أدب الرعب والعام

استعادة

بقلم : منار عبدالهادي – العراق
للتواصل : [email protected]

استعادة
ظهرتُ بصور لم أكن أرغب أبداً أن أظهر بمثلها أمام أحد

كان وقتاً استثنائياً من السعادة والفضول .. فبعد أن تمكنت من اجتياز حالة شبه الإدمان التي خضتها لفترات طويلة في موقع فيسبوك ، دخلت وبدافع الفضول , متدثراً تحت غطاء ذو ملمس حريري في غرفتي الخاصة المظلمة والباردة بفعل جهاز التكييف والمحاطة بعدد من الكتب على جدرانها ، تطبيق تويتر لأرى حسابي فيه .

لم أكن ممن يقضون جل وقتهم في هذه التطبيق الذي يختص بالتدوينات الصغيرة ، بل كان دخولي مقتصراً على التدوين في بعض المناسبات أو الأحداث التي تتطلب صخب جماهيري أو لمتابعة الرأي العام حول قضية معينة , فأقوم بأغلاقه بعدها , لذا كنت مطمئناً بأني لن أهدر وقتي فيه كما كان يحصل في المرات السابقة مع فيسبوك . 

كنت أعرف عدداً من الفتيات في ذلك الموقع لكني لم أكن أعطي لإحداهن أي أهمية تذكر رغم محادثاتي العرضية والمزاح الذي يحدث معهن في المحادثات الجماعية وخط الأحداث في بعض الأحيان ، فقد كنت أرى أن الوقت الذي أمضيه معهن في التحدث برتابه يمكن أن أقرأ فيه مقالة أو صفحة من كتاب في أسوأ الأحوال .

تصفحت رسائلي الواردة .. لقد كنت عضواً في إحدى المحادثات الجماعية التي شكلها بعض الشباب للاتفاق على وسم عراقي موحد يطلقوه لينافس الوسومات العربية والأجنبية التي تظهر في الحسابات العراقية كأعلى نسبة تدوين ، كان هناك بعض الفتيات الجدد اللآئي لم أتحدث معهن من قبل في تلك المحادثة ، كما افتقدت بعض الصديقات ممن كُنَّ كثيرات التواجد فيها. 

تكلمت مع بعض الفتيات الجدد بدافع الفضول لأتعرف عليهن وكذلك لإبداء رأي في موضوع ما كان مطروحاً في تلك المحادثة .. لم تكن “كرم” طبيبة الأسنان الجميلة وإحدى أعضاء المحادثة لتمر علي مرور الكرام ، كما كنت أفعل مع العديد من الفتيات والنسوة ، آراؤها ، طريقتها في النقاش ، حجم المعرفة التي تحملها ، اجتماعيتها وطرافتها وحتى انفعالها .. جعلتني أرى فيها انعكاس لجوانب عدة من شخصيتي التي لم أرىَ لها انعكاساً أنثوياً في السابق بالرغم من علاقاتي الكثيرة مع النساء . 

من أول محادثة خاصة لها معي امتلكت فكري وصرت لا أرى غير ما تكتب ولا أسمع غير ما تقول .. أرسلت لي صورة لوجهها ، كانت جميلة جداً ، أجمل من الصورة التي رسمتها لها في مخيلتي .. كانت تكبرني بسبع سنوات ، لكني رأيت فيها روحاً طفولية تجعلها أصغر حتى من عمري الذي كان في ربيعه الثالث والعشرين .. لم أستطع الخروج من التطبيق بسبب الوقت الرائع الذي كنت أقضيه معها .

تكلمنا باهتماماتنا، بحياتنا الخاصة وما نحب ونكره .. لم أعرف الرابطة التي جمعتني بها ، فتارة أقول أحببتها وتارة أقول معجب بها ، وتارةً أقول أنها بمثابة أختي أو صديقتي .

وبمرور الوقت ، صار عقلي والهاً بها وأصابتني حيرة جعلتني أفقد زمام المبادرة في اتخاذ قراري ، وصارت العاطفة هي المتحكم الرئيس فيما أقول وأفعل .. فقد كانت هذه الآنسة الغريبة استثنائية , ربما أنا الوحيد الذي أراها كذلك فالآخرون كما كنت أرى يرون فيها امرأة تقليدية لا تختلف عن الأخريات .

طلبتُ منها أن نتكلم على تطبيق “ماسنجر” ، فلم أكن راغباً في أن أبقى في “تويتر” الذي يضيّع وقتي ولم أكن أيضاً راغباً بخسارتها في الوقت ذاته . “أنا لا أحب فيسبوك ومعظم وقتي أقضيه في تويتر” قالت وهي مشغولة في نشر تغريداتها على الوسم الذي انطلق حينها . 

فكرتُ أن أحصل على رقم جوالها كي أكلمها بتطبيقات لا علاقة لها بفيسبوك وتويتر كفايبر أو تيليغرام ، لكن هذا يحتاج إلى تقارب أكثر نحوها .. كان التقرب منها وجعلها تشعر بالثقة والإرادة بأن ترسل لي رقمها من تلقاء نفسها يحتاج وقتاً طويلاً قد يكلفني الكثير من الوقت والجهد ، لذا قررت المضي بسبيلٍ آخر لدفعها على ما أريد ، و قد ساهمت اليد الخفية التي جذبتني نحوها بأن أندفع نحوه أكثر دون النظر إلى المرايا فآخذ حذري في ذلك الطريق المزدحم ..

صرت أغرد لها بتغريدات هي عبارة عن غزل وكلام في الحب والإشارة إليها في خط الأحداث .. لقد طلبتُ إذنها قبل أن أفعل هذا الشيء ولم تعترض وقتها بل كانت تتفاعل في بادئ الأمر مع ما كنت أكتبه تجاهها .. أخذتُ أكتب لها دون أن أشعر بأن أبيات شعر الغزل وعبارات الحب تلك أعطت انطباعاً لمن قرأها بأننا على علاقة حب منذ زمن طويل على الرغم من وقت تعارفنا القصير ، وكذلك أظهرت الموقف بالصورة التي ما كنّا نريدها قطعاً .

انقلبت الأمور شيئاً فشيئاً حتى أخذت منحى آخر لم أكن أتمناه ، فقد طلبت مني كرم أن أتركها بسبب حجم الإحراج الذي حدث لها بسبب تلك التغريدات ” منار هناك الكثير من المعارف يتابعونني .. ماذا سيقولون عني بسبب تغريداتك ! ارحل عني أرجوك .. اعتبرني غير موجودة أو تصرف وكأنك لم تتعرف علي أصلاً ” قالت ذلك لي ، كانت تريد دفع الأقاويل التي ربما تكون قد أُثيرت أو قد تُثار مستقبلاً من قبل المجتمع المريض الذي يعيش بعقدة الكبت والحرمان ، وربما كان الأمر أكبر من ذلك , فحب يجمع امرأة مع شاب يصغرها بسبع سنوات قد لا يكون مقبولاً منطقياً بالرغم من أن العاطفة لا تعترف بالمنطق في أحيان عدة , كنت أعرف هذه الحقيقة ولكني كنت عاجزاً على الوقوف أمامها , لكنها وقفت أمامها بشجاعة , ففي الوقت التي كانت تلمح لي بهذا الشأن كنت لا أصغي لغير صوت العاطفة .

بعد كلماتها الأخيرة تلك و إصرارها العجيب عليها , أدركتُ حجم الخطأ الذي ارتكبته ! خطأ في إطلاق العنان لقلبي ليحب امرأة أكبر مني بكثير لم ألتقِ بها في الواقع حتى, وخطأ في تغزلي المستمر بها أمام الملأ ، كما أنني كنت قبل ذلك ممن يعتقدون بفكرة عدم إمكانية نشوء حب حقيقي في مواقع التواصل الاجتماعي ! حاولتُ إعادة الأمور إلى نصابها لنعود أصدقاء كما كنا في بدية تعارفنا, لكنها كانت قد حسمت أمرها بأن تنهي الأمر . 

قدمت اعتذاري لها ، ثم ودّعتها كما أرادت وعيني تغرق بالدموع ، فأنا لم أخسر صديقتي التي أحببتها فحسب ، بل ظهرتُ بصور لم أكن ارغب أبداً أن أظهر بمثلها أمام أحد .. الشخص الغير مسؤول كما وصفتني آخر مرة وحين انتهى كل شيء كوني لم أصغِ لكلامها يوماً بعدم التكلم معها بحب في المرات القادمة أمام الآخرين ، الشخص اللحوح الذي يسعى وراء أمرٍ انتهى , العبثي الذي ترك المنطق وصار يجري وراء غرائزه والضعيف الذي لا يقوى أمام عواطفه ” . 

لكن فجأة ، مسحتُ الدموع من عيّنَي ، ثم مسحتُ الرسائل والتدوينات كي لا تذكرني بما حصل ، كانت لحظة غريبة لم أفهم ما الذي كان يسيرني فيهاِ ، غادرتُ المحادثات الجماعية ، الشيء الذي دفع بعض صديقاتي الأخريات للتحدث معي بشكل خاص حول السبب .. “سآخذ استراحة من تويتر ولم يحصل شيء” كان جوابي لهن مقتضب وسريع ..

غادرتُ تويتر ومسحت تطبيقه من هاتفي الآيفون .. وبسرعة دخلت إلى إحدى التطبيقات التي ساعدتنًي في قراءة رواية شيفرة دافنشي لدان براون وإكمال صفحاتها التي تقارب الخمسمائة صفحة بأربعة أيام فقط ، وهممت بعدها لإكمال كتاب آخر .. لقد استعدتُ وقتي .

ملاحظة : القصة منشـورة سابقاً بموقع آخر لنفس الكاتب 

 

تاريخ النشر : 2017-08-26

guest
5 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى