أدب الرعب والعام

حب حتى الثمالة

بقلم : رمضان سلمي برقي – مصر
للتواصل : [email protected]

حب حتى الثمالة
صب كأس خمر وجرعه سريعاً؛ صمت لحظات وقد احمرت عيناه

عند تهيؤ الشمس للرحيل؛ كان شابٌ ثلاثيني العمر، نحيل الجسم، طويل القامة، يرتدي معطفه الجلدي الأسود، ويلتحف ملفه الصوفي البني ليتقي برد الشتاء القارس؛ واقفاً في شرفة الطابق الثاني بمنزله المحاط بالأجمة الخضراء من كل الاتجاهات..
كان يتأمل السماء الملبدة بالغيوم السوداء، التي على وشك إسقاط حمولها أرضاً..
بدا وجهه عبوساً، وعيناه تنضحان ألماً وبؤساً ، وأسفلهما سواد شديد يثني على بؤسه..

بدا شارداً، ممسكاً بسيجارة أشعلها تواً ، ومضَ البرق في ثنايا السماء البعيدة، فخُيِّل إليه وكأنه نقش لأول حرف من اسمها..
اشتد البرق، علا هزيم الرعد، وبكت السماء وتساقطت دمعاتها ..
انطفأت السيجارة لمّا لحقتها قطرات المطر، اشتد البرد، عاد أدراجه مُغمغماً :
– سأدخلُ فالجو صار برداً!.

كانت عقارب ساعة الحائط الباهتة المعلقة بالجدار بالداخل، تزحف صوب السادسة ؛ أغلق باب الشرفة الزجاجي، دلف إلى مقعد بباحة البيت، جلس، دك ما تبقى من السيجارة بالمنفضة الموضوعة على منضدة وطيئة أمامه، وبجانبها علبة السجائر والقداحة، وقنينة خمر.
أشعل سيجارة جديدة، وصب كأساً من الخمر وجرعه دفعة واحدة!.

كانت الإضاءة خافتة، تنبعث من عدة مصابيح واهنة معلقة بالجدران، طل البرق عليه من خلف زجاج الشرفة أمامه، شعر بأن الزجاج سيتحطم من قوة صيحات الرعد ..
أطرق رأسه قليلاً، ثم رفعها فجأة وبدا أنه تذكر شيئاً ما !.
شرد بذهنه بعيداً عن كرسيه، لاحت بأفقه سحابات ذكرياته البائدة، نطق بصوت مُتقطع :
– لم تتركي لي… سوى بصيص من ذكرياتكِ … الموجعة؟!.
تسربت دمعة من عينه اليسرى إلى خده الشاحب، فكفكفها سريعاً، وكأنه يخشى أن تراها عينه اليمنى ..

صب كأس خمر وجرعه سريعاً؛ صمت لحظات وقد احمرت عيناه، وفجأة؛ شعر بأن آذانه تلتقط نداءات امرأة بصوت آتِ من مكان سحيق… صاح ممتعضاً:
– الصوت بعيد… الصوت بعيد!.
عاد الصوت ليصدح بأذنيه فصاح تارة أخرى:
– لا أسمع! الصوت بعيد …أرجوكِ ماذا تقولين؟!.
ذرفتْ دموعه بغزارة، دكَّ ما تبقى من السيجارة بالمنفضة، هبَّ واقفاً كالمذعور، راح يذرع الباحة رواحاً ومجيئاً واضعاً كفيه خلف أذنيه ليصيغ السمع، وباحثاً عن مصدر الصوت، ولكن دون أيما فائدة؛ فقد انقطعت النداءات!.
حينئذ؛ انخرط في نحيب حاد..

لحظات وتوقف أمام الموقد المتوهج، لاذ في صمت مُطبق؛ تخلل الصمت هزيم الرعد القوي، وبعد لحظات نزل على ركبتيه مستقبلاً المدفأة البارزة عن الجدار، مد ذراعيه أمامه متأملاً النار..
فجأة صرخ ساخطاً:
– أين دفئك أيتها الجحيم ؟… لا زلتُ أشعر بالبرد … أشعر بالبرد!.

أطرق رأسه، أراح إليته فوق كاحليه، وضع ذراعيه فوق ظاهر فخذيه وكأنه في جلسة استراحة ما بين السجدتين بصلاة المسلمين، أو كأنه يؤدي طقوساً للنار كعبدتها!.

لحظات ورفع بصره لأعلى، فوقع بصره على صورة مبروزة بإطار مُذهب، ومعلقة على الجدار أعلى المدفأة يميناً..
راح يتأمل الصورة التي يظهر فيها بجانب زوجته الصهباء الباسمة، ذات الشعر الحريري المنسدل على كتفيها، والعينين الخضراوين الواسعين، ووجهها الوضاء ، وتتوسطهما فتاة صغيرة في سن الرابعة تحملها الأم على ذراعها، تجمع في ملامحها بين أمها وأبيها؛ الوجه الوضاء، هو ما أخذته من أمها، ومن أبيها نظرته الشاردة والواضحة بتجل في الصورة!..
أغمض عينيه، أجهش بالبكاء، رمى رأسه إلى الخلف، وفجأة، التحفت الرعشة الشديدة سائر جسمه، صاحبها أنين وتوجع؛ ثم سقط على الأرض مغشى عليه!..

ومايزال البرق يطل من زجاج النوافذ من فينة لأخرى، ومازال الرعد يدغدغ سماء الصمت بالخارج، دون كابح أو مانع..

***

فجأة؛ أحس بتناوبْ سحابات رائحة نتانة على أنفه؛ فتح عينيه؛ فذ من جلسته، اشتم الرائحة، تقزز واشمأزت تقاسيم وجهه!.
دلف بطرقة البيت الضيقة متعقباً مصدر الرائحة، حتى وصل إلى باب إحدى الغرف، تمتم:
– إذا الرائحة لكِ أنتِ؟!.
قهقه بصوت عال، وتملكته ضحكات مجلجلة، ثم فتح الباب ودلف إلى الغرفة المظلمة، فجأة؛ توقف عن الضحك، وخرج مسرعاً، مذعوراً مردداً:
– القداحة … القداحة!.
خطف القداحة من فوق المنضدة، ثم عاد سريعاً، دخل الغرفة، أشعل القداحة، وجد الغرفة خالية من أيما أساس سوى تابوت خشبي مقفل ومسجى أرضاً..
اقترب من التابوت، أطفأ القداحة؛ جثا على ركبتيه، ركع على ركبتيه أمام التابوت، رفع يده، أشعل القداحة أمام وجهه؛ جحظتْ عيناه، وراح يتفحص التابوت بنهم وانتشاء!.

تحسس بيده سطح التابوت متمتماً:
– إذا أنتِ أيتها الراحلة … كان الصوت لكِ، والرائحة أيضاً لكِ، رغم أنكِ تركتني لازلتُ أحبكِ… ولكن ماحدث لكِ تستحقينه!.
ثم قهقه بسعادة غامرة حتى سعل عدة سعلات، وخشخش صدره، فتوقف ورفع بصره الى الأمام، أغمض عينيه ، ثم عاد بذاكرته إلى الخلف..

***

أطفأ القداحة، فسمع صوت زوجته تقول:
– ألم تعدني بأنك ستقلع عمَّا تتعاطاه؟.
كان الزوج جالساً على طرف السرير مرتدياً منامته، وممسكاً بين أنامله سيجارة مشتعلة، وكانت زوجته تجلس أمام المرآة تتأمل وجهها، وكانت ترتدي قميص نوم أسود طويل، في إضاءة منبعثة بوهن من أبجورتان على جانبي السرير ..
– هلمّي ، فأنا مشتاقُ إليكِ؟.
قالها بصوت حنون، فنظرت إليه، هبتْ واقفة، قالت غاضبة:
– لن تلمسني إلا بعدما أن تنفذُ وعدك لي؟.

دك السيجارة بمنفضة فوق منضدة لصق السرير، هب واقفاً، قال لها بلهجة ناعمة يستجديها:
– حبيبتي … صار لنا شهور ولا أذكر أن نمنا على سرير واحد أبداً، في كل مرة تخرجين لي بذريعة تلو أخرى، لقد سئمتُ صدقيني!.
صاحت به:
– أنا التي سئمتُ منك ومن وهنك، وحتى إن نمنا في سرير واحد، ما الذي باستطاعتك أن تفعله؟ ستقبِّلني قبلتين، ثم تنقلب على جنبك وتعطني ظهرك، وتتركني ملتاعة …أليس كذلك؟.
نقأ وجهها وأدمعت عيناها وأكملت:
– بلاها قربة منك، سأذهب لغرفة ابنتي، لأنم بجانبها، فعلى الأقل سترتمي لتنم بحضني، ولن تعطني ظهرها مثلك يا سبع الرجال!.

طأطأ الزوج رأسه أرضاً، وانهد جالساً، على السرير وأسند ظهره إلى حافته، وزم رجليه وتقوقع على نفسه، وبدأ ينتحب نحيباً شديداً، عندها اقتربت زوجته منه، قالت:
– لماذا تبكي الآن؟ أنت من أوصلتنا لهذا الوضع، لقد عشنا ثلاثة أعوام جميلة، كنت جيداً معي لم تقصر في واجباتك الزوجية، وكنت أظنك خارقاً حتى اكتشفتُ أنك تتعاطى أقراصاً جنسيةً منشطة، وعودتني على قوتك المزيفة، والآن لم تعد قادراً حتى على ابتلاع قرص صداع، وأصابك الوهن والتلف، وأصبحتْ أنت والحائط سواء!.

رفع الزوج بصره، قال باستحياء:
– أنا احبكِ ألا تتحملينني؟
– وما الذي يجبرني على أن أتحمل نزقك وسذاجتك؟ أنا مازلتُ شابة ولن أدفن نفسي معك وأضحي بحياتي من أجلك أبداً.
– أنا أحبكِ… تحمليني… أرجوكِ؟.
– أنت تهذي …
– سأقتلكِ ..
– لقد قتلتني من قبل كثيراً!.
– أنا أحبكِ أرجوكِ لا تتركيني؟.
استدارت وتركت الغرفة ذاهبة لغرفة الطفلة، فدفن رأسه بين ركبتيه ..
تمتمت الزوجة بسخط:
– إرهاصات جنون، ولن أعيش مع مجنون … سأرحل!.

***

مرت ساعة، ومازال مدفون الرأس ينتحب، يغمغم، يتوجع، يئن!. وفجأة؛ رفع بصره، هب واقفاً وعيناه تقدحان بالشرر، خرج من غرفته مسرعاً، وجدها بالطرقة، ولم تدخل غرفة ابنتهما بعد، صاح حانقاً:
– أنا لستُ مجنوناً، أنا لستُ مجنوناً أيتها العاهرة!.
استدارت له، فتوقف محله، حدجته، ثم عادت إلى وجهتها صامته لتدلف غرفة الطفلة بآخر الطرقة..

فجأة؛ أطلقتْ الزوجة صرخةً مدويةً سرعان ما انكتمتْ، بعد أن هوى الزوج على رأسها بملة انتزعها سريعاً من السرير، فوقعت صريعة، فأثنى عليها بعدة ضربات قوية حتى تهشمت رأسها تماماً، فسالت الدماء، وتناثرتْ على الجدران، وتلطخت الأرضية، وتطايرت الأشلاء، وتدحرجت عين من عيناها، فلحقها ودهسها بقدمه ضاحكاً فانفجرت، فتدحرجت الأخرى، لحقها وبعد مراوغة دهسها أيضاً، ثم تنفس بأريحية، وكأنه حملاً كان جاثماً فوق صدره، فأزاحه وارتاح!.

دنا منها، صدره يعلو ويهبط، عرقه يتصبب ، تُرسم على وجهه ابتسامة باردة ؛ ألقى الملة المخضبة بالدماء جانباً، جرها من رجليها ذاهباً إلى غرفة نومه، مخلفاً بالطرقة خطاً عريضاً من الدماء، ومن فُتات رأسها!.
– عاهرة… سآخذ حقي منكِ دون أن تفتحي عينكِ في، أو تتحججين ثانية؟.
تمتم بها، وقبل أن يدخل الباب، دوتْ صرخة الطفلة لمَّا رأت أمها جثة مضرجة بدمائها تجر جراً، صاحتْ:
– أمي؟!.
جرى ناحيتها الأب ومسكها من كتفها، قال لها:
– هل تحبين أمكِ؟.
ارتعشت الطفلة، ولم تقو على النظر بعيني أبيها الداميتين، صرختْ:
– أُحبها… أُحبها؟!.
وانخرطت في وصلة بكاء، قال الأب بغيظ:
– إذاً فلتذهبي إليها؟.
وجدها تفلتتْ وارتمت فوق جثة أمها تبكي وتتمتم بصوت محشرج:
– أمي… أمي… لا تموتِ يا أُم…
فجأة وقعتْ بجانب أمها جثة هامدة، إثر تناول أبيها الملة وضربها على رأسها بقوة هشمته سريعاً:
– إذهبي أنت وأمك إلى النار؟.

مزق قميص نوم زوجته، بعد أن طرحها على السرير، وهم ليضاجعها، وجدها باردة، قال:
– بعد قليل ستتوهجين أعدك بذلك؟.
فعل ما أراده سعيداً، مقهقهاً، مستمتعاً، وبعد أن انتهى؛ وجد نفسه قد تلطخ بالدماء، ووجد السرير وملائته وأرضية البيت قد أغرقتهم الدماء، حتى الطرقة بها جثة طفلته ومن حولها بركة دماء، تمتم:
– الدماء أطفت جمالاً على تصميم البيت، سأدعها كما هي!.

ارتدى ثيابه:
– كانت تقول أني لستُ رجلاً، وقد أثبتُ لها أني رجلاً!.
ثم همَّ بلف جثة زوجته بملاءة السرير، وبعدما لفها، أخرجَ ملاءة أخرى من الصوان ولف جثة الصغيرة..
وحمل الجثث، ودخل إحدى غرف البيت الشاغرة، وترك الجثتين بداخلها، ثم نزل مسرعاً إلى قبو المنزل، كان مظلماً، أشعل المصابيح، فبدا له مكتظاً بأكوام من الأساس القديم المتهالك، وقف متفحصاً حتى عثر على تابوت خشبي، استخلصه، ثم أزال عنه الأتربة، وحمله وصعدَ إلى الطابق الثاني ..

وضع التابوت بالغرفة الشاغرة، حمل الجثتين وألقاهما بداخله، ثم وضع فوقه غطائه، وتنهد بارتياح، ثم خرج ليشرب الخمر نخب المضاجعة اللذيذة..

***

فجأة؛ عاد من ذكرياته، وجد نفسه بالغرفة المظلمة أمام التابوت، سمع جلبة شديدة بالخارج، خرج مسرعاً، فتح باب الشرفة، وجد سيارة شرطة بالطريق الصغيرة الممهدة بين الأجمة الخضراء الموصلة لباب بيته، وقد انتشر ضوء سارينتها، تمتم مذعوراً:
– يريدون أن يأخذونها مني! لن أسمح لهم… لن أسمح!.
سمع طرقات على الباب قوية ومتتالية،دخل الغرفة مسرعاً، أشعل القداحة، جر التابوت خارج الغرفة، وضعه بالصالة، فتحه؛ وجد به ملاءتتان نظيفتان مفروشتان به؛ جحظت عيناه ..

صرخ مذعوراً:
– سرقتموهما مني يا لصوص! سأقتلكم… وربي سأقتلكم؟!.
وركض صوب الباب، فتحه على مصراعيه، فدخل رجلان ضحمان يرتديان لباساً أبيضاً، وبيدهم بذلة بيضاء، أكمامها مقلوبة!.
أمسكوه، ألبسوه إياها من الأمام، وجرجروه على السلم إلى أسفل، ثم أدخلوه في سيارة منقوش عليها «مستشفى الأمراض النفسية» وكان معهما رجلان آخران، أعطوه حقنة، فخارت قواه واستسلم للإغماء!.

***

طرحاه على سرير السيارة الصغير وقيداه فوقه بالأحزمة ذات الأبازيم، وجلسا من حوله، وانطلقت السيارة ..
نظر أحد الجالسان من خلف زجاج النافذة إلى الطريق قائلاً:
– لقد توقفتْ الأمطار!.
– الحمد لله.
– أتعرِفُ أنه مسكين؟!.
– لماذا؟.
– كانا يعيشان بسعادة هو وزوجته، لولا أنه أصبح مدمناً للخمر والعقاقير، وأصبح دائم المشاجرات معها، حتى استحالت الحياة بينهما إلى عراك دائم، وذات مرة تشاجر معها كعادته فتركت له البيت وأخذت طفلتهما معها، وأبلغت عنه بأنه مجنون وخطر، وكان كلما رآها أمامه، تفاجأ بها وقال لها: «أنا قتلتكِ بالأمس كيف بُعِثتِ اليوم؟» فخافت أن يقتلها بالفعل وهربت بطفلتها..
– يا له من معتوه!.

ولاذ الاثنان في ضحكات لا إرادية، وفجأة، فتح الزوج عيناه، ثم قال متعجباً:
– كيف بُعِثتْ ثانية وقد قتلتها منذ أسبوع؟!.

 

تاريخ النشر : 2017-11-03

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى