أدب الرعب والعام

أحلام وشموع

في كل أحلام ميّتة يأس كفنّها.. وإذا يومًا كنت من مُتسّولي المعجزة ويتامى الأمل؛ إلا أني أُعارك اليأس وأستبقي الحلم، وأتعالى على الألم، وأرى ضياء شمعتي نورًا وإن غلبت عليه الظلال، إيمانٌ مني بأن الليل سينهكه الحضور، والفجر سيكون مُختلفًا لا مُتّخلفًا، وما بينهما سوى تاء تراجعت.

**

جنّت السماء بالمطر.. أمشي لوحدي في مكان لا أعرفه، أواصل السير غير آبه بما يطوح به السحاب من ماء، لكن عقلي كان بعيدا عن هنا إلى أمد لا أمد له.. لا أكاد أجد من يشاركني المضي غير أبواق السيارات الغاضبة وهي تأمرني بفسح الطريق.. لكني لست هنا، بل هناك حيث جُعل المستحيل متقوقعا ينتظر وصولي.. وفي لحظة ازدياد سهوي، بدّت لي شاحنة تتقدم نحوي بسرعة خارقة كأنها ومضة برق، حتى صارت أمامي مستعدة لدّهسي، فلم أستّطع تجنب عجلاتها فأغلقتُ عيناي، ثم سمعت أحدهم ينادي: “لقد وصلنا “.  لأستيقظ من حلم لا يبشر بالخير، ووجدت نفسي في حافلة عجوز متوقفة في المحطة الطرقية، وهي ترتعد وسط ضجيج محركها العتيق. لا أكاد أُصدق أن هذه الحافلة قطعت ما يقارب ألف كيلو متر.. حتى يُخيّل لراكبها أنها اخترقت بوابة سحرية، وليس السير في منعرج الطرقات.. أو تراها كانت تسير بفضل دعاء مجهول مستجاب له؟.

**

نونبر 1995

فاس

نزلت من الحافلة.. الجو يميل إلى البرد قليلا، الساعة في المحطة تُشير إلى نحو الخامسة صباحا؛ وجوه من في المحطة يعلوها التعب والنعاس، بعض المتشردين يتخذون مقاعد الانتظار سريرا باردا للنوم، أو فقدانا للوعي.. رائحة السجائر وقهوة الصباح تفوح في الأرجاء، ممزوجة بصرخات عمال الحافلات وهم ينادون ملء حناجرهم بأسماء المدن، باحثين علي اصطياد أي مسافر تائه في هذا الصباح البارد: “كازا، كازا..  مكناس، مكناس..  مراكش، مراكش.”

جلستُ في مطعم صغير داخل المحطة واضعا حقيبتي على حجري، خشية اللصوص.. أتى لي النادل بكأس من الشاي مع خبز مدهون بالزبد والعسل.. لم آكل سوى القليل، فمعدتي تؤلمني.. بقيت جالسا منتظرا طلوع الشمس وانطلاق النهار.. أغفو وأصحو وسط صيحات عمال الحافلات، حتى بزوغ الشمس واستقرار دفئها على المدينة؛ لتطرد الناس من قعر نعاسهم، ثم لينتشروا في أرض المدينة، كل واحد منهم يسترزق في يومه.

إقرأ أيضا: مذكرات ميت

حملتُ حقيبتي وغادرت المحطة الطرقية. كان عليّ في البداية السؤال عن “حي مولاي عبد الله”.. لم أشأ الركوب في سيارة أجرة، قد يكون الثمن مكلفا، فلا ذخيرة مال تكفي لدي. سألت عجوزا عن الحي، فقال إنه بعيد جدا عن هنا، واقترح عليّ ركوب حافلة المدينة تحمل رقم ستة، حتى شارع الحسن الثاني، ومن هناك أسأل عن حي مولاي عبد الله.

يتوجب عليّ تذكر اسم الشارع الذي قال عنه العجوز، ثم انتظرت الحافلة كثيرا، حتى يأس صبري.. مرت حافلات تحمل مختلف الأرقام إلا رقم ستة، كأن العدد حُذف في الترقيم هذا الصباح! ثم بدّت لي حافلة تهم عرجاء باتّجاهي، ويعلوها رقم ستة مائل، حتى يوشك بأن يكون تسعة! تقول أمي: “إن حظوظ اليوم تظهر في مطلعه” والحافلة هذه توشي بأي نهار ينتظرني.

في حافة المدينة كنت أفكر في حالي، لقد تركت قريتنا قادما إلى فاس لغرض العمل، كلما أملكه هو مبلغ مال زهيد في جيبي، وعنوان مدّون على ورقة مهترئة قد يَصْدق أو لا. وإذا تحقق الاحتمال الثاني؛ فليس غير الخلاء يرحب بي.

عند وصولي إلى شارع الحسن الثاني، بدت لي مدينة فاس في قمم زينتها، فنادق ومطاعم فاخرة، مباني أنيقة تصطف من حولي.. أناس كثر في حال سبيلهم لا يبدو على ملامحهم أي اكتراث لما يجري حولهم.. ثم كان عليّ السؤال عن حي مولاي عبد الله، كما هي وصيّة العجوز.

_ في أي اتجاه حي مولاي عبدالله يا سيد ؟ (سألت أحد المارة)

رد ببشاشة :

_ إنك تقصده في اتجاهك هذا.. إنما مازال عليك أن تواصل السير حتى أبواب القصر الملكي، ومن ثم يمكنك سؤال أحدهم  عن الحي، حتى ينعته لك.

شكرت السيد، ووصلت قدما، أراقب المارة. المحلات التجارية تفتح أبوابها. المقاهي تبتلع البشر. هي مشاهد من التسعينات، والشعب المغربي يحدوه عنفوان أمل إلى مستقبل الألفية الثالثة.  فيظهر المغرب يسلخ قشرته القديمة، وينفض غبار الماضي من محياه.. تتغير الأوضاع، عقارب العالم تركض لمعانقة القرن الواحد والعشرون.. الملك يكبر، يشيخ، لم يعد حتى يرتجل في خطاباته الموجهة لشعب. الأمير محمد صار شابا ناضجا يقترب من عرش والده. التكنولوجيا تطرق الأبواب، الكل يتحدث عن الهاتف النقال، الحواسب، القنوات الفضائية.. بعض الناس تأثروا بالدراما المكسيكية المدبلجة. قناة الثانية دوزيم تشكل نزعة إلى الأمام، برامج الواقع تغزوا بيوت المغاربة.

الشارع ما زال يمتّد أمامي كأنه يقود إلى الأبد. فيما بعد سأعرف أنه أطول شارع في قارة أفريقيا.. أتخيل أني أمتطي طائرا عملاقا يبسط جناحيه ويحملني إلى الحي المطلوب. لا، قلت في نفسي، بل سيعرج بي إلى السماء لدن حوريات بجمال لا هو في الأرض، وتكون إحداهن من نصيبي، كما في حكاية “حمو أو نامير” التي كنت أسمعها في صغري من أفواه الجدات في قريتي. فكرت إني أحتاج حقا إلى رفيقة تؤنسني في درب حياتي كيف ما كان جمالها. لكن ماذا سأفعل بها بعد الأنس وأخشى الضجر؟ على الأرجح سأعريها. تلك أفكار شيطانية كانت تمس خيالي في قريتنا.

وبعد؟ إن شارعنا لم ينته بعد، ولا يبدو بأن له أمد يا هؤلاء.. هل تراه يصل إلى يوم القيامة؟

تعبت وأنا أمشي. قد تتورم قدماي في هذا الصباح وأجلس القرفصاء في مكاني. أبواب القصر الملكي لا تظهر من بعيد، وأخشى أنها لن تظهر! تساءلت أيكون ذو الوجه البشوش دلني على اتجاه مزيف؟

دفعت نفسي نحو الأمام، نحو الأمام، نحو… (أوف!) ها هي أبواب القصر أمامي، شعرت بنشوة النجاح، وقفت قليلا لأحتفل بانتصاري التافه.. لقد صدق ذو الوجه البشوش، وصرت على أعتاب حي مولاي عبد الله.. أول ما لفت انتباهي، كانت هي الأسوار العتيقة التي تطوق المكان، كأن هي من تحصن المدينة من الغزاة، وتبث الأمان في نفوس الفاسيين، فتبدو لناظرها في الوهلة الأولى، بأنها ليست هذا زمانها. وقفت أنظر إلى تلك الأسوار العتيقة ومعها باب القصر الملكي، الذي تجلى فيه الطول والعرض والزخرفة ما لم تره عيني يوما.. آه من عيش الملوك والأمراء، وأين منه في عيش البؤساء أمثالي، الذين عركتهم الحياة وقاس عليهم الدهر؟ لربما نقول آخرها موت ونلبث سيان؛ لكن تلك مقولة الجبناء.

بعدما نزهت بأنظاري في تلك الأسوار، وكذا باب القصر الملكي؛ وصلت المشي قدما وسألت أحدهم كان يدفع عربة التين الهندي بعناء شديد، حتى بهرت أنفاسه فيُخشى عليه من الإختناق:

_ أهذا طريق حي مولاي عبد الله؟

قال من فمه وأنفه :

_ لا ليس هذا، إنك تائه. أترى تلك الزنقة هناك؟ إنها تقود إلى حي مولاي عبد الله.

_ وكيف سأعرف بأني وصلت؟

_ ستجد بابا ضخما، وهو المسمى باب مولاي عبد الله، لِجه واعتبر نفسك قد وصلت مقصدك. 

_ أشكرك.

مسكين، يا لحاله ؟ لو كان عندي ما يكفي من مال، لكنت قد اشتريت منه بضاعته.. لكن هوانا سيان يا حسرتاه.

إقرأ أيضا: بائعة القرنفل

**

ما لها فاس ضاقت في هذا الدرب الغريب؟ أين سعتها؟. أمشي في درب تصطف فيه محلات تجارية شعبية.. الناس في كل مكان، لا أكاد أتجنب الإحتكاك بأكتاف الآخرين، ولا أرى غير رؤوس البشر حتى آخر بصري، وها أنا مرة أخرى في (ماراثون) المشي، بل هنا أكثر تكلفا من ذي قبل.

أتقدم إلى الأمام في الكثير من الضجر، حتى فوجئت بباب ضخم حوله مساحة فارغة.. أهذا باب مولاي عبد الله؟ قلت في نفسي. فكان كذلك، بعدما زكت لي لوحة أعلى الباب دون عليها، “باب مولاي عبد الله”  ولجت الباب، ثم وقفت أتساءل أين فاس مما أراه هنا ؟ تغير كل شيء، كأني غادرت فاس إلى مدينة أخرى. أزقة ضيقة لا تتسع سوى لشخص واحد، منازل كئيبة حقيرة يطوف حولها شعب مسحوق.. ملامح بعض الشباب يظهر عليها الإدمان وأيضا الإجرام. أعيدوا إلي فاس فضلا!

أخرجت من جيبي ورقة دوّن فيها مقصدي “حي مولاي عبد الله درب زاوية رقم المحل 13” وسألت صاحب بقالة عن العنوان، فدلني عليه.

وقفت في مكاني تائه العقل مخيب الرجاء، رغم أني اهتديت إلى ضالتي.. محل بقالة كتب أعلاه رقم ثلاثة عشر بلون أصفر باهت. وبابه يتوسطه قفل بدين أوصد المحل، وشباك مفرغة من قنينات الغاز على يمين المحل، كل شيء يوشي بأن لا أمل بأن يفتح هذا الباب الخشبي مرة أخرى.

هذا هو مقصدي الذي من أجله قطعت ما يقارب ألف كيلو متر، قادما إلى الفراغ وإلى اللاشيء. وهم، غمامة، حلم فاس يموت قبل أن يولد.. وبعد؟ إلى أين؟ حتما إن كل الاتجاهات تفي بالغرض.. لكن، أقنعت نفسي أن أسأل أولا عن صاحب المحل السيد عمر، وأين شد الرحال؟

استدرت برأسي ثم تبين لي عجوز يراقبني وهو يجلس فوق كرسي خشبي صغير، حتى كادت مؤخرته تلمس الأرض.. توجهت إليه لأسأله عن غياب عمر:

_ هل تدري أين ذهب صاحب هذا المحل؟.

_ تقصد عمر؟

_ بلى.

_ إنه مسافر إلى الرباط عند والدته المريضة.

لقد سافر عمر إذن في غياب حتما سيطول، ولم يبق لي سوى أزقة فاس مرتعا.. حتى العودة من حيث أتيت لا يمكن لها؛ لأن جيبي مثقوب.. إلا إذا كنت سأعود راجلا! أو ربما أتسول صدقة تعيدني إلى قريتي.. لا، لن أعود حتى لو أتيت لي سانحة؛ سأظل في فاس ونرى ماذا بعد؟

بدت نظرات الفضول في ملامح العجوز وهو يحدق إلي.. في الواقع لم يكن عجوزا بما جاز به الوصف؛ بل رجلا باسقا يميل إلى السمرة؛ عيناه بريئتان يرتاح لهما الخاطر، وبعض تجاعيد مرور الزمن في ملامحه تعطي له تقديرا بأنه تجاوز السبعين عاما.. سألته إذا كان يعرف عمر خير معرفة؟ أجاب بابتسامة الواثق :

_ أعرفه أكثر مما تظن، إن محله هذا الذي يبيع في المواد الغدائية؛ يستأجره عندي منذ عشر سنوات.. ما اسمك أنت، وماذا تريد منه؟

_ اسمي أنور، وهذا الذي تتحدث عنه، هو ابن عمي، سلمني عنوانه منذ أربع سنوات، إذا يوما انقطعت عن التمدرس، حتى يجد لي عملا في فاس.. ولم أره منذ ذلك الحين، لكني مازلت أحتفظ بعنوانه.

_ هل بحوزتك بطاقة وطنية؟

_ نعم.

_ إذن يمكنك العمل معي، بانتظار عودة ابن عمك.

_ فيما سنعمل يا ترى، هل سأجلس معك هنا، لنراقب معا مؤخرات النساء؟

ضحك مقهقها، حتى رد صدى الأسوار ضحكته. ثم قال:

_ لا، عندي بضاعة أبيعها في سوق قريب من هنا.

_ أقلت بضاعة ؟

_ لا تحتقرني يا فتى! كم عمرك وما هو مستواك التعليمي؟

_ تسع عشر سنة، وحاصل على شهادة الإعدادية.

_ جيد جيد، أنت مناسب.

عرف أن لا مكان يحتويني، فاقترح علي غرفة في سطح منزله.. في سبيلنا إلى منزله؛ كنا نمر على مباني مهترئة لا يكاد يصدق بأن البشر يسكنها.. لاحظت بأن الناس ينظرون إلي كثيرا. 

_ هييه يا عجوز، لم تقل لي ما اسمك؟

_ اسمي حسن.. والناس ينادونني باحسون.

_يا باحسون، لماذا ينظر الناس إليّ هكذا؟

_ لأنك جديد عن حيهم.

_ إذن يعرفون كل غريب يمر من هنا؟

_ وماذا تظن أنت؟

فجأة توقفنا أمام باب حديدي قرضه الصدأ، فأخرج من جيبه كومة مفاتيح ضخمة، كأنها كل مفاتيح  أقفال المدينة!

_ هيا يا أنور ادفع معي الباب.

_ هل سنخلعه ؟

_ بل سنفتحه.

أزيز يصم الآذان، ثم فتح الباب أخيرا، لترحب بي نسائم الكحول والسجائر.. صعدنا إلى غرفة في السطح فيها سرير عتيق وإحدى البطانيات كُتب عليها تاريخ 1963 لا أعرف إذا كان تاريخ إصدارها، أو انتهاء صلاحيتها؟

_هل تدخن يا أنور ؟

_ أجل.

أخرج من جيبه بضع سجائر من النوع الرديء، وسلمني واحدة، وأوقد أخرى، ليسعل قليلا ثم التفت إلي بنظراته البريئة قائلا:

_ أود أن أعرف قصة حياتك؟

_ يا باحسون إن لا قصة في حياتي تستحق الذكر، فمازلت في المقدمات.. إنما يغزوني الفضول لمعرفة أي الأقدار التي قاست عليك حتى ساقتك إلى هذه الزنزانة؟

_ لقد كنت في ألمانيا مجندا مع الجيش الفرنسي يا أنور.. عمك هذا يدعو للفخر (فضحك وهو يراقب الدخان الخارج من فمه)

(أوف!) ها نحن ذا بدأنا في البطولات المزيفة.. إذا تركت جدي في القرية وهو يدّعي بأن قنبلة انفجرت في حجره ولم يمت أثناء الحرب العالمية الثانية؛ لأجد في فاس من يشاطره جنونه.

_ وبعد يا باحسون؟

_ حتما سمعت بجدار برلين يا أنور؟ أتصدق، أنا قد شاركت في بناءه.. سقط كل الجدار إلا الجهة التي شاركت في بناءها، ووضعت أسفلها مخرج ماء مازال صامدا إلى يومنا هذا!

أقال مخرج ماء؟ 

_ وماذا عن بوابة (براندنبورغ) يا باحسون؛ ألم تشارك في بناءها هي الأخرى؟

_ لا فقط جدار برلين.

بعد برهة دخل عجوز آخر يبدو أكثر أناقة من باحسون؛ إنما محياه عركه الدهر فتكمش انكماشا.

قال باحسون :

هذا صديقي اليزيد، وكان معي أيضا في حرب ألمانيا. (ثم التفت إلى العجوز المدعو اليزيد ليردف) هذا أنور، ابن عم عمر صاحب البقالة في الحي. كنت أقص عليه مغامراتي في الحرب أيام العز والفخر.

أشعل العجوز اليزيد بدوره سجارة، وهو يطرق برأسه كأن به يستعيد شريط الذكرى لأيام الشباب والبطولات الغابرة، ثم قال وهو ينظر إلي:

_ آه، لو تعلم يا أنور ما قاسينا في الجبهة ونحن نعارك جنود هتلر؟ آه من زمن العز.. ما أزال أتذكر أن جنودا ألمان أسروا منا ثلاثين جنديا وكنت من بين الأسرى؛ قتلوا نصفنا واغتصبوا النصف اﻵخر.

_ وأنت يا عمي في أي فريق كنت؟

_ طبعا كنت من الذين قتلوهم!

_ اللهم ارحمك يا عمي وألحقنا بك مسلمين.. باحسون، أعتقد بأني سأنام.

إقرأ أيضا: تحت قناديل الشارع

**

كان لي علم بحلمي المنفي بعيدا عني، وللوصول إليه كان علي أن أعزم على اجتياز ليل أشيب مُفرّغٌ من نجومه، من قمره، من نسيمه الحالم.. آه من أحلام الفقراء، وما يتخللها من جنون المحال. تساءلت يوما، ترى بماذا يحلم الأغنياء؟ هل يكون كسرة من السماء؟ لم أهتد إلى الجواب بعد.. ربما يكون مرتعا في آخر الكون؟ أو لا يحلمون البتة. إنما أرى نفسي أصبو إلى قبس نور، فيكون نارا ويحرق جناحي!

فاس تنفس صُبحها، وأطلت الشمس على أسوارها، لتذكرنا بعبير العصور.. قال باحسون بينما نخطو معا إلى حي بن دباب:

_ أتعرف لمن تعود هذه الأسوار يا أنور؟ إنها تحصن جامعة القرويين، أول جامعة في التاريخ.

_ أعرف أنها أول جامعة في التاريخ، لأنهم يُعلمون  لنا هذه المعلومة منذ أول إبتدائي.. في نظرك يا باحسون، هل هذا يدعو للفخر؟

_ طبعا يا أنور، إن في مدينتنا أول جامعة عرفها العالم، وأول شهادة جامعية حصل عليها إنسان، كان مصدرها في هذه الجامعة أمامك. 

_ وأنا أرى غير ذلك.. فإذا كنا سنفتخر بالماضي؛ فيجب أن يكون الحاضر متفوق عليه، أو على الأقل يماثله.

لم يرد علي باحسون، كأن ما تفوهت به أرفع من أن يستوعبه عقله الذي وهنّ من الأزمنة.. بقينا واقفين نحملق في باب الجامعة:

_ باحسون، إني أفكر في أرملة مفلسة تفتخر بزوجها كبير القوم الراحل!

_ ماذا تقصد ؟

_ لا تكترث لي كثيرا.

واصلنا السير باتجاه حي بن دباب، حيث العمل الذي اقترحه علي باحسون يوم الأمس.. قال بأن له بضاعة هناك، وسأتكلف ببيعها. واصلنا قدما حتى تجاوزنا الأسوار العتيقة.. فجأة توقف باحسون وأمسكني من يدي قائلا:

_ استدر برأسك يا أنور لترى فاس.

توقفت، ثم التفت برأسي ليتبين لي مشهدا مهيبا؛ مباني بيضاء تمتد مد العين كسهول ثلج.

_ ياااه ! أهذه كلها فاس، أو تندمج مع مكناس؟

ابتسم باحسون كأنه يفتخر بفاسيته:

_ فاس لوحدها يا أنور، إنها ثاني أكبر مدن بلدنا.. أنت لم تر شيئا في فاس بعد (صمت قليلا قبل أن يردف) إن أبناء هذه المدينة هم من يحكمون المغرب منذ اثني عشر قرنا، ومازال يفعلون إلى يومنا هذا.. هل سمعت بحزب الاستقلال؟

_ أجل، الحزب السياسي الذي أنشأه علال الفاس.

_ هو أول حزب سياسي في العالم العربي، وقد رأى النور في هذه المدينة.. وأيضا ذكرت علال الفاسي. هل تدري يا أنور أن عائلة الفاسي الفهري هي من تحتكر المناصب الكبرى في المغرب، وربما في المستقبل أيضا؟

_ أنا لا أحبذ السياسة يا باحسون.

وصلنا إلى حي بن دباب.. لا، إن حي مولاي عبد الله أرحم من هذا المستنقع الذي أنا فيه اﻵن!. لاحظ باحسون اشمئزازي من هذا الحي البائس، فقال:

_ فاس يا أنور شأنها شأن المدن الكبرى، فيها أحياء راقية وبالمقابل أحياء بائسة.

_ أعرف يا باحسون أن نصيب أمثالنا من المدن يكون ناحيتها القبيحة.. كهذه حيث نحن الآن. 

كنت على يقين بأني أتواجد في ألعن حي في فاس.. حي بن دباب.

**

فاس جميلة بقدر قبحها.. خيرها كشرها. هذا ما يجول في خاطري وأنا أتجول مع باحسون في سوق بائس في حي بن دباب، حتى وصلنا إلى زاوية فيها غطاء بلاستيكي يحجب سلعة باحسون، وضع فوقه بعض الحجارة خشية أن يحلق به الريح.

أزال باحسون الغطاء عن بضاعته، فأطلت بائسة على غرار ما يعرض في هذا السوق.

_ ما هذه القمامة يا باحسون ؟!

_ أي قمامة؟ هذه بضاعة ستبيعها.

_ أهذا جهاز راديو، أين نصفه الثاني؟

_ هذا لا يهمك.

_ وأين عقارب هذا المنبه؟

_ إنه لا يحتاج إلى عقارب.. قلت لك لا تسأل كثيرا.

رحل باحسون بعدما أوصاني بألا أبيع بأقل من عشر دراهم.. هكذا إذن صرت أبيع الخردة في أول مشواري نحو القبض على الأحلام.. جلست أراقب بضاعة باحسون، ولا أدري ماذا بي فاعل، هل أضحك أو أبكي؟ حتى وقف أمامي شرطيان، فقاما بمصادرة البضاعة وطلبا مني مرافقتهما.

_ أقسم لك يا سيدي الضابط أن هذه النفايات ليست لي، إنها تعود إلى عجوز مجنون.

اللعنة على باحسون وسبله.  لقد حشرت في سيارة شرطة مليئة بباعة آخرين يبدو في محياهم التشرد والإدمان.. فكرت بينما تطلق سيارة الشرطة أصوات الإنذار : إذا كانت هذه هي البداية؛ فيا ترى كيف هي النهاية؟

**

أترى يا أنور تلك الشابة التي تتوسط صُحيْباتها هناك؟

_ ماذا بها؟

_ إنها جميلة !

_ بل أقلهن قبحا يا عثمان.

عثمان، تعرفت عليه في مخفر الشرطة، هو أيضا يبيع ما لا يُباع في بن دباب.. لكن له منزل وأسرة؛ وليس كأنا الذي لا تعرفه المدينة. تحققت الشرطة من هويتنا في إطار حملة تمشيط للتوقيف المبحوث عنهم.

الشمس تميل إلى الرحيل، أجلس مع عثمان في حديقة شاسعة في حي الأدارسة، ندخن السجائر ونراقب الناس يلهون مع أولادهم.. إنها الحياة تتجلى أمام أنظارنا، تلك فاس التي تُهنا عن سبيلها. التفت نحوي عثمان قائلا:

_ ما هو حلمك في الحياة يا أنور؟

لم أرد عليه للتو، ظليت أحدق في عينيه، بينما هو ينتظر مني جوابا.. صرفت عليه أنظاري إلى السماء، وقذفت دخان سيجارتي إليها:

_ أحلم بأن أحكم فاس، ويكون لي فيها ما أريد.

ضحك مستهزئا :

_ حقا إنك تحلم.

_ اسمعني يا عثمان، أنا لي حلم بأن أصير غير ما يريد مني الواقع أن أكون.. وإذا كنا سنتقابل مرة أخرى؛ فستجد حلمي قد تحقق، وإلا فلن تراني البتة؛ لأني لن أقبل بالأنصاف.

_ لكن أريد أن نتقابل مرة أخرى؟

_ إذن يمكنك أن تسأل عني عجوز يدعى باحسون في حي مولاي عبد الله.

**

لم أحل بفاس إلا قادما من قعر العيش، منطلقا إلى رؤوس الأحلام، أحمل طموحا لن تقدر عليه أسوار المدينة.. لا يهم كيف السبيل، حتى لو كنت شيطانا، فليس غير الفقر من يصنع الشياطين. أقول لنفسي، إني إلى ما أصير إليه، لو لحظة اختلط  الشك مع حلمي؛ لسقطت على غرار الآخرين.. أتأمل وجوه الفقراء ويتراءى لي فيها الخنوع والقبول بمر العيش.. ذاك ما لن أرضى به، الموت لي لا هذا.

المدينة تنام، يتلاشى أناسها.. المؤذن ينادي لصلاة العشاء داعيا الناس للفلاح.. أمشي في تعب إلى حي مولاي عبد الله، إلى زنزانة باحسون.. في سبيلي أفكر ماذا سأقول له؟ مسكين لا يدري أن بضاعته تمت مصادرتها، هذا إذا كانت بضاعة. معدتي تؤلمني جوعا؛ أحتاج إلى أي شيء أبتلعه؟ منذ الفجر لم تسقط نعمة في بطني.. سألت عن مطعم شعبي قريب.. فدلني عليه بائع النعناع:

_ إنه هناك. لكن مهلا، ألن تشتري مني قبضة نعناع؟

_ آسف، لكني لا أشرب الشاي!

شتمني في خياله.. هذا لا ريب فيه؛ فعيناه تفضحانه. دخلت مطعما شعبيا، نسائم المرق والشاي المنعنع تطفو في الجو، وأصوات الصحون والملاعق تقرع من حولي.. جلست في آخر طاولة أنتظر قدوم النادل، أفكر ماذا سأطلب.. المكان مليئ بالناس، أو الجياع.. أتى النادل يمسح طاولتي بخفة وهو يستفسر عن طلبي.. التفت شمالا لألقى شابا يغمس خبزا في البصارة (شربة فول) وأمامه كأس شاي.. طلبت نفس الوجبة علها تملأ فراغات بطني.

لم آكل في حياتي أشهى من هذه البصارة، أو ربما الجوع من جعلها لذيذة. ربما..  توجهت ناحية الباب حيث يدفع الناس ثمن ما حنجروه، عند سيدة بدينة ذات عيون واسعة..  قالت باسمة: “ست دراهم” (نصف دولار).

فوجئت بالثمن، شعرت بسعادة تستولي عليّ.. أعادت سؤالها لأتيقن من الثمن. لتكرر الثمن ذاته. صدق باحسون عندما قال، إن الناس في فاس لا تجوع.. فاس والمدن الأكثر اكتظاظا بالناس تجد فيها اللقمة رخيصة، ما عاد مدن الشمال التي تتراءى منها ضفاف أوروبا. 

إقرأ أيضا: تلك الأيام

وصلت إلى حي مولاي عبد الله.. أحاول تذكر بيت باحسون، الزقاق تتشابه وتوهمني رغم صلابة ذاكرتي.. وجدت منزل باحسون مركون في زنقة ضيقة تكاد تسمع فيها أنفاس الجيران.. طرقت الباب ولم يرد احد، ثم كررت الطرقات ولا أحد. ناديت ملء حنجرتي: “بااااحسووون”. ثم أطل في النافذة يسبقه دخان سيجارته. حتما هذا العجوز موته سيكون بالسجارة. فكرت: إنه يقال من لم يمت بالسيف مات بغيره. إنما باحسون آخر أنفاسه سيمتزج مع الدخان، بلا ريب.

_ باحسون لقد صادروا مني بضاعتك.

ابتسم ساخرا :

_ لا بأس في ذلك يا أنور، غدا ستبيع الخضر والفواكه.

بدأت أحب هذا العجوز كما لو كان أبي.. إنه بشوش، طيب، لطيف، الأكثر من هذا هو حنون.

_ أأسألك يا باحسون؟

_ تفضل.

_ هل لك أولاد ؟

مكث صامتا، كأن سؤالي أرجع إليه ذكريات غير محببة. لم أردف كلمة أخرى بانتظار جوابه.

_ عندي بنت بكر متزوجة في مدينة وزان، وابن آخر موجود هنا في فاس.. لكني لا أراه إلا نادرا، أما زوجتي فقد ماتت منذ تسع سنوات (صمت قليلا) وأرجو منك أن تعفيني من أسئلة أخرى من هذا القبيل.

مسكين باحسون، إنه لا يفتخر بأبنائه، فيما بعد سأعرف لماذا.. سينخلع الغمام عن حياة هذا العجوز الذي أثار حيرتي، لكني أحببته كما لو أني أعرفه منذ زمان، لا أمس فقط.

طبخ باحسون طاجين لحم تفوح منه رائحة زكية.. لكني قد أكلت في الخارج وندمت؛ فلم يكن بإمكاني إضافة لقمت واحدة.

_ حسنا يا أنور، سآكل نصفه وأترك ما تبقى منه ليكون غداؤك في الغد.

هكذا هم الفقراء، يفكرون في لقمة الغد قبل بزوغ فجره. يلوك بصعوبة لقلة أسنانه، أراقبه كأني معجب به، إنه راض عن حاله وأحواله. ترى فيما يفكر بعد هذا العمر؟ أيكون ثدي إمرأة بدينة؟ أو الموت واستوطان القبور؟ أكثر ما يعجبني فيه، محافظته على الصلاة. للوهلة الأولى حسبته لا يصلي.

_ وأنت يا أنور، كم لك من إخوة، وماذا عن أبويك، أمازالا أحياء؟

_ لي ست إخوة وأنا أصغرهم، أربع رجال وسيدتين، كلهم متزوجون ويقطنون في القرية.. والداي حيان يرزقان.. حياتنا في القرية لا هي فقيرة ولا يسرة. لكني قررت أن أخرج عن سرب إخوتي الراضين بأحوالهم كما وجدوها، فأقسمت لنفسي  أن لا أعود إلى القرية إلا وأنا أغنى واحدا فيها. وأقسم لك يا باحسون قسم الرجال ووعدهم؛ بأني سأخرجك من هذه الزنزانة لربما غدا أو بعده.

أرجع باحسون اللقمة التي كانت متوجهة إلى وجهه ووضعها فوق الطاولة وهو ينظر إلي في حيرة، ثم تغيرت تقاسيم وجهه وقال:

_ لن تستطيع يا أنور أن تخرجني من هنا، إن ذلك من درب المحال.

ترى لماذا يقول هذا، تساءلت في نفسي؟ ألم يجدر به أن لا يقلل شأن عزيمتي؟.

إقرأ أيضا: شبح المعسكر

**

فبراير 1996

فاس

صباح بلا شمس، صقيع.  تستيقظ أسوار المدينة.. تتيقظ عيون الفاسيين بعسر، النوم في كل مكان.. الناس يتبادلون النظرات كأن كل واحد منهم يتهم اﻵخر بإيقاظه !.  أجر نفسي إلى حي بن دباب على العادة، لبيع الخضر والفواكه.. بدأت أكسب المال رفقة صديقي عثمان، لكنه رأس مال باحسون.. نصرخ في النهار والمساء؛ ننادي الزبائن: “موز الشمال موز الشمال. تفاح الغرب تفاح الغرب”. كثيرا ما تعاركنا مع من سبقونا إلى الحرفة، إنهم يحسدوننا على ما نبيعه..  يقال “أخوك في الحرفة عدوك” ونحن هنا أعداء.. في أحد الأيام تعاركت مع أحد منافسنا، لقد غدقت عليه بالضرب حتى خلته قد هلك.. منذئذ كسبت احترام الأغلبية، وصرت أرعد الباقي:”إنه أنور، ابن البادية المتهور”  كذا يقولون عني.

في ذات مساء ونحن في السوق؛ تكلم معي باحسون عن منصف، الشاب الأنيق ذو الطول الفارع، قال بأنه يبيع المخدرات في السر، لا يعرف عنه ذلك سوى القليل، لكن مخبر السوق على علم بعمله الذي يجني منه الكثير، وهو أيضا ضليع معه، إنه يشتري صمته.. فكرت بأن عليّ التعرف على هذا المنصف. قال باحسون إنه يشتغل مع عصابة خطيرة، يسحقون بعضهم بعضا كما تسحق أعقاب السجائر في قارعة الطريق. ومنصف هذا يقطن في منزل والده هنا في الحي، لكن له من المال ما يخوله أن يشتري منزلا في أرقى أحياء فاس..  في الأغلب يأتي عندي في المساء لتبضع بعض الفواكه، إنه يعز باحسون كثيرا. ذات مرة وددت الإقتراب منه، فطلبت منه قطعة! رد مستغربا أو يُتقن دورا: “أي قطعة تقصد؟!”. ابتسمت في وجهه بهدوء:

_ قلت لك قطعة وسأدفع لك حالا.

هكذا بدأت المسرحية الملغومة، إني ألعب اﻵن مع رجل خطير، لكن لا مرد لعزمي.. أظهرت ملامحه عدوانية واحتقارا. أردفت:

_ لا تخشى مني، فلن أخبر أحدا.

رمى في وجهي البضاعة التي اشتراها مني:

_ أعرف إنه ذاك العجوز باحسون.. لكن اسمع يا ابن العاهرة…

لم ينه عبارته فبصقت في وجهه؛ ثم ها هي معركة جديدة تنطلق.. إنه أقوى مني، لكماته أسقطتني أرضا، رغم ذلك أبادله بعضها، لكن البغل ثابت. اجتمع الناس حولنا: 

“انعلوا الشيطااان! انعلوا الشيطااان! سيقتل أحدكما اﻵخر”.

غبي يعتقد أن بشتمه لأمي سأنسحب؟ أبدا لا، فإني مستعد لقتل أيا كان لو شتم أمي؛ حتى لو كان الحسن الثاني نفسه.. سالت الدماء من أنفي، لكني بدأت أنقلب على انتصاراته، حتى سقط أخيرا في الأرض. جني يسكنني! البغل شتم أمي. توقف بسرعة وتجنب لكمتي ثم ركلني بين فخدين، فسارت الكهرباء في جسمي.. الدماء تنضح  في أنفي، جبهتي، هو أيضا أصيب في رأسه، لكني أكثر عطبا منه. أخيرا انتهت المعركة بحضور الشرطة، أحد المحسنين أعلمهم بقيام حرب أهلية ها هنا.

وصلنا إلى مخفر الشرطة، اغتسلنا من دمائنا وجلسنا  إلى طاولة تحقيق عند ضابط القسم.. تحقق من هويتنا، لا سوابق قضائية عند كلانا.. الضابط يسأل: “ما سبب عراككما ؟”

تتلاقى نظراتنا ثم نطرق حائريْن. الضابط يكرر السؤال بعنف: “فلتجب أنت” قصدني أنا. منصف ينظر إلى نظرة المتسول، إنه يخشى على حياته. انفعل الضابط: “فلتنطق!”.

سعلت قليلا، شعرت بحلقي يؤلمني، لا إن كل جسدي يشتكي.. نظرت إلى الضابط قائلا:

_ إن منصف مدين لي بالمال، لكنه تأخر في تسديد دينه.. هذا سبب عراكنا.

_ كم تدين له؟

_ خمسمائة درهم !

صرف الضابط أنظاره إلى منصف :

_ أحقا ما يقول هذا؟

_ أجل سيدي، هذا كل شيء.

ضحك الضابط :

_ أمن أجل خمسمائة درهم كاد أحدكما يقتل اﻵخر؟!  هل الأرواح هكذا رخيصة في حي بن دباب؟  حسنٌ من منكما سيفتح محضرا لمتابعة اﻵخر؛ أو كلاكما سيفعل؟

رد منصف أولا :

_ أنا أسامحه يا سيدي.

عاجلني الضابط بالسؤال :

_ وأنت؟

_ أنا أيضا أسامحه.

**

أرى باحسون يقتل، يذاق عذابا، بسببي أنا، لقد فتحت المصائب في وجهي.. انسلخت من ذاتي وصرت أقرب إلى شيطان. إنها خسة العالم من أرادت لا أنا.. أبدا لا أنا، إنه العالم من يريدني هكذا، فكان له مراده.  يستفسرني باحسون عن سبب الكدمات في وجهي، أجيبه كاذبا: “تعرض لي اللصوص”.  قال إن عمر  يعلم بأني عند باحسون في فاس، لكنه ما زال عند أمه المريضة في الرباط ، يقول بأنه سيأتي قريبا إلى فاس.

إقرأ أيضا: التائه

عدت إلى بيع الخضر والفواكه في بن دباب؛ لم أر منصف منذ عراكنا، أخشى أنه يدبر لي مصيبة. ذات ليلة وأنا أجمع البضاعة وأتهيأ للعودة، فاجأني حضور منصف رفقة شخص آخر.. كأن صداقة تجمعنا منذ دهر، فبادر بمصافحتي بحرارة:

_ كيف حال صديقنا أنور؟

_ بخير يا صديقي منصف.. كيف حال وجهك؟

ضاحكا :

_ أفضل من وجهك.. لكن دعنا من هذا المزاح يا أنور، واسمع ما سأقوله.

التفت يمنة ويسرة، ثم قال بنبرة هادئة منخفضة:

_ المعلم يريد أن يراك !

_ من المعلم هذا ؟

_ أنت فاطن جدا؛ لذا لا تدعي عدم الفهم.

ها أنا صرت مطلبا عند المعلمين، لكن لا هم معلمين كما سيخيل لأحدهم.

_ وماذا لو رفضت؟

_ يمكنك ذلك، لكي أي حشرجة؛ فباحسون قبل أنت.

_ سأقابل هذا الملعم.

_ تعجبني شجاعتك يا أنور، أمثالك قلة.. فلنلتقي بعد ساعة في مقهى ريجنسي.

توجهت إلى مقهى ريجنسي، أفكر عن هذا الذي أنوي القيام به؛ ماذا لو قتلوني؟ عذبوني؟ أحاول جمع شتات ذهني، أقول لنفسي، أنا ليس لي ما أخسره، حتى لو قتلت الليلة، فلن أترك سوى حزن سينخلع في يومين لدن عائلتي. لي إخوة غيري ولن يعدم أبواي الإهتمام بعد عجزهما.

وصلت إلى مقهى ريجنسي راجلا.. وجدت منصف رفقة شخصين آخرين بانتظاري، هو لا يعلم بأني أخبرت صديقي عثمان بكل شيء، قلت له إذا لم تراني من جديد، فاعلم أن أصدقاء منصف قد تخلصوا مني.

لم يعد هناك أي مزاح، الجدية في ملامح هؤلاء الرجال. توجهنا إلى سيارة من نوع فولزفاجن جولف، سوداء اللون، حتى زجاجها قاتم من الخارج.. فتح منصف الباب الخلفي، فسبقني أحدهم إلى الدخول، فكرت: إذن سيضعونني في المنتصف. فكان ذلك. قال منصف : “لا بد أن نعصب عيناك”. فوجئت بقوله!. كان ردي مستنكرا:

_ ولماذا العصابة ؟

_ هي من شروط زيارة المعلم.

إذن لا يريدونني أن أحفظ الطريق التي تقود إلى هذا المعلم.. أذكياء، محترفين. فكرت: بفعلهم هذا، فلا نية لهم في قتلي.

وضعوا العصابة على عيناي، فانطلقت السيارة.

**

من خلف العصابة أرى نورا، أقترب منه بخطى حثيثة. أيكون ما يتراءى لي تأويله مناي تغدو إلي وقد حقت؟ الأرجح أنه كان حُلمَ يقظة مبتذل. لا غمغمة في السيارة، كأنهم بلعوا ألسنتهم، حتى محرك السيارة لا يخلف صوتا!. ماذا أصاب العالم يلوذ ساكنا؟ تذكرت قول باحسون: “إنهم يسحقون بعضهم بعضا كما تُسحق أعقاب السجائر في قارعة الطريق”. لكني لن أسحق الليلة، أعرف.. فما جدوى هذه العصابة إذن؟ إلا إذا كانوا خائفين بأن أعود طيفا بعد قتلي، وأنتقم من معلمهم؟ كلما أعرفه هو أني في أيادي أشخاص لا يعترفون بالقانون ولا الدين؛ فقط المال والمال، وبعده فليحترق العالم بمن فيه. ها أنا ذا على مرمى  عتبة باب ليس كغيره من أبواب فاس العتيقة. باب من يلجه يجد نفسه في قبيلة المجرمين.

خففت السيارة من سرعة سيرها، فشعرت بها تدخل إلى مكان مجهول.. حتما تطوقه أسوار ويستوطنه المعلم.. فبدأت الإرتجاجات تصيب العجلات حتى توقفت السيارة كليا.

دخلت برفقة هؤلاء القوم إلى جرف مجهول. باب يفتح ويغلق بهدوء مثير للأعصاب؛ ثم صوت الأحذية تطرق البلاط.. حتى أزالوا العصابة من عيناي لتتموج غمامة أمام أنظاري، تلاها منظر أرائك الحرير في بهو شاسع. جلسنا في صمت بانتظار قدوم هذا المعلم.. لفت أنظاري منظر السقف المزخرف بأرفع أنواع الجبس؛ إنها فيلا فخمة تتحدث عن نفسها. وفي لحظة ازدياد سهوي وأنا أسرح في هذا البهو الملكي؛ فإذا بشاب باسم يدخل علينا بلباس رياضي، يظهر في محياه بأنه دون الثلاثين سنة.. أظهر الكثير من الود للذين اصطحبوني إليه. فكرت: لا يمكن أن يكون هذا هو المعلم! لكنه كان كذلك. تذكرت لصوص والخارجين عن القانون في حي مولاي عبد الله، أولاء ذو العاهات المستديمة والعيون الجاحظة، أين هم من هذا الشاب المليح الوجه الأنيق الطلعة؟ مع أنه يزن في خرق القانون زنة الأطنان.. إنها الأناقة في الإجرام، والشر مع وقف التنفيذ.

إقرأ أيضا: ثمن الثروة

**

مارس 1996

فاس

في مقهى ريجنسي، أجلس رفقة عثمان وبالي ليس هناك، بل بعيد بعيد، إلى منتهى حلمي. وجهي سوية الأرض، فلم يعد باديا على محياي ما يدعو لطمأنينة.. عثمان شعر بأني لست معه وإن كان جسدي هناك، إنما عقلي منصرف إلى مخططات شائكة.. ليغزوه الفضول لمعرفة ما دار بيني وبين أصدقاء منصف.. لكني أحاول أن أتيه به.

_ ألن تقل لي ماذا وقع هناك ؟

_ ليس بشيء المهم يا عثمان؛ فقط قابلت معلمهم الذي أراد التأكد بأني سألتزم الصمت حيالهم.

باحسون يسعل، يدخن، يلوك بعسر، يصلي.. وهكذا تتعاقب أيام العجوز وتتأرجح بين الليل والنهار، نظراته زائغة حزينة، أتساءل أيكون كل ما يتفوه به صدقا؟ أو لربما يجانب الصواب كما نتج عقله من فراغ عن جدار برلين؟ إنما يعزه الجميع في حي مولاي عبد الله، إنه من سكان الأولين لهذا الحي البائس الذي مر الزمن ولم يلتفت إليه، وظل غارقا في مستنقع البؤس ومرارة العيش.

منصف اختفى بعد لقائي مع معلمه، لم أره بعد تلك الليلة بانتظار اليوم الموعود؛ اليوم الذي صار اقترابه يرعدني؛ الخميس واحد وعشرون آذار.. كان علي أن أتأقلم مع ما آليت إليه؛ لكن صعب علي أن أفكر بأني وإن كنت أمشي حرا في الشوارع؛ إلا أن مكاني الأنسب في أقبية السجون! هذا الشعور كان يجب أن يكون على مقربة مني، إنما لا يستحوذ علي. أتساءل ترى فيما يكفر الذي يقتل إنسانا ويسحق وجوده، ثم يمضي في حياته؟ الأرجح أنه لا يفكر. إذن يتوجب علي أن لا أفكر، أن أتعلم كيف لا أكون أنا!

ذات زوال تصادف وجودي في المنزل زيارة شاب غريب لباحسون، لم تره عيني من قبل، تساءلت أيكون ابن العجوز؟ فكان هو.. استوقفني فتور الود بينهما. شاب أنيق متوسط القامة ممشوقها، لم يلبث مع باحسون سوى القليل، قبل أن يهم بالمغادرة، إلا أنه تدارك وألقى علي التحية، ثم عرفنا باحسون.. اسمه رضوان الإبن الذي لا يفتخر به العجوز.. قال لي الإبن العاق: “إنك تذكرني بنفسي” ثم رحل. فيما بعد سأعرف عن طريق جزار الحي، بأنه يعمل في المطار، وله سوابق عدلية بعدما قضى عقوبة سجنية مجهولة الجرم خارج فاس.. باحسون لا ينفك يحذرني منه، حتى لا أبني معه أي صداقة.

**

الأربعاء 20 مارس 1996

ليلة الواحد والعشرين من آذار، جافاني فيها النوم وتركني منفيا في العتمات؛ كأن الليل زاد قتامة وأنا أنصرف إلى تفكير في الغد وما ينتظرني فيه. إنه انطلاق الربيع، قلت في نفسي، لعله فال خير يكون.. عدت بذاكرتي إلى ليلة مقابلة المعلم رفقة منصف وأصدقاءه؛ لم تدم المقابلة سوى وقت قليل؛ إلا أن تلك المدة الزمنية الهينة كانت كفيلة لتشبك نفسيتي وتزرع في شك رهيب متماد..”المعلم” اسمه جواد، ينحدر من اقليم تطوان، حيث منبع تجار الممنوعات في المملكة.

استقر في فاس منذ بضع سنين وأنعش تجارته في المدينة، ومعه قبيلة من المجندين، الذي قرر المعلم بأن أكون أنا واحدا منهم. وهذا الشرف نلته من المعلم بعد ما حصل بيني وبين يده اليمنى، منصف أقصد.. كل ما في الأمر أن العصابة المرموقة. تبيع شهريا كمية كبيرة من الممنوعات تصل إلى أكثر من ثمانون كيلو غراما من مخدر الحشيش، موزعة على كل زوايا فاس، حتى تمكر بعيون السلطة والواشون لهم أصحاب الحسنات منهم.. حسابات دقيقة لا تترك المجال لغير إصابة الأهداف، مع الاستعداد التام لإنهاء حياة أيا كان في سبيل أوراق البنك: المال، الفتنة، الحلم، الكابوس!.  وافقت أن أدخل إلى مملكة المجرمين المحترمين. لي ما لهم، وعلي ما عليهم.

**

لقد حل الخميس الموعود، فتبدو شمس صباحه أكثر سطوعا، كأن بها تنذرني من غيب يحمل ضررا لي.. أمشي قاصدا حي بن دباب، بخطوات ثقلية كما لو كنت أمشي في الأوحال، خطوات ممزوجة بالخشية على حلمي، أن يفنى اليوم وأصير إلى سراديب السجون؛ وراء القضبان الصدئة مع كمية كبيرة من السنين، فيها ما يكفي لتكفير عن ذنب الإغتناء السريع، وتحسر والندم على زهرة الشباب الفواحة، التي نتنت في سبيل حلم لا تضيئه من غير شمعة ذائبة تعد بظلام آت.

حولت جعل يومي على طبيعته، بانتظار ما هو القادم؛ وما هي إلا لحظات بعدما جهزت خضرواتي وفواكهي وميزاني؛ حتى توقفت سيارة كبيرة من نوع “ترانزيت” تبيع الخضر بالجملة، وكان ذلك أول مرة تتوقف لكي تبيع لي بالجملة.. نزل منها رجل في ملامحه اجتياز الأربعون سنة، ألقى التحية قائلا: “كيف حالك يا العود؟” . لقد ذكر “العود” وهي كلمة سر يقصد بها “المعلم”، أي جواد، والعود تعني بالعامية “الفرس” واسم لمعلم يحمل هذه الدلالة: الجواد.

جمعت شتات ذهني وقلت بصوت واثق:

_ أهلا بالمعلم؛ أحتاج صندوق تفاح، وآخر شهدية؛ على أن يكون الثمن يناسب بائع بائس مثلي.

_ طبعا، بل مناسبا جدا.

وضع لي السلعة المطلوبة ودفعت له الثمن، ثم قصد  البائع الآخر على جنبي ليجعل كل شيء عاديا إلى أبعد الحدود.. كنت أعرف أن السلعة تقبع في صندوق التفاح.. صندوق يحتوي على خمسة عشر كيلو غراما من مخدر الحشيش، نثر فوقه كمية تفاح لحجب السلعة من البروز.. هكذا يبيع المعلم سلعته، لا بدفعة واحدة؛ بل على تقسيط في أنحاء فاس لتمويه حتى العفاريت والأشباح. وضعت صندوق التفاح جانبا غير معروض للبيع، بانتظار كيف ينتهي فيلم العود هذا؟.

أبدا لم يكن اليوم طبيعيا، وأنا أجلس على مقربة من صندوق، يكفي ما فيه لإرسالي وراء القضبان ما تبقى لشيخوختي.. إلى هنا كنت أعرف المخطط، إنما الذي سيستلم مني هذا الطاعون؛ لم يكن لي به علم.. كلما قاله المعلم ويده اليمنى منصف، هو تذكر كلمة السر، ألا وهي “العود”. العود، العود.

أتى الليل وحان وقت الجمع والرحيل.. لم يأت أحد ليخلصني من صندوق التفاح المزعوم.. تساءلت لماذا هذا التأخر؟ أيكون قد تم القبض على المستلم؟ أو تراهم عازمون لتخلص مني؟  و..؟ و..؟ و..؟ أسئلة شتة تنهار على رأسي، ولم أجد لها صوبا.

في الغد عدت أجلس قرب الطاعون، وأوصالي ترتعد خوفا من حضور رجال الشرطة بغتة، وليغتنموا بصيد ثمين، يكون أنا وصندوق طاعوني. مع آذان صلاة المغرب، توقفت أمامي سيارة بيضاء من نوع “مرسيدس 240” نزل منها شاب حليق الرأس يضع نظارات طبية، رفقة مراهق أنيق ذو شعر كثيف.

ألقى التحية وبدأ يحملق في السلعة  كأيها زبون. ثم قال بصوت مرتفع لرفيقه المراهق :

“نسيت أن أضيف بأننا الأمس كنا نلتقط صورا مبهرة مع العود”. ثم كرر ذكر كلمة “العود” كثيرا وهو يحدث صاحبه، ثم تيقنت عندما توجه إلي بالكلام ملقبا إياي بالعود. عرفت بأنه من سيخلصني من الطاعون، فها هو يأتي بكلمة السر مرة أخرى للتزكية. ثم التفت إلي قائلا:

“عندنا عرس هذه الليلة يا صديقي؛ لذا نحتاج إلى صندوق موز وآخر تفاح”.

بدون تردد ومع ابتسامة النجاة، جهزت له طلبه، ووضع بضاعته في صندوق سيارته.. ثم بدأ معي الدردشة والمزاح المبتذل، حتى أخرج محفظة نقود ودفع لي ثمن البضاعة، ثم التفت إلى مرافقه قائلا :

“اجلب من السيارة كيس حلوى العرس، ليذوق منه صاحبنا”.

بعد ذلك رحلا.

إقرأ أيضا: حكايتي مع هدى

كيس حلوى، وأي حلوى هذا؟ إنها حلوى ممزوجة بخمسة آلاف درهم، الثمن المتفق عليه مع المعلم من جراء عملية واحدة.. قال بائع جنبي يشاركني بيع الخضروات:

“يالك من محظوظ يا أنور! في آخر ساعة تبيع صندوقين من الموز والتفاح لأصحاب العرس.. لا شك أنك كسبت أزيد من مئة درهم.. أنا أبغض حظك هذا المساء”.

قلت له في خيالي بينما أسلمه كسرة حلوى: بل كسبت خمسة آلاف درهم يا غافل، التي ما كنت لأكسب عشرها في اليوم الواحد، حتى لو كنت أبيع بن الدباب مع سكانه!.

عدت إلى حي مولاي عبد الله، وفي سبيلي إليه، لم يكن الكون بسعته يسعني من فرط الفرح ونشوة النصر، وانقلاب التوجس سعادة.. في جيبي مبلغا لم يزره يوما.

بعد يومين اشتريت ملابسا جديدة وأحذية، وغدوت أنيقا كأني ابن حي نرجس في فاس؛ لا ابن بادية طرحت به أقداره في دركات فاس، دروبها المنسية. باحسون يوصيني بعدم إسراف المال وجمعه للمستقبل.. المسكين يظن أن ما أكسبه من بيع الخضر من جعلني أنيقا. قلت له بيني وبين نفسي: حتى لو كنت أبيع خضرواتك لقرن ونيف في حي بن دباب، ما كنت اشتريت حذاء مقلدا.

**

أبريل 1996

فاس

في حي مولاي عبد الله، لم أستسغ فيها شابا حقيرا يدعى علال، لا أنا أحببت خليقته ولا هو منذ أول يوم لي في الحي. لقد سبق وتعاركنا قبل أن يتدخل الجيران لإنهاء المعركة، هو يظن أن فاس في ملك أمه، ويرى نفسه فاسيا أصيلا، وما دون سواه، مستوطن آت من رؤوس الجبال بعد عشرة طويلة مع المعز.. حتى اسمه العتيق “علال” يكمل ما تبقى من عرس الغرور، فهو يتشاركه مع الزعيم السياسي وأحد رجال فاس: علال الفاسي.

ذات ليلة وهو رفقة أصحابه بينما أمر جنبه، بدر إلى الإهانة والسخرية : “انظروا، إنه ابن البادية الذي كان يسرح بالحمير في الأمس، صار اليوم أنيقا يظن نفسه فاسيا، ولا نعرف كل طموحه المزيف؟”.  لم أسرها في نفسي، وكان لا مرد بأن أبديها له، وأنا كذلك مسني الغرور بعد فلاح عملية الطاعون. وصرت أرى نفسي عظيما. رددت الإهانة بمثلها: “ألا تعرف ما هو طموحي القادم؟ أن أنام مع أمك لتلد غيرك”.

انتفض علال من مكانه جاهلا، فتبين أن معركة جديدة تتهيأ للقيام.. لم يمهلني حتى وقت لتفكير، فلكمني على وجهي، حتى أحسست بأسناني تحركت من مكانها.. مع آلام لكمته، أجمعت كل قواي في يدي، ولكمته في منتصف وجهه جعلته يحلق في الهواء ويرتطم بالأرض، ثم تهيأت لركله، قبل أن أفاجأ بأصدقائه يقدمون له عونا، فانهالوا علي ضربا  حتى سقطت أرضا، وكان معهم علال الذي استعاد قوته، ولم يكن بمقدوري الوقوف وصراعهم جميعا. حتى تعبت أرجلهم من الركل فرحلوا خشية تدخل رجال اﻷمن. وكان آخرهم علال، الذي بصق علي ثم اقتفى أثرهم.

تركوني مرميا في الأرض كما لو كنت كيس قمامة، يحدوني ألم شديد في كل مفاصلي..  عجوز يقدم لي المساعدة لنهوض، وهو يردد: “لا حول ولا قوة إلا بالله”. قلت له بينما صرت واقفا: “لا تأسفنا علي يا عجوز، أقسم لك أنه كما بصق علي، لأتقيأ على وجه أمه. لا، بل سأخلع سروال العاهرة أمه أمام الملأ”.

_ لا حول ولا قوة إلا بالله.

_ فلتصمت يا هذا العجوز !

_ حسبي الله ونعم الوكيل.

_ إلى منزلك !

كح كح كح.. باحسون ينفجر ساعلا، يوبخني، يحذرني:

_ ألم أقل لك لا تتشاجر مع أحد في هذا الحي.. لماذا أنت عنيد؟!

_ هو من بدأ.

_ أنا أعرف طباعك، هل تظن نفسك بريئا؟ كم مرة اشتكوا منك هنا في الحي، وأيضا في بن دباب؟.. أأنت حقا ابن عم عمر؟ فلا أكاد أجد فيكما ما تتشركانه.

بقيت صامتا، لم ألق ما سأقوله، العجوز على حق. أضاف:

_ لماذا لا تصلي؟

أجابه كيان غامض، أسمعه وحدي: “أرأيت يوما يا باحسون شيطانا يصلي؟”

في صباح الغد عزمت على الانتقام، فلن أنسى علال وبصقه علي، أقسمت أني سأتقيأ عليه، ثم سأتوب من العراك كما وعدت باحسون.

انتظرت ذهابه إلى الفرن الشعبي، لإيصال العجين الذي أعدته والدته، لكي يخبز هناك.. حتى ظهر أخيرا، ثم اعترضت طريقه:

_ أين أصدقاؤك اﻵن لكي يدافعون عنك؟

_ هل تظنني أخشاك يا ابن البادية؟

ثم انطلقت أول معارك فاس في هذا اليوم.. سقط منه العجين ولطخ الأرض، بينما نتشابك بالأيادي، فانطلقت اللكمات.. أنا أقوى منه، فسقطته أرضا: “لن ينقذك مني أحد، سأخلع سروالك البالي، وأبصق في مؤخرتك”.

التقط حجارة فضربني بها على رأسي، أحسست بسائل ساخن في رقبتي، إنها دمائي تجري إلى ظهري. التفت برأسي لتتبين لي قنينة خمر فارغة، كأن الشيطان يمدها لي، فكسرتها بما أتيت من قوة على رأس علال، فهزت صرخته أسوار الحي.. عاودت ضربه بنفس القنينة المكسورة.. الدماء زخات من رأسه، كأنه خروف مذبوح مُمّرغ في دمائه.. هلّني مشهد جريان الدماء، ثم أطلقت سيقاني رفقة الريح.. أسمع شقيقه الأكبر يهرع إليه وهو ينبح بكلمات لم أفهمها:

“أنا الذي البادية فاس عاهرة أمه!”

 أركض ولا مقصد لي، وخلفي رهط من السكارى، يدلهم شقيق علال وهو ينبح:

“لقد قتله، قتله، أمسكوا راعي الحمير”. 

ثم تذكرت، إني أركض باتجاه باب القصر الملكي حيث رجال الأمن والحرس، إنما لا مجال للاستدراك، فورائي كلاب بشرية. حتى تحقق الكابوس، فأضحيت إلى باب القصر الملكي حيث رجال الأمن، وأنا في مشهد يرثى له، بوجه وشعر  ملطخان بالدماء. شقيق علال ما زال ينبح :”أوقفوووه لقد قتل أخي!”.  وانتهى العدو بتوقيفي متلبسا.

يتبع..

guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى