أدب الرعب والعام

سْكيدْلْ

الفصل الأول

لست أدري ما الّذي أيقظني من سباتي، ولكن أيًّا كان فإني ناقم وغاضب عليه أشد الغضب . اِستقمت جالساً، ثمّ نظرت لكرة الصوف التي تنام على يساري وألقيتها أرضا ً بدون أي ذرّة ندمٍ .فاستيقظ وعلى وجهه أمارات الفزع والحيرة، رفع عينيه المتوهّجة نحوي وحرّك أنفه في تذمّر، لكن قبل أن يعبّر عن ذلك بالكلمات، عاجلته بصراخي الغاضب :
«أيها الغبي! ألم أخبرك ألا تزعجني خلال نومي؟ كم مرة علي أن اكرّر ذلك كي تستوعبه؟» .
انكمش فروه البرتقالي مستنكراً، أجاب بصوت أقرب إلى البكاء :
«لكنّي لم أفعل ذلك ياسيدي».

رمقته بنظرات ملؤها الشك والغيظ، فتراجع خائفاً وكرّر مدافعاً عن نفسه :
«أقسم لك يا سيدي إني لم أفعل، لا أجرؤ على التفكير بذلك حتى!» .
قطّبت جبيني في حيرة، وأبعدت الغطاء عن ساقيّ. إن لم يكن «نيّار» من كان ينادي عليَّ، إذا من فعل؟ .

أنا متأكد أن هناك شخصاً بغيضاً كان ينادي اسمي مراراً وتكراراً، مما أيقظني من نومي وأخرجني من عالم الأحلام الجميل . استقمت واقفا وألقيت نظرة خاطفة على النافذة، لقد غربت الشّمس بالفعل ولم يتبقّ في السّماء سوى شفقها الوردي وبعض من نورها الخافت .

حسنا، لا يهم! ربّما تكون مجرد هلوسات، فأنا لم أحظى بما يكفيني من النوم مؤخراً . إنّ مايهمني الآن هو أن أغتسل ببعض الماء الحار، وأطرد رائحة العرق المنفرة التي يتشبع بها جسمي بسبب النوم عصراً. سحبت منشفة بيضاء من فوق المشجب وخرجت متّجهاً نحو الحقول، حيث حوض الماء السّاخن. حين فتحت الباب بادرني «نيّار» بفزع :

«إلى أين أنت ذاهب يا سيدي؟»
«سأخرج للاغتسال، ألا تشم رائحتي المنفرة؟»
تلعثم وهو يخرج كلماته:
«لكن يا سيدي, لقد غربت الشمس!»
أجبته بسخرية :
«وهل تريد مني أن ألاحقها وأصطادها لك يا كرة الفرو؟»
هزّ رأسه بإصرار ومضى في تلعثمه :
«قطعا لا! أقصد… أنت … لقد حلّ الغسق ياسيدي»
مسحت بيدي على وجهي بصبر نافذ :
«ها أنت ذا تعود لذكر تلك الأسطورة الغبية . أنا أريد الذّهاب للإستحمام، ولا يهمني إن كان خنجر لعين يدور في الأحياء بحثا عن جسد جديد»
ردّ باصرار وهو يتعلّق بخصري :
«إنها ليست مجرّد أسطورة يا سيدي، إنها الحقيقة التي ترفض أن تصدّقها»
هزّ رأسه فتطايرت الشعل النارية من حوله واستمرّ
«لا، لن أسمح لك بالخروج»
نظرت إليه بحدّة، إنّ رائحة العرق تكاد تفقدني أنفاسي ولم أكن يوماً من عشّاق الأوساخ :
«نيّار لا تعصي أوامري، ابتعد عني فورا»
تجاهل نظراتي الملتهبة غضبا، وردّ باصرار لم أعهده فيه :
«لا، لن أفعل يا سيدي»
ومضت عيناه الأرجوانية بعزم مسترسلا؛:
«يمكنك أن تعاقبني كما تشاء، لكنّي لن أتركك تذهب»
«حسنا إذاً، فلتأتِ معي»

إقرأ أيضا :بين سماءين

أحسست بارتجاف جسمه وهو يتشبت بي بينما أعبر الباب متجاوزاً الخطّ الأحمر الذّي رسمته أمي كي تمنعنا من الخروج أنا وأخوتي . لم أخبر أمي بعد أن قواي استفاقت وأن الحاجز لم يعد يمنعني من الخروج ليلاً متى ما أردت . لا أصدق أن الجميع هنا مولع بتلك الخرافة الغبية. كان الهواء منعشا للغاية في الخارج و يعبق برائحة اللّيمون الحلوة وعطر الزهور التي يزرعها كل أهل المملكة في حدائقهم الغناء . السماء المحمرة تلقي بظلال جميلة ودافئة على أوراق العنب الخضراء المنتشرة في شتّى الحقول، وأشعة الشمس الأخيرة تسقط بحنو ورفق على حبات العنب البنفسجية الضخمة، الممتلئة بالعصير الحلو. ما أجمل «سكيدل» في المساء! . لما علينا أن نُحرم من كل هذا الجمال بسبب خرافة يتداولها السكان العجزة؟ .

وصلت للحوض أخيراً؛ وهو كناية عن حفرة واسعة تقع وسط أزهار اللوتس البيضاء . دائما ما يكون ماؤها ساخناً على مدار السّنة بسبب حجر النار المثبت على جانبيه . حجر أصفر يمتصّ أشعة الشمس ويحولها لطاقة تسخن المياه في الليالي الباردة .

بالنظر إلى هذا الحجر الجميل الراقد بين الحشائش الخضراء، تذكرت «نيار» المتعلق بي فألقيت به داخل الماء . لقد كان طول الوقت يرتجف ويهمس بكلمات لا معنى لها؛ من نظير :
«هذا خطأ كبير… ستحل علينا اللعنة … فلتغفري لنا يا سكيدل» لم أشأ أن أرد على هراءه، خلعت ملابسي وألقيت بجسمي داخل المياه الساخنة فهذا أفضل من الدخول معه بنقاش عقيم عن خنجر ملعون، روحه تحوم بالأرجاء .
سبح «نيّار» لطرف الحوض الواسع وتجمد هناك منكمشا على نفسه يصغي السمع بدقة . نظرت له مندهشا؛ في الغالب كان سيخرج مسرعا، فهو حيوان ناريّ لا يحب الماء . قررت تجاهل أمر حيواني الغريب لأستمتع بحمامي .

إقرأ أيضا :أمنية بألف أمنية _الجزء الأول _

استرخيت في جلستي فوجدت نفسي أفكر بلعنة الخنجر رغما عني . إذ يقال أن أفعى سوداء أرادت فيما مضى ابتلاع أحد الملك الأول «سكيدل» كي تستحوذ على قواه الهائلة . مما أغضب الآلهة وحبستها في باطن الأرض دهرا من الزمن، ثم سحبت منها كل قواها عقابا لها . ويحكى أن تلك الأفعى ماتت بعدما ضعف جسمها وبقيت روحها تحوم حول جثتها تائهة بين الحياة والموت . اكتشف ساحر ما جثة الأفعى الميتة فصنع من أنيابها خنجرا حادا وجعل نصله من جلدها، ثم وختم عليه كي يستطيع التحكم في روح الأفعى الثائرة للانتقام والقوى السوداء التي استيقظت بداخلها .

فيما بعد كثرت جرائم الساحر وازداد عدد ضحاياه، فغضب سكان المملكة عليه وثارت ثائرتهم . بعدئذ مات حرقا على يد الملك نيمار الثاني، ومنذ ذلك الحين لم ير أحد الخنجر قط . هناك من قال أنه حرق مع الساحر، وهناك من قال أن الآلهة طهرت روح الأفعى، لكن بعد قرون ظهرت حكاية جديدة . فقد قيل أن روح السّاحر قد تلاشت وبقي الخنجر دون سيد يحكمه . لذا فهو يبحث عند حلول الغسق حتى طلوع الشمس عن سيده الجديد الذي ورث قوى الساحر أبا عن جد . لذا يمنع سكان المدينة أطفالهم من مغادرة المنازل عند الغسق خوفا من أن يتم تلويث روحهم، وأيضا لأن أحد الأطفال سيكون هو الملك التالي .

في «سكيدل» يمنع حكم العجائز، لذا عند بداية الأربعين تنتقل القوى الملكية لطفل جديد تختاره الآلهة. يعيش هذا الطفل كباقي الأطفال حتى يصل لسن الثامنة عشرة وتستيقظ قواه كباقي أطفال المملكة . حينها يظهر وشم الملك على كتف شاب منهم، يتوج ملكا ويحكم حتى الأربعين ثم يجرد من منصبه وتنتقل قواه لطفل جديد .

خرجت من أفكاري على صوت نداء يتعالى باسمي ولا أنكر أني ارتجفت لذلك . فقد خلته صوت أمي التي لاشك ستطهوني على العشاء لمخالفة إن علمت أني استغللت استيقاظ قواي لأخرج من المنزل . لكن وبعدما أصغيت السمع اكتشفت أمران خطيران وقف لهما شعر رأسي .
أولهما : هذا ليس بصوت أمي .
ثانيا : الصوت عبارة عن فحيح .
نظرت نحو نيار الذي يبدو أنه اكتشف ما اكتشفته، أخذ يرجوني بعينه كي نفرّ سريعا، لكني كنت مغامرا بطبعي . شعرت بالحماس يدب في عروقي. أيا كان هذا الشيء الذي يصدر هذا الصوت الغريب فيجب على اكتشافه! .
قفزت من الحوض برشاقة وربطت المنشفة على خصري ثم أخذت أخطو مبتعدا، قفز نيّار وهو يترجاني :
«أرجوك يا سيدي لا تذهب، ذلك المكان خطير للغاية»
استدرت اليه وقلت ساخطا :
«بربك يا نيار، إنه مجرد فحيح! لا تقل لي إنك عدت لذكر ذلك الهراء»
لم يتزحزح فقلت آمرا وأنا أكمل خطوي:
«عد للمنزل وغطي غيابي في حال عادت أمي، سأعود سريعا.»
تقدم نحوي وهو يركض على قوائمه واستمر في إزعاجي :
«أرجوك يا سيدي لا تذهب، لن تستطيع تحمل عاقبة هذا»
قلت بلا مبالاة :
«لكل شيء ثمن، أنا أحفظ مقولتك الغبية هاته عن ظهر قلب، هيا عد ولا تعاندني»
أخفض عيناه وقال بطاعة مشبعة بالألم :
«لكل شيء ثمن، ولكن ما أنت مقبل عليه ثمنه لا يطاق» .
توقفت في مكاني أنظر للحقول البعيدة بينما صوت ركض نيار يتردد في الأرجاء . وقفت مترددا بين العودة أو إكمال المسير .
وضعت يدي على جبيني وقلت ساخطا :
«حسنا، سأعود! لست بحاجة لمغامرة لعينة لهذه الليلة»
«نيروز…نيروز… نيروز…»
تبا! إنه نفس الهتاف مرة أخرى ألقيت نظرة للوراء ثم بدأت الركض، لا مانع من إلقاء نظرة سريعة .


إقرأ أيضا :أوزيريس

وقفت للحظات ألهث من فرط التعب بين حقول العنب، نظرت حولي بسخط . في النهاية لم أجد شيئا سوى الظلام والصمت . استدرت عائدا ولكن بعد أول خطوة خطوتها وجدتني أقع على وجهي؛ بعدما تعثرت بشيء حاد، جُرح جبيني فتدفقت منه الدماء ساخنة وغزيرة . احتبست آهاتي في جوفي، سطع ضوء أمامي بقوة فأعمى عيناي . حينئذ انتبهت أن ما تعثرت به كان نصلا صغيرا امتلأ بدمائي . كنت منجذبا للضوء وكأني منوم مغناطيسيا، لكن بمجرد أن اختفى عدت لوعيي. الظلام الحالك لم يسمح لي بتأمل مصدر الضوء لإشباع فضولي . لذا فقد دسسته تحت منشفتي وأسرعت عائدا للمنزل دون ان أنظر خلفي .

حين جلست على سريري منقطع الأنفاس؛ كان أول ما فعلته هو إخراج الشيء المجهول من تحت منشفتي . تأملته مبهورا بتفاصيله؛ نصل أسود غامق له حراشف وكأنه جلد أفعى حية . تلمع عليه أضواء القنديل المعلق بغرفتي فيلمع الجلد الأخضر كالزمرد المبروش، كان داخله خنجر عجيب الشكل، أبيض ناصع كأنه صنع من الحليب . ملتوي ولا يعكس شيئا مثل الخناجر العادية، حادٌ للغاية، له مقبض على شكل رأس أفعى عيونها سوداء لامعة ولسانها متدلي ممتلئ بالدماء . سرت رعشة باردة في أوصالي، كانت تلك دمائي! بعضها على الحراشف ومعظمها داخل الفم، تتجمع كبركة صغيرة تحيطه بها تلك الأنياب الحادة، كما تحيط الجبال بالمملكة . فجأة تحرك الرأس، فرميت الخنجر من يدي مفزوعا. بدأ يتحرك يمنة ويسرة، كأنما يبحث عن شيء ما! استقرت نظراته المخيفة على عيناي، دبّ صداع رهيب في مؤخرة رأسي، فأغلقت عيناي، وبدأ حفيف يدوي برأسي مرددا اسمي وبضع كلمات لم أفهم منها شيئا بدت كتعاويذ بلغة قديمة .

فجأة اقتحم الغرفة نيار فاستدار الرأس لينظر إليه، بقي كلاهما يحدق بالآخر بثبات. زادت حدة الصداع في رأسي، في نفس اللحظة تحول نيار من ثعلب صغير إلى شكله الضخم وأسرع نحوي ورماني فوق ظهره .
سمعت صوت أمي في الردهة قرب باب غرفتي، فُتح الباب في نفس اللحظة التي تحول فيها الخنجر لبخار أخضر وتسلل من النافذة .
اختفى صداعي، في نفس اللحظة دخلت أمي للغرفة ثائرة، علا صوتها وهي تعاتبني على تقصيري؛ لأني أخفيت عنها استيقاظ قواي، وفي نفس الوقت استغللت ذلك للخروج من غرفتي طول أربع ليالٍ.
كنت منهكا بشدة، وكأني خضت معركة شرسة حتى استنزفت جميع قواي. صرخت أمي معاتبة من جديد:
_ لمَ تركت ثعلبك يتحول داخل الغرفة! هل تحتاج أن أعلمك القوانين من جديد؟ .

باتت الرؤية ضبابية أمام عيناي، سقطت من فوق ظهر نيار، ارتفع صراخ أمي القلق، واختفى كل شيء .

إقرأ أيضا : صانع الأمنيات

أصوات عديدة، ضجيج وهمسات ملأت أذناي . فتحت عيناي ببطء وفوجئت إذ وجدتني مستلقيا على سرير ضخم، تتدلى فوقه ستارة حمراء زاهية . خارج الستارة يقف أربعة أشخاص لم أستطع تبين هوياتهم .
كان نيار نائما عند قدماي، لذا بمجرد أن تحركت استيقظ من نومه وركض لحضني .
«مالذي حدث؟»
مرّغ أنفه داخل صدري وقال وهو يموء كالقطط :
«أغمي عليك وتم نقلك للقصر، لقد تم إعلانك ملكا وهم الآن يتجهزون لحفل التتويج»
قطّبت جبيني بحدة، إذا لقد اكتشفوا الأمر. لقد أخفيته لأربع ليال؛ لم أرد أن أكون ملكا، أردت فقط أن أعيش حياتي بحرية . أملك قوى تجعلني مواطنا رسميا في سكيدل وتتيح لي التصرف والتنقل بحرية دون أن أتلقى حماية ورقابة من الكبار. لكن حين داهمتني الحمى قبل أربع ليال واستيقظت قواي؛ لم تكتمل فرحتي إذ ظهر وشم زهرة وتاج على ذراعي اليسرى؛ وشم يعرفه الصغير قبل الكبير في سكيدل وكان يعني شيئا واحدا فقط؛ أنا الملك الجديد! .
كنت أنانيا بإخفائي الأمر، لكني لم أرد ذلك قط . أما الآن فلا مناص لي من الهروب.

حركت أصابعي فارتفعت الستارة . حاولت التصرف كملك، فاستندت للوسائد ونظرت للآخرين بهدوء زائف .
«ما كل هذه الضجة؟»
نظر لي الأربعة بدهشة انقلبت إلى سرور وبهجة، كنت أعرف الأربعة، حكيم المملكة، بردائه المميز الذي يدل على نخبة مميزة في المملكة من ذوي القوى الخارقة التي قد تصل في قوتها لنصف القوى المقدسة الملكية! . الطبيب الملكي الخاص، الملك الذي فقد قواه من أربع ليالي وجرد من منصبه في غمضة عين! . وأخيرا والدي الذي نظر إليّ مقطب الجبين، نظرته الحادة جعلتني أجلس في مكاني بأدب . كان صوته غاضبا لكنه هادئ تماما حين نطق :
«استيقظت!»
لم يمهلني الرد حين عاجلني من جديد :
«كيف تخفي مثل هذا الأمر الخطير كل هذا الوقت يا نيروز!»
أصبح صوته عاليا وهو يصرخ :
«لقد جعلت الجميع يعيش في حالة ترقب وهلع؛ الجميع ظن أن لعنة أصابتنا، وأننا فقدنا القوى المقدسة للأبد. أتعرف ما قد يعنيه ذلك؛ كل من له مطامع في سكيدل لن يتردد لحظة واحدة للهجوم علينا إن فقدنا هذه القوة وأنت… وأنت..»
وضع الملك السابق يده على كتف أبي وقال مهدئا :
«توقف! لا داعي للصراخ بوجهه، ما فعله خطأ وكلنا نعلم ذلك ولا شك أنه يشعر بفداحة ما عمله ويفكر به، لكنه أيضا لا يزال طفلا؛ أستطيع تفهم صدمته بأن توكل له مهمة خطيرة كهذه . أصبح بين ليلة وضحاها حامي مملكة بأكملها، عليه قبل التفكير بنفسه أن يفكر بمليون وخمسمائة مواطن يحتمون جميعا تحت جناحه خوفا من بطش الأعداء»
استعاد أبي هدوءه، لكنه ظل يرمقني بنظرات قالت لي بكل وضوح «خابت تربيتي فيك!»
كأني غُمرت بالوحل، وحل عفن نتن الرائحة. تمنيت لو تنشق الأرض أو ترفضني سكيدل ملكا لها. لكن أيا من هذا لم يحدث، بل تم تحميمي وتجهيزي لحفل التتويج .

إقرأ أيضا :طريق التعساء

في الساحة الواسعة على أرض سكيدل، تزين الجميع وارتدوا أجمل الثياب، الأطفال يركضون ضاحكين، والكبار ارتسمت على ملامحهم راحة شديدة وكأنهم بعثوا من الموت ومنحوا فرصة جديدة للحياة .
تلا الحكيم خطابا طويلا عن المسؤولية العظيمة التي يتحملها الملك . وأن على الجميع احترامه فهو أمل البشرية وهو ركيزة سكيدل وقوتها ومع كل كلمة تنطق كان جسدي يرتعش .

ساعدتني أمي على ارتداء رداء أبيض واسع على أطرافه نقشت رسوم ذهبية لزهرة فوقها تاج . ثم تقدم الملك نحوي، تناول من فوق وسادة قطنية قلادة فضية تنتهي بجوهرة على شكل زهرة أقحوان، ارتجفت أوصالي حتى النخاع، لا مجال للتراجع ولا أمل لي بالهروب . أحنيت رأسي مذعنا، وبدا لي كأن لقفل القلادة وهو يربط على جبيني دوي حاد دمر كل أحلام المراهقة التي أردت عيشها . سطع ضوء من حولي وتحول شعري من الأسود إلى الأبيض اللامع . تغير لون عيناي للأصفر الذهبي وخرج لي جناحان ضخمان من وراء ظهري؛ وهكذا أصبحت ملكا جديدا لسكيدل . انحنى لي الملك السابق وبدت عليه راحة لا مثيل لها، قفز نحو الجموع واختلط بهم، وعاد من جديد مواطنا عاديا يعيش حياته مرتاحا دون أن يفكر بأي شخص عدا نفسه .

علا الهرج والمرج في الساحة، الكل يصفق فرحا ويرقص طربا . نظرت نحو أمي وهي تمسح دموع الفخر من عينيها وسط الجموع بينما أخي الأكبر يعقد يديه على صدره و ينظر لي نظرات كلها افتخار وسعادة؛ ولما لا وهو أخ الملك! .
صمت الجميع فجأة حين سطع ضوء آخر وخرج ذئب أبيض من قلادتي ثم انحنى على قوائمه الأربعة لي في طاعة عمياء . كان ذلك هو الحارس الملكي الذي يرافق الملك طوال فترة حكمه، حيوان روحي آخر عليّ إطعامه من قواي و التربيت على رأسه .
تنهدت بتعب وأنا ألمس رأسه، متى تنتهي هذه المهزلة التي أنا فيها؟.
فجأة دون سابق إنذار، شعرت بضغط رهيب على رأسي، الرؤية ازدوجت أمامي واختنقت أنفاسي. رأيت دخانا أخضر يتشكل أمامي على شكل خنجر لعين كنت قد نسيت أمره تماما ثم انكسر إلى أشلاء صغيرة .

إقرأ أيضا :بلاغ إلى الشفاه (ذاكرة طالب)

شهقت بقوة حين ازداد الضغط على رأسي حتى كاد ينفجر . انتبه الآخرون لما يحدث وتعالى الصراخ وبدأ البعض يهربون، نِعم الشعب هم! بحق الجحيم ألا يرون أن ملكهم الجديد يُحتضر؟ .
فقد جسدي قوة احتماله وانهرت أرضا، وقبل أن يغمى علي تماما رأيت أفعى عملاقة تزحف على الساحة مدمرة بجسدها الضخم كل ما يقابلها .
استيقظت للمرة الثانية على التوالي لذلك اليوم وفي نفس السرير . صداع رهيب اجتاح رأسي حينما حاولت النهوض فسقطت من جديد على الوسادة متأوّهاً .
كانت الستارة مرفوعة، وعلى كراسي متناثرة جلس خمسة أشخاص كانت من بينهم أمي . نظرت لي ثم ركضت نحوي وأمسكت يدي بقوّة بينما لا تزال دموعها تتساقط على خديها الشاحبين .
«مالذي حدث؟»
كان صوتي مبحوحا تماما وكأني قضيت ساعات في الصراخ .
تقدم الحكيم مني ومرر يده على جبيني ثم هز رأسه، وأخيرا تكلم بهدوءه المعتاد :
«ارتبطت روحك بثلاث حراس روحيين، لم يحتمل جسدك الضغط القوي بسبب ذلك وانهار . وهذا تسبب في زعزعة رابط الروحي مع الحراس وتحرر أحدهم»
مررت يدي على وجهي بصمت، كنت أعلم أنهم ينتظرون مني شرحا . تنهدت ورويت لهم ما حدث معي في بداية الليلة . لو أنهم فقط لم يستعجلوني لكي أتوّج، لكنت استعدت صفاء عقلي وتذكرت أمر الأفعى، لكن الخطأ خطئي فأنا من أجّل الأمر طوال أربع ليال .
صمت الجميع، هزّ الحكيم رأسه وقال :
«إذا كان قولك صحيحا فهذا يعني أن روح الأفعى المختومة اختارتك سيدا لها بناء على أوامر تلقتها من الختم؛ فقد لاحظت بقايا من طاقة سحرية مقدسة في المكان»
تساءل الملك السابق قائلا :
«إذاً، لمَ لمْ تنجذب لي أنا أيضا عند تتويجي؟»
هزّ الحكيم رأسه وبدا واضحا أنه لا يملك جوابا. صمت مفكرا ثم تابع :
«لست أعلم عن ذلك شيئا، لكن هناك شيء واحد واضح تماما؛ هذا الكائن بعد تحرره من الختم صار مهتاجا وتحررت قواه المظلمة أيضا، وهو لن يتوقف حتى يغمر كل المملكة بالدمار»
ارتفع بكاء أمي في المكان وهي تقول لي :
«أخوك يقاتل على مقدمة جيش الفرسان؛ هم تعهدوا بحماية المملكة حتى تستيقظ من غيبوبتك»
انقبض قلبي بشدة، تجلست في مكاني بصعوبة وقلت بصوت خافت :
«أنا أسف، لو فقط أنّي أبلغتكم عند ظهور الوشم، لو فقط استمعت لك يا أمي ولنيار أيضا ولم أخرج من المنزل… كل هذا بسببي، أنا لا أستحق أن أكون ملكا عليكم»
دفنت رأسي بين يداي مرتعشا :
«لمَ… لماذا تم اختياري؟ لماذا؟»
وقف الملك من فوق كرسيه وقال بصرامة :
«أنت لم تختر طريقك يا فتى، لكن بإمكانك دوما اختيار نهاية ذلك الطريق»
رفعت رأسي إليه وهززته في إصرار :
«أنت لم تخض حربا، ولم تظهر لك أفعى من العدم؛ لقد حكمت سنواتك في سلام تام وهدوء»
ضرب على عامود السرير بقوة وهتف صارخا :
«هل تعتقد أن المعارك هي التي تسقط فيها الضحايا ويعلو خلالها نداء الدمار فقط! لقد كنت أحارب يوميا ضد نفسي، أحارب غرور القوة التي مُنحت لي، أحارب شيطانا يوسوس لي بإبادة هذه المملكة البائسة عن بكرة أبيها، لقد كنت أحارب لأحافظ على بسمة طفل، وهناء أب، لقد حاربت نفسي!» جذب الستارة غاضبا فأسقطها أرضا، احتدت عيناه وكوّر قبضته :
«لكنك أنت… لم تحاول حتى النهوض من سريرك!»
غادر الغرفة مهتاجا، غاضبا وحانقا. لقد عاش ضمن هذا الشعب وحافظ على سلامه لمدة طويلة ثم حين احتاجه هذا الشعب لم يستطع فعل شيء سوى المراقبة .
شددت عليّ غطاء السرير بقوة؛ علي تصحيح خطئي، عليّ إنقاذ شعب هذه المملكة، أو لأمت وأنا أحاول.
نظرت للحكيم وسألته:
«كم يستطيع الفرسان الصمود؟»
«ليس كثيرا يا مولاي، فلا أحد منهم يملك قوة تضاهي القوة المقدسة، وهذه الأفعى كانت…»
صمت للحظات يفكر بما كاد أن يقوله :
«كانت ماذا؟»
تنهد مكملا :
«هذه الأفعى كانت حارسا ملكيا، لكن قواها أغرتها لذلك حاولت ابتلاع ملكها لتحكم هي بدلا منه. ثم تمت معاقبتها، ولا شك أن باقي القصة معروفة»
«أجل» تنهدت، هذا يفسر إذا قوتها الضخمة، فحتى بعد تجريدها من قوتها المقدسة ساهمت رغبتها الدفينة في الانتقام بتكوين قوة مظلمة سوداء تضاهي قوة حارس ملكي. لن يستطيع فارس عادي القضاء عليها .
أبعدت الغطاء عن قدمي ووقفت مترنحا، قالت أمي بلوعة :
«إلي أين؟ أنت لا تزال مريضا ومتعبا لن تستطيع فعل شيء»
ربت على رأسها وقلت بحنان :
«أمي… شعبي ينتظرني»
تشبتت بذراعي وهتفت بنشيج باك :
«لا، أنا أن أتحمل فقدان طفل آخر من أطفالي»
سحبتها لحضني :
«أمي، أخي هيفار حي؛ أما متأكد لذا دعي هذا الأخ الصغير يذهب وينقذ أخاه»
قبلت جبينها مردفا بابتسامة :
«لطالما كنت متهورا يا أمي، لذا دعي هذا الإبن المتهور يفعل شيئا صحيحا لمرة واحدة في حياته»
مشيت بها وناولتها لأبي الذي عانقها بحزم كي يمنعها من التحرك نحوي . نظراته كانت صارمة؛ لكني قرأت داخلها قلقا عميقا. ابتسمت، وتقدمت نحو الشرفة العملاقة بخطوات متزنة. أسلمت نفسي للهواء، تلقفني نيار بسرعة. وركض بي على حلقات نارية بزغت في الهواء. على الأرض و بمحاذاتي كان حارسي الملكي يعدو بسرعة. وبدأت الحرب.

الفصل الثاني

من سماء سكيدل العالية وتحت ضوء القمر المشرق استطعت رؤية الدمار الهائل الذي لحق بالساحة الكبرى، دمار مرعب بدأ يزحف نحو وسط المملكة كوباء قاتل . سقطت بضع جثث هنا وهناك بلا حراك . رأيت مجموعة من الشباب يرتدون ثيابا زرقاء ويربطون على أيديهم عصابة بيضاء نقش فيها شعار المملكة الذهبي . علمت فورا أنهم الفرسان . كانت مجموعة منهم تحمي بضعة مواطنين لم يسمح لهم حظهم بالهرب . أطفال صغار يبكون، نساء منهارات ورجال يحاولون التظاهر بالشجاعة والمقاتلة بقواهم البسيطة . رأيت أخي يتقدم مجموعة كانت تحارب الأفعى العملاقة وتمنعها من التقدم نحو وسط المدينة حيث تجمع باقي المواطنون . يسددون لها ضربات من الطاقة، نار، ماء، صخور، وبرق، وزوبعات ريحية. لكن كل ذلك لم يؤثر في الأفعى ولو قليلا، بل بدا أنهم يلقون عليها لعب أطفال لا غير، وهذا جعلها منزعجة جدا! .

صفّرت بقوة فانتبه الجميع لي وهلّل الكل فرحين، ابتسم أخي مرتاحا فبادلته ابتسامة مشجعة .
خاطبت الحارس الملكي عبر الرابط الروحي :
«كيف نقتل هذا الشيء؟»
«لا يمكنك قتل كائن روحي إلّا من خلال تجريده من قواه، حينها سيضعف بنفسه حتى يموت»
«كيف أفعل ذلك؟»
«عليك الاستحواذ عليها»
هتف نيار :
«إن حاولت الاستحواذ على قواها ستموت، فقواها الآن عبارة عن قوى سوداء وهذا مناقض لقواك المقدسة، لكن بإمكانك ترويضها، فقط أجبرها على عقد عقدٍ جديد معك»
هتف الذئب :
«لم يستطع أحد من قبل التحكم في ثلاث حراس، لا سيما إن كان اثنان منهما حارسان ملكيان والآخر حارس ناري من الطبقة العليا! . حتى القوة المقدسة ستضعف أمام هذا الضغط»
صرخت بهما مهتاجا :
«إن روضتها سأموت، وان سرقت قواها أموت… ألا يوجد لديكما خيار ثالث يتضمن كلمة حياة!»
ابتسمت ساخرا وأكملت :
«أيا يكن، سأموت بشرف»
أمرت الذئب بحماية الجميع، وهتفت بأخي لكي يشرف على عملية الاخلاء التي دامت لعدة دقائق ضغطت على أعصابي .

إقرأ أيضا :صراع العروش .. الجزء الأول

أخيرا أصبحت وجها لوجه مع عدوي الجديد . بعد التفكير بالأمر وجدت أن الاستحواذ على قواها لربما يلوثني أنا أيضا حينها سأضعف قبل أن أنهي المعركة، لذا أمامي حل واحد، علي ترويضها! . ثم محاولة تفجير قواي كلها بداخلها لأطهرها . حينئذ فقط سيمكنني الاستحواذ على قواها . ويمكنني خفض رتبتها لكائن روحي بدل حارس ملكي ملوث! عنئدئذ يمكنني تحمل ثلاث حراس وأحافظ على حياتي أيضا .
أخذت نفسا وقفزت عن ظهر نيار على رأس الأفعى، وحين كنت أتشبت بحراشفها انتبهت لشيء خطير جدا، لم يقل لي أحد كيف أروض هذا الشيء! .
استدعيت صولجاني وغرسته داخل عينيها، لا حل أمامي سوى بجعلها ترضخ بالقوة، العنف هو ما ينفع دائما حين تكون أمامك معركة دامية خيارها الأول والأخير هو الموت .
سحبت كل ذرة من قوايا وركزتها داخل الصولجان، هزت الأفعى رأسها متألمة و بدأت تطلق سموما قاتلة تذيب كل شيء .
صرخت في الحارسين كي يُفعلا حاجزا حولي وحولها، تردد نيار ولم يبدو واثقا من كلامي في حين أطاع الحارس الملكي كلامي دون نقاش .
رأيت نيار يقف فوق الحاجز، وينظر لي بعيونه الواسعة، لكني لم أكن أفكر الآن في حارسي الصغير الذي بدت عيونه كعيون القطط . كل ما أردت هو أن تنتهي هذه المعركة بسرعة . انفجرت قواي في ضوء قوي وسقطت عن ظهر الأفعى تاركا الصولجان داخل عينيها، داخل الحاجز احتقن ضباب شديد، ثم انفجرت الأفعى لقطع صغيرة وانكسر الحاجز. لقد نجحت!

رأيت مواطني سكيدل يخرجون من خلف الساحة، لكن لم تبدُ على ملامحهم السعادة، بل نظروا لي بنظرات غاضبة وبعضهم انفجر في البكاء . حينها انتبهت أن انفحار الافعى أدى لقتل جميع الفرسان الذين وقفوا في طرف السّاحة مستعدين لنجدتي في أي لحظة .
ركضت بدون وعي نحو أخي المسجى أرضاً، كان يُحتضر، سعل الكثير من الدماء، جمجمته ذابت بالكامل واحترقت ثيابه . وجّه لي نظرة عتاب لم أكن لأنساها طول حياتي ثم توقفت أنفاسه . الدموع الساخنة والغزيرة غمرت عيناي . من خلفي أقبلت أمّي ودفعتني بقسوة، احتضنت جسد أخي الميت ثم انخرطت في بكاء حار، نظرت لي بعيون تفيض حقدا وهمست :
«لقد قتلت أخاك، أنت السبب في كلّ هذا، كان عليك ألا تدع الأفعى تشرب دمك، كان عليك ألا تخرج.. كان عليك إنقاذهم…. أنت قاتل … قاتل»

إقرأ أيضا :عقد الشيطان

ضممت يدي بشدة واستمرت دموعي في السقوط، نعم أنا قاتل، أنا لا أستحق أن اكون ملكا، لقد قتلت اخي، قتلت شعبي . قتلت من كان يفترض بي حمايتهم! .
شعرت بخيوط سوداء تلتف حولي، اتضح لي أنها أفاعي صغيرة كنت تتسلقني محاولة دفني تحتها، كدت أستسلم لكل ذلك، لكن كرة نارية اخترقت ذلك السواد على حين غرة . هززت رأسي وفجاة تلاشى الضباب. كنت لا أزال متمسكا بالصولجان والأفاعي الصغيرة تحاول تغطيتي . كان كل ذلك وهما! فخ كدت أقع فيه وكاد بذلك يصبح الوهم حقيقة .

كرة نيار النارية أحرقت الأفاعي عن بكرة أبيها. نظرت إليه وابتسمت. ضغطت الصولجان بقوة أكبر وكلي عزم أن أنهي الأمر بشكل صحيح هذه المرة . صدر من الأفعى فحيح قوي شابه العواء في حدته. هزّت رأسها بعنف ففقدت توزاني وانقلبت على وجهها، متعلقا بالصولجان بيد واحدة، نظرت لعينها الزمردية، فبادلتني نظرتي الحادة وتعلقت عيناي بعينيها تأبى أن تنزاح لأي مكان آخر .

رائحة قوية عفنة ملأت أنفي، يداي كانت مغمورتان بالتراب وتحفران بكل حماس . أبى جسدي أن يتحرك طوعا لإرادتي واستمر بالنبش في تلك الأرض الصلبة .
صدرت عني ضحكة قوية، ضحكة كلها شر وحقد . حينئذ انتبهت أن الصوت ليس صوتي وأني مسجون داخل هذا الجسد الغريب، مهمتي المشاهدة فقط، رغم أني أشعر وأرى وأحس بكل ما يحس صاحب الجسد الأصلي .

جذب هذا شيئا من بين التراب اتضح أنه باب سرداب تحت الأرض، حمله بيده ثم رماه كأنه خرقة وقفز داخل السرداب بحماس، وهناك داخل السرداب كانت رائحة العفن والجيفة أقوى وأقوى حتى شعرت بأن أنفاسي ستضيق علي . لكن الرجل استمر بالركض دون اهتمام، قاصدا وجهة يعرفها .

على الأرض كانت هناك أفعى ضخمة، خضراء اللون، ضعيفة تماما وتكاد تكون ميتة من نظرة واحدة لعينيها علمت أنها الحارس الملكي الذي تم عقابه .
ألقى عليها الرجل حفنة من التراب ثم دفعها رغما عنها لشرب دمائه وبدأ يتلوا تعاويذ طويلة بلا نهاية، كنت أعرف أنه السحر الأسود، سحر منع استعماله في سكيدل وعقابه الإعدام حرقا! .
استل خنجرا من جيبه، خنجر صدئ، لا يكاد يذبح حشرة. طعن الأفعى به فاخترق جلدها وكأنه منشار حاد . تردد صوت الساحر الغليظ في السرداب الفارغ، مزلزلا، مخيفا ومرعبا :
«ستكونين تحت إمرتي، تحت طاعتي وكل قواك ملكي»
فجأة تحولت الأفعى لدخان أخضر ودخلت للخنجر الذي تحول إلى ما وجدته عليه في الحقول أول مرة .

إقرأ أيضا :واختفى كل شيء

شعرت بالدوار فجأة وتغير المشهد، لازلت محبوسا في نفس الجسد لكني منغمس في القتل، الخنجر بيدي وروح الأفعى تحاوطني وتقتل بإشارة مني كل من أريد . تردد الصراخ في كل مكان، واشتعلت النيران وكل من حاول التصدي لهذا الكائن الشرير الذي حبست داخله، مصيره نفخة سامة من فم الأفعى تذيبه في مكانه .
ظهر شاب أبيض الشعر فوقنا، عيناه الصفراء محتدة بالغضب ويداه مشدودتان بقوة وحزم. وجّه الصولجان نحونا وأطلق شعاعا أبيضا أعمى عيناي .

تغير المشهد مرة أخرى، هذه المرة كنت داخل إحدى غرف القصر الفاخرة، الملك الشاب يجثو أرضا وقد تحول لون ردائه الأبيض إلى أحمر من الدماء . يداه لا تزال تقبضان على الصولجان في عزم وقوة، ورغم جراحه عيناه كانت حازمة ولم تحمل أي نية للاستسلام.

الساحر الشرير يقف متفرجا، ضاحكا ملء فمه بينما الأفعى تحارب الحارس الملكي وتحبسه بين فكيها . أطلق هذا الأخير عواء حادا هز جسدي من الداخل وبعث فيَ رعشة عميقة. فجأة ورغم جراحه وقف الملك على قدميه، صدّ بحركة ماهرة من صولجانه كرة نارية من الساحر ثمّ ركض نحو الأفعى بكل عزم . قفز وغرس صولجانه داخل عينها كما فعلت أنا وثم ضخ كل قواه المتبقية داخلها، استطعت أن أرى دماءه تسقط داخل عيني الأفعى وتتبخر مع الطاقة المقدسة .

كل شيء حدث بعدها بسرعة حتى أني لم استطع مواكبة أي شيء بعيناي؛ الساحر قفز فوق الملك وسدد له طعنة غادرة بالخنجر . دماء الملك الشاب انفجرت في المكان و يداه تركت الصولجان ثم ارتطم جسده أرضا .
في نفس اللّحظة سطع ضوء قوي حول الأفعى وظهرت دائرة غريبة من حولها ثم سُحبت غصبا عنها نحو الخنجر وتحول هذا الأخير بين يدي الساحر إلى بخار أخضر ثم تلاشى .

شعرت بالغضب الشديد، بالحنق، ووجدتني أركل الملك الشاب الذي يحتضر بقوة وذاك الصوت الغليظ يردد شتائم وقحة وقذرة، كنت أعرف أن تلك ليست مشاعري ورغبتي لكن مقاومتي ضد هذا السجن الحي كانت هباء منثورا .
اهتز جسد الساحر طربا وأخذ يضحك بشدة وقد شبع من ركل جثة الملك الشاب، سحب القلادة من فوق جبينه وعقدها على إصبعه الأوسط بسرعة. كان الحارس الملكي منهارا على الأرض، يعوي دون قدرته على فعل شيء، لذا عندما سحبه الساحر داخل القلادة لم يقاوم قط .

إقرأ أيضا :توناروز

في ثوان قليلة اخترق ألم رهيب قلبي وسقط جسد الساحر غارقا في الدم . وقبل أن أغلق عيناي، رأيت امراة حسناء فاتنة ذات بطن بارزة، تحمل بين يديها سيفا حادا تقطر منه الدماء، عيناها ممتلئة بالدموع، شعرها الأسود يتطاير حولها في مشهد لم أكن لأنساه قط .
أغمضت عيناي مستسلما . ثم حين فتحتها وجدتني أقف أمام طفل في حوالي الثانية عشر من عمره أو أكبر بقليل . عيناه صفراء فاقعة، شعره أبيض ناصع يجلس على عرش ذهبي بكل كبرياء وأمامه يقف شاب وخمسة فرسان ومعهم أفعى بيضاء ضخمة . كنت حرّا، مجرّد روح تطفو في ذاك المكان الواسع، لكني أسمع وأرى .
سبحت في الهواء ووقفت قرب كرسي الملك الصغير الذي نطق بصوت كله عزم وإصرار وبحكمة رجل كبير :
«خذ جثة الساحر وأحرقها في الساحة»
نظر نحو الأفعى وأردف :
«دمّري جميع بلّورات الذكريات لهذه المعركة ولموت الملك رزان، ما حدث داخل هذا القصر لا يجب أن يخرج منه أبدا وإلا فإن سكيدل لن تعيش ليوم جديد»
صمت قليلا يأخذ أنفاسه وتابع :
«هل وجدتم زوجة الملك ؟»
نطق أحد الحراس بخضوع :
«ليس بعد يا مولاي، لقد اختفت بعد دفنه مباشرة، ولا نعلم إلى أي مكان توجهت»
همهم الملك الصغير مفكرا ثم نهض قائلا :
«أوقفوا عمليات البحث، بمجرد تدمير بلورات الذكرى ستنسى هي أمر هذه المعركة وسينساها الجميع أيضا»

انتفضت الأفعى لفتاة حسناء وانحنت ثم قالت :
«إن تدمير الذكريات سيخلق فجوة زمنية يا مولاي»
نظر إليها بضجر، قطب جبينه بطفولية وهتف :
«اخترعي قصة ما، ساحر أسود تمرد في سكيدل فعوقب حرقا وبعدها سلم الملك رزان قوته لي واختفى، أي شيء يخفي موت الملك وانتقال القوى لي قبل البلوغ!»
ابتسم الساحر قائلا :
«الفجوة الزمنية ليست بمشكلة، فقط اخترعي القصة التي قالها الملك لإخفاء الثورة التي قامت بالقصر . وحينها سيتكفل فم شعب سكيدل الثرثار باختراع ألف قصة أخرى»
هز الملك الصغير كتفيه ونزل الدرج والرداء الواسع يتدلى ورائه :
«افعلوا مابدا لكم، المهم ألا يعرف أحد أن ملك سكيدل قد قتل!»
أغلق الباب وراء الملك الصغير ثم اختفى كل شيء.
هذه المرة عدت للواقع، لا أزال متمسكا بالخنجر، جسمي معلق في الهواء والأفعى ساكنة بشكل عجيب.. تردد صوت فحيح داخل رأسي وهتف الصوت متضرعا :
«حررني، أرجوك حررني»
«أعدك أني سأفعل»
قفزت على ظهرها برشاقة، أمسكت الصولجان بعزم، كل تلك الذكريات التي عشتها جعلتني مشوشا لكنها جعلتني أكثر عزما أيضا، لن أكون أقل من طفل حكم وهو في الثانية عشر، أو من الملك رزان الذي ختم بدمائه الأفعى وحارب حتى آخر رمق دفاعا عن شعبه، ولست أقل من فتاة حسناء أمسكت الخنجر وقتلت روحا بيديها الرقيقتين انتقاما لموت زوجها. أنا سأكون لسكيدل الملك الذي تستحقه! .
دفعت بكل قوتي داخل الصولجان ووجدتني قد انتقلت من جديد، لكن هذه المرة وقفت بجسدي الأصلي داخل السرداب، كانت الأفعى أمامي بجسد ضعيف لا حول له ولا قوة .
استدعيت سكينا ثلجيا وطعنتها بدون تردد، في تلك اللحظة تفتت جلدها وذاب ومن بين الفتات خرج فرخ صغير أمسكته بين يداي وأنا أرتعش. رفعته أمام عيناي وقلت بعزم :
«اسمك سينا، وأنا سيدك. ستكونين من بين حراسي من الآن وحتى يوم مماتي»
طغى ضوء رهيب على السرداب، انتفض الفرخ بين يدي لأفعى ضخمة، نكست رأسها لي بإذعان وتردد فحيحها داخل رأسي .
« لقد جدّد العهد، أنا تحت أمرك يا سيدي»
ابتسمت بتعب ثم اندفعت الدماء من فمي .

كنت أعلم منذ البداية أن السفر للماضي ومعرفة الحقيقة سيكون له ثمن، لذا و عندما طعن الساحر وأنا حبيس داخله، طعنت روحي أيضا، ومع استنزافي لكامل قواي لترويض الأفعى فقدت القدرة لعلاج الجرح .

أتمنى أنني كنت بالفعل ملكا جيدا لك يا سكيدل!
انهرت أيضا وتلاشى السرداب، خيوط الفجر ظهرت في سماء سكيدل المظلمة . انكسر الحاجز لأشلاء عديدة وتبخر الصولجان من بين يدي، حتى الأفعى تحولت لبخار أخضر واختفت . كل ما أذكره بعد ذلك جسدي وهو يسقط من علوّ خمسة أمتار ويخترق الهواء بلا حول له ولا قوة .

إقرأ أيضا :أيام بلا ألوان

النهاية

فتحت عيناي ببطء ووجدتني مستلقيا على السرير الواسع داخل القصر . الشمس تسطع داخل الغرفة وتلقي عليها بظلال دافئة ذهبية اللون . كان نيار متكورا قرب وجهي على الوسادة، الستارة مرفوعة قليلا، مما سمح لي برؤية أخي هيفار جالسا قرب النافذة، يربت بشرود على رأس نسره و خيوط الشمس تنعكس على وجهه الأسمر .
انتباتني نوبة سعال شديدة، على إثرها استفاق أخي من شروده ورمى نسره أرضا وكأنه لعبة ثم ركض نحوي .
التمعت أعينه بالدموع وهو يُقبل نحوي :
«استيقظت!»
وضعت يدي على فمي أكبت سعالي الحاد، ثم نظرت له باستنكار :
«أتبكي؟!»
كان صوتي ضعيفا ومبحوح، لكن بمجرد أن سمعه ضحك هيفار مسرورا .
انقضّ علي وعانقني وصوته المختنق محمّل بالمشاعر :
«لقد ظنننا أنك لن تستيقظ أبدا، أمي منهارة تماما وأبي كذلك»
ربتُّ على ظهره بحنو بالغ :
«لا بأس، أنا بخير الآن»
ابتعد هيفار وجلس على طرف السرير ثم داعب شعري :
«الجميع كان يتجمع تحت شرفة غرفتك كل مساء، يأملون برؤيتك واقفا على قدميك»
صمت ونظر لي بفخر :
«لقد حاربت بشجاعة وأنقذت المملكة، لقد كنت ملكا حقيقيا»
ابتسمت له، كان نيار قد استفاق عند سماعه صوتي وقفز فوق صدري وعلمت حينها أنه كان قلقا بدوره . مررت يدي على رأسه بحنان، أنا أيضا سعيد لكوني حيا.

أخبرني أخي أني كنت في غيبوبة لشهر كامل، وأن الحكيم أخبرهم أني أصبت بطعنة عميقة داخل روحي، طعنة كان من المستحيل علاجها . لكن يبدو أن القوى التي انتقلت لي بعد أن روضت الأفعى ساعدت على شفائي، رغم أن الأمر استغرق وقتا طويلا حتى استيقظت .
استمر أخي يتكلم بحماس عن شجاعتي أثناء القتال، يصفني تارة بأوصاف خيالية بُطولية وتارة يعلق بعتاب خفيف على حركة متهورة قمت بها، لكني كنت شاردا بذهني ولم أركز في كلامه، قاطعته فجأة :
«أخبرني هيفار، هل كان هناك ملك في عائلتنا؟»
ضحك مجيبا :
«فلترضي غرورك يا أخي الصغير أنت أول ملك في سلالة عائلتنا»
ابتسمت له بضعف وقلت :
«ليس هذا ما عنيته، هل ارتبطت عائلتنا بأي ملك؟ ثم حدث أن اختفى؟»
نظر لي مندهشا، لكن امام نظراتي الجادة غرق في التفكير ثم قال :
«أظنني سمعت من أبي قصة مشابهة، لقد قال في وقت ما أن جدته كانت متزوجة من ملك، لكنه سلم قواه للوريث من بعده وغادر سكيدل لانه لم يتحمل كونه ملكا ولم يرد ذلك»
«هل كان ذلك في عهد الساحر؟»
نظر لي متعجبا وقال :
«لست أعرف، أعتقد ذلك، أخبرني أبي أن جدته ماتت بسبب ولادة مبكرة بعد هروب زوجها بفترة وجيزة . ما هذه الأسئلة الغريبة؟ لِم أنت مهتم بهذا فجأة»
ابتسمت له :
«لاشيء، فقط كنت أفكر»
ضحك أخي :
«أفكار ما بعد الغيبوبة؟ هل حظيت بكابوس»

لم أعلق على نكتته السخيفة وغرقت بالتفكير، هذه هي القطعة الأخيرة. حين ختم الساحر الأفعى بدمه أطاعته وكان من المفترض أن تنتقل قواها لنسله من بعده . لذا عندما ختم الملك الأفعى داخل الخنجر بواسطة قواه المقدسة، سقطت بعض من دماءه بدائرة الختم، لهذا انتقلت لي. لهذا ظهر الخنجر لي بمجرد أن أصبحت ملكا بدوري . ولو أني لم أكن ملكا لم تكن لتتنقل لي لأنها مرتبطة بالقوى المقدسة .

لقد شربت الأفعى من دمي حين سقطت أرضا فوق الخنجر وهذا ما جدّد قوة الختم وعقد بيننا عقدا روحيا رغما عن كلينا . ثم خلال التتويج ارتديت قلادة الحارس وبهذا عقدت عقدا مع الحارس الملكي ثم انهار جسمي . ابتسمت بارتياح حين ظهرت قطع الأحجية متكاملة وسهوت أحدق من خلال النافذة . علق أخي بشيء عن كون نيار يبدوا كالقط وهو متكور في حضني . نهض واقفا فجأة كمن تذكر شيئا وغادر مسرعا وهو يصرخ بي :
« إبق هنا، يجب علي أن أخبر الجميع باستيقاظك»
صدرت عني ضحكة وانا أرى حماسه . سمعت حفيفا قرب أذني وخرج من فوق السرير رأس ضخم، تحسست الأفعى وجهي بلسانها المشقوق فدغدغني ذلك، رفعت يدي ببطء ولمست وجهها وظهر الارتياح في صوتي :
«مرحبا سينا!»
مرغت الأفعى رأسها في يدي ثم سقط باقي جسمها فوق سريري وتقلص لنصف حجمه . مررت جسمها الطويل تحت رأسي وضمّت رأسها على صدري ثم نامت . أضاءت قلادتي وقفز الحارس الملكي متحررا منها، تربّع على الأرض بجوار سريري وأغلق عينيه بدوره .
وضعت يدا على نيار وأخرى على رأس سينا وهتفت ساخرا :
«كسالى!»
لكني كنت أشعر بالنُّعاس أيضا، ورغم أنّي بذلت جهدي لأبقى مستيقظا حتى يعود هيفار مع الآخرين . غير أني لم أستطع لذا أغلقت عيناي مستسلما للنوم . سأستيقظ مرة أخرى، وحينئذ سأكون قادرا على حكم شعبي الجديد وحمايته .

سأستيقظ لأكون ملك سْكيدْلْ .

النهاية ..

تنويه : إن فكرة الخنجر الملعون الذي يبحث عن صاحبه ليست فكرتي، بل ملك لحساب خاص على الواتباد . أما باقي الحبكة وتسلسل الأحداث فحقوقها تعود إلي .

رنا رشاد

المغرب
guest
32 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى