أدب الرعب والعام

على حافة الهاوية

” – وهل من مكان أفضل من كنف الأسرة؟
-نعم، أي مكان آخر! “
“هيرفي بازين”

الفصل الأول: (بداية كل شيء)

” دوما ما يقولون أن البدايات أفضل ما في العلاقات..
لكن ألا يوجد بداية للسوء؟”
داخل مطعم عائلي صغير يقع في زقاق فرعي، بديكور من الاثاث القديم، حيث يعرض طبخا لا تكلف فيه، هنا تؤكل المعجنات على مفرش تزينه مربعات.
-توماس! قالت ماريا منادية
كانت القاعة فارغة والساعة تشير إلى تمام التاسعة صباحا، ومع ذلك فإن رائحة الخبز الساخن كانت تعم الأجواء سلفا.
كان المطعم في ملكية أسرتها منذ أكثر من أربعين سنة، وإن كانت هي وزوجها من يشرفان على تسييره اليوم.
-توماس!
ظهر طيف في مدخل الباب، لكن لم يكن لابنها.
-لماذا تصرخين هكذا؟
-ابتسمت ماريا لابنتها وقالت: لا شيء فيوليت، ابحث عن توماس.
-مشيرة إلى العلية بإصبعها قالت: سيكون في الأعلى بكل تأكيد ماما.
صمتت لثوان ثم تابعت عاقدة حاجبيها:
-ماذا تريدين أن تطلبي منه؟
-بابتسامة لم تتسع وجهها أجابت ماريا: صدرت نتائج امتحانات القبول!
التمعت عينا فيوليت، لتصعد خلف والدتها السلالم بشيء من الحماس والارتباك، عندما فتحت ماريا الباب باندفاع كان توماس البالغ من العمر سبعة عشر عاما يستند إلى الجدار ممسكا كتابا بيده منتبها لدخول والدته وشقيقته أغلق الكتاب بارتباك ووضعه على المنضدة بقربه وقال:
-سأنزل حالا لأساعدكما..
-لا داعي لذلك بني، صدرت نتائج امتحان القبول!!
اندهش توماس ونظر غير مصدقا إلى فيوليت التي أكدت كلام والدتها بحركة من رأسها.
هبط السلالم بسرعة إلى القاعة وتبعته كل من ماريا وفيوليت.
دخل إلى المطبخ وفوق طاولة العمل القديمة المصنوعة من الخشب كان هنالك الحاسوب الذي وصله بشبكة الإنترنت بسرعة ودخل إلى موقع الجامعة.
كانت والدته متحمسة بشكل لا يصدق، بينما شقيقته قلقة بشكل ملحوظ.
لم يظهر على وجهه أية تعابير تدل على حماسه أو قلقه بل كان جامدا إلى حد مخيف.
بعد عدة نقرات لم تحتمل فيوليت وجلست بجواره لتقول بنبرة حانية ممسكة يده:
-حتى لو فشلت في هذه الجامعة، تستطيع تجربة أخرى
-صاح توماس بحماس وهو ينتفض عن الكرسي: لقد قبلت!!
هرعت ماريا لتحضن ابنها الذي لم يصدق ذلك، بينما ألتقطت فيوليت منديلا لتمسح دموعها، وبعد دقائق عدة ابعدت ابنها عنها بلطف لتقول بسعادة:

-سأحضر آلة التصوير!
بعد خروجها، التفت توماس إلى شقيقته التي قالت بهدوئها المعتاد ورقتها:
-إنها فخورة بك.. أرأيت بريق عينيها وابتسامتها؟ لم تفرح هكذا منذ مدة طويلة..
ابتسم توماس خجلا لتتابع فيوليت بجدية:
-لكن عليك أن تعدني بألّا تخذل أمنا ابدا، أنها تؤمن بك.
مدت يدها له ليمسكها مؤكدا كلامها، سارعت ماريا تجري لتقف بين ولديها وتحاوطهما بذراعيها ثم تلتقط صورة مليئة بالحب والفرح ليوم لا ينسى…


في المنزل كانت الصالة تعبق بمختلف رائحة المخبوزات الزكية التي قامت ماريا بإعدادها طوال النهار حيث تكفلت فيوليت وتوماس بشوؤن المطعم.
كل ما تستطيع فعله الآن انتظار قدوم زوجها لتعلمه بقبول ولدهما، كانت تتمنى بشدة أن يكون معهم في تلك اللحظة ليشاركهم الفرحة، لكنه ذهب للسوق لشراء ما ينقصهم من حاجيات للمطعم.
كانت قد اختارت أفضل اثوابها لارتدائه في هذه المناسبة، ثوب أحمر مخملي مع جوارب طويلة لاصقة سوداء، وقد ضفرت شعرها الكستنائي، بينما جلس توماس بجوار والدته التي لم تكف عن الابتسام.
قبوله في الجامعة يعني الكثير بالنسبة لماريا، فقد عشقت التمثيل منذ طفولتها لكن لم تسنح الفرصة لها بمزاولة ما تحب.
وببساطة، ورث توماس عنها هذا الشغف الذي دوماً ما عملت ماريا على تنميته، فقد كانت تقضي جل وقتها بتدريبه على نصوص مسرحية منذ صغره، كيفية حفظها والقاءها، وكيف يعبر عن انفعالات ومشاعر الشخصية.
لذا كانت قريبة من توماس، ورغم ذلك لم تلاحظ بعدها عن فيوليت حتى كان قد تأخر الوقت وقد بُنيَ حاجز زجاجي بينهما.
لكنها لم تكترث للأمر يوما، فمنذ ولادة توماس شعرت بشيء مختلف تجاه، جاذبية من النوع الذي يشدك بقوة لا مثيل لها، تفضل أن تسميها “جاذبية كونية”.
فتوماس يشبهها بكل شيء، الشعر الكستنائي ذاته والعينان العلسيتان الفاتنتان نفسها.
أما علاقتها بفيولين فكانت مصرية دوماً، حيث كانتا في شجارات يومية على أسخف الأمور، دون الاتفاق على شيء محدد، عدا أمر واحد.
مقابل ماريا جلست فيوليت بكنزة صوفية زرقاء وبنطال أبيض من الكتان، ورفعت شعرها الأشقر على هيئة كعكة بشكل عشوائي، كانت سعيدة للنجاح شقيقها، فالأمر الوحيد الذي تشترك به مع والدتها هو حبها لأخيها، فكان دوما قريبا منها، يفهمها ويعرف ما يسعدها وما يحزنها عكس والدتها التي كانت تجدها “غريبة الأطوار”.
لقد كانت فيوليت انطوائية ومنعزلة عن الكون بأكمله بسبب حساسيتها المفرطة ومشاعرها المرهفة وسذاجتها التي يستطيع أياً كان استغلالها.
كانت تقضي وقت عطلتها بالحياكة أو المطالعة، وفي بعض الأحيان المساعدة في أعمال المطعم، وأكثر الاوقات تقضيها بين مفاتيح البيانو والنوطات.
لم تكن والدتها مهتمة كثيرا بالفرع الذي ستختاره، فاتجهت ببساطة نحو عزف البيانو الأمر الوحيد الذي يجعلها تحلق في عوالم أخرى.
ورغم جفاء علاقتها مع أمها، لكنها كانت الأقرب إلى والدها، حيث كان سعيدا بامتلاك ابنة مثلها، حنونة ومسؤولة عن تصرفاتها وعاقلة جدا.
بينما كانت علاقة توماس وأبيها باردة بشكل غريب، أشبه بالغرباء من الأهل.
بدأ القلق يتسلل إلى قلب ماريا، لما تأخر ستيفن؟ قاربت عقارب الساعة الحادية عشر مساء، وحاولت الاتصال به مرارا وتكرارا دون جدوى، مع محاولات بائسة من فيوليت أيضا.
بقلق سألت فيوليت:
-ما الذي علينا فعله؟
-الإنتظار.. قالت ماريا بروية
-عقد توماس حاجبيه وقال بحيرة: ولو تأخر أكثر ماما؟ ماذا سنفعل؟
-التفتت إليه وقالت: نتصل بالشرطة ونبلغ عن اختفاء والدك.
حل الصمت للحظات عدة بدت طويلة أثقلها السكون بشدة.
لم يقطعه سوى صوت تدوير قفل الصالة ليظهر ستيفن بكامل أناقته ووسامته.
رجل في عقده الخامس يملك شعرا مجعدا اسودا، ببذلة سوداء وقميصا مفتوح من دون ربطة عنق، عينان خضراوتين واسعتين، وعدد لا بأس به من التجاعيد الذي بدء يظهر على وجهه، رجل يجمع في طبعه بين التكتم والمباهاة.
استقبلته ماريا بحماس وهمت لإخباره بشأن توماس، لكنه قاطعها وهو يخلع معطفه ويضعه على الشماعة:
-هنالك أمر أكثر أهمية علي اخبارك به.
استنكرت ماريا ذلك لكنها ابتسمت بعذوبة وقالت:
-ما الخطب؟
حل الصمت لثوان الأمر الذي جعل توماس وفيوليت يتبادلان نظرات قلقة.
تنهد ستيفن وقال مبعداً نظره عن زوجته:
-علينا الانفصال..
-ماذا؟
قالت غير مدركة لما سمعته، بينما وقفت فيوليت حائرة مما يحصل واكتفى توماس بالتحديق في شك نحوه والده.
-نعم ماريا.. كما سمعت، علاقتنا انتهت منذ سنوات لكن حان الوقت لأن يرى كل منا سبيله.
قال ذلك ببرودة أعصاب لم يعهدها أحد منه، إضافة إلى كلامه الجارح نحو ماريا التي قالت وقد التمعت دمعة في عينيها:
-أهنالك امرأة غيري في حياتك، ستيفن؟
-ماريا ما هذا الهراء
-قاطعته لترفع نظرها إليه وتقول بصرامة وعصبية: أجبني!
صمت دون أن يجيب بشيء لتدخل فيوليت بقلق وصوت مهزوز:
-بابا قل شيئا لا تصمت أرجوك!!
-بصوت مرتجف سألت ماريا: ناتاشا تلك العاملة في المطعم، أليس كذلك؟
كان توماس قد اقترب من والدته ليقف بجوارها ممسكا يدها.
تابعت ماريا بالصوت ذاته لتنساب الدموع من عينيها بغزارة:
-بعد تسعة عشر سنة من الزواج ستتخلى عني..؟
-محاولا توضيح موقفه قال: زواجنا يتعارض مع أحلامي ورغباتي..
-ارتفع صوتها بشكل ملحوظ واتسعت عينيها لتصرخ بغضب: أحلامك؟! ألم تسأل يوما عن أحلامي! ألم تفكر بأني دفنت كل ما أريده وأنا بجوارك أدعمك في هذا المطعم اللعين لتحقيق أحلامك!! لأنني أحبك ستيفن، ولم أفكر يوما في استبدالك رغم معرفتي بأن هنالك رجال أفضل منك.. بأني أستحق رجلا أفضل منك.
دنت فيوليت من والدتها وربتت على كتفها، بينما قال توماس بعصبية واضحة:
-أهذا سبب ارتيادك للنادي الرياضي؟ امتناعك عن تناول السكريات وممارستك رياضة المشي؟ من أجل ناتاشا استبدلت سيارتك ذات الطراز القديم بآخر صيحة من ميني كوبر؟!
كانت عينا ماريا مغرورقتان بالدموع، أبعدت ولديها عنها برفق ثم قالت وشفتيها ترتجفان:
-سأخلد للنوم، ليلة سعيدة..
خرجت من الصالة بهدوء لينظر توماس إلى والده بغضب ويقول بلؤم:
-عن أي سعادة تتحدثين ماما؟ هيا بنا فيوليت لا يوجد ما نحتفل به..
تبعته وقد ألقت نظرة أخيرة على والدها الذي كان يبدو غارقا في الحيرة….

الفصل الثاني : (نحو الهاوية)

“أن تكون في الهاوية وفي قمة انهيارك أمر طبيعي..
لكن ماذا لو لم ندري كيفية الخروج من ذاك الجرف؟”

-“لقد تأخرت”
همست فيوليت لنفسها وهي تجري في الشارع، الليلة عرضها الموسيقي الأول، وهي متحمسة بشدة وفرحة لأول مرة منذ زمن، وعدتها والدتها بإغلاق المطعم باكرا والقدوم لحضور ادائها، وكان توماس سيلاقيها بعد عدة شوارع ليصطحبها بالسيارة.
اتصلت بوالدها لتطلب حضوره لكنه أعتذر بشدة ووعدها بأنه سيحضر المرة القادمة لكونه الآن مريض ومتعب بشدة إثر إصابته بالزكام.
بينما كانت تسير مسرعة تتأمل الجانب الآخر من الرصيف، هناك رأت والدها.
تسارعت دقات قلبها وهمت بمناداته والتلويح له، “لقد تحسن، سيأتي لحضور حفلي” قالت مبتسمة، أسرعت لملاقاته لكنها اعتدلت عن الفكرة بعدما رأت ناتاشا برفقته متأبطة ذراعه.
استطاعت رؤية ابتسامة والدها وضحكته المجلجلة التي لم ترها قط على وجهه برفقة والدتها.
دخلا إلى المقهى ليجلسا إلى طاولة بالقرب من النافذة.
أخرجت هاتفها من الحقيبة بسرعة واتصلت به، بنبرة متزنة قدر الأمكان سألته:
-أين أنت، بابا؟
-ضاحكاً سألها: ما هذا السؤال الغريب عزيزتي فيوليت! أنا في المنزل..
-ماسحة دمعة هربت من عينيها قالت: هل أنت متعب؟ ألا تقوى على الخروج من المنزل؟
-لا يا فيوليت، أنا حقا منهك ولا أقوى على مفارقة الفراش.
-أنت تكذب…
-قال مدافعا: كلا!
وصلها صوتها المرتجف، عقد حاجبيها ليلاحظ ارتباك ناتاشا وهي تحدجه بنظرة غريبة كما لو كانت تحذره من شيء.
صرخت به وهي توجه ضربتين براحتها لواجهة المقهى:
-أنت تكذب!
انتفض جميع زبائن المقهى في الوقت نفسه الذي انتفض فيه ستيفن، وراحوا ينظرون إلى النافذة الزجاجية.
لم تنتظر فيوليت أكثر من ذلك وهمت لتدخل لكن والدها كان قد سبقها وخرج إليها:
-عزيزتي فيوليت أنا
-قاطعته صارخة وهي تبكي بشدة: الذهاب برفقة ناتاشا للتجوال أهم من حضور حفلة ابنتك الأمر الذي يدفعك للكذب!
صمتت لثوان ثم تابعت:
-كرهتك زوجتك السابقة بسبب تدميرك لحياتها الهانئة، توماس يرفض النظر إلى وجهك حتى! لم استحسن ما أقدمت عليه لكني رغم ذلك لم أكرهك يوما أو أجرحك بسبب هذا التصرف، بل كنت الوحيدة التي حرصت على معاملتك كسابق عهدها!
-نظرت إلى الداخل لترى تلك الفتاة الشابة التي كانت مماثلة لعمرها لتلتفت له من جديد وتقول:
-بما هي أفضل من أمي؟ شقراء وطويلة؟ أكثر جمالا..؟ أمي فنت تسعة عشر عاما بجوار رجل لم يقدرها يوما..
-فيوليت..
صاحت به بينما كانت تجري لتقطع الشارع؛
-أنا أكرهك!!
اندفع ستيفن في مطاردة ابنته، لمحها على بعد أمتار منه على الرصيف. التفتت نحوه، ثم زادت من وتيرة السباق في محاولة للإفلات منه. وفي اللحظة التي همت بعبور الشارع صرخ بها:
-انتبهي!!
كانت الصدمة عنيفة.
صدمت السيارة فيوليت دون أن تفلح في الضغط على الفرام في اللحظة المناسبة لتطوح بها في الهواء قبل أن ترتطم بالأرض.
توقفت حركة المرور من تلقاء ذاتها، وخيم الصمت للحظة على الشارع.
في الحال تحلق المارة حول جسد الفتاة الملقاة على الأرض.
مصعوقين، وقف ستيفن وناتاشا لينحني إلى جوار جسد ابنته فاقدة الوعي بعينين مغمضتين ووجه قاتم ممسكا يدها.
وصلت سيارة الاسعاف في دقائق، وعلى متنها طاقمها الطبي للقيام بالإسعافات الأولية قبل نقلها إلى المشفى.


عند وصول ماريا برفقة توماس إلى المشفى هرع لملاقتهما، وعانق توماس الذي بادله العناق بقوة.
كانت الدموع تنساب ببطء على وجنتي ماريا، التي سألته بدون مقدمات:
-هل من جديد؟
نفى ذلك بحركة من رأسه لتجلس على الكرسي بوهن أمام غرفة العمليات.
جلس توماس بجوار والدته ممسكا يدها برفق، المرة الأخيرة التي رأى ابنه بها تفجرت بينهما مشادة كلامية كادت أن تصل إلى حد التشابك بالأيدي.
لكن كل شيء الآن قابل للتجاوز في ظل هذا الاجتماع المقدس من أجل فيوليت.
في نهاية الرواق وقفت ناتاشا وهي ترمق العائلة بنظرة ندم.. حنين وحزن دون أن تدري ما الذي عليها فعله…
الآن لا يستطيعون فعل شيء سوى الإنتظار وتحمل ثقل الساعات الموالية العصيبة.
رغم ذلك لم تتطرق ماريا إلى سبب الحادث كأنها نست الأمر، كما توماس.

كانا مرهقين بشدة، وكل منهما بين الحين والآخر يعبر عن ثورة غضب أو نوبة قلق أو فسحة أمل، بينما اكتفى ستيفن باختلاس النظر إلى زوجته وابنه، غريبة هذه الهدنة غير المعلنة وهذا التحفظ المضمر عن الضغائن والأحقاد الدفينة، وهذا الإحساس بالعودة إلى دفء “الكنف العائلي”.

كيف انمحى بينهم في ساعات معدودة كل هذا الجفاء الذي تغلغل في قلوبهم من جراء الفراق؟! لم يعد في المشهد سوى أبوين مستعدين للتضحية بكل شيء من أجل حياة ابنتهما، وقلق ينهش أخا من أجل مصير أخته.
لماذا يجب دائما انتظار الأوقات العصيبة المقترنة بأخبار النعي والحوادث لنزع فتيل الصراعات والحروب؟
لم يكن ستيفن واثقا من أي شيء على الإطلاق..
عدا أمر واحد، إن أصاب فيوليت أي مكروه فأنه لن يسامح نفسه ابدا، فحتى لو لم تسأل ماريا أو يستفسر توماس فهو يدرك الحقيقة..
إن أنانيته قد تكون سبب مقتل ابنته.


أخيرا في الثانية صباحا كان الطبيب قد خرج من غرفة العمليات…
وقف ستيفن ممسكا يد ماريا التي كانت ترتجف ولم تقوى على الوقوف لتبقى جالسة على الكرسي، بينما تقدم توماس نحوه بقلق ليسأل:

هل هي بخير؟ هل ما زالت حية؟
نزع الطبيب كمامته وقفازاته الخضراء ليقول بثبات:

-لقد تخطت مرحلة الخطر، لكنها ستبقى هنا لمراقبة وضعها الصحي فهو ليس بالمستقر تماما..
تبادل ستيفن وتوماس النظرات، ليندفع توماس ويحضن والده غير مصدقين المعجزة التي جرت.

قال الطبيب بأن فيوليت لم تنادي سوى باسم والدها، لذا سمحوا له بالدخول لرؤيتها.
بالنسبة لماريا، يكفي معرفة ان فيوليت بخير وبأنها لن تموت على أي حال.
أدركت ماريا وقع خطوات متجهة نحوها، التفتت بقلق لترى ناتاشا تتقدم نحوها.
كانت منهكة ولا تريد طردها أو الصراخ في وجهها، فقد كادت أن تفقد ابنتها اليوم ولم يعد يعني لها شيء بقدر سلامة فيوليت.
كان يبدو على ملامح ناتاشا التردد والارتباك، وقفت أمام ماريا التي كانت جالسة لتقول متلعثمة:
-هل أستطيع الجلوس إن لم تمانعي؟
-حسنا..
قالت ماريا ببرود دون انفعال، لتجلس بجوارها.
حل الصمت للحظات لتقطعه ناتاشا بصوت مرتجف:
-انا آسفة..
التفتت إليها ماريا مستنكرة لتتنهد ناتاشا وتتابع:
-آسفة على كل شيء، على تفتيتي لأسرتك، على سرقتي زوجك منك ومن أطفالك، على كل شيء ماريا، على كل شيء…
لاحظت ماريا دمعة انسابت من عيني ناتاشا، تنهدت دون أن تقول شيء لها لتبتعد ناتاشا عنها بهدوء..


في الداخل أمسك ستيفن يد فيوليت برفق.
كانت تصحو تدريجيا. ولأنها كانت لا تزال موصولة بجهاز التنفس لم تستطع الكلام.
تأملها بعينين مغرورقتين بالدموع، فيوليت الصغيرة، تلك التي كان يحملها على كتفيه وهي في الثالثة من عمرها، تلك التي كان يرافقها إلى المدرسة أو حصة البيانو، تلك التي كان يساعدها في إنجاز فروضها المدرسية، تلك التي كان يواسيها في لحظة حزن أو قلق.
كانت تنظر له بحنين، حاول استشفاف نظرة عتاب أو لوم، لكن لا، فقط الكثير من الحب..
بعد عدة لحظات دخلت الممرضة لتنزع عنها جهاز التنفس وتقول بلطف:
-نستطيع إراحتك من هذا قليلا..
خرجت بهدوء وأغلقت الباب ليهمس ستيفن لها بأسى:
-أنا آسف فيوليت، آسف جدا..
-ابتسمت بوهن شديد وقالت بصعوبة: لا داعي للاعتذار بابا..
-مصدوما سألها: هل سامحتني؟
بطرفة من عينيها أكدت ذلك لتتابع مرة أخرى:
-لا تخبر ماما أو توماس بشيء عما حدث، لا أريد أن يضعوا اللوم عليك..
ابتسم مطمئنا إياها بينما في داخله كان متخبطا بشدة، ما هذه الفتاة؟ أسامحته بهذه البساطة؟ أقرب للملائكة برقتها من البشر..
في هذه اللحظات كان ستيفن محتارا، في هذا اليوم العصيب أدرك مدى حبه لعائلته، وبأنه ولديه يشكلان أغلى كنوزه..
لكنه لن يجرؤ على العودة بعدما خذل ماريا وطفليه، لن يحتمل رؤية وجه فيوليت كل صباح وهي تبتسم بعذوبة وقد كان من الممكن أن يتسبب بمقتلها..
وهل سيبقى عالقا في هذا الشكل المؤلم بين رغباته و واجباته؟ دون أن يدري ماذا عليه أن يفعل؟
أغلق عينيه مؤجلا موضوع التفكير بقرار مصيري كهذا إلى يوم لاحق، إلى يوم آخر عندما تشرق الشمس من جديد.

اية

سوريا
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى