أدب الرعب والعام

حكاية من ديار بكر

بقلم : سارة الغامدي – السعودية

كانت دموعي تنساب على خدي حين أرى صديقاتي مع أبائهن و يجدن في ظلهم الحب و الدلال
كانت دموعي تنساب على خدي حين أرى صديقاتي مع أبائهن و يجدن في ظلهم الحب و الدلال

أنا اسمي فيروز ، لم يعرف لساني كلمة بابا منذ الطفولة ، فقد نشأت طفلة يتيمة على الرغم من أنه على قيد الحياة ، حيث بدأت حكاية ألمي حينما إنفصل والديّ حين كنت في سن الثالثة ، رحلت والدتي إلى بلدها سوريا و تركتني تحت رعاية عمتي الغالية و جدتي الحبيبة في ديار بكر.

عشت طفولة صعبة و مؤلمة حيث لم أكن أستطيع الحصول على ما تملكه الفتيات في سني من عرائس ، فستان منفوش و حلوى ، كانت دموعي تنساب على خدي حين أرى صديقاتي مع أبائهن و يجدن في ظلهم الحب و الدلال ، الغنى و الحماية ، و أنا لا أب لي أبداّ ، أمي كانت في بلد بعيد عني، كانت وسيلة تواصلنا الوحيدة هي سماعة الهاتف التي كنت ألصق أذني بها لساعات ، لكي أشبع من صوت والدتي الحاني و دعائها ، كنت أشكو لها دائماّ حزني و سعادتي ، أخبرها عن صديقاتي ومايملكون من دمى ، فساتين ، دبابيس شعر و حلويات ، كنت اسألها دائماً «لماذا أبي يكره رؤيتي يا أمي؟!» و يبقى سؤالي بلا إجابة.

كنت أبث لها كل أحزاني عبر سماعة الهاتف ، لم تجد أمي ما تواسيني به إلا هذه الآيتين﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾،كانت دائما تخبرني بهذه الآيتين التي ما إن أسمعها حتى يرتاح قلبي و يخف حزني قليلاً ، على الرغم من أني كنت وقتها في سن الخامسة إلا أني كنت أعرف معناها من جدتي التي قالت لي يوماً «أنه ما من شدة إلا سيأتي لها من بعد شدتِها رخاءٌ، و ما من عسر في هذه الدنيا إلا و سيأتي بعده يٌسر» لا زالت هذه الكلمات محفورة في ذهني و لم أنساها أبداً.

* * * 

حين أكملت عامي السادس انتقلت وصايتي إلى أبي و زوجته ، بعد موت جدتي و زواج عمتي ، حيث كانت زوجة أبي تعاملني بكل قسوة و جفاء، جعلتني مثل العبدة المملوكة لها و لزوجها ، كانت غرفتي سرداب رطب و بقع العفن تملأ جداره أنام على الأرض الباردة، أحتمي من زمهرير الشتاء بأكياس الطحين عن البرد ،لقمتي لم تكن إلا فتات خبز عفنة، كانت ثيابي مهترئة لا تسترني و لا تحمي جسدي الهزيل من برد الشتاء القاتل، كانت أصغر أحلامي، دمية، دبوس شعر براق، فستان منفوش و حلوى، لكن كانت تلك مثل حلم بعيد المنال بالنسبة لي، حيث كانت محرمة عليّ مثلما حرم الإسلام الخمر على المسلم.

كنت أحمد ربي كل يوم و أشكره على سماحهم لي بالذهاب إلى المدرسة لكي أعيش طفولتي التي حرمت منها، ألعب بكل حرية أركض و أضحك بأعلى صوتي ،لا أنسى الحقيبة الحمراء التي حصلت عليها هدية من عمتي ،كانت فرحتي بها كبيرة لدرجة أني كنت أحضنها ليلاً حين أنام ،كنت أحملها على ظهري طوال الوقت ،فهي بالنسبة لي الشيء الوحيد الذي أدخل على قلبي المكسور السعادة، و لا أنسى فطائر الجبن التي كانت تهديها لي الجارة “أم محمد” كانت تقول لي «أنتِ مثل حفيدتي، لا أريدك أن تشاهدي الطلاب و هم يأكلون، و أنتِ ليس لك ما تأكلين» ،كنت أجلب لها زهرة أقطفها من الشارع كهدية شكر على الفطائر.

في عامي الثامن عادت أمي إلى ديار بكر مع طفل في عمر الخامسة يشبه البدر ليلة اكتماله ،أشقر الشعر، أخضر العينين ،أبيض البشرة، هزيل، صغير البنية، من يراه يظنه في عامه الثالث ،كان يبدو مثل برعم في أوان تفتحه، لم تغادر من ذاكرتي نظرات والدتي الكسيرة و الحزينة و كأنها تحمل جميع هموم الدنيا كلها على أكتافها، لم أكن أراها إلا مرة واحدة في الشهر أو في الأعياد فقط ،لم يكن مسموحاً لي بأن أنام في داخل أحضانها ليلاً، فقد أعطى أبي بيت جدتي الراحلة لأمي و كذب على الجميع بأنه قد تكفل بطليقته و ابنها و أنهم في ذمته ،حتى يصبح البطل الحنون في أنظار الناس.

كنت أرى نظرات اليُتم في عيون أخي الأصغر إسحاق، ذلك الطفل الذي مات أبوه قبل أن يحمله بين ذراعيه و يؤذن في أُذنيه ،رحل قبل أن يختار له اسما و يملأ أنفه برائحته الجميلة ،ذلك الطفل الذي كان يكبر مع الأيام دون أن يدرك بشاعة اليُتّم و قهره، كان يكبر لكي يواجه شبح اليُتم مع والدته الأرملة التي كانت ترثي زوجها شهيد الحرب في أشعارها و في قصصها،كلانا قد نشأ يتيماً بلا أب إلا أن الفرق الوحيد بيننا هو أن والده قد تخلى عن أبوته من أجل الوطن، أما أبي فقد تخلى عن أبوته من أجل حب الشهوات و تعدد الزوجات.

في عامي الحادي عشر أصيبت أمي بالمرض الخبيث الذي استقر داخل كبدها حيث كنت أراها تذبل أمام أعيننا أنا و أخي ابن الثامنة ،لقد كنت له مثل الأم أرعاه ،أذاكر له دروسه أطعمه و أكفكف دموعه، أخبره دائما «أن أمنا بخير، و سوف تتحسن قريبا جداً لا تبكي» ،لكنه كان يعرف أني أكذب
و أمنا تكذب كذلك، فقد سمعتهم مرة خلسة بل استراق سمع، حين قال بإنكسار مختنقاً بغصته «أمي، هل سوف ترحلين و تتركيني مثلما رحل أبي و تركني؟!». لأراها تضمه إلى صدرها ثم قالت وهي تخفي صوتها الحزين «أنا بخير يا صغيري لن أرحل يا روحي، سوف أكون معك دائماّ ،أنا أعدك».
و رأيتها تمسح دموعها سرا عن نظرات عينيه الحائرة البريئة.

في أحد ليالي ديسمبر الباردة خرجت أمي من المستشفى، أخذت بأيدينا إلى سوق صغير يقع في زاوية الشارع و اشترت لنا حلوى الكراميل ،بعد ذلك توجهنا إلى مطعم شعبي لكي نأكل وجبة العشاء التي كانت عبارة عن كُفتة مع البطاطس المقلية، لقد كانت تلك الوجبة مثل ولائم الملوك بالنسبة لي و لأخي إسحاق ،بعد انتهائنا من الأكل طلبت أمي لنا مثلجات بالفراولة.

بعد ذلك توجهت بنا إلى محل التصوير لكي تلتقط لنا صورة، التي كانت التذكار الوحيد المتبقي لنا منها، كانت ابتسامتها و نظرات عيونها دليلا على وهنها و مرضها، كنت أجلس على فخذها الأيمن و أخي على الأيسر، في كل مرة أنظر إلى صورتنا اختنق بغصتي، فستاني الأحمر المنفوش، بلوزة أخي الحمراء و القرط الأحمر البراق في أذن أمي ،هو ما حُفر في داخل ذاكرتي ،حين تمر في خيالي ابتسم ابتسامة حزينة و أتمنى أن يعود الماضي إلى الوراء لكي نلتقط الكثير من الصور و نصنع معاً الكثير من الذكريات السعيدة.

* * *
حين أتممت عامي الثاني عشر ،رحلت روح أمي إلى خالقها و انتصر عليها مرض السرطان ،لقد رحلت بعيدا عن قسوة الحياة و كلام الناس ،ارتاحت من الظلم و القهر الذي رافقها بعد موت زوجها الثاني، تكفل المستشفى بدفنها حين علموا أن لا أقارب لها حيث تم نسيانها بعد موت جدي و جدتي ،أخذ ملك الموت روح والدتي الطاهرة في 6 من سبتمبر لعام 1996 و لن أنسى هذا التاريخ ما حييت.

ضممت أخي ابن التاسعة حين وقفنا أمام قبرها، كنا نراقبهم و هم يردمون التراب على جثمانها الطاهر ،انسابت دموع اليُتم كالمطر على وجنتينا نبكي فراق من كانت تؤنس وحشتنا و سبب بقائنا على قيد الحياة، التي كان صوتها يرسم على ثغرنا البسمة، نظر أخي ناحيتي بنظرات كسيرة ،قال و هو ينشق «لقد وعدتني يا فيروز بأنها لن ترحل، لماذا رحلت يا فيروز؟ لقد وعدتني، لقد وعدتني»، دفن رأسه في صدري ينتحب.

كنت أحاول جاهدة لكي لا أنهار حتى أواسيه و أخفف من حزن يُتمه للمرة الثانية ،عندها قد أصبحت الأم و الأب لإسحاق ،لقد حاولت أن أعوضه عن حنان أمنا و أبيه لكن لم أقدر على ذلك، لأن حنانهم لا يتعوض أبدا ،مهما أحبك من أناس لن تجد شخصاّ يحبك دون اية مصالح ،يخاف عليك من نظرة غادرة و سيارة عابرة ،يحنو عليك إلا والديك فلا تخسرهم بالعقوق و الهُجران.

كنت أرتدي ردائي الأسود، مطأطأة الرأس أستقبل من أتى لكي يؤدي واجب العزاء في والدتنا بكل صبر و دموع صامته، حتى ابنة زوج أمي و زوجها قد أتوا من الأردن لأجل تقديم العزاء ،لقد رأيت ابنة الشهيد تبكي فراق أمنا و كأنها والدتها الحقيقة و ليست زوجة أبيها.

أما أخي فقد رفض فكرة إقامة العزاء لأنه كان يردد «أمي لم تمت ،هي وعدتني بأنها لن ترحل ،لقد وعدتني يا فيروز» ،أمسكت بكتفيه و قلت : «يا حبيب أختك ،لا تبكي أمنا أصبحت في مكان أجمل من دنيانا القذرة،لقد رحلت عند رب رحيم، إنها حين ترانا نبكي سوف تحزن، لذلك حين تشتاق لأمنا، انظر إلى نجمة السماء و ابتسم ثم ردد: أمي،أمي،أمي،تمام» رد بكل انكسار محاولاً أن يبتلع بكائه «تمام» ثم دس وجهه في الوسادة بكي حتى غفى.

كنت أزور أخي سراً عن أبي الذي منع بقائي معه بعد موت أمي، فقد كنت دائماّ أكذب عليه بأني ذاهبة إلى بيت العجوز في آخر الشارع لكي أرعاها فيسمح لي ،ثم أذهب إلى بيت أمي و أرعى حبيب قلبي إسحاق ،الذي انكسرت ثقته بالناس ،انعزل تحت لحاف والدته يتشمم رائحتها و يضم الصورة التي التقطت قبل موتها.

لقد تحملت مسؤولية كبيرة و أنا لم أكمل عامي الثاني عشر، كنت أطهو له الطعام، أرافقه إلى المدرسة و أبعد كل الطلاب المتنمرين عنه، حاولت أن أخرج من فمه نصف كلمة لكن لم أقدر ،كنت حين أراه أبتلع بكائي في داخلي و أخفي دموعي عن أنظاره ،لأنه عاش اليُتم مرتين مثلي تماماّ، شاهد المرض و هو يأكل عمر والدتي ،كان يراها تبذل كل يوم مثل الورد، رأها تلفظ آخر أنفاسها، سمع الطبيب حين أعلن خبر موتها و رأه حين غطى وجهها الباسم بالغطاء، شاهدهم و هم يدفنونها تحت التراب، جميعها مشاهد رأها طفل لم يكمل عامه التاسع بعد.

أرادت ابنة زوج أمي أن تأخذ إسحاق معها إلى الأردن، قالت لي:«سوف يعيش حياة سعيدة ،سأدخله أفضل المدارس سأعتني به جيدا ثقي بي» لكنه رفض،أمسك بذراعي كان يقول لها :«ليس لدي إلا أخت واحدة و هي فيروز»، و أنا كذلك تمسكت به مثل غريق تمسك بقشة ،لقد كنت أرى ملامح أمي في عينيه و رائحتها في جلده، لكن في قلبي الجريح تمنيت لو أنه ذهب معها.

كل يوم أصلي في سردابي العفن أدعو ربي السماء في سجودي ،أن يصرف عني شر أبي و زوجته ،أن يأتي يوم و أعيش فيه بسعادة مع أخي الحبيب لقد كنت أعرف ماذا سوف يحصل لي حين يعلم أني أزور أخي سراً ،سوف يقوم بنفي من ديار بكر إلى بلاد أخرى،كنت أحضن صورة أمي سرا عن أنظار أبي ،الذي حين يراها معي سوف يمزقها و يمزقني معها،لأنه يكره والدتي و يكهرني أنا أيضاً لأني أذكرها بالمرحومة.

أناجيها في كل ليلة «أمي،لقد اشتقت لك كثيرا، كذلك إسحاق إني أتمنى أن تعودي إلى الحياة لو لثانية، حتى أرتمي في حضنك و أشكي لك كل ما يضيق به صدري، إلى ملمس يديك الحانيتين على شعري الأسود لكلماتك حين أشكو لك جبروت أبي و زوجته التي تشبه الأفعى﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾،تلك الآيات التي تبعث على قلبي الطمأنينة و الأمان.

* * *

حين أكمل أخي إسحاق عامه الثالث عشر سنة أصيب بمرض الإكتئاب ،أصبح يكره رؤية البشر و الإختلاط بهم، أغلق على نفسه باب غرفته محاصرا بين الظلام ،البرد و الجوع ،كنت وقتها أصبحت في السادسة عشر من عمري و أصبح أبي يبحث لي عن زوج، حتى يتخلص مني و من مسؤوليتي التي أثقلت كاهله.

في كل مرة يحضر لي عريساّ كنت أرفض بحجة الدراسة لا غير، في الحقيقة لكي أبقى مع إسحاق و أرعاه فأنا الوحيدة الباقية له في هذا العالم الموحش ،كان والدي يصدق أني أفضل دراستي على الزواج، أبي لم يكن قاسياً و لا غليظ القلب ،لكن تلك السموم التي يتعاطها و السم الذي تنفثه زوجته في أذنه هو ما يجعله يكرهني.

كنت أخرج مع آذان الفجر الأول و أخبئ في حقيبتي المدرسية،علبة تحوي فطائر المرتديلا ،بيض مسلوق و قارورة عصير تفاح ،كنت أسرقها سرا عن الأفعى و زوجها، لم أكن أذهب إلى مدرستي إلا في تمام الثامنة و النصف صباحاّ، بعد أن يأكل أخي إفطاره و أطمئن بأنه قد شبع و أبحر في سلطان النوم، ثم أذهب إلى مدرستي جسداّ و عقلي عند إسحاق في البيت.

أما أخي فقد رفض الذهاب إلى المدرسة بسبب عدم إتقانه للغة التركية و تنمر الطلاب عليه ،لأنه كان يتحدث بها بطريقة مكسرة ،بسبب ارتباطه القوي بأمي و قد تعلم اللغة العربية منها ،لم يكن له أي نية في تعلم اللغة التركية سواء من المدرسة أو حتى من المجتمع ،بسبب تعلقه بوالدتنا الراحلة و بلهجتها السورية التي كان يفضلها على لهجة ديار بكر.

حين أعود إلى المنزل عند المغيب تستقبلني تلك الأفعى بأسئلة كأنها السُم، كنت لا أنظر في عينيها أبداّ ،كنت أكذب عليها مرة أقول ذهبت عند العجوز في آخر الشارع، مرة كنت أدرس عند صديقتي و مرة قلت كان لدينا إختبار ،أعذار كاذبة لكن أطلب من ربي السماح فقد كان الكذب هو الطريقة الأنسب لكي أهرب من عقاب أبي و سطوة لسان زوجته.

كنت أجلس على الأرض أضم ركبتي لصدري و أتذكر صوت أمي و هي ترتل القرآن بصوت جميل و خاشع،التي كانت دائما ما تقول لي و لأخي «أن القرأن هو أفضل علاج للحزن، حين تشعر بالحزن و الضيق إقرأ آية من القرآن و سوف ينشرح صدرك و يذهب حزنك»، كنت أردد دائما في نفسي بعض الآيات التي حفظتها مع أمي و إمام الجامع خلال الصلوات الخمس كل يوم، حتى أغفو و أرى وجهي أمي المشرق في أحلامي ،توصيني «أخوك إسحاق أمانة عندك لا تنسيه» ثم تختفين حين أصحو.

في عامي الثامن عشر و في أحد أيام الشتاء الباردة ،تم اكتشاف زيارتي السرية لأخي عن طريق صديق قديم لأبي ،فهو قد أخبره و وثق الجريمة الشنعاء بالفيديو، كنت في ذلك الوقت أشوي اسياخ الكباب ،أقلي أصابع البطاطس و أقطع السلطة.فيما تولى أخي خلط مقادير كعكة الشوكولاته مع المكسرات.

كان يسألني بعد كل خمس ثواني «فيروز،هل خُُبزت» فأجيبه بالإبتسامة «لا،يا روحي اصبر»، لقد عادت روح الفرح إلى البيت الحزين مرة أخرى ،رائحة الطعام، الأصوات و الضحكات انتشرت في أركانه بعد سبع سنوات من موت والدتنا العزيزة، كانت ترانا من خلف إطار الصورة المثبت في جدار غرفة المعيشة المقابل لطاولة الطعام في المطبخ ،كانت و كأنها تراقبنا من خلف زجاج الإطار.

جلست معه أمام شاشة التلفاز الصغيرة نشاهد شريط مسجل لكرتون (البوكيمون)،نتناول قطع الكعك و الفشار مع عصير التفاح كان مسنداّ رأسه على كتفي، ينظر و ابتسامة الحزن على شفتيه، كنت أنظر إلى الشاشة التي تتغير ألوانها في الجدار من خلفي، تذكرت حينما كنت أمي الغالية تسجل لي جميع الرسوم المتحركة التي أحبها في شريط فيديو، حتى أشاهدها حين أتي لزيارتها الشهر القادم ،أيقضني من سرحاني ثُقل رأسه على كتفي، رأيته قد أبحر في سلطان النوم أيقظته و أمسكت بذراعه، وضعته على سريره غطيته ببطانيته الحمراء.

جلست على طرف السرير أراقبه و هو نائم مثل الملاك ،قبلت جبينه ،خديه و أنفه ،مسحت خصلات شعره الشقراء و همست في داخل أذنه:«أنا أحبك، يا ذا العينين الخضراوين ،أحبك بعدد النجوم التي في السماء»، فقد شعر قلبي بأنه اليوم هو يوم وداعنا،ثم غادرت إلى المنزل في تمام العاشرة ليلا ،فقد كنت أعلم ما هو العقاب الذي ينتظرني لأني لم أرجع عند مغيب الشمس مثل كل يوم.

وما إن فتحت الباب حتى أمسك أبي بشعري و تلقيت خمسة كفوف متتالية ،اخترقت كلماته البذيئة مسامعي «أيتها الساقطة،يا ابنة**** ،ألم أمنعك من زيارة ذلك الولد الغريب؟ ،تكلمي يا لعينة ألم أمنعك ،تكلمي» ،بكيت بكل قهر توسلت له أن يتركني حتى بُحَ صوتي ،لكنه لم يدعني فقد زاد شده على شعري حتى شعرت بأنه سوف يقتلعه من جذوره، سحبني به حتى رمى بي في داخل سردابي و أغلق عليّ الباب حتى الطعام حرمني منه لأسبوعين.

كنت أبكي و أطرق الباب بكل قوة حتى يفتح لي ،لكن لم يكن يستجب صرخت بقهر و ألم حتى بُح صوتي كل ما كنت أفكر هو أخي الحبيب إسحاق ،الذي أقمت معه في هذا اليوم الحزين عيد ميلاده الخامس عشر ،حيث كنا نضحك أنا و هو بملأ فمنا كنا نأكل أسياخ الكباب و أصابع البطاطس المقلية ،شاهدنا الكرتون المفضل لأخي مع الفشار ،الكعك و عصير التفاح، لم أكن أصدق بأني سوف أحرم من رؤية وجه إسحاق الملائكي إلى الأبد.

لقد كنت أفكر في الهرب بعيدا إلى روسيا أو جورجيا أو حتى اليونان لكن أخي لم يكن يريد أن يترك بيت والدتنا و ذكرياتها خلفنا ،لم تنجح أي طريقة تقنعه في الهرب ،كنت أعرف أني سوف أحتاج أوراق رسمية ،مثل جواز السفر ،بطاقة الهوية، وثيقة إذن من الأب و غيرها ،لكن لم أكن أهتم سوف نعبر البحر سراّ و حين نصل إلى الميناء سوف نتصرف بأننا من المسافرين حتى ندخل المدينة ثم أعمل كنادلة أو عاملة نظافة و أجمع النقود ثم نعيش سعداء بعيدا عن القهر و الظلم لكن كل ذلك يحدث في داخل الأفلام و خيالي الواسع فقط.

في صباح اليوم التالي ارتديت كفني الأبيض و تزوجت برجل في عامه الخمسين و رحلت من تركيا إلى البحرين ،لأعيش هناك في الغربة في بلد لا أعرف لغته ،عادته و تقاليده ،عشت في بيت الجلاد حياة جحيم لا تطاق أبدا فقد أصبحت عبدة لأهله، تعرضت للضرب و الإهانة من قبلهم.

لم أعرف من جلادي كلمة طيبة ،إهتمام، حضن دافئ يخفف من حزني ،كل ما أعرفه منه هو الضرب، الشتم ،السب و الركل، و مع ذلك فقد كنت صابرة محتسبة، كان في قلبي أمل صغير بالفرج من هذا الجحيم ،كانت تلك الآيات تردد في مسامعي كلما حسست بالضيق ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.

في كل ليلة أجلس عند النافذة و أُحادث القمر «يا ترى هل أخي إسحاق بخير ؟ هل يمكنك توصيل سلامي إليه؟ أخبره كم انا مشتاقة له كثيرا ،اشتقت إلى لون الزمرد في بؤبؤيه ،الذهب في شعره ،إلى صوته الحزين ،عينيه اللتان تفيضان بالدمع ،أريد منك أن توصل سلامي له ،أخبره أن يسامحني لأني لم أقل له كلمة وداع ،فقد تم إصدار أمر النفي في حقي، و لم أتمكن من وداعه» أمسح دموعي و أتمدد على سرير عذابي و أحضن التذكار الأخير من أمي الغالية ،الذي كنت أخفيه عن أنظار أبي و جلادي.

لم أرى يوماً سعيدا في حياتي أبداً لم أعرف الحب و الحنان ،إلا عندما كانت أمي على قيد الحياة، كانت تفعل المستحيل لكي ترسم البسمة على وجهي أنا و أخي ،كانت تخبئ لنا الحلوى في جيوب معاطفنا، الدمى تحت بطانية سريرها ،كنا نراها تبذل جهدها في المطبخ لكي تطهو لنا الطعام و الكعك الذي كنا نتشارك في تزينه بالكريمة و حلوى الجلاتين و المكسرات ،أفرحتني بالفستان الاحمر المنفوش ،كانت تحضننا و تقبلنا كثيراً و كأنها كانت تعرف بأنها سوف ترحل و تركتنا لظلم الحياة و قهرها،لجبروت أبي و قسوته.

كانت أمي تبتسم حين نبتسم ،تبكي حين نبكي و تتألم حين نتألم، حتى مرضها لم يمنعها من أن تعطينا الحلوى و تهدينا الهدايا ،الإبتسامة لم تفارق ثغر والدتي حتى توفيت،لكن لم أشبع من حضنها الدافئ بسبب أبي الذي كان يمنعني من النوم معها و زيارتها كل يوم ،كنت أراها مرة واحدة إما في الأعياد أو نهاية كل شهر فقط.

كان الكل قاسياً معي باستثناء والد زوجي الذي خفف عني آلام الغربة ،الوحيد الذي كان طيباً معي و حنون ،يخبأ النقود و الحلوى في كفوف يدي عن أعين البقية ،يكفف دموعي ،كان دائماً يقول لي : «يا بنتي كوني قوية ،عليك أن تحاربي لأجل حقوقك، لا تكوني ضعيفة ،دافعي عن نفسك حين يضربك، ارفضي طلب كل واحد حتى زوجتي حين تطلب منك ارفضي ،أنتِ زوجة ،ملكة،لست عبدة لأحد»، صحيح أني لم أكن أفهم اللغة العربية لكن كنت أعرف بعض الكلمات من والدتي رحمها الله.

بسبب كلام أبي بلال ،حاربت زوجي ،وقفت أمامه بكل جسارة، كنت أدفعه و أرمي عليه أي شيء في يدي حين يضربني لكي يبتعد ،أخبرته يوماً بدون خوف منه ،«أريد إكمال دراستي الجامعية» ،لكنه رفض و قال «لا،أنتِ زوجتي، خادمتي لن أسمح لك بالدراسة حتى لا تنشغلي عن خدمتي» ،بعد إلحاح و إصرار دون الرضوخ لضربه و حرماني من الأكل، وافق أخيراً درست بكل جد و اجتهاد، حين ينادي على الجميع لكي أقوم بخدمتهم أرفض و أقول لهم بالحرف الواحد : «أنا لست عبدة لأحد، من يريد شيئاً عليه أن يخدم نفسه».

* * *

بعد سنة من الغربة رجعت إلى بلدي ديار بكر و أنا أحمل بين يدي طفلة في عامها الأول و في أحشائي جنين في شهره الخامس، لكي أزور أبي و ما هي إلا كذبة لكي أرى أخي الحبيب و الغالي إسحاق فقد غبت عنه لمدة سنة كاملة، و أنا لا أدري ماهي أخباره، حين وصلت إلى ديار بكر تنفست بعمق هواء أرض بلادي الحبيبة لأول مرة بعد غياب سنة.

لا زلت أذكر ذلك الجواب الذي هز كياني و أصابني بصدمة ألجمت لساني عن الكلام ،حين سألت جارتنا الخالة فاطمة عن حال أخي الصغير ،أجابت و بكل حزن دون أن تنظر لعيني «سلامة رأسك
يا فيروز لقد مات أخوك بعد رحيلك بأسبوعين، فتكفل الجيران جزاهم الله خيرا بالدفن و الصلاة عليه».

انهرت و سقطت ارضاً، امتزج صوت بكائي مع صوت صرخات رضيعتي لم أصدقهم أبدا ،تمسكت بثيابهم مثل غريق أسألهم مختنقة بغصتي «كيف مات أخي الصغير؟! ماهو سبب موته؟! أخبروني تكلموا». فأجابني أحدهم إجابة كسرت قلبي إلى أجزاء يصعب إصلاحها :«لقد مات بسبب حزنه على فراقك يا فيروز»، رد الآخر «لقد كنا معه و لم نتركه لوحده أبداّ لقد كنا حتى نتشارك أكل أولادنا معه ،لكن كان يرفض الأكل، كان يسألك عنك طوال الوقت، لقد كان يردد دائماً «رحلت فيروز مثلما رحلت أمي و رحل أبي».

أدخلت المستشفى بعد اصابتي بأنهيار عصبي حاد جعلني طريحة الفراش لا شئ يسري في أوردتي سوى المحلول الوريدي و المسكنات ،في كل مرة أفتح فيها عيني أسأل الممرضات «أين إسحاق؟! أين أخي؟!» ثم حين أتذكر كلام الجيران أدخل في نوبة بكاء، لقد نسيت ابنتي و جلادي ،أبي و زوجته، لقد نسيت العالم من حولي كل ما كنت أفكر فيه هو أخي إسحاق الذي أصبح سعيداّ بعد أن التقت روحه الطاهرة بروح أمي الغالية ،كنت أتمنى أن أكون معهم لكن حين أتذكر صغيرتي أتراجع عن أمنيتي، فأنا لا أريدها أن تعيش يتيمة الأم مثلي أريدها أن تكبر في حضني و تتغذى من حليب صدري و أعطيها كل الحب و الحنان.

أخرجت من حقيبتي الصورة اليتيمة التي جمعتني مع والدتي الغالية و أخي الحبيب كنت أقبلها و أضمها إلى صدري ،أُناجيهم مختنقة بغصتي و أبتلع بكائي في داخلي «أمي،أخي،لقد اشتقت لكما كثيرا أتمنى لو كنتما معي ،كنتما رأيتما ابنتي سنا، كم تمنيت يا أمي أن تزفين كعروس بفستانها الأبيض لأمير ، أنا من بعدكم ضائعة مثل لاجئة في بلد غريبة ،لا حضن التجئ له في حزني و لا سند استند عليه في ضعفي، أتمنى من كل قلبي أن تأتوا إلى زيارتي كل يوم في أحلامي لكي رأى تقاسيم وجه إسحاق البريئة، أرتمي في داخل حضنك الدافئ يا أمي الذي حرمت منه في طفولتي ، أردت إخباركم أن جنيني قد أجهضته بعد سماعي لخبر موت أخي الغالي، هو أمانة عندك يا أمي أرجوكِ ارعي جنيني و اهتمي بجدتي حتى أتي إليكم»

سوف ارتدي ثوبي الأسود إلى الأبد سوف أعلن حداد سرمدي على أخي ،أمي و جدتي ،أبي بلال ،و على موت إنسانية أبي و زوجته و ضمير جلادي، الذي لم يرحم ضعفي و صغر سني ،الذي أخذني عبدة لأهله ،الذي جعلني أعيش في جحيم لا يحتمل ،حرمني من أخي ،حَرم أخي من حناني ،فقد تم نفي بعيداً ليموت حبيب قلبي من شدة الحزن على فراقي ،لا تخف يا إسحاق أنت الآن إلى جوار والدك و والدتك لقد رحلت عن دنياي القاسية.

رحل أخي عن الظلم ،القهر و ألم اليُتم، في 1 من فبراير من عام 2001،هذا التاريخ و تاريخ وفاة والدتي لا يزال محفوراً داخل عقلي و قلبي ،لقد غادرت روحك إلى رب رحيم غفور يا إسحاق ،سامح أختك لأنها رحلت دون أن تخبرك بأن حكم الفناء قد تم إصداره في حقها، لكن لم يكن الأمر في يدي صدقني.

لأنه تم تزوجي لجلاد، تم نفي من مسقط رأسي ،سامحيني يا والدتي لأني لم أستطع أن أفي بوعدي لك ،حين وعدك بأنه سوف أرعى أخي في عيني و قلبي، تشاركنا رحم واحد و أم واحدة ،لكننا اختلفنا في أسماء الآباء ،كنت أنا من رجل تركي يدعى طاهر و إسحاق من رجل سوري يدعى عاصي ،حتى مع اختلاف اللغات كنا نفهم بعضنا البعض لأن رابطة الأخوة هي من جمعتنا و ربطت قلوبنا ببعض.

لن تغادر من مخيلتي تقاسيم وجه إسحاق الطفولية ،بؤبؤيه الخضرواين، شعره الناعم الأشقر، أثار المرض على تقاسيم وجه أمي الباسم ،انطفاء البريق من عينيها الزرقاوين، تجاعيد الزمن في وجه جدتي المُنّير ،النَمّش الذي يملأ وجه عمتي، شعرات الشيب في لحية أبي بلال ،كلها سوف تخلد في ذاكرتي إلى الأبد.

رحل أخي من هذه الحياة القذرة و هو ابن الخامسة عشر مات صغيرا قبل أن يكبر و يكتشف الحياة و بشاعتها،رحلت روحه عند رب رحيم ذهب إلى الله لكي يلتقي بوالديه بعد أن حرم منهما طفلا، في الحادية عشر أصبحت أم لأخي رعيته ،اهتممت بدراسته ،قد أعطيته كل الحنان و الحب الذي حرمت منه في سنين طفولتي اليتيمة.

لقد تزوجت قسرا في سن الثامنة عشر من رجل خمسيني لا يعرف كلمة الرحمة أو الحب ،كل ما يهتم له هو المال و امرأة تكون عبدة عند قدميه لا ترفض له طلب أبداً،  لقد ذقت أنواع العذاب الجسدي و النفسي منذ سن السادسة إلى سن الثلاثين، لم أعرف من أبي أي كلمة حانية أو هدية العيد و كذلك جلادي ،لم يكن في أي منهم ضمير حي أو رحمة أبداً، لكن كل ذلك جعلني امرأة قوية واقفة على قدمي، أحارب العالم كله من أجل حريتي و حقوقي.

* * * * *

لقد كتبت لكم قصتي حتى تكون عبرة لكل زوج و زوجة ،إذا كانت حياتكم الزوجية متهالكة الأركان لا تنجبوا أطفال تجعلوهم الضحايا ،حتى لا يعيشون في رعب و خوف بسبب المشاكل القائمة بينكما، لكي لا تجعلوهم أيتام و أنتم أحياء بسبب مشكلة صغيرة أو تافهة لا تستدعي الطلاق.

سبب طلاق أمي هو :«أنها قدمت لأبي نصيحة ،أن يترك الدخان و فعل المنكرات و أن يلتفت إلى صلاته و كتاب الله» ،لكن رد عليها بغضب و صفعها على خدها صفعة جعلت قرطها يطير من أذنها،ثم قال لها: «أنت طالق انقلعي من أمام وجهي».هذا ما أخبرتني به جدتي رحمها الله.

حتى أن أمي لم تجد من اخوتها السند و العزوة أبداً ،كان يهتمون بزوجاتهم و أبنائهم متناسين أختهم الوحيدة ،التي أعطوها لعسكري ارمل حتى يتخلصوا منها ،كانت أمي لا تزال طفلة حين أنجبتني أنا و أخي و ماتت في ريعان شبابها.

حين يقع الطلاق لا يحق للزوج أن يحرم الأطفال من أمهاتهم أو أن يكره الأبناء بسبب كُرهِ لأمهم، لأن لا ذنب لهم،هم الضحية،هم من يدفعون ثمن الطلاق و التشتت ،الطلاق ضياع و دمار لمستقبل الأبناء ،على الرغم ما فعله أبي لي عندما حرمني من طفولتي و من دفء حضن والدتي إلا أني سوف أسامحه.

كلنا نخطئ و نرتكب أغلاط و نجرح أشخاص بكلام و أفعال، دون أن ندرك ذلك فنحن نظن أنها كلمة عابرة ،لكنها مثل السكين مغروزة في داخل قلوبنا و تترك فيها ندوب لا علاج لها، امسح على رأس اليتيم و تقرب منه تجد السعادة في حياتك، كون رحيماً رؤوف مع زوجتك لا تجرح خاطرها بكلمة أو تضربها أو ترفع صوتك في وجهها، فهي لا تعد من الرجولة أبداًً، لا تجعل أطفالك متنفساً لغضبك.

الإنجاب ليس بإنجاز الكل يستطيع أن ينجب، الإنجاز الحقيقي هو أن تخلق بيئة أسرية آمنة لأطفالك، أن تعطيهم الحب و الحنان ،أن تقوم بحمايتهم من كل شئ يؤذيهم نفسياّ و جسدياّ ،أن لا تتشاجر مع زوجتك أمام نظراتهم البريئة فهو قد يؤثر سلباّ على نفسيتهم مستقبلاّ ،اختر توقيت لا يكون أولادك أمامك حين تتشاجر مع زوجتك، اعثروا على حل لمشاكلكم فيما بينكم و لا تختاروا الطلاق أبداّ ،لأنه يهدم البيوت،يشتت الأطفال بين الأبوين و لا تنسوا أنه أبغض الحلال عند الله.

* * * * * * *

ختاماً:

انتهيت من كتابة قصتي في 4 من مارس 2020 جالسة في غرفة والدتي التي تضم بين أركانها الأربعة خمسة ملائكة أبرياء، ابنتي سنا المتربعة على الأريكة تقرأ كتاباً،التي أسميتها باسم عمتي، ابني بلال المنشغل بالرسم في كراسته،اسميته باسم والد زوجي الراحل،ابنتي غالية التي تطرز منديلاً قماشي أسميتها باسم أمي الراحلة.

ابنتي آسيا الجالسة أمام شاشة التلفاز تشاهد مسلسلاً تركياً،قد أسميتها باسم جدتي الراحلة،الأصغر إسحاق المنبطح على بطنه يلهو بسيارته الحمراء، أسميته على اسم أخي الراحل، حتى يبقى ذكر كل شخص طيب و عزيز على لساني دائماً و أبداً.

أما جلادي فقد مات بسبب جلطة قلبية أبقته في العناية المشددة أسبوع ثم رحل قبل أن ألد بطفلي إسحاق،عندما أتذكر عنفه ،شتمه و ضربه لي ،ارفع كفوفي و أدعو الله أن يسامحه،لأنه في النهاية والد أولادي الذين أصبحوا أيتام بعد موته،و أصبحت أنا الأرملة التي لا سند لها و لا أهل و لا حتى عزوة من بعد ما مات أخي و ماتت أمي و تخلي والدي عن أبوته اتجاهي منذ الطفولة.

لكن سوف أكون الأم و الأب لأولادي ،سوف أقوم على حمايتهم من غدر الزمان و أجعلهم أصحاب مناصب عالية يتداول الناس أسمائهم في حديثهم،لن أتزوج و أشتت أطفالي أبدا،بل سوف أفني عمري من أجلهم و من أجل سعادتهم لأني حين أراهم يضحكون تضحك لي دنياي،بعد موت جلادي انتقلت من البحرين إلى ديار بكر و سكنت في منزلي والدتي،لأعيد أجمل الذكريات التي لن تتكرر أبداً.

كان جلادي قد خفف من تعنفي بعد أن حملت بطفلتي الأولى،أصبح يتراجع عن ضربي حين أرمي عليه حذائي او أي شئ في يدي،في كل مرة يضربني فيها أو يحرمني من شئ أخبره بأني سوف أبغ الشرطة و حقوق الانسان،ف يرضخ مكرهاً لمطابلي خوفا من المحاكم و السجون.

وقفت أمام تذكاري الأخير من أمي و أخي مع أولادي الخمسة و قلت :أمي ،أخي هؤلاء هم أبنائي ابنتي سنا أتمت عامها التاسع عشر ،آسيا أتمت عامها السادس عشر، غالية أتمت عامها التاسع، بلال أتم عامه السادس،إسحاق أتم عامه الثالث.

سوف أكون قوية من أجلهم سوف أحارب العالم من أجلهم،الذين كنت أتمنى أن تأخذوهم بالأحضان تشاركوني فرحة حملي بهم و أن تكونوا معي أثناء الولادة كنت أتمنى أن أكون عروس يتم زفها إلى أمير و ليس إلى جلاد.

كنت أريد أن يكون لي أب حنون و عطوف و ليس طاغية،تمنيت لو كان السرطان في أبي و ليس فيك يا أمي، تمنيت لو أن الموت أخذ الأفعى و ليس أخي،لكن هذا هو القدر و لا إعتراض ، لن أنساكم من دعائي أنتم دائماً في قلبي و خيالي حتى أرحل إلى جواركم يا أعز الأحباب على قلبي.

أخرجت صورة جنيني الذي خسرته قبل سنوات من حقيبة يدي و ثبتها بدبوس في أعلى زاوية الصورة،مسحت دموعي و قلت :«لا تخف يا صغيري، أنت الآن في جوار جدتك ،خالك ،جدتي و أبي بلال، كن مهذباً حتى موعد لقائنا في الجنة بإذن الله».

في الزاوية الأخرى علقت صورة أبي بلال الذي مات حين كان ساجداً، قبل أن ألد بابني الثاني بشهر ،لقد بكيت عليه أكثر من أبنائه و بناته لأنه الوحيد الذي أحسست بعطف الأبوة معه، لم يكن يناديني إلا يا ابنتي و أحتمي خلفه من غضب جلادي.

لن انسى جدتي الراحلة و عمتي البعيدة، هما من فتحا لي قلبيهما,كانتا لي الأم و الأخت ،خففتا عني من حزن اليتم، ليتني كنت أمتلك صورة لهما ،والد زوجي الراحل الذي كان يعطف عليّ في الغربة حيث كان هو أبي الذي أتمناه في كل سجودي سوف أدعو لأمي ،أخي و جدتي و أبي بلال بالرحمة و الغفران و لعمتي بالصحة و العافية.

* * * * * *

من الصعب جدا أن تأتي إلى عالم متهالك الأركان،أن تولد بين أبوين غير متفاهمين،تذوق طعم مرارة اليتم و ألمه بعد طلاقهما،أن تعيش مشتاتاً ضائعا مثل لاجئ في بلاد غربية لا تعرف فيها أحداً،ما أصعب أن تجد الشخص الذي من المفترض أن يكون حاميك و سندك تجده سبب عذابك و خوفك في هذه الدنيا،مرارة فقد حنان الأم و عطف الأب صعبة جدا لا يمكن تجاوزها أبدا فهي تترك ندوب لا تتعالج أبداً.

تمت في 21 أغسطس 2020  

تاريخ النشر : 2020-10-01

سارة الغامدي

السعودية
guest
20 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى