منوعات

آخر ملكات الجزائر

الطوارق الرجال لم يكونوا يغطون وجوههم واول من فعل ذلك هو ابن الملكة تنهنان

منذ زمن بعيد قبل عصر الحداثة بكثير .. كانت الجزائر مقسمة الى قبائل وممالك وقد عرفت الكثير من الملوك والامراء الذين كتبوا تاريخها بحلوه ومره ، لكنها عرفت ايضا ملكات تركن بصمتهن في تاريخ الجزائر وقد اختلفت الحكايات عنهن لكنها في مجملها تدل على انه كان للمرأة مكانة اجتماعية مرموقة في غابر الازمان فقد عرفت المرأة بذكائها وحكمتها وصبرها ..

واليوم سنتعرف على ثلاث ملكات جزائريات عشن في مناطق مختلفة لكنهن تركن بصمة في تاريخ الجزائر ومازال اثرهن باقيا الى اليوم 

الأميرة مباركة بنت الخص

blank
انشأت امارة وسط الصحراء

هي اميرة من قبيلة بني عامر ، وهي احدى قبائل بنو هلال الذين انطلقوا من مصر واستوطنوا مناطق المغرب العربي الكبير. عاشت الاميرة مباركة بين القرنين 14 – 15ميلادي وكانت اماراتها من اهم الامارات التي انتشرت وسط صحراء الجزائر خلال تلك الفترة.

كان الأمير الخص والد مباركة معروفا بحكمته وشجاعته في منطقة صحراء بريزينة بولاية البيض وهي صحراء شاسعة ذات تضاريس وجبال مسطحة القمم وقد امتدت هذه الامارة من منطقة أربوات شمالا الى مدينة المنيعة جنوبا وشرقا الى منطقة العمور وغربا الى حدود الوادي الغربي .

بعد وفاة الأمير تولت أبنته مباركة الحكم بعده ، فقد كانت تشارك والدها قبل وفاته في امور الحكم والسياسة .

رغم ان رجال القبيلة عارضو حكم امرأة عليهم في بداية الامر ، لإن هذا كان غريبا على عاداتهم ورسومهم ، لكن مع مرور الوقت وظهور حكمة وعدل الاميرة مباركة في تسيير أمور القبيلة وازدهارها جعلهم يتقبلون حكمها ويعملون تحت أمرها .

كانت الاميرة جميلة وحكيمة وذكية ، استطاعت ان تحول قبيلتها ذات الطابع البدوي الى طابع حضري حيث بنت قلعة حصينة بمنطقة بريزينة قرب منبع للمياه وطورت ووسعت امارة قبيلتها شرقا وغربا وامتلكت مخازن للسلاح والمؤن وامتلكت مقرا لإدارة قبيلتها ووسعت زراعة البساتين لتوفير الغذاء لشعبها وقد حققت الوفرة والرخاء لشعبها.

خلال هذه الفترة المزدهرة كان السلطان المريني أبو الحسن الأكحل والذي حكم المغرب الأقصى قد خرج في حملة عسكرية كبيرة لتجديد البيعة له ولجمع الضرائب من القبائل المنتشرة في الصحراء الكبرى ومن ضمنها قبيلة بنو عامر.

عندما اقترب جيش الامير ابو الحسن المريني من منطقة بريزينة رفضت الاميرة مباركة بنت الخص تجديد البيعة له ورفضت حكمه عليها وعلى قبيلتها ، فأرسل السلطان المريني في خطبتها ليتزوجها لكنها رفضت حتى لقائه لأنها عرفت أنه طامع في الاستلاء على إمارتها وارضها وهنا لجأ السلطان الى محاصرة قلعة الاميرة مباركة قاطعا بذلك ممرات وصول الغذاء الى القلعة الحصينة.

blank
صحراء بريزينة في الجزائر فيها تضاريس عجيبة

كان لقبيلة مباركة مؤونة من الغذاء والمياه ما يكفيها لمدة عامين كاملين فصمدت القبيلة في وجه الحصار لكن مع مرور الوقت وتشديد الحصار بدأ مخزون الطعام بالنفاذ فخاف الناس من الموت جوعا ، وهنا لجأت الاميرة الى خطة ذكية لكنها فيها مخاطرة كبيرة .

أمرت مباركة بنت الخص بتقديم مخزون القمح والشعير والحبوب طعاما للماشية وأمرت بغسل كل الملابس والافرشة بمخزون المياه ونشرها على اسوار القلعة وتركت الماشية ترعى أمام انظار جيش السلطان المريني.

قام جنود السلطان المريني بذبح ماشية الاميرة فوجدوا أمعائها مليئة بالقمح والحبوب ، كما شاهدوا الملابس والافرشة منشورة على اسوار القلعة فعرفوا ان للقبيلة مخزون كبير جدا من الماء والغذاء وغسل الافرشة والملابس وتقديم القمح للماشية خير دليل على ذلك ، وهنا قرر السلطان المريني الانسحاب فلا جدوى من الحصار وعاد السلطان الى بلاده حيث قتل بعد ذلك في احدى المعارك .

رغم نجاح خطة الاميرة مباركة الا ان الحصار أثر على شعبها فغادروا من منطقة بريزينة الى منطقة المنيعة وأسسوا قصرا جديدا لايزال الى اليوم ماثلا للعيان .

بعد وفاتها تركت الاميرة مباركة بنت الخص تراثا من الاقوال الحكيمة والشعر مازال يردد الى اليوم في تلك المناطق البعيدة .

الملكة زفيرة

blank
كانت الاميرة زفيرة ابنة سلطان الجزائر

قبل التواجد العثماني ، حكم الجزائر السلطان سليم التومي ، حيث كانت الجزائر مملكة مستقلة وذات سيادة ونظرا لموقعها الاستراتيجي في البحر المتوسط فقظ كانت مطمعا للكثير من الدول خاصة اسبانيا والبرتغال وتعرضت الجزائر باستمرار الى هجمات البحر الاسبانية والبرتغالية ، ذلك دفع السلطان سليم التومي الى طلب المساعدة من اشهر بحارة ذلك الزمان ، وهما الاخوان خير الدين وعروج بربروس ، حيث كان الاخوان العثمانيان مشهوران بالقوة و البأس في كامل البحر المتوسط وفرضا سيطرتهم عليه.

عقد السلطان سليم التومي اتفاقية مع الأخوين من اجل الدفاع عن سواحل الجزائر. وفعلا استطاعا تحرير بعض المناطق الجزائرية التي استولى عليها الاسبان وردع المزيد من الهجمات الاسبانية والبرتغالية ، ذلك أدى لتعاظم شأن الاخوان بربروس بين الجزائريين بينما بدأ نفوذ السلطان بالتراجع ، وهنا لجأ السلطان الى اعدائه الاسبان وتحالف معهم لطرد الاخوان بربروسا واستعادة نفوذه ، لكن خطته كشفت من قبل الاخوين فقررا قتله.

تقول بعض المصادر التاريخية ان الاخوين بربروس طمعا في حكم الجزائر وارادا جعلها ولاية عثمانية ، وقد وجد السلطان الجزائري سليم التومي مقتولا في حمام قصره في ظروف غامضة ولم يعرف من قتله ، طبعا بعض الشبهات اشارت إلى الاخوان بربروس خصوصا وانهما استوليا على الجزائر فعلا بعد موته.

كان السلطان الجزائري قبل مقتله متزوجا من الاميرة زفيرة (ومعنى زفيرة هو المرأة التي يرتكز عليها البيت) والتي ولدت عام 1489 وكانت فاتنة وذات حس فني راقي وكان لها عشق لتصميم الازياء والخياطة واهتمت بالفن والابداع وقد كانت هي من صممت زي البدرون الجزائري المعروف عالميا والذي يتميز بسروال عريض ذو فتحتين على الجوان لإبراز جمال الساقين و قد ادرج هذا الثوب كتراث عالمي لليونيسكو ومازالت النساء يلبسنه الى اليوم.

انجبت الاميرة زفيرة ابنها يحيى من زوجها السلطان الراحل ، وعاشت في وئام مع زوجها الى ان قتل كما اشرنا سابقا.

بعد مقتل زوجها واستيلاء الاخوان بربروس على الجزائر عزلت الاميرة زفيرة نفسها في قصر عزيزة وهو من أشهر القصور في الجزائر وذلك حزنا على زوجها خاصة بعد عدم معرفة القاتل وتضارب الشكوك حول هوية قاتليه.

blank
عروج بربروس

وسرعان ما وصل الى مسمع الاخوان بربروس خبر الاميرة وجمالها وحكمتها ، وقيل أن عروج بربروس قد لمحها في شرفات القصر في احدى المرات وفتن بجمالها وقرر ان يراسلها طالبا ودها ، لكن زفيرة صدته قائلة في رسالتها : (مولاي استوليت على مدينتي بالقوة واتمنى أن تنسى هذا العشق المستحيل).

كان رد زفيرة قاسيا على عروج بربروس خاصة وان بعض الشكوك حامت حوله في مقتل زوجها ، لم يعجبه ردها لكنه بقي راغبا فيها فطلبها للزواج ووعدها أن يتولى ابنها يحيى الحكم لكنها رفضت بشدة واعتبرت ان الحكم من حق ابنها وليس فضلا من الاخوين بربروس.

بعد رفضها غضب عروج كثيرا وقرر ان يتزوجها رغما عنها ، عندما سمعت الاميرة زفيرة قرار عروج بإرغامها على الزواج منه قررت الانتحار فتناولت السم رافضة العيش في الذل.

بعد موتها حاول ابنها يحيى ان يسترجع حكم ابيه عن طريق التحالف مع الاسبان الذين كانوا قد احتلوا مدينة وهران غربا لكن عروج بربروس استطاع هزيمتهم وقتل يحيى وهو يحاول الانتقام لأبيه.

كانت الاميرة زفيرة آخر اميرة جزائرية قبل ان يبدأ الحكم العثماني في الجزائر وقد بقيت تصاميمها في الازياء والخياطة والطرز تستعمل الى يومنا هذا نظرا لجمالها ورقي ذوقها .

الملكة تنهنان .. ملكة الطوارق

blank
ملكة الطوارق القوية

في اعماق الصحراء الجزائرية الكبرى وفي واحة تسمى واحة أبالسة بولاية تمنراست عثرت عام 1925 بعثة استكشاف فرنسية امريكية على ضريح يعود للقرن الرابع مبني من الحجارة ذو شكل بيضوي وينقسم الى 11غرفة غير منتظمة الشكل باستثناء الغرفة الجنائزية التي احتوت على قبر الملكة ومجوهراتها والاواني الخاصة بالطقوس الجنائزية والتي استولت عليها البعثة الامريكية ووضعتها في متحف ببلدة كاليفورنيا اما الهيكل العظمي فقد اخذته البعثة الفرنسية باعتبار ان فرنسا كانت تحتل الجزائر آنذاك.

لم يكن اكتشاف الضريح مصادفة بل كان نتيجة دراسات قامت بها البعثة الاستكشافية ، ففي الصحراء الكبرى وعند مجتمع الطوارق كان الحديث والتقديس يختص بملكة واحدة اعتبرها الطوارق امهم الروحية وهي الملكة تنهنان (تنهنان معناها المرأة كثيرة الترحال بلغة التاماهاك القديمة) ، وقد اعتمدت البعثة على بعض الادلة التاريخية والقصص الشفهية لشعب الطوارق لاكتشاف الضريح.

فمن هي الملكة تنهان ؟

تقول الاسطورة ان تينهنان جاءت من شمال الصحراء الجزائرية ومصادر اخرى تقول انها جاءت من المغرب الاقصى فقد كان مقررا ان يزوجوها رغما عنها في قبيلتها مما جعلها تهرب مع مجموعة من الخدم والعبيد ، وقيل ايضا ان اختها هربت معها ، وانطلقوا في صحراء شاسعة بلا نهاية الى ان قل زادهم وماءهم وكادوا يهلكون جوعا. في هذه الاثناء الحرجة لاحظت خادمتها صدفة وجود قوافل طويلة من النمل تحمل قمحا وشعيرا ، فأمرت تينهنان قافلتها بتتبع المكان الذي يأتي منه النمل ، الى ان وصلوا الى منطقة الهقار وهي منطقة تعرف ببرودتها وجبالها الصخرية العالية .. وهناك وجدت القافلة مصدرا للمياه ومقومات الحياة من امن واستقرار.

قررت تنهنان الاستقرار في منطقة الهقار والتي كان يسكنها قوم الاسباتن وهم شعب صحراوي معروفون بقوتهم وخشونتهم وعبادتهم للطبيعة وكتابتهم بخط التيفيناغ. عاشت تينهنان في منطقة الهقار وهناك اسست مملكتها وجاءت بقوانين جديدة في مجال العمل وتخزين الحبوب كما انها مدت نفوذها وسيطرت على مناطق واسعة من أراضي القبائل في صحراء الجزائر وليبيا وموريطانيا وشمال النيجر ومالي وكان لحكمتها وذكائها وقوة قبيلتها دور في حماية شعب الطوارق ما جعلها تنصب ملكة لجميع الطوارق في الصحراء الكبرى.

كان لحكم تنهنان الدور الكبير في جعل شعب الطوارق يكنون الاحترام والتقدير للمرأة حيث تتميز المرأة عندهم بمكانة عالية في اتخاذ قرار الزواج والعائلة وكل شيء ، ويروي ابن خلدون في كتاباته أن الطوارق من الرجال لم يكونوا يغطون وجوههم وان اول من فعل ذلك من الرجال هو ابن الملكة تنهنان والذي كان أسمه هقار (وعليه سميت منطقة الهقار في الجزائر).

كان هقار قد رحل ليقاتل في احدى المعارك ورغم قوته وشجاعته الا انه خسر المعركة ولم يدري ما يفعل سوى ان فر هاربا مع جيشه من ميدان المعركة وعند وصوله الى مشارف قبيلته تفطن لفداحة فعلته الشنيعة خاصة وانه ابن الملكة تينهنان العظيمة وهنا لم يستطع الدخول الى قبيلته من شدة الخجل من فعلته وبقي على مشارف القبيلة لشهر كامل مخافة ان تلمنه نساء القبيلة المعروفات بمكانتهن  على فعلته ، ولما طال به الحال هو ومن معه ونفذ زادهم وجد هقار نفسه مجبرا على الدخول الى القبيلة ، وهنا قام بتغطية وجهه خجلا وكذلك فعل بقية جيشه .. ومن يومها اصبح الرجل من الطوارق يغطي وجهه عكس المرأة التي تكشف وجهها وبقي هذا التقليد الى يومنا هذا.

كانت نهاية الملكة تنهنان مشرفة فقد اصيبت في احدى المعارك في قدمها واصبحت عرجاء كما اثبتت الدراسات على هيكلها العظمي ، ثم ألتهب الجرح وتعفن (غرغرينا) لتتوفى تنهنان وتدفن في ضريح في واحة اباليسا في منطقة تمنراست.

blank
رجل من الطوارق يقف الى جوار قبر الملكة المفتوح .. وصورة للبقايا العظمية للملكة معروضة في المتحف

اليوم يرقد هيكلها في قبر زجاجي مزينا بالحلي في متحف باردو بالجزائر العاصمة بعد نقله من منطقة ابالسة. اما مجوهرات تنهنان الحقيقية فمازالت في امريكا ولم يتم استعادتها لأسباب تبقى مجهولة.

منذ عام 2010 بدأ الاحتفال بمهرجان أبالسة الذي يمجد شخصية تنهنان وشعب الطوارق وعاداتهم وتقاليدهم من رقص وغناء وشعر. ومازالت الملكة تنهنان تحتل إلى اليوم مكانة عظيمة في قلوب الطوارق فيحترمونها لحكمتها وذكائها ودفاعها عن شعبها وحكمها العادل.

guest
87 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى