أدب الرعب والعام

رسالة شمراع

بقلم : رفعت خالد المزوضي – المغرب


للتواصل : [email protected]

بنفس الطريقة المعتادة أغلقت باب الثلاجة بعد أن أخرجت منها زجاجة الماء البارد.. دفعة خفيفة من أطراف أصابعي ثم أنصرف قبل أن أسمع صوت انسدادها الرفيق.

تخيلتُ – كعادتي مع الإحصاءات – لو أن عدادا مثبتا إلى الثلاجة يحسب كم مرة فتحتها، كم يكون العدد الآن ؟

مررت في طريقي بصندوق البريد بالباب، فانحنيت ودفعت الدفة الصغيرة لألقي نظرة بالداخل.. هناك ثلاث رسائل فيما يبدو، إنه معدل الرسائل الذي يصلني في اليوم تقريبا.. حسن عليّ أن أتوقف عن إحصاء كل شيء في حياتي !

ارتميتُ على مقعدي الوثير خلف مكتبي وألقيت بالرسائل كيفما اتفق. رشفت من قنينة الماء بشرود، ثم مسحت قطرات الماء عن لحيتي البيضاء.. لم يكن عجوز مثلي ليتلقى هذا الكم من رسائل الإعجاب ما لم يكن كاتبا مشهورا طبعا !

عدّلت جلستي ومددت يدي للظرف الأول وشرعت أفضّه بحركة ملول.. إطلالة خاطفة على اسم المرسل واسم المدينة، ثم نفخة على الظرف لينفرج مفصحا عن محتواه، وهي غالبا ورقة بيضاء مطوية.

هذه فتاة مرهفة قد رشّت – كالعادة – عطرا أنثويا جدا على الرسالة، وتخبرني بخط أنثوي جدا أنها تتمنى الزواج بي، وأنها لا تهتم لفارق السن لأن الأهم هو قلبي الراقي.. إلخ.

ابتسمتُ وأنا أضع خطابها جانبا دون أن أنهيه.. وما أدراك ما الزواج يا ابنتي ؟ الزواج ليس رواية فلسفية حالمة. تكفي رائحة البصل والثوم لتقتل كل فلسفة عميقة !

الرسالة الثانية من مراهق متحمس – كالعادة أيضا – يرجوني بشدة أن أقرأ سطورا مما يكتب لأرى كيف أنه موهبة ضائعة في هذا البلد الذي لا يبالي بالمواهب.. إلخ.

إنه يقول:

(في بحر النسيان أغرقت قلبي
وقلبك نسى حتى أن ينساني…)

حسن، لقد اكتفيتُ من هذه أيضا.. أحيانا أحمد الله أني لم أعد مراهقا..

ماذا لدينا أيضا ؟.. الرسالة الأخيرة، ما هذا ؟

ورقة صفراء فاقع لونها، بلا مظروف.. جيد، هذه لمسة مختلفة على الأقل. الورقة مطوية ثلاث مرات على طريقة المطويات الإشهارية. وبدون عنوان ! كيف أتى بها ساعي البريد إذن ؟

لابد أنه قارئ من نفس مدينتي، عرف عنواني بطريقة شيطانية ما، وأتى بقدميه ليرمي خطابه.. لا بأس. ما دام لم يطرق الباب ليمطرني بمجاملات لزجة فلا بأس..

الخط صغير وشنيع، لو أنه كتب الرسالة برجله اليسرى لكان الخط أكثر أناقة من هذا !

ارتديتُ نظارتي وأضأت المصباح المكتبي وانحنيت أحدّق في الرسالة بفضول.. يا له من خط، ويا له من مداد بني باهت، وهذا الورق الأصفر الغريب، من أين له به ؟.. إنها رسالة بما تحمله الكلمة من معنى.. وإنها..

* * *

لن تفهم ما قرأت للتو، لكن لا تهتم فقد تفهم لاحقا..

أعلم أن خطي بشع، فقد تعلمت الكتابة من قريب.. تعلمتها فقط لأكتب لك في الحقيقة، لذل عليك أن تقرأ ما فيها حتى النهاية (كلمة غير واضحة).

حسن، بماذا أبدأ ؟.. اعلم أني أراقبك منذ زمن وأنت غافل.. تريد دليلا ؟

أولا، أنت وحيد.. وحيد جدا. وقد كان تأخرك في العثور على عمل حتى تقدمت في السن، بالإضافة إلى تلك القصة القديمة مع (أحلام) سببا في تحولك لعجوز شكّاك وغير واثق في النساء.. بل غير واثق حتى من مقدرتك على العيش مع أي إنسان آخر.. هل كذبت ؟

لقد قرأت هذا فيما تكتب من نصوص خاصة، وما ترسله لصديقك الأردني من رسائل من حين لآخر. لقد قرأت كل ما كتبت صدقني.. كل شيء ! حتى الأوراق التي كورتها ورميتها في سلتك الملأى.. كلللل شيء!

يحسبك قراءك شخصا نبيلا يحيى حياة هادئة وأنت ذئب عجوز لا يكاد يخرج من بين أطلال جحره. حتى صرت تكره الناس وتتحاشاهم كأنهم طاعون قاتل.. أنت كذلك لا تقرب لحم الجدي، ولا تأكل شيئا حلوا أو مالحا.. أليس كذلك ؟

إنما ذكرتُ لك هذا لتعلم مقدار ما أعلمه عنك.. وإني لأعلم أكثر، ولكن لا داعي لذكر الأمور المخزية حفاظا على حدّ أدنى من الودّ بيننا.. ألا ترى ذلك ؟

في الحقيقة أنا مُعجب بتمسكك بعقيدتك الإسلامية فيما تكتب وكذا بزهدك في تفاهة أقرانك من الكتاب الذين صارت صورهم البلهاء وبطاقات التهنئة أهمّ عندهم من الأدب.. (كلمة غير واضحة).

لقد نسيت علبة البسكويت مفتوحة في المطبخ منذ البارحة بالمناسبة !

والآن وقد حظيتُ بكامل اهتمامك، انتظر رسالة أخرى بعد قليل.. تأتيك من أسفل باب القبو. وإذا سمعت صوت عواء ذئب، فتلك إشارتي لك.

شمراع”

* * *

تركتُ الورقة تسقط من يدي على سطح المكتب، وعيناي تجوسان خلال البهو بخطورة، ثم لا أدري لم اتجهتا ناحية النافذة فجأة.. فكرة مكبرة تجسس من بيت قريب بدت جوابا مقنعا للحظة. قبل أن أتذكر أن المكبرات لا تقرأ ما يخطه الناس بعجلة وهم في مكاتبهم..

وماذا عن جزئية القبو السخيفة ؟ هل يقصد هذا المعتوه أنه يسكن في قبوي المغلق ؟ من يحسبني يا ترى ؟ لعله من مدمني قصص الرعب السخيفة تلك..

نهضت وأنا أهرش بطني بانزعاج.. لقد أفسد يومي هذا المراهق التافه. ومع ذلك لم تتوقف عيناي عن حملتهما التفتيشية المحمومة في أرجاء البيت.

ثمة شيء خطأ في هذه القصة وسأعثر عليه فورا.. ربما يكون أحد معارفي القلائل من أخبره بموضوع خوفي من الزواج ذاك.. ولكن ما بال ركبتاي ترتعشان ؟.. تبا !

هنا صدح صوت عواء ذئب عميق يأتي من كل مكان، فجمد اللعاب في فمي، وتحركت بخطوات كخطوات البط باتجاه باب القبو متمنيا إنهاء هذا السخف حالا !

لا لا.. قد طال هذا المقلب أكثر من اللازم، فليخرج طاقم التصوير الآن، ولينفجروا ضاحكين وهم يربتون على كتفي و.. ويطلبوا مني.. عرض.. الحلقة في… رمضان.

فعلا، خرجت – بكل هدوء – ورقة صفراء من تحت باب القبو.. خرجت من أسفل باب ذاك القبو المغلق منذ شهور !

* * *

“سلام حف راعين.. من جديد.

أنا لا أمزح كما ترى.. وهذه ستكون آخر رسالة مني إليك. في الأولى حاولت إثارة انتباهك لأن من عادتك عدم إنهاء قراءة الرسائل..

لستُ من معجبيك، وليست هذه محاولة سخيفة مني في الكتابة أريد رأيك الأدبي فيها. كل ما هنالك أني أريد منك مغادرة البيت خلال الأيام الثلاثة المقبلة.. وأنا جاد في طلبي كل الجد، وليتك فقط ترى ملامح وجهي الآن.

أنت تسأل طبعا بأي حق أطلب منك ذلك ؟ وببساطة أطلبه منك لأني مالك البيت الأصلي. فقد كنتُ أسكنه من قبلك بشهور مع زوجتي وبنتي.. أرجوحة وخيزران.

بالمناسبة.. نحن عائلة من الجن، إن لم تفهم بعد.

لن أكرر الطلب.

شمراع”.


ملاحظة: القصة نشرت سابقاً في مدونة الكاتب .

guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى