أدب الرعب والعام

كلاب السكك المسعورة

بقلم : سايكو – الدزاير

لم يعد يرى الفتاة إلا خيالاً يتحرك من هنا لهناك

علك رأيت يوماً كلباً مسعوراً , أو ربما سمعت عن الكلاب التي تصاب بالسعار , لذلك أول ما قرأت العنوان تراما لذهنك أن الكلاب هي المسعورة .

**

ركب قطار التاسعة , سار القطار في ليل مظلم , كانت الرحلة هادئة , و المناظر من النوافذ رائعة مع أنه الليل لكن كان ذلك , و ككل القطارات كان يسير و يتوقف كلما وصل للمحطة و ينطلق تارة أخرى , مواصلاً رحلته , كريم المتجه للبلدة كان ينظر من النافذة و يمضي وقته الفارغ تارة في قراءة كتابه و تارة أخرى في مراقبة النجوم و ذلك لأن النوم لم يزره تلك الليلة فهو لم يعتد أن يقضي ليلته في غير بيته على غير سريره .

استمر هدوء رحلته لساعات طويلة , و بدأ يشعر بأن الوقت يطول و الدقائق تتمطط , كان يجلس بقربه كهل و بجانبه ابنته الشابة منيمة أختها الأصغر منها في حضنها و نائمة هي الأخرى على كتف أبيها , كانت الفتاة تستفيق بين حين و آخر لتسأل أباها عن الوقت وما إن كانوا قد وصلوا محطة ” ورو ” , بدا ذلك عادياً لكريم , فتاة تسأل أباها عن محطة معينة ..
أراد أن يحدث الرجل الجالس بجانبه فعله يفتح موضوعاً للحديث و يكسر هذا السكوت المتبادل , فبادره قائلاً : المعذرة , أستنزلون في محطة ” ورو ” ؟ ..
بدا على وجه الرجل أنه لم يحب السؤال من كريم و التفت له وقال بنبرة جافة : ذلك يعتمد على الوقت الذي سيصل فيه القطار إلى المحطة ..

جواب غريب , يتجه بعائلته و سينزلون حسب الوقت ؟ كيف ذلك ؟ استغرب كريم كل الاستغراب من جواب الرجل لكنه لم يضف سؤالاً لأنه أحس في نفسه أن الكهل لا يريد أن يكلمه فأومأ له برأسه و كتم حيرته و اكتفى , سار القطار و كان كريم يتقلب على كرسيه متململاً , الرجل كان ينظر لساعته من حين لآخر و كان كريم ينظر هو الآخر لساعته حين ينظر الكهل لها , الساعة تقارب الثانية و النصف , القطار يسير , ذلك السكون و الهدوء جعل كريم يرغب في النوم , فمحطته لازالت بعيدة و من الأكيد أنه لن يصل إلا بعد طلوع النهار .

أغمض عينيه و أسند رأسه للنافذة , فسمع صوت منادٍ ينادي : محطة “ورو” , المحطة التالية محطة ” ورو” .. و يكرر
نظر الرجل لساعته فوجدها الثالثة إلا ربع فقال بصوت خفيف : لا نستطيع أن نمر بسكة “ورو” وقت الثالثة ..
قالها متمتما بها , لكن سمعها كريم بسبب قربه الشديد من الكهل , حرك كتف ابنته فاستفاقت
هيا “زهيرة” لقد وصلنا محطة ” ورو ” , سوف ننزل و نتابع صباحاً
نهضت من مجلسها و قالت موجهةً الكلام لأبيها : و كم الساعة الآن ؟
إنها الثالثة إلا دقائق معدودة أو ربما الثالثة تماماً , هيا سننزل , جرّي أنت الحقيبة و دعي عنك خديجة سوف أحملها أنا ” سكت ثم أردف و هو يرفع خديجة ” إنها ثقيلة عليك ..
بدؤوا يجمعون حاجياتهم خارجين من المقطورة , التفت الرجل لكريم الذي بقي ينظر مشدوها لهم مستغرباً و قال : ألن تنزل يا بني ؟
رد كريم : لا ” سكت هنيهة ثم تابع ” ليست هذه محطتي لن أنزل هنا ..
نظر الكهل له نضرة فيها من الغرابة و الاستغراب معاً ثم خرج في عجل .

بقي القطار متوقفاً في تلك المحطة المدة التي يجب أن يمكثها فيها ثم أطلقت صافرة الإنطلاق , بدأ القطار يسير و بدأ الهدوء يسري , و استقبلت المقطورة التي يركبها كريم شابان يبدو أنهما في نفس عمره و فتاتان أحداهما متحجبة و الأخرى على غير ذلك بصحبتهما رضيع يبدو عليه أنه في الشهر الثامن أو أكثر من ذلك بقليل , كانت المرأة المتحجبة تجلس مقابل كريم و بجانبها الفتاة الأخرى , أدار كريم وجهه عنهما عائداً لحاله الذي كان عليه و كذلك القطار .

على بعد هكتارات بدأ يظهر في الأفق ما يعكر خطه المستقيم لفت ذلك انتباه كريم بقي يراقب و يدقق النظر فإذا بها حيوانات قادمة من بعيد , كان القطار حينها قد بلغ منطقة من المناطق الشبه نائية , تبادر لذهن كريم أن تلك الحيوانات قطيع ذئاب أو كلاب , كانت تعدو نحو القطار دون توقف وكان كريم يراقبها من النافذة , حين اقترب القطيع من القطار رأى كريم على نور القمر ما أرعبه و حبس أنفاسه , لقد كان ذلك فعلاً قطيع كلاب لكن كان لعدد منهم شعر آدمي في رؤوسهم , كانت كلاب بوجوه كوجوه بني أدم , أدار وجهه عنها مذعوراً مما لفت انتباهه أن المقطورة فارغة و لا يوجد غيره فيها هو فتاة أخرى لا عهد له بها من قبل .

قال بعد أن عقد لسانه الذهول لدقائق عديدة : هل خرجوا ؟
رفعت الفتاة نظرها له مستغربة كلامه ثم أنزلت نظرها للكتاب الذي كانت تقرأه و لم تجب ..
أدار رأسه لينظر من النافذة فلم يجد أثراً لما رأته عيناه سالفاً .
لم يكن كريم ليعتقد أن ما رآه بأم عينيه توهماً أو نوعاً من أنواع التخيلات , جلس بهدوء في مقعده فليس له أن يفعل غير ذلك , ولا داعٍ للخوف هنا فالقطار مغلق و لن تقدر الكلاب على الدخول للمقطورات , سار القطار في طريقه , كان كريم صامتاً متعمقاً في شروده , فأين ذهب الشابان و المرأتان ؟ علهم غيروا المقطورة حينما كان هو يدقق نظره في الأفق , قال ذلك في ما بينه و بين نفسه ثم أسند رأسه للمقعد و استقبل النوم .

توقف القطار في محطة أخرى و ما هي إلا ساعة حتى انطلق من جديد , استفاق كريم على صوت رجل يحرك كتفه و ينادي عليه , استقام في قعدته مجيباً الرجل : نعم .. ماذا هناك ؟
الرجل : هذه المقطورة “4” و قد استلمت تذاكرها و عائلتي لتونا
فرك كريم عينيه و بقي يستوعب كلام الرجل ثانية من الوقت ثم قام منتصباً على قدميه مستغرباً و خاطب الرجل : ماذا تقول ؟ علك مخطئ .. أنا في المقطورة “6” ركبتها منذ أول محطة و لم أغيرها للآن ..
فرد الرجل مستهزئا : أتمازحني يا أخي ؟ ” مشيراً للرقم أربعة المطبوع على باب المقطورة ” ..

انتفض كريم مسرعاً لحقيبته يبحث فيها عن تذكرته حتى وجدها فإذا به يجلس في مقطورة غير مقطورته , اعتذر من السيد و عائلته و خرج مسرعاً منها نحو المقطورة “6” .. فتح الباب بقوة فالتفت له الشابان و المرأتان , بقوا ينظرون له و هو يلتقط أنفاسه مثلما أنه قد كان يخوض سباقاً مراثونياً و قد عقدت لسانه الدهشة , بقي على ذلك هنيهة ثم أغلق الباب و جلس في مكانه , أنزل رأسه و وضع يديه على مقلتيه مستغرقاً في حيرته : كيف ؟ أخرجت أنا , كنت أظنهم من غيروا المقطورة فإذا بي أنا من فعل .. آه ما الأمر ؟ لا .. علي أن أهدأ الآن , سوف أقرأ كتاباً , أو كلا .. يجب أن أنام .. يا إلهي عقلي مشوش للغاية ..

رفع رأسه فإذا المقطورة فارغة مرة أخرى .

قام منتفضا من مجلسه و التفت لرقم المقطورة فإذا هو في المقطورة “6” لم يخرج , هرول نحو الباب , وضع يده على مقبضه ليفتحه ففتح الباب من الجهة الأخرى , بقي مشدوها ينظر في صمت فقد دخلت الفتاة التي كانت تجلس معه في المقطورة رقم “4” نفسها ..
دخلت الفتاة المقطورة و جلست جنب النافذة , تراجع كريم للخلف عائداً لمقعده لا واعٍ لفعله ، مشدود الخاطر مشدوه المظهر فجلس .. بقي ينظر مستغرباً للفتاة التي كان كل متاعها في ذاك القطار كتابها ” أنا الضمير” , كان ينظر لها و يفكر في مدى غرابة ما يحدث , فقد بدأ ذلك يرعبه فمن هذه الفتاة , تتنقل من مقطورة لأخرى , فهل تراها حدث معها مثل ما حدث معي ؟ ..

عجب كريم لأمرها كل العجب , ثم انتبه لنفسه فأدار وجهه عنها , استند على المقعد رابطاً بكلتا يديه على معدته , ينظر من النافذة و يفكر , بين حين و آخر كان يخطف نظرة سريعة للفتاة الجالسة هناك , بقي على ذلك مدة من الوقت إلى أن انتبه أن الفتاة لا تقلب الصفحة و لا ترمش و لا تتبع عيناها الكلمات على الورق , استدار لها : هل هي طبيعية ؟
أمعن النظر فيها حتى خيل إليه أنها صنم جامد .. أرعبه مظهرها , لم يجرؤ أن يخاطبها و حاول جاهداً الحفاظ على هدوئه متجهاً نحو الباب ليفتحه و يغادر المقطورة .

أدار مقبض الباب و استعد ليهرول خارجاً لكن الباب لم يفتح , حاول مرة أخرى و أخرى فلم يفتح , علم قبل أن يستدير ليرى الفتاة تلتفت له ببطء و قد استحال لون مقلتيها لأسود قاتم لا بياض فيها أنه قد وقع و احتجز داخل المقطورة “6” .
انطفأ النور و ساد الظلام إلا نوراً ضئيلاً بفعل القمر يخترق النافذة ليكسر السواد الحالك داخل المقطورة بذاك الليل الأعتم , كريم لم يعد يرى الفتاة إلا خيالاً يتحرك من هنا لهناك , احتبست أنفاسه و ضاق صدره , كاد أن يسقط إلى الأرض و هي تقترب منه بهدوء .. وقفت بجانبه .. أدار ببطء عينيه لها , في ذعر انتفض بقوة راكضاً نحو النافذة ليفتحها , قالت بصوت هادئ و مسموع : سوف يأتون قريباً ..
التفت كريم لها مرتعباً .. تقدمت نحوه بهدوء و هي تقول : أستقفز من النافذة أنت الآخر ؟ لماذا ؟
سكت و هو ينظر لها شاخص البصر ..
ـ هل تخافون مني ؟ لماذا ؟

بقيت تنظر له بصمت مثلما لو أنها تنتظر الإجابة ثم التفتت للنافذة دقيقة من الزمن , عادت و التفتت له قالت و هي تقترب منه : كريم .. لا تخف لن تموت قبل ساعتين ..
ـ كيف عرفت اسمي ؟؟ .. ” قالها متمتماً بها ” ثم استقام في قعدته و حاول بكل ما يقدر أن يهدئ من روعه.. من أنت ؟ قالها بأحرف متقطعة
ـ بنبرة مستبشر قالت : إنهم ينتظرونني الآن .. نعم أنا متأكدة ..
ـ من هم ؟ قالها متسائلاً
ـ أمي و أبي و كل عشيرتي .. كلهم ينتظرون عودتي
ـ سألها ثانية .. من أنت ؟
ـ “انتفضت بحماس” هيا خذني إليهم .. أمسكته من ملابسه و أعادت كلامها : هيا خذني إليهم ..
انتفض قائماً دافعاً إياها عنه : ابتعدي عني , و كيف لي أن أعرف أين هم ..

التصق كريم بباب المقطورة , التفتت له و وقفت , ابتسمت و قالت باستهزاء : ذلك إن أردت أن تحيى وقتاً أطول ..
كان يرى ابتسامتها المخيفة على ذلك النور الضئيل المتسلل من النافذة انتفض من كلامها انتفاضة لم تشعر بها ثم تمالك نفسه و تقدم نحوها : ماذا تقولين ؟؟ ..
ـ سوف يتوقف القطار بعد عشر دقائق من الآن .. و سننزل
ـ أظن أن المحطة القادمة على بعد يستغرق ساعة و نصف ..
التفتت له , نظرت له بصمت ثم التفتت ثانية للنافذة , مرة العشر دقائق و توقف القطار دون محطة .
ـ “نظر كريم في ساعة يده فإذا بها الرابعة و نصف تماماً ” ..
ـ اخلع ساعتك و اتركها هنا .. قالتها بهدوء .

خرجا من المقطورة ثم من القطار
ـ و قفت وراءه و قالت : سر في خط مستقيم و سأسير خلفك , لا تلتفت لي و إلا لن يحدث ما يرضيك ..
زم كريم شفتيه حائراً , ثم تكلم : في أي جهة سأسير ؟
ـ سر و حسب و سأسير خلفك .. إنهم ينتظرونني هناك
سار و سارت خلفه , سار إلى أن أثقلت قدماه من التعب , داخل ذلك السكون و من بين الحقول , هناك في البعيد , ظهر قطيع الكلاب .. تراجع كريم للخلف فاصطدمت به , لم يقدر على الاستمرار في المسير , أسر الخوف جسده فتوقف عن الحركة توقفت الكلاب في البعيد و توقف كريم من الخوف لم يستطع المتابعة , التفت لها و حاول أن يهرول عائداً للقطار فأمسكته بقوة فتحت فمها مثلما لو أنها تريد أن تصرخ , لكن لا صوت.. قالت لقد أزف الوقت .. تمزق جسدها و اختفت ..

صرخ و ركض عائدا على طريقه التي قدم منها , كان يسمع نباح الكلاب و عويلهم لكنه لم يلتفت .. بدأ القطار يظهر له في البعيد , زاد من سرعته إلى أن بلغه ..

**

بزغ الفجر واستفاق كريم .. لم يكن معه أحد في المقطورة و لم يكن فيها شيء غير حقيبته متوسطة الحجم , بجانبه كانت الرواية التي لم يكمل قراءتها .. كنت أحلم ؟ يا له من حلم سيئ حقاً .. فرك عينيه و استقام في قعدته , سينزل في المحطة القادمة .. توقف القطار , حمل كريم كتابه فتح حقيبته ليضعه بها , استعد للرحيل و حين رفع حقيبته وجد تحتها كتاباً مفتوحاً و بداخله ورقة , حمل الورقة ليقرأها و أغلق الكتاب فصعقه عنوانه ” أنا الضمير ”

شخص بصره و بدأ يفتح الورقة المطوية مثلما لو أنه ينوي تمزيقها , فتحها ليجد بداخلها هذه الجملة مكتوبة بخط اليد ..” أحياناً نسمع أصواتا تنادينا من بعيد , لا نعرف من أين تأتي , تنادي و تسكت , بعيدة لأننا بعيدون عن أنفسنا , فلننصت ؟ إنها من داخلنا , إنه صوتنا ينادينا , فلو جربت مرة رددت على الصوت لقال ما يريد قوله لقال ما يناديك من أجله , لعرفك نفسه , لقال لك أنا الضمير” .

**

تروي سكة “ورو” مأساة فتاة قتلت عليها , تناقل الناس أن روح الفتاة التي ماتت على السكة قبل 15 سنة تسكن ذلك الطريق و تركب أي قطار يمر بها الساعة الثالثة ليلاً , قال البعض أنها جنية و قال البعض ما ذكرت آنفاً , تحدث أشياء غريبة مع الركاب و تظهر الفتاة التي سميت المسعورة , ستطلب إعادتها لأهلها و إن رفضت سترميك من النافذة , ستظهر الحادثة مثلما لو أنه انتحار , قال البعض أن كلباً عضها فقفزت من القطار , ربما ذلك سبب تسميتها المسعورة , و ربما سكة “ورو” أصلاً مسكونة من قبل شبه كلاب مسعورة .

النهاية ..

أهدي هذه القصة القصيرة لأختي “شوشيتا ” و “بيلا” اللتان لطالما طلبتا مني أن أؤلف و أروي لهما قصص مرعبة ..

تاريخ النشر : 2018-08-20

سايكو

الجزائر
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى