عندما بلغت سن الثالثة عشر أُقيم لي حفل صاخب بدوت فيه كأميرات ديزني بعد أن ألبسوني ثوب أبيض رائع ، أتظنون أنه عيد مولدي ؟ لا ، أنه حفل زفافي !.
الجميع يرقصون فرحاً و يضحكون بمرح ، يرشقوني بالمزيد من التهاني والمباركات والدعوات الشتى بالسعادة ، جلست أراقبهم بينما شفتي تبتسم ببلاهة ، زغردت النسوة لوصول العريس الذي يكبرني بعشرين عاماً ، ذاك الذي اجتثني من بين كتبي وأصدقائي وألعابي و دميتي التي كنت أروي لها قصة ما قبل النوم ، ارتعدت فرائصي و أوقد مزيج من الخجل والخوف على وجنتي جمرتين من الجحيم ، دخل صالة الزفاف متوجهاً نحوي بينما عيناه تلتهمني بنهم ، أطرقت رأسي خوفاً أن تلتقي عيناي بعينيه المفترسة فينهشهما ، أكملوا حفلهم الصاخب بمرح بينما غرقت في أعماق المشاعر المتناقضة.
خرس فرحهم فجأة ، زغردت النسوة لنقلي لمأتمي و كأنهم ينقلون جثة ، ساقتني أمي بصحبة الذي يُدعى زوجي إلى الحجرة التي خُصصت ليكون هنا مثواي الأخير ، ثم تركنا بمفردنا لتنقل لي وصايا قد سمعتها من أمها كما سمعتها أمها من جدتها :
– فلتنصتي لي جيداً يا ابنتي ، لا مفر لكِ من هذا المنزل بعد الآن ، ستغدو حياتك بين قوسين ، من دار زوجك إلى ديار الآخرة ، كوني مطيعة له يا ابنتي لتنعمي بالسعادة ، غرقت بنوبة بكاء حارة أرجوها بها ألا تتركني وحدي ، لكنها غادرت ضاحكةً ! و تركتني خلفها أقاسي مرارة قدري ، كان وحشاً كاسراً لم يأبه لبراءتي ،
بعد شهر من عقد قراني غدى في أحشائي روح تنبض ، زغردت النسوة فرحاً بينما جلست جانباً أراقبهم ببلاهة بصحبة دميتي التي أبيت التخلي عنها ، أغضب الخبر زوجي بل جعل له أنياباً نهشت ما تبقى من إشراق طفولتي ، لم يعد يتحمل فكرة وجودي ، جلدني بسياط الهجران دون رحمة ، و بدأ يبحث عن البديل ، تلك التي ستربي طفله الذي التهم به ما تبقى من طفولتي ليحولني إلى أم !.
سمعته ذات مرة يدافع عن نفسه أمام أمه قائلاً:
– أنها طفلة ، كيف ستنجب طفلاً ؟ سيصبح لدي طفلان حينها ، لم يعد بوسعي أن أتحمل أكثر من ذلك يا أمي ، لم و لن أحبها يوماً ، أنها مجرد طفلة بلهاء ، لن تصلح يوماً أن تكون زوجة ، سأطلقها ما أن تلد ، عبث و بطش بكرامتي ، لم تنصفني عائلتي بعد أن شكوت لهم أمري عدة مرات ، بل ما كان منهم سوى المزيد من الشتائم والإهانات ، ثم يحزمون أغراضي من جديد ليُعيدوني إليه منكسرةً ذليلةً ، إلى أن تملكني اليأس ! عاهدت نفسي على الخضوع أكثر لأسلم ، أذعنت لأوامره دون نقاش ، لكن ما كان منه إلا أن تمرد و زاد من حدة جبروته و سطوته ، غدى يمطرني بضرب مبرح دون سبب ،
عشق الواحدة تلو الأخرى ، إلى أن قرر الزواج أخيراً وأنا في شهري السادس من الحمل ، غزتني أشباح الغيّرة إلى أن طرحتني ولوداً في شهري السابع ، جاء بصحبة زوجته الجديدة ليرى طفله الأول ، تبسم لمرآه ثم نظر إلي ، رفرف قلبي فرحاً لنظرته ، ظننته سيعدل عن قراره الأخير، ظننته سيتفوه بكلمات الندم و يطلب مني السماح ، لكنه سرعان ما أشاح بنظره عني ، ثم همس لزوجته الجديدة بعد أن عانق كفه بكفها تلك الكلمات التي تلقفتهم أذناي ليقعوا في قلبي وقوع الجمر في الجليد.
– أنه جميل أليس كذلك ؟ غداً ستغدين أمه !.
أطلقت ضحكاتها المسمومة ، أغلقت أذناي بكفيّ الصغيرين أمنعهم من التقاط سمهم ، لكن كفيّ لم يفلحا بفعلها ، سرى السم من أذناي وصولاً لعقلي ليعلن انهياري الأخير بدموع حارة انبجست لتغرق وجنتي ، نظرت لي زوجته الجديدة بعينين انزوى بهما الحقد والغل ، رشقتني بضحكة شماتة ، ثم تفوهت تلفظ سمها لتقضي علي هذه المرة بعد أن وجهت نظرها نحو طفلي :
– سأسميه جود !.
أجبتها باستنكار:
– بل تيم ، نظرت إلى زوجي ثم أردفت برجاء عله ينصفني : أليس كذلك يا نبيل ؟.
أشاح بوجهه عني ، ثم نظر إليها بشغف أفصحت عنه عيناه قائلاً :
– لا ، بل جود.
غرقت بنوبة بكاء مزقت نياط قلبي ، لم يأبه لأمري ، قال لزوجته :
– لنذهب لا مزاج لدي لسماع بكائها الطفولي المزعج ، رماني بنظرة خاطفة ثم أشاح بنظره عني مردداً بينما يعطيني ظهره هاماً بالرحيل : ستأتي والدتي إليكِ بعد قليل ، فلتهتمي حتى حينها بشؤون الطفل ، لدي و زوجتي ليلى المزيد من العمل الذي لا يمكن تأجيله ، و رحل!.
عزمت على الرحيل بعد تفكير دام لدقائق معدودة ، لن أسمح له أن يسلبني طفلي بعد أن جردني من طفولتي و براءتي ومستقبلي و مشاعري و كل شيء ، وقفت على قدمي بجهد بالغ ، بدلت ملابس الولادة بملابسي ، حملت طفلي و خرجت مسرعة بحذر من أن يكشف أمري.
أصبحت خارج المستشفى ، ركبت في أول سيارة أجرة وجدتها ، رحلت إلى بلدة لا يعرفني فيها أحد ، وعندما وصلت وجهتي تذكرت أنني لا أملك النقود ! ، تحايلت على سائق الأجرة و هرولت هرباً منه بصحبة طفلي ، لكنه بلا ريب قد أمسك بي ، بعد تحقيق طويل رويت له تفاصيل قصتي ، وعدني أن ينصفني ، وثقت به متعلقةً بحبال أمل هشة ، برزت له فجأة أنياب حادة ، و ما كان منه إلا أن أغرقني في وحل الخطيئة والألم ، لم يكفه ذلك بل سلبني طفلي ليرميه أمام ملجئ للأيتام ، وقف بعنفوان أمام توسلاتي ضاحكاً ،
زدت من حدة نحيبي و صراخي أردد : سيظنون أنه أبن الخطيئة ، سيعيش ولدي وحيداً مهزوماً منكسراً ، فلتعده لوالده على الأقل ، فلتربيه تلك الغريبة ، وما كان من صوتي سوى الصدى ، قبل أن يقفل باب الحجرة التي حجزني بها تفوه مهدداً :سأعود بصحبة أصدقائي إياكِ أن أجدكِ على هذه الحالة ، وإلا ! و رحل بعد أن أحكم قفل الباب جيداً ، لا مفر ! لذلك في اليوم المئة وتسعون من هربي عزمت على الانتحار.
النهاية ……