أدب الرعب والعام

المبروكة

بقلم : أحمد محمود شرقاوي – مصر
للتواصل : [email protected]@yahoo.com

إنها المبروكة.. تلك المرأة التي ارتفع شأنها في قرية ميت أبو نواس
إنها المبروكة.. تلك المرأة التي ارتفع شأنها في قرية ميت أبو نواس

حينما تتهاوى الأفئدة بين حطام الدنيا تعلو المبروكة وتحمل فوق الأعناق..
وحينما تحمل المبروكة فوق الأعناق تسيل الدماء بلا حساب..
وتجهض الأجنة بلا عتاب..
ويسقط الناس بين يديها عبيدا يتضرعون..

إنها المبروكة.. تلك المرأة التي ارتفع شأنها في قرية ميت أبو نواس التابعة لمحافظة المنيا.. فأصبحت إلها يعبد من دون الله.. تأمر فيأتمرون.. وتنهي فينتهون.. تسببت بسحرها في اخضاع الجميع بلا استثناء.. أصبح الرجل يقدم لها القرابين ليدخل على زوجته.. والحامل لتضع بسلام.. والعانس لتتزوح.. انها تلك المرأة البغيضة التي أطالب السلطات بالقبض عليها في أسرع وقت..

الصحفية. سعاد البنداري

وضعت سعاد قلمها على الطاولة وهي تتراجع في مقعدها من فرط الاجهاد.. اخيرا قد انتهت من كتابة هذا المقال.. هذا المقال الذي لاقت متاعب نفسية تفوق الوصف حتى تتجرأ على الامساك بالقلم والكتابة عن المبروكة..

تذكر تلك الأحلام المريعة التي هاجمتها في الأونة الأخيرة بعد عودتها من المنيا..
تذكر ابتسامة المبروكة الشامتة وهي تقول لها مرحبا بالصحافة..
كيف عرفت بأمرها وهي دلفت عليها يومها مرتدية السواد كما نساء القرية وأتقنت لهجتهم ايما اتقان..

اااااااااه أحمد.. ما أن تذكرته حتى ابتسم فؤادها قبل أن يتورد خديها من الخجل..
هل ستتصل به.. نعم يجب أن تفعل.. أنه من دق له القلب وابتهجت لمرآه الروح..
وأمسكت الهاتف واتصلت به..

…………….

كنت أجلس أداعب القط الصغير الذي أجبرتني أختي على أخذه من عندها قبل أن يلتهمه اطفالها.. انهم هؤلاء الاشقياء الذين يتبولون ويأكلون على رجليك وهم يبتسمون والمخاط ينزل على انوفهم قائلين.. احنا بنحبك اوي يا خالو..

كنت عازما صدقا أن أتركه في الشارع ليتعلم البلطجة من القطط السعرانة.. ولكني وللأسف ذو قلب طيب.. لا يمكنني أن اؤذي نملة.. لذا فقد تورطت في قط أسود اللون صوت تنفسه يصيبني بالتوتر واحتكاكه بقدماي يجعلني مشمئزا من نفسي..

أفقت على رنين الهاتف فدفعت القط عني قائلا..
ابعد بقا يا رخم

امسكت هاتفي فوجدتها سعاد.. زميلتي في الجريدة.. لا أعتذر على الكذب.. هي معجبة بي وان كنت أفقه قليلا في جنس النساء فأنا اقولها يقينا.. تلك المرأة تحبني.. ولكنها لم تتجرأ أبدا على فعل أي أمر او البوح ولو بنصف كلمة.. وهذا ما جعل الأمر يروق لي خاصة أنني لن اتزوج قبل مائة عام على الأقل.. فأنا فقير جدا أكاد أجن من فرط التفكير في كيف سأوفر طعام القط.. فكيف بزوجة وأطفال وحفاضات! .

أيها القارئ المريب لقد جعلتني أنسى أن أجيب على الهاتف…

الو
…….
نعم بخير ولله الحمد
…….
لم أرى في حياتي كل هذا العند
…….
قلت لكِ لا تنبشي في مثل تلك الأمور..
…….
حسنا أرسلي لي المقال وسوف أعيد صياغته على الحاسوب ولكني لم أكن أحب لك أبدا أن تسافري كل تلك المسافة فقط لتبحثي وراء امرأة دجالة تحتال على الناس
……..
لا يهمني إذا كانت ساحرة ام لا فالحمد لله انك عدت
……..
قسما لم أخبر أحدا إطلاقا لأتركك تفاجئين المدير بهذا المقال المثير
…….
سلام

اغلقت الهاتف وفتحت الحاسوب وانتظرت..
نصف ساعة كاملة ولم ترسل شيئا.. هل يعقل انها تكتب على حاسوبها لترسل لي ملفا مكتوبا.. لا مستحيل هي لم ولن تفعل هذا.. هي تصور الصفحات مكتوبة بخط القلم لأعاني أنا في كتابتها على الحاسوب.. وهذا الخط السئ الذي يرهق عيناي والذي جعلني أسب نفسي مرات ومرات انني أساعد تلك المعتوهة..

نعم نعم هي جميلة.. احم.. جميلة جدا.. ولكني في فترة ركود من المشاعر لا تسمح لي بحب القط فكيف بحب فتاة جميلة…

ساعة كاملة وما من شيء.. امسكت هاتفي وقد ارهقني السهر وبدأت اتثاءب من النعاس.. اتصلت بها وقلت :
اين المقال يا سعاد لقد اصابني الإرهاق؟ 

ولكن صوتها جاءني مرتجفا.خائفا:
أنا خائفة جدا
تحدثت في قلق قائلا:
ما بكِ يا سعاد؟ 

– أشعر أن هناك شئيا يتحرك بداخل بطني. 

اتسعت عيناي فزعا وأنا أقول :
هل أطلب لكِ الإسعاف؟ 
ولكنها لم تجيب.. فقط ما أجابني هو صوت صرخة متألمة..
صحت في الهاتف:
سعاد.. سعاااد.. ما بكِ ؟؟ 
ولكن كان الجواب على هيئة زمجرة مخيفة.. زمجرة جعلت القط يركض هاربا أسفل المقعد.. ثم سمعت صوت صرخة عاتية ثم انقطع الإتصال ..
وبأصابع مرتجفة واعين جاحظة اتصلت من جديد..
رنين..
رنين..
رنين..
ثم استجاب الطرف الأخر للرد..
الو
صمت تاااام
الو
صوت همهمة غريب سرعان ما تحول إلى إحتفال .. إحتفال غريب.. مريب.. هل تعرف صوت الزار ؟ .. حينما تغني النسوة بكلمات غريبة ؟. إنه نفس الصوت.. ثم انقطع الإتصال ..

اتصلت ثانية ولكن الهاتف أصبح مغلقا..
اتصلت أكثر من عشرين مرة بعدها ولكن الهاتف ظل على حاله تأتيني تلك الرسالة المثيرة للأعصاب “الهاتف المطلوب مغلق او غير متاح”

اتصلت بصديق أخر فأجابني متعصبا وهو يقول:
لماذا ايقظتني من نومي أيها التعس؟ 
سألته بصوت مضطرب عن أن كان يعرف منزل سعاد.. ولكنه

أجاب بلفظ قبيح +99 ثم تابع قائلا:
سوف أقتلك في الغد.. وهل تحن للفتاة فيجعلك هذا توقظني من نومي!..
لعنته وأغلقت الهاتف..

هل أبلغ الشرطة ؟؟
ولكن بماذا سأخبرهم.. وأين العنوان الذي تسكن به لأخبرهم به؟ .. بل وماذا لو كان كل ما سمعته هو مجرد فيلم تشاهده سعاد!..

……….. 

مرت الليلة ولا أعرف كيف.. لم أذق طعم النوم ولو لحظة واحدة وأنا أحاول أن أتصل بأحد يعرف عنوانها لأذهب.. وما أن أشرقت الشمس حتى ركضت إلى العمل.. أرجو من الله أن تأتي وتفسر لي ما حدث بالأمس فأطمئن..

ولكنها لم تكن هناك.. لم يكن هناك سوى أفراد الشرطة.. وقضيت أكثر من ساعتين مع الضابط وهو يحقق معنا جميعا في سر مقتل سعاد..
نعم لقد قتلت سعاد.. وقد نزل الخبر على نفسي كألف ألف صاعقة.. خاصة حينما علمت أن سعاد قد مزقت بطنها بمخالب غريبة جعلت أحشائها تتفتت بطريقة أذهلت أطباء الطب الشرعي..

وتحدث الضابط لي قائلا:
هل حادثتك سعاد بالأمس؟ ..
فكرت في أن أخبره بكل ما حدث ولكن هل سيصدقني؟ .. خاصة أنه كان يتحدث إلي بنبرة اتهام لا بنبرة تساؤل ..
قلت له:
– لا
وما طبيعة علاقتك بها؟ .
قالها بنظرة غامضة فقلت له :
– لا شيء مجرد زميلة عمل..
لا أظن هذا.. أنظر هنا..

ثم أدار اللاب توب الخاص بسعاد ناحيتي وفتح أحد الملفات وبدأت أقرأ..

“يا أحمد.. يا توأم الروح ونبض الفؤاد.. كيف لقلبك القاسي ألا يلين.. كيف يجرؤ قلبك على النبض وأنا لا احتل كل ذرة فيه.. أنا أحبك يا أحمد.. لا أنا اهيم بك حبا.. ادعو الله كل ليلة ان ابوح لك بهذا يوما ونحن متزوجان.. أنا أعلم أن هذا لن يحدث وأنك لن تقرأ تلك الكلمات أبدا ما حييت.. لأنها ببساطة لن تصل إليك .. ولكني أحبك في خيالي.. وأحبك في واقعي.. وسأبقى أحبك حتى الرمق الأخير”

لم اجرؤ وقتها على النظر إلى الضابط وقد سالت ادمعي على خدي وانفطر قلبي وأصبح سرابا.. ليتني استطعت أن أحميك مما حدث لكِ.. ليتني كنت معكِ . ثم اجهشت وقتها بالبكاء دون أن أدري ..

وبعد دقيقة استطعت بالكاد أن أتماسك ليتحدث الضابط بنبرة أقل هدوءً قائلا:
– هل عندك شيء تخبرني به؟ ..
تغيرت على الفور نبرة صوتي ونظرة عيناي التي تأججت بالغضب وقلت:
-الحديث يوحي لك أنه كان حبا من طرف واحد وليس لي أي علاقة بما حدث لها.. ثم تركته وانصرفت.. تركته وقررت أن أترك العمل كله..
ثم قررت أن أسافر إلى المنيا.. وخاصة إلى قرية أبو نواس.. ولكن قبل السفر سأضطر أن أزور غرفة سعاد لأحصل على هذا المقال بأي ثمن والذي عرفت أن الشرطة لم تجد شيئا في غرفة القتيلة..
وكما قالوا وعد الحر دين عليه.. وأنا أعدك أن أكمل الأمر ولو كانت حياتي هي الثمن..

* * * *

عدت من العمل مهموما.. بل قل أكثر الناس هما.. كان شعورا غريبا، مزيجا من الحزن والغضب وعدم التصديق، لقد ماتت سعاد، هذا هو الواقع، جلست في غرفتي استرجع كل الأحداث التي مرت منذ ساعات فقط..

مكالمة من سعاد، ثم أصوات غريبة، ثم تموت الفتاة بأبشع طريقة قد تتخيلها يوما، فتحت الحاسوب وكتبت في شرود..
“هل السحر يسبب الموت ؟ “

وبينما أنا اتصفح الكلمات إذ بي أجد رسالة على البريد الخاص بي، والمريب أنها كانت من سعاد، نظرت سريعا في لهفة على الوقت فوجدت الرسالة مرسلة منذ الأمس، في نفس التوقيت الذي حادثت به سعاد، يبدو أنها قد أرسلت بالفعل الرسالة ولكن لعطل ما في الانترنت لم تصلني سوى الأن، فتحت الرسالة في توتر وبدأت أقرأ..

كانت الرسالة تحتوي على صور للمقال، المقال الذي كتبته عن المبروكة، وكان ملخص المقال أنه يقص عن تسلط وجبروت تلك المرأة على أهل القرية ثم نداء إلى السيد وزير الداخلية للقبض على المبروكة بتهمة الدجل، وكان العنوان مكتوبا..
“قرية أبو نواس محافظة المنيا”

وتجهزت للسفر على الفور، يجب ألا يمر الأمر مرور الكرام، وإن كان للفتاة ثأرا فهو في عنقي أنا..

وصلت إلى محطة القطار في رمسيس وانطلقت في قطار الصعيد، حيث الجانب المجهول الذي قررت أن انبش في كل شبر فيه، ومرت خمس ساعات كاملة حتى توقف القطار في محافظة المنيا، وعلى الفور ركبت إحدى سيارات الأجرة وطلبت من السائق أن يذهب بي إلى قرية أبو نواس..

وصلت القرية مع أذان العشاء، وبدأت أتذكر اسم تلك المرأة التي حدثتني عنها سعاد، نعم الخالة عنايات السيد، هي من استقبلت سعاد في بيتها، وما علمته أنها قريبة سعاد أيضا ..

وقفت على مدخل البلد وسألت أحدهم عن منزل الخالة عنايات وأخبرته أنني قريبا لهم وكنت في سفر بعيد، وكعادة الأرياف فالكل يعرف الكل تقريبا، ولم أجد أدنى صعوبة في الوصول إلى منزل الخالة التي استقبلتني بحفاوة شديدة دون أن تعرفني من الأساس..

وبعد القسم منها بتقديم كل الطعام والشراب في الدار بدأت أتحدث :
– لقد ماتت سعاد يا خالة

لم تتغير ملامحها أبدا بتلك الشقوق التي حفرها الزمن على وجهها، فهي لم تكن سوى امرأة طاعنة في السن ولكن عينيها كانت أقوى وأشد ثباتا، وكأنها عيون الصقر نفسه..
تحدثت بعد صمت دام لحظات:
– لله ما أخذ ولله ما أعطى
تحدثت في انفعال :
– لقد ماتت بسبب تلك المرأة المعتوهة التي تسمى المبروكة
– لقد حذرتها أن تترك الأمر لأهله
– أي أمر يا خالة؟ .. هل السحر والكفر بالله أمر مقبول بينكم! 

لم تعقب على كلامي ولكنها نهضت قائلة:
– ستبيت الليلة مع ماجد ولدي وسترحل في الصباح ولا تأتي إلى هنا أبدا ما حييت

كدت أن أصرخ بها ولكني تماسكت قدر المستطاع.. وبعدها جاء إبنها ليصطحبني إلى غرفته لأبيت معه، لم يزورني النوم أبدا تلك الليلة وحتى شروق الشمس، كانت الليلة الثانية التي لم أذق فيها طعم النوم..

وضعت الخالة طعام الإفطار وجلست معهم ولكني لم اتذوق شيئا، ثم وبنبرة حاسمة قالت الخالة:
– تصطحب الأستاذ إلى محطة القطار ولا تتركه أبدا إلا والقطار يتحرك عائدا به إلى القاهرة . 

وعلى الفور نهض ماجد بجسده الضخم ينظر إلي نظرة حاسمة معناها هيا بنا.. خرجت معه حتى مدخل القرية وقبل أن نركب السيارة طلبت منه أن يشتري لي علبة سجائر من المحل القريب، وما أن غاب عن نظري حتى تواريت سريعا خلف أحد البنايات..

رأيته عائدا وهو يتلفت يمنة ويسرة باحثا عني، راقبته لمدة دقيقتين حتى أصابه اليأس من العثور علي وعاد مترجلا إلى القرية..
وبعد دقائق كنت أسير بين شوارع القرية احث الخطى، أذكر جيدا ما قالته سعاد، أذكر أنها إتصلت بي قبل أن تذهب إلى المبروكة وأخبرتني إنها تسكن بجوار المقابر..

سألت أحدهم عن مقابر القرية فوصف لي الطريق، وبخطوات سريعة وصلت إلى المقابر التي ظهرت من أمامي بشواهدها الضخمة، القديمة التي قد نهش بها الزمن وجعلها
قطعا أثرية يعلوها التراب..

كانت المقابر في منطقة مكشوفة، لم أجد بيوتا مبنية بجوارها مما جعلني أشعر بالقلق، إذا فأين تسكن تلك المخبولة؟ .. وقفت أمام شواهد القبور اتأملها في رهبة..

صمت رهيب، صمت يذكرك بما قبل خلق الكون، لا شيء، وكأنك قد خرجت من هذا العالم إلى عالم الصمت، ومن أحد حارات المقابر رأيت امرأة تخرج من بينها تسير ناحيتي..
كانت ملتفة بالسواد وان ظهر وجهها الذي يدل على أنها في الأربعينات على أقل تقدير.. تنحنحت وتساءلت في أدب:
– أيمكنكِ أن تدليني على بيت المبروكة؟ 
وقفت أمامي ونظرت في عيناي مباشرة مما جعلني اغض الطرف وأشعر بالحرج فتابعت قائلا:
– أعتذر أن كان سؤالي قد اشعرك بالضيق

ولكنها قالت بصوت هادئ وبابتسامة واسعة:
– ومن تكون المبروكة؟ 
شعرت بالتوتر وقلت :
– انها.. نعم.. انها الشيخة التي تساعد الناس لوجه الله
– أعتقد أنك قد ضللت الطريق فلا أحد يسكن هنا
– لا لا أنا على يقين انها تسكن قريبا من هنا
– وما الذي جعلك متأكدا من هذا؟ 
– لأن هناك من وصف لي الطريق لأصل لها وأنا أحتاج مساعدتها بشدة في أمر هام
– حسنا سأدلك عليها ولكن أخبرني بما تريده منها
– أنا أريد الإنجاب منذ زمن ولكن زوجتي عقيم، وقد دلني أحدهم وأخبرني أن الشيخة ستساعدني
– ولكني أرى في عينيك أنك عازبا

تماسكت في صعوبة أمامها وقلت:
– لا أنا متزوج و.. ولكن لماذا تجزمين بهذا
– لأنني أنا المبروكة

ما إن قالتها حتى هبط ستار الظلام في ثانية واحدة على المكان بأكمله، انتفضت في مكاني ونظرت لما حولي، كان الظلام يخيم على المكان بأكمله، وكأنها ستارة مسرح قد هبطت على المكان كله أو أن أحدهم قد ضغط على زر الاضاءة فأغلقه، واختفت المرأة من أمامي وكأنها لم تكن..
تلفت حولي في رعب لأجد نفسي في قلب المقابر، شواهد القبور من حولي تقف كالجبابرة، أو كحراس عمالقة يمسكون الدروع الصلبة، توقف عقلي عن التفكير وانطلق قلبي في سباق من الدقات لا نهاية له، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، ولكني رأيت عشرات القطط السوداء التي خرجت من كل مكان تقريبا ووقفت من حولي تراقبني بأعين حمراء بلون الدم، ثم ارتجت الشواهد من حولي وفتحت أبواب القبور كلها بصوت مفزع جعل قلبي يقفز لخارج صدري، لحظات وخرجت عشرات النسوة من المقابر وأنا على حالي أشاهد كل شيء وكأنني في حلم لا أقدر على التحكم في شيء..

وارتفعت الهمهمات والأصوات، نفس الصوت الذي سمعته في الهاتف حينما كانت تحادثني سعاد، صوت يشبه غناء النسوة في جلسات الزار..
وامتلأت المقابر بالنسوة الملتفات في السواد والقطط السوداء.. وأنا على حالي ثابتا كتمثال من الشمع..
ثم التفوا من حولي وحملتني إحداهن كطفل صغير وأنا لا أقدر حتى على المقاومة، حملتني ومن خلفها سارت النسوة في صفوف منتظمة، وفي أخر الحارة رأيت الكارثة، كان أحد القبور مفتوحا، وأدركت الفاجعة، سأدفن حيا، وخرج صوتي أخيرا لأصرخ بصوت هائل تردد صداه في المقابر كلها، ولكنهن لم يتوقفن وسرن بي ناحية القبر وقد ارتفع صوت الغناء الغريب من حناجرهن..
واقترب القبر، وصرخت بصوت أعلى، وارتفع غنائهن، ولمحت هذا الكائن الذي كان بداخل القبر..
كان يشبه الغوريلا في تكوينه، بوجهه الشاحب الأزرق بزرقة الموتى وجسده المشعر الضخم، حاولت أن أتحرك ، حاولت بكل ما أملك من قوة ولكني لم أستطع ، والقوني بكل عنف ناحية القبر وصرخت صراخا لا نهاية له..

* * * * * 

لم أكن اتخيل أبدا أن هذا العالم قد يتجسد به كل هذا الكم من الفزع..
الفزع الذي تشيب لهوله الولدان. وتزيغ من فظاعته الأبصار، ويهرم في حضرته الجسد، وهذا ما يمكنني أن أخبرك به وجسدي يطير في الهواء ناحية هذا القبر المخيف، القبر الذي تجسد فيه أبشع مخلوق قد أراه في حياتي، وارتطم جسدي بأرض المقبرة لأجد نفسي وجها لوجه أمام هذا الكيان المفزع، كانت عيناه سوداء براقة تلمع ببريق أخاذ، نظرت فيهما فرأيت..

رأيت نفسي بداخل عيناه ممدا على الأرض وقد تمزق جسدي بأكمله وسالت الدماء غزيرة من كل موضع فيه..
وهنا صرخت، صرخت حتى تمزقت احبالي الصوتية، صرخت وهو يفتح فمه عن آخره وأغمضت عيناي.. و…

وشعرت بنور الشمس من جديد يضرب وجهي، فتحت عيناي لأجد نفسي أمام المقابر ومن أمامي تقف المبروكة بنفس الإبتسامة الهادئة، كان قلبي وقتها يصرخ ليخرج من صدري وانفاسي قد وصلت إلى ذروتها، وتهاوى جسدي بأكمله أرضا ..

– الأن قد عالجنا مشكلة انجابك ايها الأعزب، هل هناك شيئا أخر  ؟

لم أستطع أن اتفوه بنصف كلمة ولازلت على حالي زائغ العينين تكاد أنفاسي أن تتوقف من فرط الشهيق والزفير..

– الأن يمكنك الرحيل من هنا
قالتها واستدارت لتعود إلى المقابر من جديد، ولا أعرف كيف ولا متى تحرك لساني التعس لينطق بتلك الكلمات:

– لماذا قتلت سعاد ؟

قلتها بدون وعي وكأنني طفل صغير لا يعرف الصواب من الخطأ، توقفت مكانها حينما وصلتها كلماتي، ثم التفتت وقد اشتعل وجهها بالغضب، وكأن عينيها قد تحولتا إلى جمرتان من اللهيب، ثم صرخت بصوت خشن.. غليظ منادية بإسم “عدنان”

وهنا خرج رجلان من بين المقابر يهرولان ناحيتي، تراجعت زحفا ولكنهما ادركاني وقيداني بعنف وقوة جعلتني استسلم تماما لهما، تحدثت لها آمرة:

– القوا به في المقبرة
وقبل أن أعي نصف كلمة كانوا قد حملوني وانطلقوا بي إلى قلب المقابر، كنت مجهدا، مرهقا، متألما، شعرت بالعجز الكامل وهم يفتحون أحد أبواب المقابر ثم يدفعوني في غلظة إلى الداخل، سقطت على أرض القبر ليغلقوا الباب تماما من خلفي، وأدركت وقتها حجم الكارثة التي وقعت بها..
هذا ليس تخيلا.. انها حقيقة مطلقة، أنا أسير أحد القبور ولا يعرف أحدا عني، سأموت هنا، بين الظلام وعظام الأموات ، الظلام هنا شديد، والرعب هنا رفيق، والقلب ينتفض والجسد يرتجف..

جلست على تراب القبر ارتجف في وضعية الجنين، الموت، انه يتحرك حولي، ينتظر الوقت المناسب لينقض علي، يارب، يارب..

نظرت إلى الأعلى وبكيت، بكيت وقد سالت الدموع من عيناي كالشلال، بكيت متضرعا إلى الإله أن ينجيني، وقتها شعرت بوهن لم أشعر به في حياتي، انه الموت، سأموت حالا..
يارب أجعل حسابي يسيرا، أعتذر لك عن كل ما فعلته في حياتي، وسقطت في غيبوبة عميقة..

وهناك رأيته، أنه جدي الذي توفي منذ سنوات، لقد وافتني المنية وها أنا أرى الموتى، ولكن هل هي جنة أم نار تلظى، وأين منكر ونكير؟ .
ولكنه لم يمهلني وقال :
– لا تتساءل كثيرا فالوقت ينفذ منا، إرجع فإن لك موعدا لن تخلفه أبدا 
– هل تقصد أنني لم أمت؟ 
– لا لم تمت، وتذكر ما كنت احدثك به وأنت صغيرا، من استعان بالله أعانه، ومن استجار بالله أجاره
– ولكني لن أقدر على فعل شيئا
– تذكر.. لو اجتمع الإنس والجن على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله لك، والله لا يترك عباده أبدا
– ولكن…..
– اصمت ولا تتحدث والآن إذهب سريعا، أخرج ، أحرق الساحرة

فتحت عيني فرأيت الظلام الدامس، لازلت بداخل القبر، نهضت من مجلسي وقد راح الرعب يحوم من حولي ثانية، ولكني لن استسلم أبدا ، فلو كان موتا فليكن، ولكني لن أموت خائفا أبدا 

تحسست ما حولي حتى وصلت إلى باب القبر، وضعت يدي على الباب وحاولت فتحه بكل السبل ولكنه كان صلبا، قويا لا يفتح أبدا، ضربت عليه بقبضتي في غضب شديد فارتج مكانه وتساقطت بعض قطع الطين من حوله، هناك أمل يلوح في الأفق ، ضربت بقبضتي الحائط فتساقطت قطع من الحائط المجاور للباب، إنه حائط من الطين المتهالك، وبكل رغبة مني في الحياة أمسكت حذائي وضربت بكعبه على ما حول الباب الصغير، وتساقطت قطع الطين المتفتت من حولي، وازداد الحماس ورحت أضرب في قوة أكثر وأكثر، مرة ثم ثانية ثم ثالثة، صحت في سعادة بالغة حينما شعرت بالرياح تضرب وجهي حينما تحطم جزء من الجدار الملاصق للباب..
ضربت بقوة أكبر ولمدة نصف ساعة كاملة حتى تهاوى الباب الصغير أرضا بعد أن تحطم الجدار المتهالك من حوله..

قفزت إلى الخارج وأنا أكاد أصيح من السعادة البالغة، كان الليل يحلق في الأجواء وقتها، ركضت بين اضرحة القبور كالمجذوب الذي يرجو الخلاص من جحيم جهنم..

خرجت من المقابر إلى الأرض المجاورة وقد عزمت على الرحيل، هناك غرفة، غرفة صغيرة، ركضت ناحيتها لعلي أجد من يساعدني، وصلت إلى الباب لاهثا وهممت بالطرق عليه، ولكن ما جعل كف يدي يتوقف هو صوتا أعرفه جيدا كان قادما من الداخل، سرت بمحاذاة الباب ناحية النافذة ونظرت من خلالها..
وكما توقعت، كانت تلك الملعونة، تجلس على أحد المقاعد ممسكة بـ…
هل ما أراه صحيحا؟؟
انها تمسك بجثمان طفل صغير، يبدو أنه قد مات، الشموع من حولها كثيرة تجعلني أرى ما يحدث بوضوح.. هممت بالهروب ولكني صرخت فزعا حينما قبض أحدهم على كتفي في عنف..

كانا نفس الرجلين، دفعتهما بكل قوتي ولكنهما كالعادة قيداني بقوة وجذبوني إلى داخل الغرفة، قيدوني بإحكام ووقفت أمام المبروكة التي لم تحرك ساكنا.. دقيقة كاملة وأنا أشاهدها وهي تضع جسد الطفل على طاولة امامها ثم تهمهم بالكثير من الكلمات الغير مفهومة..
رفعت بصرها تجاهي وقالت بصوت رقيق يشبه صوت الأم التي تدلل فتاها:
– إذا فقد نجوت ايها الشجاع
تحدثت إليها غاضبا:
– لعنة الله عليك ايتها الساحرة
لم تعقب على كلماتي وتابعت:
– إنه الفضول الذي يجعل البشر ينبشون في أمور لم تكن لهم، الفضول الذي يجعلهم يدنون من الموت أكثر من اللازم
– ليس فضولا ايتها المخبولة، لقد جئت لأبحث عن لغز مقتل زميلتي
ابتسمت في سخرية ثم قالت هامسة:
– الخناس

رددت الكلمة في عدم فهم ولكنها تابعت:
– لم أكن أريد أن اؤذيها أبدا ، ولكن زيارتها جعلت الخناس يعشقها، فضاجعها في أحلامها وحملت منه، ولكنها لم تتحمل الولادة القاسية فماتت
– ما الذي تتفوهين به ايتها العاهرة، وهل تحمل المرأة وتلد في يومين! 
قلتها صارخا، غاضبا لتجيب هي:
– ألا تصدقني؟؟
– بالطبع لا
– إذا سأجعلك تقابله
تحدثت بنبرة مرتجفة:
– من تقصدين؟
– الخنااااس
وعلى الفور أمسكت خنجرا وهوت به على رأس الطفل ففصلتها، ثم صرخت قائلة:
– أيها الخناااااااااااس نرجو الحضور نحن العبيد المأتمرون بأمرك
وبدأت الأصوات من حولي ترتفع، نفس الأصوات التي تشبه جلسات الزار، ارتفعت الحرارة بشدة من حولي وبدأت أشعر بحضور قوي، وارتفع الصوت أكثر وأكثر.. ثم ومن خلفها رأيته..

نفس الغوريلا بشعة المظهر، إذا هذا هو الخناس، صرخت المرأة قائلة:
– اسجد ايها الحقير لمولانا الخناس
كانت وقع الكلمة عظيما على نفسي، ومر شريط حياتي كله أمام عيناي في تلك اللحظات وأنا أرى الخناس يتقدم مني في بطء.، الصوت يرتفع والحرارة تشتد، المبروكة تصرخ كي أسجد، أرى كل لحظة مرت في حياتي..
الخناس يقترب..
صراخ المرأة يرتفع..
أصوات الزار ترتفع..
ورأيت جدي.. رأيته يقول بصوت غليظ، قوي..
– الله ربك ولا رب سواه

وهنا توقف الزمن كله، توقفت الأصوات ووقف الخناس مواجها لي، وسمعت المبروكة تهمس:
– اسجد، اسجد، اسجد
وابتسمت، ابتسمت وأنا أواجه الموت قائلا:
– الله ربي ولا رب سواه

وعلى الفور أمسكت شمعة مجاورة كانت مشتعلة وقذفت بها على وجه الخناس وأنا أقول :
– بسم الله رب الخناس
وبذهول شاهدت الخناس يشتعل بنيران عظيمة أمسكت في جسده كله، سرعان ما امتدت النيران لتمسك في المكان بأكمله، كنت متحررا وقتها بعد أن تركني الرجلين وسجدوا في حضور الخناس، ولم أكن لأنتظر لحظة واحدة، ركضت هاربا من المكان كله الذي اشتعلت النيران في كل شبر منه، ومن خلفي سمعت صرخات المبروكة والرجلين وهم يحترقون بالنيران تمتزج صرخاتهم مع زئير رهيب، زئير لشيطان يحترق، شيطان اسمه الخناس..

* * * * *

جلست على فراشي وأنا لا أصدق أنني قد عدت إلى بيتي حيا ارزق.. كنت منهكا، أتمنى لو نمت أبد الدهر، شكرت الله على النجاة وسقطت على الفراش وسرعان ما رحت في ثبات عميق..

وأمام باب الغرفة كان هناك جسدا ضخما يقف في ثبات، جسدا مشعرا يشبه الغوريلا ولكن بوجه محترق قد زاده بشاعة.. ألا ترون أنه يشبه الخناس؟؟
……….
تمت بحمد الله … 

اعمالي المرتقبة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2021

إن الله سيبطله “رواية”

سلسلة مائدة الفزع:
“حتى زرتم المقابر” عدد أول
“الميتة والدم” عدد ثاني
…………

تاريخ النشر : 2020-11-24

guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى