منوعات

هانز شارف : المحقق الذي غير قواعد اللعبة

هانز شارف جعل سجناؤه يعترفون برحابة صدر ومن دون أي عنف أو ضغوط!

دعونا نبدأ قصتنا دون مقدمات ، نحن الآن مع أسير من طياري الحلفاء ، أسقطت طائرته فوق المانيا ، وها هو يقبع في أحد سجون النازيين سيئة الصيت وقد بانت على محياه ملامح الارتباك والقلق ، كيف لا وقد سمع عشرات القصص عن التعذيب الوحشي الذي يغدقه محققو الرايخ الثالث بسخاء على أسراهم.

وها هو باب الزنزانة يفتح ليدخل منه محقق طويل القامة .. ستبدأ الحفلة الآن إذن .. هكذا قال الطيار الأسير لنفسه وقد أخذ على نفسه عهدا بالصمود مهما كان التعذيب الذي سيلقاه ، فصرخ في وجه المحقق بصلابة : اسمعوا ايها النازيين الملاعين مهما فعلتم بي لن اخبركم بشيء من أسرار جيشنا وخططنا العسكرية حتى لو قطعتموني إربا.

فيبتسم المحقق ويرد بالإنجليزية وبطلاقة : اسمع يا سيد (ويناديه باسمه) انا لم اتي لكي احقق معك أو أعذبك ، انا فقط جئت لأتفقد أحوالك واطمئن على أنك تتلقى أحسن معاملة وبعد قليل سيأتيك طعامك ساخنا مع بعض النبيذ ، أتمنى ان تستمع بوقتك معنا!.

blank
اشتهر الالمان النازيون بالقسوة وسوء معاملتهم لسجنائهم من الاسرى

أصيب الطيار الأسير بالدهشة مما سمعه ، وأظن أنكم أنتم أيضا ستندهشون مما قاله هذا المحقق ، خاصة مع ما سمعناه عن قسوة النازيين ووحشية تعاملهم من الاسرى والسجناء ..

لكن هذا المحقق كان نوعا آخر من المحققين ، ليس في الجيش الألماني النازي فحسب ، بل في العالم بأسره ، وقد ترك بصمته الخاصة على طرق التحقيق والاستجواب في معظم الجيوش وأجهزة الشرطة والمخابرات حول العالم وصارت طرقه مرجعا لجميع المحققين المبتدأين.

فمن يكون هذا المحقق يا ترى؟ ..

أنه هانز شارف ، ولد في  16 كانون الأول / ديسمبر عام 1907 في راستينبورغ  – بروسيا الشرقية*. كان ترتيبه الثاني بين اخوته ، وقد توفي أخوه الاصغر في سن المراهقة فترك ذلك اثرا كبيرا في نفسه وسلوكه.

كان والده ضابطاً في الجيش البروسي وخاض حروب عديدة حتى مقتله عام 1917 في الحرب العالمية الأولى متأثرا بجراحه في احدى المعارك على الجبهة الغربية في فرنسا ، وكان معروفا بشجاعته حتى أنه نال أعلى أوسمة الشجاعة ، وكان هانز طيلة حياته شديد الفخر بوالده.

اما والدته أليس كريستيان جان فهي ابنة مؤسس أحد اكبر مصانع النسيج في المانيا ، وقد عاش والدها في فيلا واسعة مجاورة لمصنعه.

هانز الأب أصبح شريكا لوالد زوجته ، وعاشت العائلة بأكملها في فيلا الجد جان ، هناك نشأ هانز الصغير وترعرع ودرس ، وبالطبع تأثر بمهنة عائلته وسرعان ما بدأ في صنع اشكال فنية مختلفة تدخل ضمن صناعة المنسوجات والفسيفساء ، وهي المهنة التي استمر بمزاولتها بعد الحرب وحتى نهاية حياته.

blank
هانز شارف في شبابه

كان هانز مهتما بالتجارة والتسويق ، وقد عرف بأسلوبه الجذاب في الترويج للمنتجات ، لم يكن مجرد بائع ذو كلام معسول ، بل كان لطيفا وأمينا في نفس الوقت ، لا يغش زبائنه ، لذلك حظي باحترام زبائنه ومرؤوسيه ، لكن مع كساد الأوضاع الاقتصادية في المانيا نهاية العشرينات سافر هانز للبحث عن فرص أفضل ووجد عملا لدى إحدى الشركات في جوهانسبرغ بجنوب افريقيا ، وقد كان ناجحا في عمله بالمبيعات لدرجة ان الشركة تمسكت به وأمضى عشرة أعوام في جنوب افريقيا ، واثناء تواجده هناك التقى شريكة حياته مارغريت ستوكس وهي من اصول بريطانية.

صيف عام 1939 ، سافر شارف برفقة زوجته وأطفاله إلى ألمانيا لقضاء عطلة قصيرة ، لكن هذه العطلة المشئومة تصادفت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وبالنتيجة تقطعت به سبل السفر الى خارج المانيا، وتم استدعاؤه مثل معظم الذكور الألمان البالغين للانضمام للجيش ، وبعد ان تدرب مدة شهرين في بوتسدام تم اعلامه بانه سيرسل الى الجبهة الشرقية الروسية.

عندما علمت زوجة شارف بذلك غضبت كثيرا وذهبت إلى مبنى وزارة الدفاع وقابلت جنرالا كبيرا ، اخبرته ان زوجها يتحدث الانجليزية بطلاقة وأنه من المؤسف اهدار طاقته وموهبته في الجبهة بدلا من الاستفادة منها في أقسام بالجيش تحتاج إلى أمثاله ، وعلى الفور قام الجنرال بإرسال برقية بنقل هانز إلى معسكر في شمال فرانكفورت وترقيته ليعمل كمحقق في سلاح الجو النازي (اللوفتفافه).

كان عمل شارف يتمحور حول استجواب طياري الحلفاء ، فيما عدا الطيارين السوفييت لأنه كان يتم استجوابهم في مركز اخر. وكان الهدف من التحقيق الحصول على معلومات استخبارية مهمة عن طيران العدو.

blank
صورة لاحد طياري الحلفاء وقد وقع في اسر الالمان .. طرق استجواب الاسرى لم ترق لشارف

طرق الاستجواب المستخدمة في المعسكر لم ترق لشارف أبدا ولم تنسجم مع طبيعته اللطيفة والدمثة ، لم يكن راضيا بأساليب الاستجواب التقليدية القائمة على التعذيب الجسدي والنفسي. وقرر أن يبتكر طريقة جديدة للاستجواب لا تتضمن الضرب والعنف .. بل اللطف والمحبة والصداقة! .. الأمر الذي أدهش المحققين الآخرين واثار سخريتهم ، لكن تلك السخرية سرعان ما تبدلت إلى علامات تعجب عندما بدأت أساليب شارف الجديدة تثمر وتنتج معلومات لم يكن من الممكن الحصول عليها حتى مع التعذيب الشديد.

كان شارف لطيفا مع الأسرى لدرجة أنه كان يبدو بالنسبة إليهم كمحام يذود عنهم ويحميهم ، لم يعنف أحد قط ، ولم يشتم أحدا. لقد صور نفسه على أنه أقرب حليف للأسير في مأزقه، وأخبره أنه لا يرغب في شيء أكثر من رؤيته مودع بأمان في معسكر أسرى الحرب، لكن يديه مقيدتين ما لم يقدم له السجين بعض التفاصيل والمعلومات التي يطلبها منه.

كان شارف يعامل الاسير وكأنه احد اصدقائه ، يتبادل النكات معه ، ويجلب له الطعام من المنزل ، والنبيذ الفاخر في بعض الأحيان. وكان يجيد اللغة الإنجليزية، وذو معرفة بالعادات البريطانية وبعض العادات الأمريكية، وكان يتفاخر بأن زوجته انجليزية ووالدها ضابط سابق في الجيش البريطاني ، مما ساعده على كسب ثقة وصداقة العديد من سجنائه. لا بل قام مرة بأخذ احد الطيارين الاسرى الى مطار عسكري وسمح له بالتحليق بطائرة مقاتلة الالمانية لتجربتها!.

وبسبب شارف بدأ الأسرى يحصلون على علاجات طبية مناسبة في مستشفى قريب، وسُمح لبعضهم بزيارة رفاقهم في المستشفى ، بالإضافة إلى تحسين نوعية الوجبات المقدمة لهم. ولعل أكثر وأغرب ما أشتهر به شارف هو أخذ سجنائه في نزهات عبر الغابة القريبة، كان يجعل أسراه يقسمون أولا يمين الشرف بأنهم لن يحاولوا الهروب ، وبالفعل لم يحاول أحدهم الهرب قط .. وذلك لأنهم شعروا بالراحة مع شارف واعتبروه صديقهم فعلا.. وهو بدوره لم يحاول استغلال هذه النزهات لطرح أسئلة على سجنائه مباشرةً، لكنه اعتمد بدلاً من ذلك على رغبة الأسير في التحدث من تلقاء نفسه ، وبالفعل كان العديد من هؤلاء الاسرى تنفتح اساريره فينسى نفسه ويبدأ في التحدث عن حياته الخاصة والعسكرية وأمور أخرى في غاية الأهمية بالنسبة للاستخبارات الألمانية.

blank
على عكس الصورة النمطية الشريرة التي نراها في السينما للضباط والمحققين الالمان .. كان شارف محققا طيبا

لكن طبعا ليس كل الرجال سواء ، أحيانا يصادف شارف سجينًا متحفظًا، فكان يستعمل أسلوبا آخر ، كأن يطرح سؤالا على الأسير هو نفسه ، أي شارف ، يعرف إجابته مسبقا نتيجة اعترافات الأسرى الاخرين أو المعلومات الموجودة في الأرشيف الضخم الذي جمعته الاستخبارات الألمانية عن طياري الأعداء بواسطة جواسيسها ، وحين يرفض السجين الإجابة يصدمه شارف بالجواب الصحيح ويخبره أن يعرف مسبقا جميع المعلومات عنه وبأنه لا يوجد شيء لا يعرفه بالفعل ، وأنه ما كان ليسأله لولا أن رؤسائه أرادوا سماع الأجوبة من السجين نفسه ، ويواصل شارف طرح الأسئلة ويقدم الإجابات الصحيحة لها حتى يجعل السجين يتجاوب معه ويبدأ في الكلام ليوصله بالنهاية إلى المعلومة التي يبحث عنها وليست بحوزته. كان السجناء يقدمون المعلومة المطلوبة على افتراض أن شارف كان لديه بالفعل تلك المعلومات في ملفاته على أي حال.

أما مع الاسرى الأشد صلابة ، فأحيانا يستخدم شارف أسلوب الملاك والشيطان .. حيث يتعرض الأسير في البداية للتهديد والتخويف من المحققين العنيفين (الشيطان) ليدخل عليه شارف بعدها (الملاك) ليدخل في روعه بأنه سيدافع عنه ويحميه من وسائل الاستجواب العنيفة ، وسيمنع نقله إلى معسكرات الجستابو سيئة الصيت ، لكن مقابل الحصول على بعض المعلومات المفيدة. وكانت هذه الطريقة تنجح أحيانا.

طبعا شارف لم يكن يستخدم هذه الأساليب لأنه خبيث الطوية .. لقد كان فعلا رجل يتسم باللطف والطيبة ، هو لم يكن يريد أصلا أن يخدم في الجيش الألماني ولا أراد يوما أن يصبح محققا ، أما وقد حصل ، ولأنه رجل يأخذ عمله دوما على محمل الجد ، فقد عمل على أداء وظيفته على أحسن وجه وعلى الارتقاء بها بما يخدم اغراضه الوظيفية من جهة ويخدم أيضا الأسرى الذين ما كان الكثير منهم لينجو ويبقى على قيد الحياة لولا أنه وقع في يد المحقق شارف.

لقد ساهم هانز شارف في تغيير أساليب التحقيق في انحاء عديدة من العالم ، خصوصا في الدول المتطورة ، وتم تبني هذه الأساليب في مؤسسات أمنية رصينة ، بما فيها أجهزة الاستخبارات العسكرية والمخابرات ، ذلك أن هذه الاساليب كانت تؤتي نتائج جيدة على بساطتها والتي يمكن تلخيصها بما يلي :

  • معاملة الأسير أو السجين بلطف والتحدث معه بأسلوب ودي.
  • عدم الضغط للحصول على المعلومات.
  • الايهام بمعرفة كل شيء مسبقا.
  • أسلوب إعطاء ملاحظة خاطئة وترك السجين يصححها ، مثلا القول بشكل عرضي بأن الطائرات الأمريكية تستخدم الدخان الأبيض للتمويه فيسارع السجين للتصحيح قائلا بأنها إشارة لمغادرة ساحة المعركة وليس للتمويه.
  • أسلوب الشيطان والملاك ، أو المحقق السيء والمحقق الطيب.

بالتأكيد أساليب شارف لم تكن ناجحة مائة بالمائة ، بحسب شارف فقد قام خلال الحرب بالتحقيق مع 500 طيار أسير ، ولم يفشل سوى مع 20 منهم ، لكن حتى هؤلاء الذين لم يحصل شارف على أي شيء منهم لم يقم بإيذائهم أو تعذيبهم .. والغريب أن الكثير من السجناء الأسرى الذين حقق معهم شارف ظلوا على تواصل وصداقة معه حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها بهزيمة المانيا.

الهجرة إلى أمريكا

blank
احدى الجداريات التي صممها شارف .. وقد اشتهر لاحقا في حياته بفن الفسيفساء

عام 1948 تم استدعاء شارف إلى أمريكا للشهادة في قضية الطيار الأمريكي مارتن مونتي المتهم بالخيانة العظمى (بعد أسره عام 1944 انضم للرايخ الثالث وساهم في الدعاية النازية). وأثناء وجود شارف في أمريكا، التقى ببعض سجناءه السابقين ، وكذلك بالعديد من مسؤولي القوات الجوية الأمريكية وألقى محاضرات حول تقنيات استجواب السجناء في البنتاغون وأماكن أخرى. ثم أستقر في الولايات المتحدة وبدأ في كتابة مذكراته عن الفترة التي قضاها كمحقق في سلاح الجو الألماني.

في السبعينيات، اتصل المؤلف العسكري ريموند توليفر وسأل شارف عما إذا كان بإمكانه التعاون معه لنشر ما كتبه عن تجاربه في زمن الحرب. وصدر الكتاب عام 1978 تحت عنوان (المحقق).

في الولايات المتحدة عاد شارف إلى هواياته الفنية المستلهمة من التدريب الذي اكتسبه خلال شبابه في ألمانيا في مصنع جده ، وبدأ في العمل بفن الفسيفساء ، وقد حقق نجاحًا فوريًا وأصبح ناجح ماليًا. وقد زينت أعماله بعض أهم المباني والمؤسسات والمنتزهات في أمريكا.

مات هانز شارف في 10 كانون الأول / ديسمبر 1992.

ختاما ..

قبل أن أختم المقال دعوني أذكر لكم قصة من نوع الكوميديا السوداء أو المضحك المبكي ، فقبل فترة في أحد البلدان العربية تم القبض على رجل بتهمة قتل زوجته واحراق جثتها ، وظهر المتهم على شاشة إحدى الفضائيات وهو يسرد تفاصيل الجريمة ، وتم اصطحابه إلى مسرح الجريمة ليعيد تمثيل جريمته ، وقد نال حكما بالإعدام .. لكن قبل أن ينفذ به الحكم بفترة وجيزة حدثت مفاجأة غير متوقعة .. ظهرت الزوجة المقتولة على الملأ لتعلن بأنهما ماتزال حية ترزق! .. قالت بأنها وبسبب خلافات مع الزوج كانت مختفية عند أهلها .. طيب ماذا عن الاعتراف؟ .. تساءل القاضي غاضبا وأمر بجلب المتهم مرة أخرى ليمثل أمامه ، وبسؤاله مجددا قال المتهم أنه أعترف تحت وطأة التعذيب الوحشي الذي تعرض له ، وأنه من شدة التعذيب الذي صبوه عليه لو طلبوا منه الاعتراف بقتل امه وأبيه لفعل!.

هذه القصة عزيزي القارئ ليست بمعزل عما يدور في مراكز الشرطة والأمن والمخابرات في العديد من البلدان (بعيدا عن التعميم وبدون ذكر أسماء) ، حيث أن أسلوب التحقيق الوحيد الساري هو الضرب والتعذيب والتنكيل والإذلال .. وحتى الابتزاز والتهديد الجنسي والاغتصاب .. بعيدا عن كل مبادئ الإنسانية.

أقول ليت هؤلاء المحققين الفاشلين والساديين يقرأون مقالي المتواضع هذا عن هانز شارف .. لربما تعلموا منه أن الكلمة الطيبة والاحترام والتحقيق القائم على الأدلة والإثبات والعلم يمكن أن تؤتي ثمارا طيبة أفضل بكثير من أساليب العصور الوسطى التي يستخدمونها لإرضاء رؤسائهم والحصول على ترقيات ومكاسب على حساب دماء ومصائر الأبرياء.

هامش :

* بروسيا هي نفسها ألمانيا ، أو بالأحرى مملكة كانت تشكل جزءا كبيرا من ألمانيا وساهمت بشكل رئيس في توحيد الممالك الألمانية وظهور الإمبراطورية الألمانية التي أستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وبما أن المانيا قد تبدلت حدودها كثيرا بسبب خسارتها للحروب فقد تم اقتطاع بروسيا الشرقية وتهجير سكانها الألمان ، وهي اليوم جزءا من بولندا.

قصص ذات صلة :

guest
42 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى