أدب الرعب والعام

ملِك اللّيل

يدخل الى العمارة، يستقل المصعد، يصل الى الشقة المطلوبة.. يفتحها بهدوء ويقفل بابها قَفلتين، يفتح باب الغرفة الأولى فلا يرى احدا، يذهب إلى الغرفة الثانية ويقف على بابها، يتأكد أنها الغرفة المطلوبة، يقتحمها بعنف فتستيقظ المرأة بفزع تشغل الإضاءة فتشاهد رجلا ملثما بقطعة قماش أبيض، ولا يظهر منه سوى عينيه.

تقف إلى جانب سريرها وهي تنظر له برعب:

_ أنت، كيف دخلت إلى هنا وماذا تريد مني؟

يقترب منها ببرود..

_ دخلت الشقة بالمفتاح.

_مستحيل أنا لم أعط مفتاح شقتي لأحد!

_ ولكني دخلت بالمفتاح، ألا تصدقينني؟

بخوف شديد:

_ بلى، أصدقك فاذهب عني.

_ سأذهب ولكن بعد أن أنجز مهمتي.

_ماذا تريد؟ نقود ، ذهب ، خذ مني كل ما تريد.

_كلا، بل أريد قتلك.

تُصعق من جوابه، تـصرخ، تئٍن.. وتتوسل:

_ أرجوك لا تقتلني.

_ يجب علي أن أقتلك.

_ لماذا؟

لأني أُمِرت ذلك.

_ سأعطيك ما تريد من المال.

_ لا أريد شيء، موتك هو كل ما أريد.

تبكي بمرارة.. يقترب منها..

_لا تخافي ستموتين بسرعة، لن تشعري بأي ألم.

_ أرجوك لا تفعل.

_ لماذا تخافين من الموت؟ ما قبل الموت حياة وما بعده حياة!

_ أرجوك!

يدنو منها، تصرخ بأعلى صوتها طالبة النجدة.

_ لن يسمعك أحد، دعيني أنجز مهتمي وأرحل، فالليل لا يزال طويلا والنجوم تنتظرني والقمر في لهفة علي، هل يرضيك أن أتاخر عنهم؟

يضع يديه على حلقها، ويبدأ بخنقها وهي تصرخ صراخا عاتيا..

_دقائق معدودة وستجدين نفسك في عالم أجمل من هذا العالم، وحينها ستشكريني.

تلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه، تسقط على الأرض وهي مفتوحة العينين، يمرر أصابعه برفق ويغلقهما، يقفل باب غرفتها بالمفتاح ويغادر ..

**

في المطعم وسط الهدوء التام والهواء العليل كان ينتظرها، تأتي أخيرا، يستقبلها بابتسامة وشوق ..

_هل تأخرت عليك؟

_كلا، أبدا.

_يا له من مطعم رائع.

_ كل من فيه في خدمتك.

_ أين الناس؟ لماذا هو فارغ هكذا؟

_ إنه الليلة لكِ وحدك.

_ أيعقل ما تقول؟

_ بالطبع يا حبيبتي، فأنا ملك الليل وكل شي فيه تحت أمري وسيادتي.

يصفق بيديه فيأتي الندّل بالطعام ويضعونه بين يديهما وسط استغرابها وتعجبها.. يأكلان ثم يرقصان على أنغام الموسيقى ثم يصعدان الى سطح المطعم..

يرفع يديه نحو السماء قائلا:

_ أرأيت كل شيء ملك لي في هذا الليل، لأني ملك الليل.

يمضيان ما تبقى من الليل حتى يقترب الفجر فيودعها …

_ لماذا لا نكمل سمرنا حتى الصباح.

_ لا أستطيع.

_ لماذا؟

_لأني ملك الليل، وعندما يطلع الصبح، تغيب النجوم ويتوارى القمر حينها أفقد سلطاني.

يعود الى منزله ويستلقي على فراشه وينام على جري عادته بعد كل لقاء يجمعه معها.

**

رئيس الشرطة:

_ هذه الجريمة الحادي عشرة خلال أقل من أربعة أشهر، يجب أن نقبض على القاتل بأسرع وقت قبل أن يزداد عدد ضحاياه.

المحقق:

_ سأبذل كل جهدي، ولدينا الآن خيط وإن كان قصيرا.

_ ما هو؟

_ سنحلل كافة مشاهد الكاميرات وسنحاول بواسطة أجهزة التكبير رصد شبكية عين القاتل المفترض، وحينها سيكون بمقدورنا مطابقتها مع المشتبه بهم.

_ القاتل ليس بعيدا عن ضحاياه، إنه قريب منهم بشكل ما، ولا شك أن الشخص الملثم ليس مشتبه به، ولا متهم، بل هو القاتل دون شك.

_ أتفهم ذلك سيدي.

يبدأ الخبراء بتحليل شبكية عيني القاتل ومطابقتها على المشتبه بهم لعدة أسابيع دون جدوى.

**

في جوف الليل، في اطمئنان تام، يقف في أحد الشوارع ويستقل سيارة أجرة لتوصله إلى وجهته، يسير بهدوء وروية حتى يصل إلى مقصده، يتلفت حوله ثم يتسلق شجرة ويقفز منها إلى الفيلا، يمشي بحذر، يتطلع إلى جدرانها فيجد النافذة التي قيل له عنها، يصعد إلى أن يبلغها ويدخل منها إلى الداخل..

يتجول في أنحاء الطابق العلوي حتى يصل إلى غرفة صاحبها، يتأكد من وجوده، يفتح بابها بقوة ليتفاجأ الرجل الستيني .. يسأله بخوف:

_من أنت؟

يغلق الباب، يخرج سكينه ويلوح بها مهددا بينما يتراجع الرجل إلى الوراء ويستقر في الزاوية، يقف عند الشرفة ويفتح ستارتها ..

_ لا تخف، اقترب مني.

_ ماذا تريد؟ أخرج من بيتي حالا.

_ قلت لك لا تخف، اقترب.

يلوح له بالسكينة فيضطر لتنفيذ أمره، يقترب منه..

_ اقترب أكثر.

يقترب منه ليقف قبالته..

_ أنظر إلى السماء في الليل كم هي جميلة.

يتطلع إليها وهو في قمة خوفه..

_سماء لا حدود لها تزينها هذه النجوم البراقة، والقمر في غاية تألقه، هل هناك أجمل من هذه اللوحة في هذا العالم؟

_ أتوسل إليك أخرج من هنا.

_ ما رأيك برحلة بين النجوم والكواكب؟

يصمت ولا يجيبه..

_ أجبني ما رأيك؟

بامتعاض مشوب بخوف يرد:

_ ستكون رحلة العمر.

_حقا ستكون كذلك، خاصة وإن كانت في نهاية العمر.

يزداد خوفه ..

_ ماذا تعني؟

_ أن تختم عمرك برحلة كهذه، أن تحلق بين الكواكب والنجوم وأن تسافر بين المجرات.

يلوذ بالصمت ..

_ سأحقق لك أمنيتك على الفور.

أنا لا أريد الذهاب إلى أي مكان .

يضع سكينه في جيبه، ثم يخرج مسدسه ويطلق عليه النار فيسقط على الأرض، يجلس القرفصاء بالقرب منه وهو يحتضر ..

_ستزول معاناتك، لا تقلق، سأعاجلك بطلقة أخرى. لتنطلق على الفور في رحلة الخلود والأبد.

يعاجله بطلقة أخرى ليموت من فوره.. ويتسحب بهدوء مغادرا الفيلا.


في نفس الوقت كان جالسا على الكورنيش برفقه صديقته سناء، المبهورة بشخصه، المعجبة بشمائله الفذة..

_أنت شخص أكثر من رائع.

يمسك بيديها ..

_ بل أنت الأجمل يا أميرة ليلي.

_ ولكن لماذا الكورنيش فارغ هكذا ؟

لقد أمرت بألا يرتاده أحد من أجلك.

باندهاش:

_ ألديك السلطة لفعل ذلك؟

_في الليل أنا الحاكم هنا.

_ ألا يؤنسك وجود الناس من حولك؟

_ يكفيني أنتِ والنجوم والقمر والمياه التي تنعكس عليها أشعته.

بابتسامة حانية:

_ قدرنا أن نظل مع بعض إلى الأبد، لا بد من ذلك.

_ سنرتبط قريبا جدا برباط الحب السرمدي، سيباركنا القمر وسيكون شاهدا عليه، وسنعيش نجمين على الأرض، وعندما نموت سنتحول إلى كوكبين في السماء يشعان حبا وجمالا إلى كافة أرجاء الكون.

يكملان لقاءهما ثم يعود إلى منزله لينام نومة هانئة بعد قضاءه ليلة دافئة.

**

يستيقظ من نومه فيرى نفسه محاطا برجال الشرطة..

_ من أنتم؟ ماذا تريدون مني؟

المحقق:

_ اقبضوا عليه!

يمسكون به ويحولونه إلى مديرية الأمن..

المحقق:

_ أنت من قتلت كل هؤلاء.

_مستحيل!! أنا لم أقتل أحدا.

_ البصمة المستخرجة من مشاهد الكاميرات تتطابق إلى حد بعيد مع بصمتك، وبتفتيش شقتك وجدنا القماشة البيضاء والمسدس والسكين، كلها ادلة قاطعة على أنك القاتل.

_ لست قاتلا.

_ أين كنت ليلة البارحة؟

_ كنت في لقاء فتاة أحبها.

_ بل من لقاء ختمته بالدم.

_ كلا لم يحدث هذا ابدا.

_ حسنا ما اسمها؟

_سناء.

لاستخراج رقمها من هاتفه الخلوي، يفتش عنه الشرطي ولكنه لا يجده..

_لا يوجد رقم باسم سناء في هاتفك.

_لا يمكن.

_ أنت تكذب.

_حسنا، أنا أحفظ رقمها عن ظهر قلب.

_ أملني إياه.

يمليه الرقم فيأمر بالاتصال بها ليجد أنه رقم غير صحيح.

_رقم غير مسجل.

_ولكني متأكد أنه رقمها.

_ كل الأدلة ضدك، اعترف بأنك من قتلت اثني عشر شخصا بريئا.

_كلا، لن أعترف بجرائم لم أرتكبها.

_ إن التهم ثابتة عليك، وستنال عقابك سواء اعترفت أو لم تعترف.

يأمر بسجنه في زنزانة انفرادية حتى موعد ترحيله إلى النيابة العامة ..

في صباح اليوم التالي، كان المحقق جالسا في مكتبه ويستعد لتوقيع أمر ترحيله إلى السجن إلا أن عنصر شرطة يدخل عليه لأمر عاجل ويخبره بأمر مريب أصابه .. يذهب معه إلى الزنزانة فيشاهد المتهم وهو مغمض العينين ويتحدث مع شخص غير منظور ..

_ أنا أحبك يا سناء وسأظل كذلك ..

_ وأنا أيضا.

_ لن يفرقنا حتى الموت.

_ هذا الليل سرمدي، وسنظل فيه إلى الأبد.

يقرصه في يده علّه يستعيد وعيه، ولكنه لا يحس بها

_ إنه لا يشعر بوجودنا أبدا.

يضربه على خذه عدة ضربات عله يستفيق دون أدنى استجابة.. يأمر بنقله على عجل إلى المستشفى ..

إقرأ أيضا: قفص الزوجية – الجزء الأول

يفحصه فريق طبي ويحاولون إيقاظه ولكنهم لا يستطيعون، يسمعونه طوال الوقت وهو يتحدث مع امرأة وكأنه يعيش في عالم آخر. يأمر رئيس الفريق بنقله إلى مركز الأبحاث، ما إن يدخل إلى المركز حتى يكون في عهدة الدكتور نائل الذي يخضعه لفحوصات مركزة..

د‌. نائل:

_ إن تُرك هكذا سيموت.

المحقق:

أرجو منك أن تشرح لنا تشخيصك لحالته.

إنه لا يشعر بجسده أبدا، ومنفصل تماما عن عالمنا، ويعيش في عالم آخر بكيان آخر، بل وفي وقت آخر مع أشخاص آخرين.

_ وماذا سيحدث إن ظل هكذا؟

_ إن جسده بلا رعاية، دماغه يعيش معه في عالم آخر، وهذا يعني أن هذا الجسد بلا حاكم، بلا راعي، بلا تغذية، ولا يشعر بأي مرض أو عرض. حتى لو ضربته ضربا مبرحا فلن يشعر بك، إن حالته خطيرة جدا وجهاز مناعته في ضعف مستمر وسيموت لا محال خلال ساعات.

_ يا للهول!

_ سأخضعه للفحص الإشعاعي المغناطيسي المركز، قد يضره ولكنه سبيلنا الوحيد.

يأمر بإدخاله في الجهاز وهو لا يزال يتحدث مع سناء ويعيش معها في الليل العتيم، يركز الدكتور نائل في التصوير المغناطيسي الحي لجسده فيشاهد ذبذبات تخرج من أعلى أذنه اليسرى..

_ يا للمفاجأة !! لم أكن أتوقع هذا أبدا.

_ ماذا يا دكتور؟ هل اكتشفت سبب علته؟

_ ثمة ذبذبات من موقع جغرافي قريب تصل إلى دماغه عبر شريحة ذكية.

لا شك بأنها السبب.

_ هل يمكن تحديد موقعها؟

_ بالتاكيد.

يجتمع مع عناصره ويأمرهم بحزم :

ما إن نحدد الموقع عليكم أن تتحركوا فورا لتقبضوا على كل من يتواجد فيه.

**

_ هل أصلحت العطل؟

_ كلا، لا بد من الاستعانة بالأكواد السرية لكي أتمكن من إصلاحه وحتى الحصول عليها سيظل هكذا.

_ هذا يعني أنه سيموت في القريب العاجل.

_ هذا ما سيحدث.

_ فليمت لسنا بحاجة اليه.

_انتظر، الأمر ليس بهذه السهولة وقد أخبروني أنه نقل إلى مركز الأبحاث.

_ وإن نقل ماذا سيحدث؟

_ حينها سيكتشفون الشريحة التي زرعناها في دماغه عندما أوهمنا بأنه بحاجة إلى إجراء عملية في الدماغ لإزالة ورم حميد، وبالتالي سيحددون مصدر الذبذبات إذا ما أخضعوه للأشعة المغناطيسية.

_ اللّعنة!

_ بهذه الشريحة، أوجدنا له جسدا افتراضيا يعيش فيه بوعي تام، وتحكمنا بجسده بواسطة عقله الباطن وسخرناه لفعل ما نريد.

_ وبهذا تمكنا من أن نقتل بواسطته اثني عشر شخصا وكسب ملايين الدنانير أليس كذلك؟

_ بالطبع، ففي الوقت الذي كنا نوجه فيه جسده للقتل، كان بعقله الواعي يعيش في عالم آخر من صنعنا، كان حقيقيا بالنسبة له بفضل التقنيات ثلاثية الأبعاد.

_ إذن لا بد من تدمير هذا الجهاز الآن وحالا.

_ الويل لك إن دمرناه، فلن يكون بمقدورنا الحصول على جهاز آخر وسأخسر الملايين.

_تخسرها ولا نخسر حياتنا.

يشهر السلاح في وجهه ..

_عليك أن تختار إما الجهاز وإما حياتك.

إلا أن عنصرا من الشرطة كان يستمع لمحادثتهما فيباغتهما شاهرا سلاحه ويأمرهما بالاستسلام، يحاولان الهرب إلا أن عناصر الشرطة يقتحمون المكان ويقبضون عليهما..

في النيابة يعترفان بجرائمهما، فتُستخرج الشريحة من دماغه وتبرؤه المحكمة، إلا أنه لم يستطع نسيان أنه في الوقت الذي كان فيه ملكا لليل، كان جسده يرتكب جرائم فظيعة، وإنه في الوقت الذي كان يمسك بيد سناء ويعيش معها على لمعان النجوم، كانت يده تمسك بالمسدس وبالسكين وتقتل إنسانا لا يستحق الموت، وكلما نظر للنجوم في ليلة صافية تذكر أنه كان ملكا للّيل في عالم ليس له وجود بينما جسده كان يدنس بالخطايا بعد كل إراقة للدماء على ضوء القمر.

رائد قاسم

السعودية
guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى