أدب الرعب والعام

زهرة الرافليسيا

بقلم : عبدالعزيز صلاح الظاهري
[email protected]

سرٌّ ساقه لي القدر، كان سببًا في إعادة الثقة لي وإنهاء معاناتي.
هذا السر عاهدت نفسي أن لا أخبر به أحدًا، كائنًا من كان.
ولكن إن كنتم صادقين مع أنفسكم سوف ترونه يخرج خِلسة من مخبئه، أو يعدو بين السطور، صدقوني سوف تتغير حياتكم للأفضل.
سترون جانبًا جميلًا أو قبيحًا كان مخفيًا عنكم.
نعم هذه هي الحقيقة، فأنا رجلٌ سمعت وشاهدت وعانيت الكثير.
هل أنتم مستعدون؟!.
إليكم قصتي:
في أحد الأيام، ضربت بكل نصائح القوم عرض الحائط، خرجت من حصنهم ولم أستمع لمواعظهم الخبيثة.
زهرة (الرافليسيا)، جمالها ورائحتها تجمعان الحشرات والذباب.
المخلوقات ذات الألوان الجميلة غالبًا ما تكون سامة.
فكان ردهم على تمردي سريعًا.
فجأة، اختفى الرضا الذي كنت أراه في أعيُن من أحب، فحديثي يزعجه رغم تبسُّمِه لي، واحتضاني له يخنق أنفاسه، وعندما ألمسه أسمع أنينه وأشعر بآلامه، وكأن لي مخالبَ تجرحه.
كم هو مؤلم أن ترى من تحب يعاني، وأنت كذلك.
ماذا أقول له؟ أسأله: هل……؟ !
إنه سؤال غبي!

كم تمنيت أن أكون طائرًا بطريق أقف كالمسكين، حاملًا بيضة على سطح قدمي، وأرى السعادة والرضا في عينيه بدلًا أن أكون أسدًا جالسًا تحضر نساؤه غداءه وعشاءه صبحًا ومساءً.
هل توقف كيدهم؟ لا، فمثلهم لا يتوقفون، فهذا لا يحدث مع من كان إلهه هواه، لذلك أيقنت أنه لا بد لي أن أصوم عن الكلام، أطوي اللسان، وأهجر المكان، فلم تعد لي القدرة على محاربتهم أو حتى الدفاع عن نفسي، ويداي مغلولتان إلى عنقي، وأملي كغبارٍ يلهو في عمودٍ لشعاع شمسٍ نفذ من أحد الشقوق، يختفي عند تحرك الشمس والغروب.
فحكايتي خطيرة، لو كشفت للعيان ستفرح وتشجع أصحاب القلوب المريضة، فهي قنبلة، بل أشد.
لملمت أحزاني وانطلقت بعيدًا مبتعدًا بسيارتي.
لم تكن لي وجهة معينة، كانت عينايَ تدوران في محاجرهما، تقود المركبة، بينما كنت أغوص في بحر أعماقي كالمجنون، في يدي سيجارة لا تنطفئ.
فجأةً! ظهر لي رجلٌ من العدم، أفزعني، أشار لي بيده، كان ضعيف البنية، شاحب الوجه، رث الثياب، عاصبًا رأسه بعمامة.
وعلى غير عادتي توقفت! لا أعلم لماذا؟!
ركب سيارتي، لم أُبادله التحية أو أسأله عن وجهته!
بعد صمت مطبق التفت إليّ وقال: الذي أتى بك إلى هنا قد أتى بي أيضًا،
أتريد أن تعرف قصتي؟
انتفض قلبي وأخذ يضرب طبول الحرب، وتحركت يدي المرتعشة مسرعة إلى أسفل المقعد تبحث..
فتبسم وقال: اهدأ، اهدأ.
لا عليك فالدار أمان وإليك قصتي.
إلى وقت قريب لم أكن أصدق أن السحر يقدم الحلول، وكل ما أعرفه أنه يُقيد الرجال ويقود للجنون.
ورغم تكذيبي للمقولة الأولى وتصديقي للثانية، إلا أني بعت فيه واشتريت، فقد كان يحدوني الأمل بأن أُحْيي فرحةً ماتت وأبعثها من جديد.
توقف ومسح دموعه التي انهمرت، واستطرد بنبرة حزينة:
في الحقيقة، لم أكن خبيثًا في يوم من الأيام، ولم يكن ذلك السوق يُعجبني، لكني مشيت فيه مجبرًا، فأولئك القوم لم يزدهم قربي إلا بعدًا.
لم يتعاطفوا، رغم أني قدمت لهم المحبة بالحجج والبراهين، كان يُقبِل أحدهم ويُدبر آخر، الكل يسعى جاهدًا على إذلالي، كنت أرى الفرحة مرسومة على وجوههم القبيحة، إنه طريق توارثوا حبه وداوموا على سلوكه.
ولكن بعد البهتان الذي افتريته، وما سبقه من زيارات إلى الظلام، علمت يقينًا أن ما كان يصنع الفارق بيني وبينهم لن يكون فارقًا بعد اليوم، لقد تساوينا ولم يعد هناك اختلاف.
كان انتقامي عنيفًا، لم يكن صاعًا بصاع، فمن مكاني البعيد كنت أشعر بغيظهم، كان له غليانٌ شديدٌ وصوتٌ مزعجٌ، كما أسمع الآن صراخهم الذي ينطلق من أعماق هذه الأرض القاحلة.
أبدًا ما ابتعدت عنهم، بل اخترت المكان الذي كرهوا، لازمته ومكثت فيه، كنت صبورًا معهم لأصبح بصيرًا بما يبصرون، لقد أعمتهم نار الحقد، ونتيجة لذلك، لم أجد أي مشقة في أن أسقيهم من نفس الكأس.
فقد سعرت تلك النار، وتراقص لهيبها وعمدت لكل ما عملوه واكتسبوه، سخنت ماءهم الذي يروون به ويرتوون حتى تبخر، وغدت ربوتهم التي لطالما تغنوا بها صخرة ملساء، رأيتهم بعيني وهم يعضون على أيديهم من الندم، حتى سالت دماؤهم وتلوثت أفواههم.
هل توقف انتقامي؟ لا، لم تكتمل فرحتي إلا يوم أجليتهم ولم يبق إلا ظلهم مبسوطًا على وجه الأرض.
كم هو جميل عندما تأتي العُتمة التي كانت لباس أعمالهم لتمحو ذلك الظل شيئًا فشيئًا.
توقف فجأة عن الكلام كما بدأ!
شيئًا ما دفعني لأنظر إليه، ربما كانت نبرة صوته، فنظرت إليه مُتفحصًا وجهه، تقاسيمه وملامحه لم تكن غريبة، عرفته.
فصرخت: أنت، أنت!!
وضغطت على مكابح سيارتي بعنف، فاصطدم رأسه بزجاج السيارة الأمامية، والتفتُّ إليه وأخذت أردد بغضب في وجهه: هُراء، هُراء، إنها قصة من نسج خيالك أيها الفاشل.
فطأطأ رأسه، وسَافَرتْ عيناه إلى مكانٍ أعرفه ومتيقن منه، لم أُشفق عليه، ولم أحاول إخراجه من محنته، بل سمّرتُ عَينَيّ عليه لأزيد من جروحه، وكأنني أُريد أن أنتقم من شيء لا أعلمه، أو أني أعرفه وأكره أن أذكره.
لم أكتفِ بذلك، بل خرجت من السيارة وفتحت بابه وسحبته من مقدمة رأسه ودفعته ليسقط على الأرض، وأخذت أركله بكلتا قدميّ حتى سالت دماؤه، وتمزقت ثيابه، نفضت يدي وتركته عندما شعرت بالإعياء والتعب، فقام من مكانه مترنحًا وغادر من دون أن ينطق بكلمة واحدة، وأنا أردد خلفه بحقد: اذهب، اذهب أيها الأحمق، وارعَ سراب دوابك في سهول وأودية عسى ويا ليت، حتى اختفى عن ناظري.
اتجهت إلى سيارتي متثاقلًا وركبت، وأسندت ظهري على المقعد، أحسست بشيء له دبيب يتحرك ببطء من مقدمة رأسي، يسيل على جبهتي، ارتفعت يدي تتحسس الموضع.
ظللت مُدة من الزمن مذهولًا أتفحص أطراف أصابعي التي صبغتها الدماء!
أشحت بنظري عن يدي عندما شممت رائحة كريهة عمّت المكان، وسمعت صوتًا ناعمًا ينادي باسمي، التفت إلى مصدر الصوت.
فرأيتها في المرآة!
فتسللت ابتسامة ساخرة من شفتيّ المرتعشتين، تبعتها ضحكة مجلجلة انفجرت وتتطاير شظاها على المرآة، فتحطمت وتناثر وجهها إلى أشلاء، فصرختُ، وسقطتُ مغشيًّا علي.

guest
6 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى