أشباح و ارواح

قضية جيمس لينينجر : طفل عمره سنتان كان طيارا حربيا خلال الحرب العالمية الثانية!

بقلم : محمد بن صالح – المغرب
[email protected]

“أنا زوجك يا رحمة، أقسم لك على ذلك” .. هكذا قال طفل دون الخامسة عشر لسيدة أرملة في الخمسينات من عمرها، وتدعى رحمة..
لاح الاستغراب في الجلسة، الذي حضرت فيها أسرة الطفل، بينما السيدة رحمة اتسعت عيناها وهي تنظر إلى الطفل الذي يزعم بأنه زوجها المتوفي! وقالت بشيء من الشفقة على حال هذا المجنون الصغير: “أتدري ما تقوله يا بُني؟” والتفتت إلى والدته، لتردف: “ابنك بحاجة للعلاج، وبعجالة”.

انتفض الطفل من مكانه ليخاطب السيدة رحمة بحزم رافعا سبابته : “لست كذابًا يا رحمة، فأنا زوجك، وعندي ما يزكي كلامي الذي لا تصدقينه” ثم اقترب منها، وهمس في أذنها وأسر لها بشيء – الراجح بأنه متعلق بغرفة النوم – ما كان غير زوجها ليطلع عليه على ما بدا من تصرفها بعدُ، وهي تدفع عنها الطفل وتعيد مخاطبة والدته باستغراب أكثر شدّة : “ابنك به مس شيطاني يا امرأة!”.

هذا مشهد من السينما المغربية، عن فيلم تدور أحداثه عن روح مات صاحبها قبل سنين، وعادت لتتقمص جسد طفل، وتبحث عن أهلها.. والفكرة مقتبسة من قصص قيل أنها واقعية، تُعرف بتناسخ الأرواح أو الحياة السابقة، ويحدث فيها، أن تعود روح بعد هلاك صاحبها، لتتقمص جسد آخر.
وإحدى أشهر القصص المنتشرة حو تناسخ الأرواح في الولايات المتحدة، هي قصة الطفل جيمس لينينجر، وهو طفل يزعم أنه شارك في الحرب العالمية الثانية! ومات فيها حتى! وهو واحد من شهداء أمريكا الأبرار.. فهيا بنا لنُزيل عنا عباءة المنطق ونطوح بها بعيدًا، ونتعرف على هذا المرحوم وشهيد الواجب الوطني، الذي ما يزال يعيش بيننا!.

blank
صورة الطفل جيمس لينيجر مع والديه

في جنوب لويزيانا، يعيش السيد بروس لينينجر وزوجته أندريا، حياة عادية هادئة، وقد رُزقا بطفل جميل عام 1998 واختار له اسم جيمس.. حياتهما الهنيّة ستتمرد على المنطق على حين غرة، وتدخل في خندق ما يعظم على تصديقه، تحديدًا في ذات ليلة من مايو أيار عام 2000، استيقظ الزوجين على صراخ ابنيهما جيمس ووجدوه يتدحرج في الفراش.. حملته والدته بين ذراعيها لتهدئة روعه، على ما يبدو أنه رأى في منامه كابوسًا أفزع قلبه الصغير.. وبعد أن استعاد الطفل هدوءه، حاول أبويه زرع الاطمئنان في روعه وأنهما في حمايته من أي أذى.. لكن الطفل أثار تعجبهما بقوله : “الطائرة تحطمت في النار، الرجل الصغير لا يستطيع الخروج!” ..

ظن الأبوان إنه كابوس مزعج لا أكثر، وعادوا جميعًا للنوم.

لكن ستكرر تلك الكوابيس في الأسابيع القادمة، وستتطور حالة الطفل جيمس إلى الأسوأ، ومفاد الأحلام المزعجة لا تتغير، الطائرة والنيران والقصف وطيار لا يقدر على الخروج!.

حالة الصغير الغريبة، أزعجت أسرته وأثارت حيرتهم .. وقد عجلت من أمر الزوجين للتوجه بصغيرهما إلى أقرب طبيب نفسي للاطلاع على حالته.. المختص النفسي نصح الأبوين بضرورة أن يجعلا الطفل يشعر بالأمان، ولا يخوضا معه فيما يرويه عن الطائرة والنيران، فهي حالة فزع شديد سيتجاوزها بعد مدة، واكتفى بوصف بعض الأقراص المهدئة للطفل جيمس، وهكذا عاد السيد بروس وزوجته إلى المنزل ليعملا بما قاله الطبيب، وحاولا جعل طفلهما ينسى ويشعر باطمئنان أكبر..

blank
كانت كوابيس الطفل تدور حول سقوط طائرة واحتراقها بطيارها

لكن الأحلام المزعجة لا تنفك على الصغير وظل على حاله، برغم أن حياة الطفل عادية في النهار وتصرفاته طبيعية، عدا الليل والظلام المشؤوم الذي يحمل معه لجيمس أحلامًا مفزعة، عن ذات الشي تدور: طائرة تُقصف في فراش النوم.. لكن المعاناة التي ستمتزج مع الغرابة لم تبدأ بعد..

ذات يوم زارت السيدة أندريا وابنها جيمس محل ألعاب، واختار الطفل شراء طائرة حربية بدون تردد، هنا ستحاول والدته التأثير عن اختياره حتى ينسى الحروب وما يهلوس به في الليالي، واقترحت عليه شراء طائرة مدنية، لكنه أصر على اقتناء الطائرة الحربية، فوافقت الأم على مضض، ثم قالت له: “أنظر، توجد قنبلة أسفل طائرتك” وقد أشارت إليها بإصبعها.. رد الطفل على والدته، سيكون صاعقًا، بنسبة لطفل في عمره.. قال جيمس: “هذا المكان الذي أشرت إليه يا أمي، ليس قنبلة، بل خزان احتياطي للوقود”
فكيف لولد دون الثالثة من عمره أن يعرف عن أجزاء الطائرة المقاتلة؟!

بعد ذلك، وأثناء تجواله مع والده، سيمران إلى جانب مطار صغير، ستظهر لجميس هناك طائرة حربية، وسيهرع نحوها، ويلحق به والده ، وقد طلب الطفل من حراس المطار الصغير بأن يتفحص الطائرة، فوافقوا بكل سرور على طلب الطفل البريء. بدأ جيمس بتفحص الطائرة باحترافية عالية، كما لو كان طيارًا حربيًا، بل وبدأ يُحدث والده عن معلومات عنها!

هاتين الواقعتين زادت الأمر غرابة عند الأبوين، مع ذلك ظلت الأمور تحت السيطرة، والأمر لا يعدو كونه هوس طفل وسيزول..
لكنه لن يزول حتى تزول أوتاد المعقول في مخيلة الزوجين.

ذات ليلة، عاد الطفل يصرخ في منامه، هذه المرة تحدث بوضوح وهو يقول: “افتحوا لي الباب، افتحوا لي الباب، الطائرة تشتعل، ولا أقدر على مغادرتها!” ثم استيقظ على مرأى والديه وقال: “لقد قصفوا طائرتي”
– من؟ .. تساءل الوالدين..
رد جيمس وقد عبست ملامحه: “اليابانيون!”
– كيف عرفتهم؟ .. يتسأل الأب..
بعد برهة رد الطفل : “من الشمس الحمراء الكبيرة”

للعلم في الحرب العالمية الثانية كان رمز الشمس المشرقة باللون الأحمر تظهر على طائرات اليابان.. فكان السؤال: هل كان جيمس يقصد ذلك الرمز الياباني بقوله “الشمس الحمراء الكبيرة”؟

blank
الطائرات اليابانية كانت مميزة بوجود الشمس الحمراء الكبيرة

في الأشهر التالية سيبدأ جيمس بالتحدث مع والديه أكثر عن الحرب العالمية الثانية، ولم يعد ذلك يقتصر عن الأحلام، فقد غدا الولد ينطق بما يعجز العقل عن تصديقه، زاعما أنه مات في الحرب العالمية الثانية، تحديدا في مارس 1945، بل وسيصف بلهجة الأطفال، الهجوم الذي قُضيّ فيه، كما لو كان حاضرًا هناك..
قال إن اليابانيون هم من فتحوا النيران على طائرته قبل أن تسقط في المحيط، وهو بعمر الواحد والعشرين..
هنا سيسأل السيد بروس ابنه، عن نوع الطائرة التي كان يقودها أثناء الهجوم؟ سيرد جيمس على والده قائلا: “كنت أقود طائرة من نوع قرصان (Corsair).

سيُتمم الطفل جيمس القصة العجيبة، ويردف بعد أسئلة والديه، أن طائرته حلّقت من على متن سفينة تدعى ناتوما. وبعد بحث، سيعرف السيد بروس، أن كل أنواع الطائرات الحربية التي يذكرها ابنه جيمس، قديمة وشاركت حقًا في الحرب العالمية الثانية، وبالأخص، حاملة الطائرات ناتوما، التي كانت تبحر في المحيط الهادئ. ولا تقتصر قضية جيمس لينينجر على لحظة سرد هذا الهجوم، بل هذا الصغير على ما يبدو خبير في شؤون الطيران الحربي، وأحداث الحرب العالمية الثانية، حيث يعرف تقنيات وأسرار الحروب الجوية، وكيف يتم التدريب ثم افراغ الذخيرة، كما لو كان هذا الذي يتكلم عجوز من المحاربين القدماء، ومثقل صدره بالنياشين والأوسمة، وليس بطفل بالكاد تعلم الكلام!.

جدة جيمس قالت للأسرة أن حفيدها ربما تسكنه روح ماتت في الحرب العالمية الثانية، وهذا مما لا ريب فيه. أما الأم أندريا فكانت ترى أن جيمس استحوذت عليه روح طيار حربي، ولم تلق أي تفسير آخر، وأرسلت في طلب الباحثة كارول بومان، صاحبة كتاب عن تناسخ الأرواح، بعنوان “حياة الأطفال السابقة”.
الباحثة زكت اعتقاد الجدة والأم، وأن ما حدث ويحدث مع جيمس، هو تناسخ الأرواح..
لكن السيد بروس رفض تصديق تلك الاعتقادات الغريبة رغم كل أدلة الطفل جيمس، وظن أن ابنه يعيش حالة نفسية صعبة، وقرر اثبات ذلك وكذب كلام نجله الصغير بأدلة دامغة..
بروس يود إعطاء تحليلات علمية لحالة نجله بعيدًا عن التفسيرات اللامنطقية، وهي تحقيقات ستدوم لثلاث سنوات مرهقة، سافر فيها الأب شمالا وجنوبًا في بحث مضني أفضى لما كان يخشاه.. بدأ بالانضمام إلى جمعية قدماء المحاربين في مدينته، وسأل ابنه إذا كان يتذكر زملاء له في المعارك، أو له صديق مقرب في القوات الجوية الأمريكية؟ وبدون تردد ولا غمغمة، سيجيب جيمس بلهجة الواثق، إن طيارًا حربيٌ يدعى جاك لارسون، هو أعز زملائه..
دوّن الأب هذا الاسم، وراح يبحث في جمعية قدماء المحاربين، ووجده! نعم، جاك لارسن كان طيارًا حربيًا في القوات الجوية الأمريكية زمن الحرب العالمية الثانية..

blank
الطيار جاك لارسن في شبابه

ونجح الأب بروس بالعثور على الطيار الذي ذكره ابنه، فكانت أول صدمة له، لكن القادم أعظم، بل عظيم جدًا، فالذي كان بحوزة الطيار جاك لارسون، كفيل بأن يعبث بعقل إنسان، وجعل بروس يصل إلى باب الجنون، لكنه لم يدلف فيه.
عندما تقابلا قال الطيار جاك إن له صديق مقرب في القوات الجوية إبان الحرب العالمية الثانية واسمه جيمس هيوستن جنيور! أي أنه يحمل نفس اسم نجل بروس! ولأن القصة وصلت للكاتبة والباحثة في موضوع تناسخ الأرواح، السيدة كارول بومان، فقد انفجرت قضية جيمس لينينجر في الجرائد والمجلات الأمريكية، وسُمع دوي انفجارها في الجرائد البريطانية والفرنسية، ثم وصلت لكل المهتمين بتناسخ الأرواح حول العالم.

بعد أن وصلت قضية جيمس لينينجر للجرائد، بدأ الجميع برفقة الأب بروس، يبحثون في أورقة أرشيف الطيران الحربي الأمريكي المشارك في الحرب لعالمية الثانية، والذي كان يبث الرعب في سماوات اليابان، ووصلوا إلى نتيجة، مفادها، أن في مارس 1945 ثلاث طيارين أمريكيين نجح اليابانيين في اسقاط طائراتهم في سماء اليابان، تحديدًا، تلك المقاتلات التي انطلقت من حاملة الطائرات، المدعوة “تانوما” وماتوا جميعا في عرض المحيط، وأحدهم، يُدعى جيمس هيوستن جنيور، من مواليد 1924، أي أن عند موته 1945، كان بعمر الواحد والعشرين، كما زعم الطفل جيمس، فتعددت المصادفات في هذه القضية، التي أجبرت المشككين من بينهم الأب بروس، بطرح سؤال يتجنبون طرحه ويخشون منه: أتكون حقًا روح الطيار جيمس هيوسن، هي نفسها الموجوة في هذا الصغير، المدعو جيمس لينينجر؟

blank
صورة الطيار جيمس هيوستون مواليد 1924 .. وصورة له في طفولته مع امه وشقيقته الكبرى آنا

بعد التوصل للطيار جيمس هيوستن والذي يُعتقد أنه نفس الشخص الذي يقصده الطفل جيمس، بدأ البحث عن أقرباء الطيار هيوستن، فتم الوصول إلى شقيقته، التي ما تزل على قيد الحياة، وقد تجاوز بها قطار العمر محطة الثمانين عامًا، وتُدعى آن هيوستن.. وكشفت حقائق عن شقيقها المختفي منذ هدوء مدافع الحرب العالمية الثانية، فقد كانت تنتظر عودته ذات يوم من ربيع عام 1945، لكنه لم يعد أبدًا، ثم لاحقًا تلقت الأسرة خبر اختفائه، ولم يكن هنالك ما يثبت أنه قضي في إحدى المعارك التي أُسدلت الستار على أشرس حرب مرت على البشرية.. ومنذ ذلك الزمن، لم تكن أسرتها تعرف شيئًا عن جيمس، ولم تصلهم أخبار موته، واليوم فقط تتطلع على كيفية موت شقيقها، الذي سقط مع مقاتلته في عرض المحيط.

وكما كان متوقعًا، فقد تواصلت الغرابة والحيرة، وها هو الطفل جيمس يَصْدق من جديد، وهو يحاور العجوز آن، كما لو كان شقيقها الذي مات في الأربعينات، فحديثهما هو حديث الأشقاء الذين يعرفون الكثير على أنفسهما وما يستحيل أن يطلع عليه أحد آخر، وانهارت العجوز باكية، وهي تشير للطفل جيمس، وتقول: “هذا أخي، أقسم لكم، فهو يعرف كل شيء عني، وعن أسرتي” هكذا كان اللقاء بين آن هيوستن وشقيقها جيمس، الذي مات قبل لَم الشمل بنصف قرن، في جو من الجنون، وبعيونه الواسعة.

blank
صورة الطفل جيمس مع “شقيقته” آنا التي هي اكبر من أمه بخمسين عام!

أخيرا اقتنع الأب وكل الأسرة، أن روح جيمس هيوستن عادت، وهي التي كانت تحدثهم، فما عاد هناك مجالاً للشك، فكل أقوال الطفل في غاية الدقة والصدق، حتى أنه كشف للزوجين، أنه اختار أن يعود في صلبهما قبل حمل الزوجة، لأنهما والدين صالحين..
وقد زار الطفل جيمس لينينجر – أو الطيار جيمس هيوستن – زملاءه قدماء المحاربين، وهالّه منظرهم، فقد عبثى الزمن بملامحهم، وهدم قوى هؤلاء الذين كانوا بالأمس جنودًا أقوياء شجعان.

بعد أن بلغ جيمس عمر الثامنة، سيكون قد تجاوز كل ما مر عليه، من أحلام مفزعة التي ظلت تراوده بعد سن الثانية، لكنها خفت مع توالي السنين. وعن هذه القضية، قام والدي جيمس بتأليف كتاب يرويان فيه حكاية طفلهما العجيبة مع روح مات صاحبها الطيار الحربي، قبل أزيد من نصف قرن!

تفسيرات أخرى للتناسخ

تفسير بعض المهتمين والباحثين، في حكاية جيمس لينينجر وما يشبهها من القصص حول تناسخ الأرواح، أن للأمر علاقة بعذاب الروح.. أي عندما يموت الإنسان موتة مُعذبة، فإن روحه تأخذ مسار آخر مختلف عن شخص مات موتة رحيمة، الذي يزيد من احتمال أن تعود تلك الروح لتنفيس عن عذابها، وتكون شبحًا، وتطوف حول مكان هلاك صاحبها، أو قد تزيد من تنفيس معاناتها، فيحدث أن لا تقتنع تلك الروح المعذبة بأن تغدو طيفًا كل ما يأتي منه، هو إخافة الناس ونفورهم؛ بل تصير واقعًا في جسد شخص آخر، لكأنها نسخة أخرى عاد بها الإنسان للحياة! إلا أن هناك من يرفض هذا جملة وتفصيلا، – وأنا معه – ويرى أنها لا تعدو أن تكون مجرد قصص للاستهلاك، ولمن يبتغي الشهرة، ولا تمت للحقيقة بصلة..

فماذا ترى أنت؟


القصة منشورة سابقا على مدونة الكاتب الشخصية ، والتي تحتوي المزيد من المواضيع الممتعة.


اقرأ أيضا عن التناسخ :

المصدر
The Case of James LeiningerReincarnation- Wikipedia
guest
38 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى