بحاجة إليك . لقد وعدتني أن نعود إلى حلب ونعيد بناء منزلنا وافتتاح متجرنا ، لماذا رحلت وأخلفت بوعدك لماذا لماذا ؟
كانت ليلةً قاسيةً وطويلة ، اختلطت فيها أصوات نواح سيما وأمها وأخويها مشكّلة ترنيمة حزنٍ شقّت سكون الليل .
***
بعد أسبوعين دخلت سعاد على ابنتها سيما فوجدتها ماتزال ممسكةً بصورة والدها وعيناها محمرّتان من شدّة البكاء . جلست بجانبها وقالت :
ارحمي نفسك يا ابنتي ، إلى متى ستبقين على هذه الحالة ؟
أجابت سيما من بين دموعها :
لا أستطيع مسامحة نفسي فأنا السبب في موته . لو لم أطرح عليه فكرة إكمال دراستي لما ذهب إلى حلب ولما حدث ما حدث ، قلبه لم يحتمل الصّدمة ، كان الأمر أكبر من أن يتجاوزه . أنا السبب في موت والدي يا أمي ، أنا السبب .
ضمّتها الأم إلى صدرها وقالت :
لستِ السبب يا حبيبتي بل هو قضاء الله وقدره ، وعليكِ أن تؤمني به .
ابتعدت سيما عن أمها وقالت ساخرة :
كما آمنتِ أنت بأن حسام مات بقضاء الله . أبي رحل عن هذه الدنيا حاملاً معه إحساساً بالذنب بأنه من قتل أخي وذلك بسبب عدم إيمانكِ وتسليمكِ بأمر الله ، لقد بقيتِ حتى آخر أيامه تردّدين على مسامعه نفس المقولة “لو أننا خرجنا من حلب في بداية الأحداث ما كنا خسرنا ابننا ” ، لذا لا تطلبي مني شيئاً أنتِ لم تستطيعي فعله .
وعادت لتجهش بالبكاء ، وهذه المرة شاركتها أمها فيه .
***
عادت سيما تعمل في متجر بيع الزهور على أمل إيجاد عملٍ آخر أفضل . وبينما كانت منحنية تشذّب بعض الأغصان ، دخل رجلٌ إلى المحل ملقياً السلام . نهضت لتستقبله ، لكنها تسمّرت في مكانها عندما وقعت عيناها عليه ، فقد وجدت نفسها وجهاً لوجه مع مدير الموارد البشريّة في شركة المنارة للتمويل والاستثمار ، الرجل الذي رفض توظيفها وأهانها . قال الرجل بفرحِ بعد أن دقق النظر فيها لبضع ثوانٍ :
أنتِ الآنسة سيما إن لم تخنّي الذّاكرة .
كادت أن ترد عليه بشكلٍ قاسٍ لولا أنّه أكمل :
لا تعرفين كم تمنّيت أن أراكِ ثانيةً بعد أن خرجت من مكتبي في ذلك اليوم . أردتُّ توضيح سوء الفهم الذي حصل بيننا .
لكن سيما لم تسمح له بالاسترسال في الكلام إذ قالت :
ليس بيننا شيءٌ لتوضّحه . والآن تفضّل ما هو طلبك ؟ أيُّ أنواع الزهور ترغب بها حتى أجهّزها لك .
قال مصرّاً :
بل يجب أن تسمعيني . أنا لست كما فهمتني إطلاقاً وأحتقر الرجال من تلك النوعيّة ، كل ما قصدته في ذلك اليوم أن أعرض عليكِ العمل جليسةً لأمي المقعدة . هي امرأةٌ مسنةٌ وأضطرُّ بسبب عملي تركها لوحدها في المنزل أغلب الوقت مع الخادمة التي لا تستطيع رعايتها . كنت صادقاً وأتكلّم بجديّة عندما عرضت عليكِ العمل في منزلي ، وكانت نيّتي صافية .
لمست سيما الصدق في كلامه وشعرت بأنها تسرعت في الحكم عليه ، فأطرقت أرضاً وقالت :
إذاً أنا مدينةٌ لكَ باعتذار
– على ماذا ؟
– على سوء ظنّي بكَ ، وأيضا على صفعي لك (قالتها بخجل)
أطلق ضحكةً قصيرةً ثم قال :
أما سوء الظن فقد سامحتكِ عليه ، وأمّا الصّفعة فثمنها باهظ
– ما هو ؟
أجاب باسماً :
ثمنها أن تجهزي لي باقة ورد رائعة أهديها لأمي في ذكرى ميلادها الذي يصادف اليوم .
تنهدت بارتياح فقد ظنّته جادّا عندما تكلّم عن الثمن ، قالت وهي تبادله الابتسامة :
هذا طلب سهل ، سأنسّق لكَ أجمل باقة ولن آخذ ثمنها منك بل سأدفعه للمحل من مرتّبي للتكفير عن تلك الصفعة
– لا لن أقبل بذلك ، هدية أمي يجب أن تكون من حسابي ، إلا إن أردتِّ إهداءها باقةً أخرى على حسابك .
نظرت إليه متأمّلة فلاحظت ما لم تلاحظه من قبل ، إنه رجل جذاب يمتلك شخصيةً مرحةً مختلفة عن الشخصية الجديّة التي يحاول الظهور بها في عمله . كان هو الآخر يتأمّلها ، أبحر في عينيها اللتيَن لم يستطع نسيانهما منذ رآهما أوّل مرّة . فجأة أدركا أنهما أطالا النظر في بعضهما أكثر من اللازم فاحمرّ وجهيهما خجلاً .
قالت سيما متجاهلةً ما حصل :
دقائق وستكون لديك باقة ورد لا مثيل لها .
سألته بينما كانت تختار الورود :
لم تخبرني ما هو اسمك ؟
– اسمي هو حسام
رفعت حاجبيها دهشةً ثم قالت بأسى :
كان لديّ شقيقٌ اسمه حسام
– لماذا تقولين كان ؟!
– لأنه قد توفي ، سقطت عليه قذيفة قبل نزوحنا من مدينة حلب
– أنا آسف ، بالتأكيد لم أقصد نكأ جرحكِ؟
– لا عليك ، ما حدث ويحدث في البلاد جعلنا نعتاد الحديث عن آلامنا
– وهل تملكين أشقّاء غيره ؟
– أجل ، شاب وفتاة
قال وقد أراح نفسه بالجلوس على كرسي :
أما نحن فثلاثة إخوة وفتاة . شقيقي الأكبر مغتربٌ في أمريكا منذ سنوات عديدة ، أما شقيقي الآخر فقد أغرته فكرة العيش في أوروبا فذهب إلى ألمانيا مع موجة من ذهبوا إليها ، ثم لحقت به زوجته وأولاده . وأختي تقدّم لها ابن خالتي وهو أيضا لاجئ في ألمانيا فقبلت وتزوجت به .
– وأنت ، لم لم تهاجر أيضاً ؟
– لأني أحبُّ دمشق ولا أستطيع الابتعاد عنها ، ومهما حدث فلن أتركها .
قالت وهي تناوله باقة الورود :
تفضّل ، أرجو أن تعجبك
– إنها رائعة ! سلمت يداكِ . ثم أشار إلى أصيصٍ زرعت فيه ورود القرنفل وطلب منها أن تقطف له وردة ، وبعد أن فعلت ناولها إياها قائلاً :
في لغة الورد هذه الزهرة ترمز للجمال والكبرياء ، وأنا أراها تليق بك . أرجو أن تقبليها منّي .
أخذت الوردة منه وقد غمر قلبها إحساسٌ لم تشعر به من قبل . أما هو فقد ودّعها تاركاً قلبه عندها ، غادر وهو مصمّمٌ على العودة ثانيةً ..
بقيت واقفه ترقبه وهو يخرج من المتجر عابراً الشارع العريض من أجل الوصول إلى سيارته المركونة في الجانب الآخر ، اتخذ مكانه خلف المقود وشغّل المحرّك . كل شيءٍ حدث بعد ذلك بلمح البصر ، فقد سُمِع في الأرجاء دويّ انفجارٍ كانت مصدره درّاجة ناريّة مفخّخة رُكِنت على الرصيف بجانب سيارة حسام . لم تشعر سيما إلا وزجاج واجهة المتجر يتطاير فانبطحت أرضاً وهي تحس بشيء يلسع وجهها ، ثم دارت الدنيا بها وغابت عن الوعي..
استيقظت على صوت صاحب المتجر -الذي كان في الخارج لقضاء بعض الشؤون- يقول :
آنسة سيما هل أنت بخير ؟ جبهتكِ تنزف ، يا إلهي ربما دخل فيها زجاج
قال له الرجل الآخر :
من حسن حظكَ أنكَ كنت خارج المتجر لحظة وقوع التفجير
– إنه شيءٌ فظيع ، ما حدث فظيعٌ للغاية . قال صاحب المتجر ثم عاد ليحدّث سيما :
يجب أن يراك المسعفون ، إنهم في الخارج
لكن سيما كانت ماتزال مذهولة ، تجاهلت الرجلين ونهضت سائرةً بين حطام الزجاج ، لم تعبأ بنزف جبهتها الذي قد لوّث حجابها الأبيض بالدماء . خرجت إلى الشارع فرأت سيارات الإسعاف والشرطة تحيط بالمكان ، وأجسادٌ ملقاةٌ على الأرض بعضها مجروح والآخر قد فارق الحياة . ركضت نحو مكان التّفجير فأمسك بها أحد رجال الشرطة قائلاً :
إلى أين يا آنسة ؟ الاقتراب ممنوع
سحبت ذراعها من يده بخشونةٍ وقالت :
دعني ، أريد أن أطمئنَّ على حسام
– من حسام ؟
– الرجل الذي كان في تلك السيارة . قالت مشيرةً إلى حطام سيارةٍ مقلوبةٍ والدّخان يتصاعد منها نتيجة اشتعالها .
– لا أنصحك بالاقتراب يا آنسة فالجثّة منظرها مؤلمٌ للغاية
خفق قلبها بشدة وهي تسأل :
– جثّة ؟! جثّة من ؟
– جثّة صاحب السيارة ، هل هو قريبك ؟
صاحت بذعر :
حسام قد مات ؟؟!
ثم انهارت في مكانها ، أخذت تلطم وجهها المضرّج بالدماء وتصيح :
لماذا يا حسام خذلتني وتركتني مرتين ، مرةً عندما كنتَ شقيقي ومرةً عندما كدّت أن تصبح حبيبي . لماذا ظهرت في حياتي ؟ ما الذي جاء بك إلى المتجر الذي أعمل فيه أنا بالذات ؟ وهل ينقصني حزنٌ فوق أحزاني ؟ هل ينقصني جرحٌ آخر أحمله في قلبي ؟! لماذا رحلتَ وبقيتُ أنا على قيد الحياة ؟ وما لي أنا في هذه الحياة ؟ آه يا حسام لقد قتلتني ، ليتكَ لم تظهر مجدّداً وبقيتَ في ذاكرتي الرجل السافل الحقير .
ثم عادت لتفقد الوعي مجدّدا فهرع إليها المسعفون ..
***
ومنذ ذلك اليوم أخذت سيما تبيع ورد القرنفل على المارّة في الشوارع وعلى الجالسين في الحدائق وعلى المنتظرين في سياراتهم عند شارات المرور . كانت تقترب منهم وتقول :
خذوا منّي الورد وازرعوه
وإلى أحبابكم قدّموه
إن كنتم عاشقين فهواكم لا تكتموه
في نظراتكم وكلامكم أظهروه
اليوم حبيبكم موجود .. وغداً قد تفقدوه
كان البعض يظنّها مجنونةٌ فيبتعد عنها ، والبعض الآخر يراها فتاةً بائسة فيرأف لحالها ويبتاع منها الورد . وباتت دمشق كلّها بأحيائها وشوارعها ، بحدائقها ومنتزهاتها ، بسكّانها وزائريها ، تعرف سيما بائعة القرنفل ، لكن لا أحد يعرف مأساتها .
تاريخ النشر : 2020-02-11