أدب الرعب والعام

لمحة من عقد مظلم

بقلم : تقي الدين – الجزائر


للتواصل : [email protected]

القصة مقتبسة عن أحداث حقيقية 

الثاني من ماي 1999 ، كانت قد تبقت ثلاثة أسابيع على نهاية الموسم التكويني ، كنت مدرسا غير متعاقد في مؤسسة التكوين المهني بسكرة – وسط – ، وظيفة بسيطة تحصلت عليها بعد شد بضع خيوط مع أحد أقاربي في العاصمة ، كان يوم أحد عادي أغلقت فيه شقتي ، ركبت الحافلة رقم رقم ثلاثة ، توقفت عند المستشفى و قطعت الشارع لمركز التكوين الذي كان جديدا في ذلك الوقت حتى أن طلائه الأخضر الباهت اليوم كان لامعا كعشب ملعب في ذلك الوقت ، وقفت في زاوية الساحة إحتراما للنشيد و فور إنتهائه قدت طلبة دفعتي للقسم و قد لاحظت حال جلوسي خلف المكتب هدوءا غير معتاد بينهم و خوفا غريبا على وجوههم ، بسرعة فتحت الدفتر مستعدا للقيام بالمناداة و تسجيل الغياب فنطق طارق مهرج القسم بجدية لم أرها فيه قط قبل ذلك اليوم :

-هل سمعت بمسعود يا سيد رضوان ؟ .
مسعود كان الفتى الهادئ الذي يجلس دائما في الخلف ، كان منظبطا لحد كبير و حزرت من الوهلة الأولى حين رأيته أنه أكبر سنا من زملائه بحكم قصة شعره و أسلوب ملابسه ، لم أتواصل معه كثيرا فلم أجد حلا غير السؤال عنه :
-هل هو بخير ؟ .
-لقد إختفى في عطلة نهاية الأسبوع . قال طارق . الشرطة لم تصرح بشيئ لكن أظن أنه أختطف من قبل الإرهاب .
همهمة عشوائية إرتفع صداها بين أركان القسم بعد حديث طارق فضربت على المكتب بعنف مخرسا كل الأفواه و قلت :
-أنا أتفهم مخاوفكم لكن لا يمكننا أن نربط كل شيئ بالإرهاب ، الصحافة تفعل ذلك لأن لديها هدفا و نحن لا يجب أن نكون لقمة سائغة لذلك الهدف .
طارق نظر لزملائه الذين إلتزموا الصمت ثم عاد لسؤالي مجددا :
-و ما الذي تعتقد أنه حصل سيدي ؟ .
-لا أعرف . أجبته . و لا يجب عليكم أن تفكروا في ذلك أنتم أيضا ، الآن عليكم التركيز على مشاريع تخرجكم .
بعد تلك الجملة مباشرة قاطع المدير الحصة بدخوله مستأذنا :
-سيد رضوان ، هل يمكنني أن أراك للحظة .
المدير موسى كان رجلا أفنى حياته في مجال التعليم في مختلف الأطوار لدرجة أنه يمكنك أن ترى بين تجاعيده حكمة و خبرة ، بأدب إستأذنت من القسم الخروج و سارعت للإلتحاق بالمدير في الردهة ، بنوع من القلق صافح يدي و قال :
-هل سمعت ؟ .
-نعم ، لتوي سمعت .
أخذ بسرعة نظرة خاطفة على القسم و قال :
-مشاكلنا لم تتوقف هنا ، بعض الأولياء إقتحموا مكتبي حالما وصلت صباحا ، إنه يتهمونه بإنضمامه للجماعات الإرهابية و يريدون شطبه و طرد عائلته من المدينة .
-ماذا ؟ . سألت بإشمئزاز . لا يمكنهم القيام بأي عمل دون دليل .
-إنهم لا يفكرون بعقلانية ، هناك معضلة و يريدون رمي أي حل عليها في أسرع وقت لدفنها .
عكس المدير موسى إستجمعت أنا أفكاري بروية ثم قلت :
-إعقد إجتماعا لأولياء الطلبة غدا و سنوضح لهم الأمر .
-هل لديك أي فكرة في رأسك ؟ . سأل المدير .
-سنقطع ذلك الجسر حالما نصل له . أجبت بهدوء .


في اليوم الموالي وجدت نفسي محبوسا داخل غرفة الإجتماعات رفقة سبعة أولياء غاضبين و رئيس بلدية يستشيط غضبا ، بعدما إستقر أخيرا فوق كرسيه بعد محادثات سطحية تجنبت الخوض فيها مع بقية الأولياء وقفت مقدما نفسي و المدير موسى الذي كان جالسا جانبي ثم قلت :
-الآن هل لدينا مشكلة في كون الفتى إرهابيا أو كونه يشبه إرهابيا ؟ .
و كما إفترضت فقد قدم الأولياء مشعل الحديث لرئيس البلدية الذي قال بنبرة حادة :
-بالطبع ستدافع عن واحد من طلبتك لكن كلنا نعرف أن الأشخاص مثله سينضمون عاجلا أم آجلا لرفقائهم في الجبال .
-الأشخاص مثله ؟ ، سألت بفضول .
-نعم . أجاب . قصة شعر قصيرة ، سراويل قصيرة ، يرفض مصافحة النساء ، ماذا تسمي شخصا كهذا ؟ .
-أسميه متدّيناً . أجبته بسرعة .
من جيبه سحب علبة سجائر و ولاعة ثم قال :
-و من قادنا لهذا الوضع اليوم ، أليس هؤلاء !
تلثمت بالصمت برهة بينما راح يشعل سيجارته ثم قلت بعدما وضعها في فمه بفظاظة :
-الحلول ” الترقيعية ” كطرد عائلة كاملة بناءا على إفتراض لن تجعل الشعب يثق بك ، كرجل سياسي فإن دافعك للقيام بأي شيئ هو الحفاظ على منصبك … أنا أعرف هذا لكن هذا الحل لن ينفع .
بملامح غاضبة إنتفض الرجل من مكانه و قال بنرفزة :
-لدي مكتب لأديره و ليس لدي وقت لهذا الهراء ، لم آتي هنا لأناقشك بل لأقول لك أننا سنصوت مع بقية المجلس على قرار طردهم و إذا كانت الموافقة بالإجماع فسيغادرون المدينة .
دون أن يضيف كلمة أخرى غادر الغرفة و خلفه جمع الأولياء بينما نظر لي المدير بقلق متسائلا :
-و ماذا الآن ؟ .
-لن يتم طردهم ، لا تقلق . أجبت بسرعة و أنا أهم بالمغادرة ثم أدلفت :
-لدي قسم لألتحق به .
عبر الرواق هرولت محاولا الإبقاء على الهدوء حتى وصلت القسم فوجدت فيه شيئا من البلبلة التي أوقفتها قائلا :
-حسنا ليستمع لي الجميع .
توقفت الأفواه عن الكلام و حدقت الأعين صوبي بينما واصلت :
-عادة لم أكن لأستغل منصبي هذا للقيام بأي خطاب لكن نظرا لهذه الأحداث الأخيرة سأقول بضع كلمات .
أعينهم كانت تنتظر و عقولهم كانت مستعدة لإستقبال الكلام فإسترسلت :
-قبل أن أصبح أستاذكم كنت في أعينكم مجرد الشاب رضوان خريج الجامعة العاطل عن العمل و قد كان لكل منكم نظرة علي … .
وجهت نظري مباشرة صوب طارق و سألته :
-طارق ، ما كانت نظرتك لي ؟ قلها فأنا لن أنزعج .
طارق نظر بغرابة لي ثم لزملائه و قال :
-بصراحة ظننت أنك ثري متكبر .
ترددت في الأجواء ضحكات هنا و هناك بينما سألت ريما في الخلف :
-و أنت يا ريما ، ما كانت نظرتك لي ؟ .
-مختل وحيد . أجابت بإختصار .
للحظات قليلة نظرت لكل واحد منهم ثم واصلت حديثي :
-إنها طبيعة في الإنسان أن يفترض أن كل شخص حوله سيئ ، إنها وسيلة دفاعية في حال كان ذلك الإنسان سيئا حقا فإننا لن ننصدم لأننا إفترضنا مسبقا أنه شخص غير جيد لكن …
رفعت يدي عاليا لئلا يضيع إنتباههم ثم واصلت :
-لقد وكزت لتوي ثغرة في ذلك المنطق ، ما رآه طارق كتكبر و رأته ريما كجنون هو في الحقيقة مجرد إنطوائية ، أنا رجل أحب الرفقة مع نفسي و أرى أناسا يحبون رفقة أشخاص آخرين لكني لا أحكم عليهم .
تحركت بهدوء صوب المكتب ثم إعقبت :
-أنا أعرف أن هذا قد يكون مربكا لكم فأنتم لم تتهموا مسعود بانضمامه للجماعات الإرهابية لكن بعض الأشخاص الذين قد تكونون على صلة معهم فعلوا ذلك و قد يأثرون عليكم ، الآن لا يمكنكم أن تسيروا في الحياة مطلقين الأحكام على الناس فقط لأنهم مختلفون عنكم ، لديكم الحق في عيش حياتكم بالطريقة التي تريدونها تماما مثلهم هم .
بعد حديثي ذلك دعوت الله و مازلت أدعوه حتى اليوم أن تكون كلماتي قد أحدثت تغييرا فيهم لكن في تلك اللحظة كل ما أمكنني فعله هو النظر في عينيهم على أمل قراءة أي تغيير ، المدير موسى دخل مباشرة بعد إنتهائي فأذنت للتلاميذ بالخروج بينما همس في أذني :
-لقد وصلك إستدعاء من الشرطة ، يريدونك أن تحضر غدا للإستجواب .


بعد ساعة من الإنتظار القاتل داخل غرفة إستجواب بحجم حمام شقتي دخل أخيرا ضابط شرطة أقرع الرأس ، ضخم الجسم ، يحمل بين يديه بضع أوراق وضعها فوق الطاولة قبل أن يأخذ هو جلوسه على الكرسي ، للحظة قلب بين الصفحات ثم قال :

-حسنا سيد رضوان لنحاول أن نساعد بعضنا هنا و ننتهي من هذا الأمر سريعا ، حسنا ؟ .
أومأت برأسي موافقا بينما واصل :
-هل لاحظت أي سلوكات غريبة على السيد مسعود قبل إختفائه ؟ أحاديث عن وجهته ؟ .
-لا . أجبت بإختصار .
-هل أنت متأكد . أصر الضابط فأجبت مرة أخرى :
-متيقن .
عاد الأخير ليبعثر دكة أوراق أخرى من الكومة أمامه ثم قال :
-لقد أبقينا هذا سرا و أحبذ لو يبقى كذلك بعد خروجك من هنا … السيد مسعود قبل إختفائه كان قد إنطلق في رحلة لحضور إجتماع صغير في ولاية سطيف مع مجموعة من أصدقائه في الكشافة إضافة لبضع أساتذة تتطابق أوصافهم مع … الأشخاص السيئين إن صح التعبير ، فهل كانت لديك أي إتصالات مع الأساتذة ؟ .
كنت مركزا أكثر مع وصفه للأساتذة من سؤاله عن الأساتذة أنفسهم فأجبت :
-لا ، و ماذا تقصد بمواصفات تتطابق و الأشخاص السيئين ؟ .
بنوع من السخرية أجاب :
-أنت تعرف ، انت تفهمني جيداً حضرة الاستاذ . قال بتعجرف
-أنا أعرف . قلت . إذا أنت الآن تملك سببا مقنعا لإتهامهم بالإنضمام للإرهابيين ، مجموعة أشخاص متدينين أوقفوا سيارتهم في منتصف الطريق و صعدوا للجبل .
-لا داعي للقفز للإستنتاجات سيد … .
-لست أفعل ذلك . قاطعته . لكن هل إحتجت حقا لإخباري بكل تلك القصة عن زملائه في الكشافة و عقليتهم و طريقة لبسهم فقط لتسألني أخيرا عن معرفتي بالأساتذة ، هل تظن أنني أحمق ؟ .
إستند الضابط على الطاولة مقتربا مني ثم قال بنبرة خافتة :
-سيد رضوان إن تأثير هؤلاء الأرهابيين كبير و أناس مثل مسعود و زملاءه هم أهداف سهلة ، لدي العديد من القضايا لأتعامل معها و أنا أعرف يقينا أن مسعود و أصدقاءه هم الآن في أحد جبال ميلة أو سكيكدة يتدربون على القتال … .
بسرعة أشاح بنظره للمرآة العازلة على الحائط ثم إستطرد :
-أنا أريد أن أجعل الأمر سهلا لكلينا و لزملاءك في المعهد و لزملاء الفتى ، نحن نعرف النتيجة فلما لا نأخذ الطريق المختصر .
أتذكر أنني في تلك اللحظة لم أكن مصدوما بل خائب الظن ، من كل المفتشين الجيدين في الولاية تمت إحالة القضية لأسوءهم ، للحظة حدقت فيه جيدا حتى غصت داخل روحه ثم قلت بهدوء :
-هل إنتهينا ؟ .
بإمتعاض تراجع للخلف مبعدا جسده عن الطاولة ثم رد :
-للآن نعم ، سنتواصل معك إن إحتجنا ذلك .


يوم الخامس من ماي ذاك كان أول يوم يرن فيه هاتفي الأرضي على الإطلاق ، لاحظت ما إن فتحت عيني أن ضوء النهار قد بدأ لتوه يطغى على ظلام الليل فأجبت متوقعا أنه رقم خاطئ لكن صوت المدير موسى تحدث من الجانب الآخر :
-سيد رضوان ، آسف على إزعاجك في هذا الوقت لكن … طلبة قسمك ينظمون إحتجاجا و الأمور لا تبشر بخير .
-تبا ! همست بقليل من الغضب على غباء الشباب ثم قلت :
-سأكون هناك حالا .
بعد جولة سريعة في الشقة غادرت ملتحقا بالحافلة المبكرة و قبل أن أصل هناك ببضع مبان كان يمكنني أن أرى سيارات الشرطة تؤطر حركة المرور و السير ، أتذكر أن سائق الحافلة رفض الإقتراب من تجمعهم ظنا منه أن شخصا ما قد يفجر قنبلة بينهم فركن بمحاذاة أول نقطة دوران و التي كانت قريبة لدرجة أنه أمكنني رؤية إعتصامهم و سماع هتافاتهم ، هرولت على طول الرصيف حتى إصطدمت بالمدير موسى يقف وسط جمع من الغرباء فتداركت خطواتي صوبه قائلا بإرتباك :
-ما الذي تفعله هنا ؟ .
بنرفزة أجاب :
-أنا رجل تعليم ، لست شرطي مكافحة شغب .
-ليس هناك أي … . حاولت أن أشرح له أنه لا وجود لأي شغب لكنني توقفت و سألت :
-لماذا يفعلون هذا ؟ .
بريبة نظر يمينا و يسارا ثم إقترب مني و قال :

لقد وجدوا الحافلة التي كان فيها مسعود فوق ولاية باتنة بقليل ، أذيع الأمر في النشرة دون ذكر أي تفاصيل لكن كانت هناك بضع لقطات للحافلة و قد تعرف الشباب عليها ، أنا أعني أنه هناك حافلة تويوتا وحيدة في الولاية و إسم العم محمد كان مكتوبا على جانبها .

ماذا قالوا في التلفاز ؟ . سألت بفضول .

إعتداء نجى منه شخص واحد و لا خبر عن مسعود لحد الآن ، قوات الدرك و الحرس البلدي يمشطون المنطقة ، هذا كل شيئ .

-حسنا . همست . و ماذا يريدون الآن ؟ .

-إعتذارا . رد المدير . الأمر واضح الآن أن مسعود قد أختطف على الأرجح .
لبضع دقائق وقفت قرب المدير موسى أتأمل إحتجاج الطلبة ، كان جليا أنهم كانوا يشعرون بالحزن لكنهم لم يعرفوا كيف يتعاملون معه ، بشيئ من العفوية عدلت بدلتي و ربطة عنقي ثم قلت لموسى :
-سأتحدث معهم .
سرت صوبهم حتى وصلت الحاجز الحديدي الذي نصبه رجال الشرطة و للحظة بحثت عن طارق حتى لمحته يصرخ في الزاوية فناديت عليه ليأتي صوبي مهرولا و يسأل :

-هل تريد أن تنضم للإعتصام سيد رضوان ؟ .

-أريدك أن تخرسهم و تجعلهم ينتبهون لي . قلت بحدة .
موافقا أومأ لي برأسه ثم إستدار تجاه زملائه و صاح :

-إسمعوا … إسمعوا ، السيد رضوان يريد أن يقول بضع كلمات .
تحولت الصرخات إلى همهمات و تحولت الهمهمات بعد ذلك لصمت تام ، نظرت لوجوههم فرأيت الخوف ، الغضب ، الحزن ، مشاعر لا يجدر بشباب في ذلك العمر أن يختبروها ، أسندت يدي على الحاجز لأجعل نفسي مرئيا ثم قلت :
-مثلكم تماما أنا مصدوم من سماع الخبر ، الأسبوع الماضي مسعود كان معنا و الآن هو ضحية من ضحايا الإرهاب ، الأحوال قد تنقلب بسرعة و هذا مخيف ، أنا أفهم ذلك لكن مواجهة عنفهم بالمزيد من العنف لن تجعلنا مختلفين عنهم ، أنا أرى بعضا منكم يحملون الصخور ظنا منهم أنهم يتخذون موقفا لكن في الحقيقة أنتم تجعلون من أنفسكم أهدافا و الناس سيخافونكم .
توقفت عن الحديث برهة و نظرت للجمع الواقف خلفي ثم أعقبت :
-هؤلاء الناس خلفي ينظرون لكم … أنتم كطلبة ، أطفال صغار و حتى رجال بالغون ينظرون لكم أنتم النخبة و يرون ماذا ستفعلون ليحذو حذوكم و هذه ليست الصورة التي تريدون أن توصلوها لهم ، مجتمعون هكذا و الصخور بين أيديكم ، تعطلون الشرطة عن عملهم و تجعلون من أنفسكم هدفا ضخما .
بضع أفواه خلفي وافقت على كلامي بصيحات خافتة بينما واصلت :
-سائق الحافلة الذي عادة ما يضعني هنا رفض ذلك اليوم ظنا منه أن الأمور قد تسوء و ها قد ذهبت ثقة رجل صالح فيكم و لن تستعيدوها مجددا ، في وقت مظلم كهذا لا نريد مظاهرات تذكر الناس بأن شبابنا يتم إختطافه من قبل الإرهاب ليعتقدوا أن هذا الوضع سيدوم للأبد بل نريد أن نذكرهم أننا نحن كشباب هم المستقبل المشرق الذي يتطلعون له ، نحن من سينهي هذه المأساة .
أحكمت قبضة يدي اليسرى ثم رفعتها عاليا و واصلت بصوت عال :
-تريدون إعتذارا ؟ تصرفوا كنخبة ، إذهبوا لمكتب رئيس البلدية أو الوالي و أطلبوا منه إعتذارا فهو لن يسمعكم هنا ، تريدون عائلة مسعود أن تبقى إذهبوا لمنزله و قفوا عنده لتثبتوا أننا كلنا عائلة واحدة .
إنقطعت أنفاسي بعد آخر كلمة و حرق إنتظاري لرد منهم أعصابي ، أردت أن أرى حركة ، همسة ، كلمة و في الأخير حصلت على صرخة ، صرخة مدوية جائت من طارق الذي قال :
-إرموا الصخور و لنسر مسيرة رجل واحد نحو مكتب رئيس البلدية .
و إرتفعت الصرخات في الهواء و أزاحت الشرطة الحاجز ، لم أعرف هل أكون فخورا بنفسي أم أكون فخورا بهم و أنا أنظر لهم يسيرون بسلمية في الأفق ، المدير موسى تقدم صوبي و علامات الإعجاب على وجهه .
-أنت تجعل الأمر يبدو سهلا . قال بتهكم .
أومأت برأسي موافقا بينما هممنا نحن رفقة كل الأساتذة بالدخول لكن شرطيا بزي مدني برز من بين الحشود و أوقفنا قائلا :
-أيها السادة ، من فضلكم إركبوا معنا في السيارة ، نحتاجكم في أمر مستعجل .


في الطريق أخطرنا الضابط أنه يحتاج مساعدتنا لتأكيد هوية أحد الجثث دون أن يضيف أي تفاصيل أخرى لكنني عرفت في تلك اللحظة أن مسعود لم ينجو ، توقفنا بعد قيادة قصيرة قرب المشفى و قادنا الشرطي للمشرحة ، المدير موسى تم أخذه لغرفة أخرى رفقة شرطي آخر بينما دخلت أنا مع الضابط بالزي المدني لمصلحة حفظ الجثث ، على طاولات حديدية إستلقت أربع جثث سار الشرطي نحوها و سحب الغطاء عن أحدها كاشفا عن وجه مسعود ، كان شاحبا شحوب ورقة بيضاء و للوهلة الأولى أحسست أنه نائم نوما عميقا فقط ، بخطوات ثقيلة إقتربت منه فقال الشرطي :
-هل هذا هو الطالب الذي كان يدرس عندك ؟ .
-نعم . أجبت بإقتضاب .
أعاد الشرطي بسرعة الغطاء فوق رأسه ثم قال :
-الشاب الذي نجى قال أنهم أطلقوا النار على مؤخرته ثم تركوه يركض عدة أمتار ليبدؤو بعد ذلك بالتدريب على دقة تصويبهم عليه ، مات بعدما إخترقت ثلاث رصاصات قلبه .
شعرت بالدمعة تسقط لا إراديا من عيني فمسحتها قائلا :
-هل أخبرتهم عائلته ؟ .
-نعم . أجاب . نريد أن نبقي الأمر محصورا في دائرة صغيرة للآن حتى تهدأ الأمور قليلا .
-أنا أتفهم . قلت بنبرة هادئة بينما سحب من علاقة مثبتة على الطاولة صورة لمسعود قدمها لي قائلا :
-هل يمكنك أن تسدي لي خدمة و تعلق صورته في حائط فرقة الدرك ، إنها على بعد شارع فقط .
-طبعا . أجبت و أنا آخذ الصورة من يده ثم غادرت مسرعا لأجد المدير ينتظرني قرب الباب ، بهدوء أشهرت الصورة في وجهه و قلت :
-أتريد أن تذهب معي لنعلقها عند الدرك ؟ .
أومأ برأسه موافقا دون أن يقول كلمة و إستمر الوضع على ذلك الحال طيلة مسيرتنا لمقر الفرقة ، عند دخولنا إستقبلنا أحد الأعوان فأريته الصورة ليشير لنا بالمرور ، حائط الأشخاص المفقودين كان قرب كراسي الإنتظار و بجانبه مباشرة حائط المتوفين ، عددت في وقفتي تلك حوالي خمسين شابا علقت صورهم بعشوائية قرب بعضها ، بعضهم عرفته و بعضهم لم أره قط ، وجدت بقعة فارغة في الجزء الأدنى من اللوح فحملت أحد المسامير الصغيرة الموضوعة خصيصا للصور ثم ثبتها بإحكام ، المدير أخذ نظرة يائسة على الحائط و قال :
-متى سيتوقف هذا ؟ .
-لا أعرف . أجبت بأسى . طلبة قسمي مصدومون لأنهم يختبرون هذا الأمر لأول مرة لكن أنا و أنت ، لقد قمنا بهذا قبل أسبوعين أو ثلاث و سنقوم به مجددا بعد أسبوعين أو ثلاث .
مواسيا لي ربت على كتفي و قال :
-دي بعض الإيمان في الرئيس القادم ، لعله يحدث تغييرا .
كانت لديهم أحلام و آمال يوما و الآن هم مجرد صور معلقة على حائط ، إحصائيات فوق ورقة ، ربتت بدوري على كتف المدير و أجبته :
-لدي إيمان في الله ، لدي أمل بأن الأمور ستتحسن قريبا .

النهاية .

في السادس عشر من سبتمبر عام 1999 أصدر الرئيس الجزائري ميثاق السلم و المصالحة و الوطنية و كانت تلك الخطوة بداية لنهاية الصراع ، بعد إنتهاء الحرب الأهلية الجزائرية ( 2002-1991 ) أحصت الحكومة ما يقارب 150,000 ضحية من ضحايا الإرهاب و ما يفوق 15 مجزرة ، هذه الأحداث ستعرف لاحقا بإسم العشرية السوداء .

إقرأ أيضاً : هروب ..

تقي الدين

الجزائر
guest
11 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى