أدب الرعب والعام

أبو علامة – الجزء الأول

عقولنا خطيرة للغاية، يمكنها أن تجبرنا على الحياة في الجحيم، ويمكنها أن تعطينا أسئلة دون أجوبة، يمكنها ويمكنها. أن نرى الوهم ونصدقه؟ كله بسبب عقولنا. إنها تتحكم بنا! وإني أخاف عقلي، إذ أعتقد أني رأيت الوهم وصدقته بسبب عقلي.

أول وهم صدقته، هو أني بصفتي طبيب يمكن أصبح شيئاً، يمكن أن أصير مجدي يعقوب القادم، يوماً ما سأكتشف تلك البكتيريا التي تهاجم خلايا السرطان وتوقف تفشيه في الجسد، وسيسمون البكتيريا على اسمي. حلم غير واقعي، أو كذبة وقحة، ويفوت الأوان على إدراك أن الأحلام كلها غير واقعية، لهذا تظل أحلاماً.
المعادلة سخيفة، وواضحة في ذات الوقت. المميز يكون مميزاً منذ البداية، تتناثر العلامات من حوله على أنه سيصبح مميزاً يوماً ما في المستقبل، أما العاديون، مثلي، ومثل الأكثرية العظمى من البشر، لم يولدوا من أجل يصبحوا مميزين، يمكنهم فقط أن يحلموا، وأن يحاولوا. حينما أجادل بهذا مع الأصدقاء يقولون إن رؤيتي للعالم أصبحت سخيفة، ولا أوافقهم.

مع طرقي لباب الثلاثينات بخوف، أدركت أن الأوان قد فات على الحلم، أو المحاولة حتى. طبيب الأعصاب الأعزب الانطوائي المثير للريبة، أرى النظرات وأسمع الهمسات، حسرة في العين وتبادل كلمات مع زميل: متى سيتزوج؟ أتظنين أنه سيرضي بي؟ ربما ليس معه مال، أطبيب وفقير؟ عجب! أدير ظهري لكل شيء وأرحل في هدوء، في ذات الوقت يصطدم بي فتحي ليلون أبيض معطفي ببني داكن:
– آ.. آسف يا دكتور.
إن فتحي القهوجي، عامل المشروبات في المشفى، لعلى قدر من الاحترام والبلاهة، سيكون الموقف حزيناً لو وبخته. سحبت فوطته التي يحملها فوق كتفه أينما ذهب ورحت أمسح بها الرطوبة التي بدأت تتسلل لجسدي:
– لا عليك، سكب القهوة خير.
ضحك:
– من اخترع هذا المثل، اخترعه ليخفف من حدة موقف سكب القهوة.
ربما هو ليس على ذلك القدر من البلاهة، على الأقل هو يفهم شيئاً في الحياة:
– لكن الطريقة ناجحة، ألا تؤمن بهذا!
قال بابتسامة وهو يمشي مبتعداً:
– بلى أؤمن، أؤمن.
تلفتُّ لأكمل طريقي بتثاقل لاعناً حظي، الآن هو الوقت المثالي لكي يراني أي شخص أهتم لأمره في حياتي، والشخص الوحيد الذي أهتم لأمره في هذا المكان هي عفاف. طبيبة شابة، ملاك الرحمة للبعض، وملاك الحب لي. نعم هي عفاف، تلك التي تقف أمامي الآن وهي تحاول أن تكتم دهشتها، أو ضحكتها:
– لا أتذكر أن المعاطف الطبية تأتي بهذا اللون.
نظرت لها وضيقت عيني فبادلتني النظر بلؤم، لم أرد وتحركت مبتعداً عن المكان فمشت بجانبي تقول:
– مهلاً، أعرف السبب، إنه فتحي.
– ولو لم يكن فتحي، فمن يفعلها إذن!
– الرجل قد ترك علامته على كل معطف طبيب هنا.
كنا قد وصلنا لغرفة استراحة الأطباء، فجلست على أحد المقاعد وأنا أقول:
– عداكِ على ما يبدو.
– وصلت بعدك بثوان لمسرح الجريمة، كان بالإمكان أن أكون أنا، ماذا تعرف عن الحظ!
هززت رأسي في رضا متقبلاً لما تقوله، إنه الحظ فعلاً. في تلك اللحظة دلف مدير المشفى إلى المكان لينظر لي ساخطاً:
– عرفت أني سأجدك هنا، أنت لا تترك هذا المكان أبداً، أراهن بحياتي.
هل سيصدقني لو أخبرته أني أنهيت نوبتي للتو؟ ماذا أعرف عن الحظ؟ أعرف هذا!
– رسالة عاجلة لك.

إقرأ أيضاً: عمي، هو القاتل!


ثم مد يده بورقة وحيدة، تلقفتها منه ليستدير وهو يتمتم ببعض الأشياء عن مدى انزعاجه من أن الفاكس الوحيد في المشفى كله يوجد في مكتبه. فتحت الورقة من فوري.
“عزيزي أشرف، أكتب لك الآن من الوحدة الصحية المتهالكة التي اختارني الحظ لأقيم بها. لست جيداً في كتابة المقدمات، والأمر لا يحتمل مقدمات، سأدخل في صلب الموضوع، يجب أن تزورني في ذلك المكان المجنون الذي أنا به. لا توجد مواصلات للقرية، لا توجد أي وسائل اتصال سوى هذا الفاكس العتيق الذي لا أعرف حتى هل يعمل أم لا، حتى شبكات الهاتف مقطوعة تماماً. أنا سجين هنا!
يجب أن تأتي فور تسلمك البرقية، إن الشيطان يعيش في هذا المكان الدنس الملعون، يجب أن يُحرق حتى يُحال رماداً. أرجوك، أنت صديقي الوحيد الذي أثق به. أرسلت عدة رسائل إلى مركز الشرطة، لكنهم لا يستجيبون. أحضر الشرطة! إن ما يحدث هنا ضرب من ضروب الخيال! أنت تعرف أين توجد القرية، تحرك إذا وصلتك الرسالة، على الأقل تعال وأخرجني من هنا.
ملاحظة: لا ترتدي غير اللون الأحمر.
طارق الطوخي”

طارق، فجأة تعود لي جميع ذكريات الجامعة، ذلك الوغد الذي تجمعني به صداقة عتيدة. أتذكر مشاركتنا للآمال العظيمة سوياً، أراد أن يدرّس الطب في موسكو، وانتهى به الحال مقيماً في الوحدة الصحية لقرية مقطوعة السبل، ضحكنا بهستيريا حينما أتاه خطاب التعيين، من موسكو إلى كفر البجع! أيامها، أوصلته إلى السيارة الخاصة التي ستنقله في رحلته الطويلة إلى القرية غريبة الاسم. ضحكنا مرة أخيرة على دعابة سخيفة قبل أن أودعه. بعدها انقطعت أخباره تماماً عني، ومهما حاولت مراسلته أو الاتصال به على رقمه لا أجد رداً، والآن من رسالته يقول إنه عالق هناك ولا يجد طريقاً للخروج، ويطلب مساعدتي. أعرف طارق جيداً، هو ليس محباً للمقالب، والأمر يبدو وكأنه أكبر من مجرد مقلب، أما الأمر الآخر الذي أثار ريبتي، هو أن تعيينه ذاك قد مرّت عليه سنوات طوال، أيعقل أنه لا يزال في القرية!
تقول عفاف التي قرأت الرسالة معي خلسة:
– يبدو الأمر خطيراً.
تراجعت دهشاً:
– أنفك طويل للغاية، أتعرفين هذا؟
تبتسم ببراءة الطفل:
– صديقك يطلب المساعدة العاجلة، وأنت هنا منزعج من قراءتي لكلماته؟
أرد متنهداً وأنا أرمي بجسدي على المقعد:
– أتمنى أن يستحق الأمر عناء أخذ إجازة.
– أنا أيضاً آمل ذلك.
نظرت لها غير فاهم فعادت تردف:
– قدمي على قدمك، أي شيء لأخرج من مستنقع الملل هذا.
– لن يحدث.
– سيحدث، ثم إن هذه ليست مرتنا الأولى.
داهمتني الأفكار وعادت بي إلى الوراء لعدة أشهر، كان ذلك حينما ذهبنا سوياً لتمريض قامة مهمة من قامات الدولة. قلت بنوع من العصبية:
– أعلم أنكِ رافقتني في عدة زيارات خارجية، لكن هذه المرة الأمر يخصني أنا فقط.
نظرت لي بمكر، فأشحت بنظري بعيداً عنها، ونطقت من جسدي ارتجافة خفيفة، مكر النساء يخيفني.
– قد أعقد معك صفقة.
همهمت منتظراً تتمة كلامها وقد كنت مشغولاً بتوقيع أوراق الأدوية المطلوبة لمرضى الأعصاب.
– سأذهب معك، وبعدها سأوافق على ذلك العشاء الذي تطلبه مني منذ عدة أشهر.
كدت أن أعترض على طريقتها الخبيثة، لكني سرعان ما عدلت عن رأيي، فكرت، لماذا قد لا أريدها معي؟ على الأغلب الشرطة لن تعير لكلامي اهتماماً، وسأضطر للذهاب هناك وحدي بسيارتي لجلب طارق، لن أخسر شيئاً، بالعكس سأكسب رفيق في ساعات السفر المملة، وبعدها سأكسب العشاء الذي أردته دوماً.

– أليس من الخطر أن نذهب وحدنا؟ بدون شرطة.
– أولويته هي الخروج من ذلك المكان على ما يبدو.
ثم أردفتُ بصوت خفيض وأنا أتفقد المكان حولي:
– الذي لا أعرف بالضبط أين هو.
نظرت لي نظرة مخيفة:
– أنت تدرك أنه لا توجد قرية على الخريطة تدعى بكفر البجع، أليس كذلك؟
قلت مجادلاً:
– نعم ولكنكِ تعرفين أن ربع قرى مصر لا توجد على الخريطة.
– أعني أنه لا توجد إرشادات للمكان.
نظرت من النافذة لتتباين أمامي المزروعات الكثيفة على جانب الطريق، وقد بدا أنها تهرول هرباً من الاتجاه الذي نحن ذاهبون إليه، يثيرني ما يفعله العقل بمرئه في مثل تلك اللحظات. حينها أيقنت، أن القلق قد بدأ يتسرب إلى عقلي الباطن.
أخرجني صوت الكيس البلاستيكي من نزعات أفكاري، وهبّت راحة جميلة فجأة، إن لم تكن تلك الرائحة هي ما ببالي! مددتُ يدي إلى عفاف بشوق، تلك اللعينة، تفهمني دائماً، وجدت يدها تسبق يدي إليّ بشطيرة اللحم التي أعشقها، التقطتها بحماس، ونهمت قطمة كبيرة منها فلم يبدر مني إلا آنات بسيطة للذة ما يتذوقه لساني.
– هل تعلمين أني أحبكِ؟
جاوبتني بفم نصف ممتلئ:
– نعم.
– لا فعلاً، أحبكِ، تعرفين، ذلك النوع من الحب.
أومأت برأسها مهمهمة، فعاودت القول:
– الشغف، حرارة القلوب، حب الإيطاليين ذاك المليء بالصراخ.
– أعرف، أعرف.
– ماذا؟ هل تعتقدين أني أبالغ؟
قالت بنفاذ صبر:
– أعرف المشفى كلها، فرداً فرداً، ولم أقابل لا في المستشفى ولا في حياتي شخصاً يجعله الطعام شاعرياً بهذه الطريقة!
– ماذا؟ أغير مسموح لي بأن أعبّر عن حبّي!
– عبّر عن حبك بدون أن تكون قائداً لسيارة، وبيدك اليسرى شطيرة، وبشارب ملوث ببقايا الطعام، وعلى طريق زراعي صامت كالليل!
تباً! عفاف رقيقة حتى وهي تعاتب، سمعتها تستكمل تذمرها بصوت خفيض وهي تنظر من النافذة بحاجبين معقودين تبحث عن أي علامة ما في طريقنا:
– والشياطين فقط هي من تأكل بيدها اليسرى.
قالتها ثم ألقت بفمها قطعة من المخلل، أرق التهام رأيته في حياتي لقطعة مخلل! نقلت الشطيرة ليدي اليمنى وأمسكت المقود باليسرى، أحيانا أنسى أني أعسر. رحت ألتهم ما تبقى من الشطيرة بصمت غلّفه الإحباط، لا يبدو أني سأعيش قصة حبي الإيطالية المليئة بالشغف والصراخ. سمعتها تصيح:
– كفر البجع، اللافتة! اللافتة!
قلت بلا مبالاة:
– حقاً؟
نظرت لي بغيظ تمكنت من استشعاره بطرف عيني، فقلت مدافعاً عن نفسي:
– أكدت لكِ على وجود القرية، لم أكن لأقود على ذلك الطريق لولا أني متيقن من وجهتي.
– وكيف تتيقن؟
– كيف تعتقدين أنه وصل، طارق أقصد.
تنهدت بارتياح وهي تطالع ما حولنا. بعد ثوان توقفنا أمام ذلك الجسر، إذا عبرناه سنكون بداخل القرية رسمياً، مددت عنقي لأنظر عبر الزجاج إلى السماء، قاربت الشمس على المغيب. شعرت أنه كانت هناك أوقات أفضل من تلك لندخل فيها قرية مجهولة لا نعلم عنها شيئاً، لكن ما حدث قد حدث، ولا أعلم بالضبط ماذا حدث، لا أتذكر شيئاً سوى أن الدنيا أظلمت. وبذاكرتي شذرات عن صراخ عفاف الهستيري الصاخب، كانت تحاول حثي على أن أستيقظ، لكن، لسبب ما، النوم كان جميلاً جداً وقتها.

إقرأ أيضاً: لا تقتل فأراً

أستغرق مني الأمر عدة ثوان حتى أدرك أني استيقظت بداخل السيارة، وعدة ثوان أخرى حتى أدرك أن عفاف اختفت، أما أكثر الإدراكات إثارة للخوف، الشيء الذي جعلني أرتجف، كان رؤيتي لذلك الشيء أحمر اللون على ساعد ذراعي الأيمن، لا، لا، بالتأكيد هي ليست دماء، ليست دماء على قميصي وعلى المقعد المجاور لي، مصدرها لا يأتي من جانبي، لا يأتي من على المقعد الذي كانت عفاف تجلس عليه، الأمر طبعاً لا يبدو وكأن أحدهم وضع سلاح ناري على رقبتها ثم أطلق النار فتناثر دمها بداخل السيارة.
كان قلبي يضرب عروقي بعنف، ووجدت نفسي ألهث بدون أن أقوم بأي مجهود دون المجهود العقلي.

خرجت من السيارة وكالمجنون رحت أنادي على عفاف، لم أجهد نفسي بالنداء لأكثر من ثلاث مرات، علمت أنها لن ترد، ليس للأمر علاقة بكونها الآن جثة هامدة برصاصة في عنقها، أعني، أنا لا أظن ذلك بالطبع، لأنها ليست ميتة الآن بكل تأكيد، أنا لا أحسبها ميتة ولا أرتجف قطعاً من الخوف الآن، ومجدداً، ذلك الشيء الأحمر على ساعدي؟ حتماً ليست دمائها. أمسح ذلك الأحمر -الذي ليس دمها- بقميصي وأنا أتلفت حولي.

الكذب على النفس خدعة نفسية تعلمتها من أحد أطباء المجال، أطباء -المجانين- كما يطلقون عليهم في مجتمعنا، وهو ما يبدو نوعاً رخيصاً من الإهانات، أما الإهانة الحقيقية، هي إهانتي لعقلي ومحاولة الكذب عليه، هو يعلم أن ثمة خطب ما، يعرف أن صرخة عفاف الأخيرة تلك، ربما كانت آخر صرخة لها قبل أن ينفجر حلقها برصاصة، لكن رصاصة مَن؟
شعرت بخوف من العودة للسيارة فتركتها بمكانها بعد أن أحكمت إغلاقها، ثم بدأت أشق طريقي عبوراً للجسر الصغير. رائحة -التِّرْعة- كريهة للغاية، ألقيت نظرة من أعلى الجسر على ذلك الشيء الكريه أسفلي، ورأيتها ترعة لا تختلف عن أي ترعة في أي قرية مصرية عادية، عدا ذلك الشيء الغريب الذي يطفو على وجه الماء الأخضر العكر كريه الرائحة. تبدو ك… لا لا، هي تبدو كالملابس لكنها ليست ملابس، حتماً هي ليست جثة طافية ولا يظهر منها غير ملابسها، والجثة ليست مصدر الرائحة طبعاً لأن الترعة رائحتها تكون منفرة بكل حال، وما أشبه رائحة الجثث المتحللة برائحة الترع. ابتلعت ريقي ثم تقدمت في صمت.

حينما رأيت أول شوارع القرية، شعرت بشيء من الذعر، وكأن كل ما فات كان ذعراً مزيفاً، أما ذاك الذي يضربني الآن بعنف، فهو الرعب الحقيقي، رعب الرجال!
السبب بسيط، أي قرية سيتناثر اللون الأحمر على جدران بيوتها بهذه الكيفية! وكأن مجزرة حدثت في هذه الشوارع! أو الاحتمال الذي يجعلني هادئاً، ثمة رسام -جرافيتي- بين أهل القرية البسطاء، وهو يحب أن يرمي طلاء اللون الأحمر -الأحمر فقط- على الجدران بطريقة تجعلها تبدو كدماء متناثرة وما هي بكذلك طبعاً، وكأنها تعود لأشخاص تم قتلهم أمام تلك الجدران، تماما كما قُتلت عفاف وتناثر دمها عليّ بداخل السيارة!
حملة تصفية. يوقفون أهالي القرية في صف واحد أمام البيوت، مكبلين ويبكون بنحيب صامت، ثم يسمعون خطوات بطيئة خلفهم، يعرفون صاحبها، العرجة المميزة، صوت نعل الحذاء العسكري يضرب التراب، يصرخ بصوت متحشرج:
– إيشُسْن!
فينهمر الرصاص عليهم كأمطار ليالي نوفمبر، ويبتسم الوجه الطفولي في رضا ويعبث في شاربه الصغير، ينتهي الجنود من عملهم فيصيحون بصوت واحد:
– هايلْ هايلْ هِتلر!
يمد الزعيم النازي يده لهم بتحية الرايخ فيفعلون المثل.
ابتسمت لهلوسات أفكار، هتلر في كفر البجع، يبدو عنوناً جديراً بالصفحات الأولى في الأخبار.

الأسئلة لا تنتهي أبداً، أين الجميع؟ لماذا أرى الشوارع فارغة؟ وأين.. أين رائحة الدماء؟!
على مرمى بصري رأيت لوحة كبيرة “الوحدة الصحية لقرية كفر البجع” فجأة أذكر سبب وجودي في ذلك المكان -الدنس- وأهمس لنفسي: كان معك حق في وصفك يا صديقي.
هرعت بخطوات مرتجفة سريعة إلى ذلك المبنى الذي بدا أكبر وأكثر تميزاً عن بقية البيوت الأخرى البسيطة، التي كان بعضها طينياً ومتماسكاً بشكل يثير الإعجاب، هناك فن مختبئ يُدعى فن بناء البيوت الطينية، لا تحتاج لأن تكون مهندساً معمارياً لتعرف كيف تبني بيتاً طينياً، يكفيك أن تكون فناناً مثل الفنان الذي بنى تلك البيوت، والذي مات على الأرجح في تلك المجزرة التي حدثت هنا، وهنا السؤال الجديد، أين الجثث؟
بسرعة مرور أفكاري كنت قد وصلت لوجهتي، كان الباب المعدني الكبير مفتوحاً، أما داخل المبنى فكان مظلماً حد الغرابة، قد تكون الشمس قاربت على المغيب لكن الظلام بالداخل يستحيل تبريره، الضوء لابد من أن يلمس شيئاً من الداخل، ينير الطريق لبضع خطوات على الأقل. يزورني شعور بأن ذلك ليس وقت الشكوى للشمس، ضوئكِ مزيف أيتها الجميلة، الأرض تريد نقودها، لكنها ستسامحكِ إذا عدتِ وأشرقتِ مجدداً لتبددي ذلك الظلام المخيف قبل أن يحل.
أخرجت هاتفي وسط أفكاري الهوجاء، وأشعلت ضوء -الفلاش- به، وبتوجيهه إلى دخل مبنى الوحدة الصحية، أدركت المدخل عبارة عن رواق طويل فارغ، وثمة شيء يتحرك في الزاوية القائمة لجانب الممر، وهو سؤال جديد: لماذا تجري الفئران دائماً ملاصقة جنبها للجدار؟ وكأنهم يطلبون أمان الجدران من الوحوش بخارج عالمهم البسيط في المجاري، قصة حياة فأر قد تكون مثيرة فعلاً، رعب الوحوش المجهولة بالخارج، أما أنا، فلدي رعب الوحوش المجهولة بالخارج والداخل وكل مكان!
ناديت بصوت خرج كصوت طفل صغير، ناديت على أي شخص، أي بشري، ردّ عليّ صدى صوتي من الجهة المقابلة، وقد بدا لي أنه أغلظ مما خرج مني، وذاك جعلني أرتجف قليلاً. ازدردت لعابي للمرة العاشرة على الأغلب ثم انزلقت إلى داخل المبنى، وأقول انزلقت لأني لم أرد الدخول حقاً، لكن بدا أنها الطريقة الوحيدة آنذاك. تنبض أفكاري بحل رائع بين الحين والآخر، وهو أن أترك عفاف، وطارق، وأنفد بجلدي من ذلك المكان، ثم أعود ومعي جيش من رجال الشرطة لنحرق هذا المكان عن بكرة أبيه، تبدو فكرة طريفة لأن الأمور لا تسير دائماً بهذه البساطة.
ربما يجب أن أعود وأحاول لأجد أن البنزين في السيارة قد نفذ وأدرك أني علقت هنا، أعني إذا كنت أنا البطل، فالقصة يجب أن تسير هكذا، يجب أن أدخل إلى الوحش بنفسي، أليس كذلك؟
مشيت بضع خطوات لأرى على الأرض مجسم لعبة صغير لإحدى الشخصيات الكرتونية الشهيرة، هبطت أرضاً لأمسك بها وأتفحصها، قبل أن أسمع صوت الكليك المميز للأسلحة، صوت قفل الأمان، وصوت تحذير بألا أقوم بأي فعل عنيف، توقفت عن الحركة وتلقائياً رفعت يدي في وضعية المستسلم، ومن ثم سمعت الصوت:
– ماذا تفعل أيها البغل؟
أعرف ذلك الصوت، وإن بدا أكثر بؤساً عما أتذكره، طارق! تلفتُّ لأجده يسارع بعناقي في حرارة، أنفاسه تخبرني أنه يوشك على البكاء.
– أتيتَ أخيراً!
حاولت أن أهدئ من روعه:
– نعم أنا هنا.
تركني ثم قال بصوت خائف:
– تعال. صديقتك دلتني عليك.
– عفاف؟
– نعم، قالت إنك أتيت بحثاً عني.
سببتها في سري لكمية القلق التي ساورتني بسببها. أسأله:
– تركتني في السيارة وحدي، ظننت أنها…
وهنا ألاحظ الأمر. في البداية لم يتسن لي ملاحظة وجهه جيداً، أما الآن، فقد يبدو لي أنه شاحب أكثر من اللازم، لكن أيضاً يبدو لي أن سنه لم يتقدم ولو لسنة واحدة عما تركته، وكأن الزمن لم يلعب لعبته عليه، وقد بدا لي هذا غريباً لأقصى الحدود.
يقول لي:
– خرجت لتستكشف المكان وتطلب المساعدة بعد ما حدث لك، وتقابلنا ودلتني عليك.
– وأين هي؟
– ذاهبون لها، اصبر.
مشيت وراءه بحذر، لاحظت الأمر، بيده اليمني يحمل ذلك السلاح الناري العتيق، من أين جلبه؟ لا أعرف. كان يقودني داخل ممرات متشابكة داخل الوحدة الصحية التي بدا أنها مهجورة منذ زمن، قبل أن نصل أخيراً إلى غرفة بدا لي أنها سكن الأطباء. يقول:
– هذا مخبأي، هنا سنكون بأمان.
صاحت الكلمات داخل عقلي بهلع: مخبأك! من ماذا؟!

….

يقول طارق وهو يحاول إشعال لفافة تبغ بين شفتيه، بقداحة عتيقة:
– هل تؤمن بالوحوش؟
نظرت له بشك، هل جن أخيراً؟ ربما مشكلتي أني أفرط في التفكير. جاوبته متنهداً:
– الإيمان مراحل.
لم تستجب له القداحة وظلت عنيدة تأبي أن تخرج نيرانها، ظل يحاول معها بعصبية، فيتطاير شرز الاحتكاك مضيئاً وجهه الذي غطته لحية غير مشذبة، ويعلو صوت القداحة المميز. يقول على حاله:
– لا أقصد أي وحوش، أقصد وحوش ذلك الرجل، لافكرافت.
أجفلت لوهلة، لتوي تذكرت أن طارق مولع بكتابات الرعب القوطي القديم، وكان لديه شغف غريب مع كتابات لافكرافت بالذات، علاقة حب من النوع المريب. حوّلت نظري إلى عفاف النائمة على أريكة قديمة مثل ملاك بريء، متدثرة بلحاف ثقيل. أسمعه يكمل بعد أن رمى القداحة في أحد الأركان بعصبية:
– ما هي فرصة، أن تكون الماورائية الوحيدة التي أراها في حياتي كلها، هي ماورائية تهدد بقتلي؟ ألم يكن بالإمكان أن أرى ماورائية متعلقة بالجنيات الصغيرات اللطيفات مثلاً!
أرى ضوء مصباح التنجستين العتيق يبرق في عينيه، وأسمع صوته يكمل:
– لهذا أكاد أن أجن يا صديقي!
لا بد من بداية لكل شيء، وبدايته لم تكن مثالية، لذا حاولت أن أصل لها بطريقتي:
– ماورائية؟
– يسمونه أبو عَلامة.
– من؟
– الوحش الذي يشبه وحوش لافكرافت.
– من البداية يا صديقي، من البداية.
تنهد:
– منذ أن خطوت أول خطوات هنا شممت رائحة الدماء.
نظر حوله بتلقائية كأنما يريد التأكد من أن لا أحد يسمعه، ثم مال ناحيتي ليقول بنبرة انفعالية منخفضة:
– أقسم لك أني شممت رائحة الدماء في حقول الذرة، كانت تأتي من الذرة نفسها!
– وماذا حدث بعد ذلك؟
– لا شيء، أنت يا طارق تهلوس.
قالها ثم أعاد نفسه للوراء مسترخياً قبل أن يكمل:
– التهويدة التي أقنعت بها نفسي.
– ولكن؟
– ولكن قابلت الأهالي.
– وكانوا أشرار؟
– لا، أبداً، أناس طيبين.
– كانوا مريبين؟
– أيضاً لا.
– أغبياء؟
– لا.
– ملاحدة؟ زناديق؟ عبدة شيطان؟
ينظر لي لائماً على سخريتي، فأدفع عني النظرة بكلمات:
– لأنهم إن لم يكونوا أي من ذلك، فلا أرى سبباً للخوف فعلاً.
يصمت قليلاً قبل أن يخرج علبة ثقاب من مكان ما، فيشعل لفافة التبغ التي ظلت منتظرة بين شفتيه طوال الوقت، فيسحب منها الكثير ويهف القليل:
– تعرف أن أهل الريف يحبون الجلابيب، صحيح؟ الرجال أقصد.. والنساء طبعاً.
– نعم، وماذا في ذلك؟
– هل رأيت يوماً جلباباً أحمر اللون؟
أصمت مقطب الحاجبين مفكراً فيما قاله، فلعمري لم أكن أتوقع سؤاله هذا، وأكاد أسأله عن شيء فيقاطعني:
– جلباب صلاة، ثوب عادي، أحمر اللون، هل رأيت في حياتك شيء مثل هذا؟
– وماذا في ذلك؟ رجل غريب يحب اللون الأحمر.
يسحب المزيد من لفافة التبغ:
– ليس واحداً.
– رجل أو اثنين أو عائلة كاملة، الجنون يُورّث كما تعلم.
– كل رجل قابلته في القرية يرتدي جلباب أحمر اللون بالكامل، بالكامل أقول!
وقبل أن أرد، سمعت رداً يأتي من غيري:
– مثل هذا؟
نظرنا ناحية الصوت فوجدنا عفاف تقف فاردة ذراعيها كأنه تمثال المسيح المخلّص في ريو دي جانيرو، وتنظر إلى ما تلبسه وكذا نحن معها، وكانت ترتدي ذلك الجلباب القروي الأحمر إياه. يشير طارق بسبابته إليها قائلاً:
– أرأيت؟
أقول وأنا أقف غاضباً:
– أيتها الغبية! قلقتُ عليكِ وظننتكِ….
تقول بصوتها الناعس وهي تجلس على الأريكة التي كانت نائمة عليها:
– أنت الذي قلقت؟
– كيف طبيبة وكيف تتركينني بحثاً عن المساعدة!
تفرك جبهتها فشعرها البني الناعم:
– بل لأنني طبيبة ذهبت بحثاً عن المساعدة. ما الذي تظن أنه حدث لك؟
– لا أعلم، فقدان وعي طبيعي.
يصيح طارق:
– لا شيء في فقدان الوعي طبيعي!
أرد بغيظ:
– أنت معي أم عليّ؟ ثم إني قصدت أنها تعرف أساسيات التعامل مع حالات فقدان الوعي.
كانت تشرب من زجاجة مياه كانت قد جلبتها معها في رحلتنا، فتمسح فمها بكم الجلباب بعد انتهائها، وتقول:
– لم أر في حياتي شيء كهذا. لا تؤاخذني على بحثي عن المساعدة. رحت ترتجف بشدة مثل مريض صرع درجة أولى، ثم فتحت فاهك وفقدت وعيك.
أصيح وكل معالم الدهشة عليّ:
– لا أتذكر هذا!
يقول طارق:
– معناها أنه قد رآك.
– من الذي رآني؟
تقول عفاف:
– صحيح من رآه؟ وأين الجميع في هذه القرية الكئيبة؟
أعاود الجلوس على مقعدي الخشبي، ممسكاً برأسي قبل أن ينفجر، وأسألها وأنا أكاد أبكي:
– بل لماذا يا عفاف ترتدين جلابيبهم؟
– الجو بارد، ودكتور طارق هنا بأخلاق النبلاء أصرّ أن أرتديها، وصدقني، شكلها رائع عليّ!
تقولها مبتسمة وهي تفرد ذراعيها مجدداً وتتفحص ملبسها الرجالي الأحمر الأقرب للون للدماء.
أقول ناظراً لأعلى:
– يا رب، أتيت بي مع زوج من المخابيل.


يقول طارق:
– أخبرك أنه هو، أبو علامة.
أقول محاولاً لملمة شتات أفكاري:
– دعنا الآن مع الجلابيب الحمراء، وبالتدريج سنصل لأبو علامة هذا. ماذا حدث بعد أن وجدت كل الرجال يلبسون جلابيب حمراء؟
– يا ليته كل الرجال فقط، بل كل الأهالي! النساء الأطفال… كله ملابس حمراء!
تقول عفاف:
– أعني.. ربما هناك تخفيضات على…
أنظر لها نظرة نارية فتقول بصوت خفيض:
– أمزح… آسفة.. أكمل يا دكتور طارق.
ويكمل الأخير:
– في البداية، ظننت أنه عيد معين لديهم، لذا سألتهم.
أقول:
– أنا أيضاً أحس أنه شيء مشابه.
– نظروا إليّ وكأنني المجنون!
تقول عفاف وهي لا زالت منبهرة بالجلباب وتتفحصه باهتمام:
– كل غريب أرض مجنون.
– بالضبط! أحدهم هرول نحوي وخلع جلبابه ليغطيني، قال إنه سيراني هكذا، وأن الحل الوحيد أن أرتدي الأحمر، آخبرك ما العجيب بشأنهم؟ هل أزيد بشأن اللون الأحمر؟
فلتت ضحكة مكتومة من عفاف وقد بدا أنها وصلت لحقيقة مهمة قبلي، أسأل وأنا أحوّل نظري من عليها إلى طارق:
– لا تقل لي أنه…
يقاطعني متسع العينين:
– نعم! ملابس داخلية حمراء! كلسون أحمر بالكامل!
تزيد ضحكات عفاف المكتومة وهي تقول مضخمة صوتها ساخرة بنبرة قروية:
– لو سمحت، أريد ملبس داخلي أحمر، أحمر فقط، لا يوجد؟ إذن لن أشتري.
يرد طارق:
– لم يوجد طبعاً، لكنك تعلمين، أهل القرى بسطاء والعملية هي عنوانهم.
– وهذا يجعلهم؟
– يصبغون ملابسهم بأنفسهم.
أسأله:
– وكيف يصنعون اللون الأحمر بعملية؟
– ماذا تظن؟
تقف عفاف فجأة وتختفي ابتسامتها البلهاء:
– ماذا تعني؟
أقول متقصداً إثارة خوفهاً:
– الماشية كثيرة في القرى، ودمها لا استخدام له بعد ذبحها كما تعلمين.
لوهلة بدا وكأن عفاف ستنفجر، ولكنها سرعان ما عادت تجلس قائلة:
– البنجر صحيح؟
يرد طارق:
– نعم، بنجر.. شمندر.. أياً كان اسمه.
أقول:
– لنعد للبداية يا طارق.
– لا بداية! ظننت القوم مجانين مذ رأيتهم. يؤمنون أن هناك شيء ما.. وحش ما.. يراقبهم.
– أبو علي هذا؟
– أبو علامة.
– بالله عليك يا طارق، ألا يبدو لك هذا مثل أبو رِجل مسلوخة؟ أسطورة يخيفون بها الأطفال حتى يخلدون للنوم.
– هذا بالضبط ما فكرت به! قالوا يتربص بالجميع في الليل، يختبئ حيث لا يُرى، يسيطر على العقول، يفعل أشياء عجيبة بالبشر، ألم تجرب أنت ذلك؟
– جربت ماذا؟
– الأشياء العجيبة إياها، أنت تعرف.
– لا أعرف، أخبرني، ما المفترض حدوثه؟
– بداية تقول أشياء غريبة، ثم تفقد وعيك.
– لم أقل أشياء عجيبة، ثم إن هذا ما قالته عفاف، أني فقدت وعيي.
تقول عفاف:
– في الواقع قلتَ شيئاً عن الخصوصية والأمان، بدوت مستاءً من أن أحدهم لا يقدّر خصوصيتك.
– لا أذكر هذا!
يقول طارق:
– بعد استيقاظك سترى دماً حولك، قل لي أن هذا لم يحدث أيضاً، أو أنك لا تذكره.
أضحك ساخراً:
– هذا لا يُثبت أي شيء.
– بل يثبت أنه رآك.
تسأل عفاف بدلاً عني:
– ولماذا اختار أن يراه هو ولم يختارني، هذه تفرقة عنصرية لا ترضي…
يقاطعها طارق موجهاً حديثه لي:
– لأنها كانت ترتدي كنزة زهرية.
أسترق النظر لعفاف لأجدها تنظر من فتحة صدر جلبابها وقد بدا أنها تتأكد من لون كنزتها. أقول:
– ما الذي يعنيه هذا؟
– الزهري قريب للأحمر.. هو خليط من الأحمر والأبيض.
أقف قائلاً بانفعال:
– هذا أهرء هراء سمعته في حياتي!
– لكنه حقيقي على الأقل.
– هكذا؟ اللون الأحمر يجعله لا يرى الفريسة؟ بهذه البساطة؟
تتدخل عفاف:
– وأقربائه.
أستدير لها:
– ماذا؟
– عائلة اللون الأحمر.
أشعر بالدم يصل لدماغي، يكاد يفجره. أقول من بين أسناني:
– لقد أضعت وقتي هنا.. هيا بنا لنعد إلى السيارة ونرحل.
يقف طارق ويقول بحدة مماثلة لحدتي:
– إذا كان كلامي لا يفسر لك شيئاً، فلتجد من يفسر ما حدث لك.
– لا أريد تفسيراً سوى المغادرة، ولم تجبنا على السؤال.. ماذا حدث لأهل القرية؟ أين هم؟ ثم إنك هنا منذ سنوات، كيف لم تنهي فترة تعيينك!
– هذه قصة أخرى أطول، لكن يجب أن تعرف أن صاحبنا يتحكم في الزمن.
لثوان وقفت مشدوهاً، وعقلي يحاول برمجة ما أسمع، فيكمل طارق:
– عرفنا أن الوقت يمر علينا هنا بطيئاً جداً، لم يمضِ عليّ هنا سوى شهرين.
– واحد اسمه أبو علي، ويتحكم في الزمن؟
– أخبرك أنه كيان من كيانات لافكرافت المرعبة! ألا تفهم!
أقول وأنا أتحرك خارجاً:
– فلتحكِ لي في الطريق.
فيرد ممسكاً بعضدي:
– لا يمكنك!
لاحظت أن قبضته أعنف من اللازم، فنفضته عني بحركة عنيفة:
– ماذا تريد؟
يقول بصوت مثل الهمس وكأننا لم نكن على مشارف الصياح منذ قليل:
– يعرفون أنك هنا.
– من هم؟ أقرباء أبو رِجل مسلوخة؟
– أهل القرية.
وتزامناً مع انتهاء كلماته فوجئنا بنفير من الرجال يقتحم علينا المكان، يدخلون من كل منفذ متاح لدرجة أني رأيت أحدهم يزحف خلال النافذة مثل الفأر. هم بجلابيبهم الحمراء المخيفة، ووجوهم الشاحبة الساكنة. تصرخ عفاف فزعة وتهرول لتقف خلفي وتحتمي بي، بينما أنظر أنا إلى طارق:
– ما الذي يحدث؟
يمتقع وجهه:
– سأتكلم مع العمدة، أنا أعرفه.
وقبل أن أرد أجدهم يقيدونني بحبل غليظ رغماً عن عفاف التي كانت تتمسك بي، غير مبالين بمقاومتي البائسة وسط صرخات عفاف. يبدون كطائفة من تلك التي تعبد الكيانات الغامضة، أو ربما هم طائفة بالفعل. لست أدري متى انتهوا، ولست أدري متى حملوني وهمّوا يمشون بي فوق رؤوسهم وكأنني تابوت وتلك جنازة، وكل ذلك دون كلمة واحدة منهم. أحاول استنطاقهم:
– ما الذي يحدث يا جماعة الخير؟
ولا يصلني أي رد، وقد بدوا لي أنهم لا يسمعونني إطلاقاً، فأحول كلامي إلى طارق الذي كان يمشي مسرعاً وراءهم ومعه عفاف التي بدا أنها تقبلت الأمر الواقع وكفّت عن الصراخ:
– ما الذي يحدث يا طارق؟!
– لقد رآك! يريدون أن يعطوك له.
ألتفت إلى أحد الذي يحملونني صارخاً:
– يدك يا حقير!
ثم أعود لطارق:
– وأنت يا بن ال…. ما الذي يعنيه هذا!
– سيفعل أشياء سيئة بالقرية لو لم يعثر عليك!
– بل سأفعل أنا بك أشياء سيئة لو لم تجعلهم يتركوني الآن!
أراه يبتلع لعابه ثم يجري إلى أول القافلة البشرية، فأنهض برأسي لأراه يحادث أحدهم وقد بدا أنه قائدهم أو العمدة، في تلك الأثناء تقول لي عفاف من أسفل وهي تمشي مع الجمع:
– سأبلغ عنهم، صدقني!
– اخرجي من هنا سالمة أولاً يا عفاف.
كانت تغالب البكاء، فتمسح عينيها بكم جلبابها:
– سأفعل، أنا أرتدي لوناً يحميني.
– أنتِ لم تبتاعي هذا الهراء، أليس كذلك؟
– ابتعت أنهم كثيرون ويمكنهم أذيتنا إذا أرادوا.
أجز على أسناني وأنا أنظر لطارق الذي كان لا يزال يناقش كبيرهم، أناديه ولكن لا يسمعني، فألتفت إلى عفاف التي كانت تحاول عبثاً دفع أحدهم عني.
– عفاف.. عفاف!
تنظر لي وهي تسب الرجل:
– ماذا؟
– مدي يدك إلى جيب بنطالي.
– ماذا؟
– هذا ليس وقت الغباء! جيب بنطالي. أسرعي!
تفعل مثلما طلبت وهي تتذمر أن كيف حدث كل ذلك.
-هل وجدتها؟ دمية صغيرة.
تخرج يدها بها وهي تشهق بفرحة مثل الطفل الصغير، تقول وهي تتفحصها:
– يا إلهي! ما ألطفه!
حاولت ركلها لكن ساقيّ كانتا مربوطتان إلى بعضهما البعض، فبدوت مثل دودة تتلوى. أقول بين أسناني:
– هل ترين ذلك الطفل هناك؟
لم تسمعني إذ كانت مشغولة مع اكتشافها اللطيف. أنادي عليها:
– عفاف! هذا ليس وقته!
تنتبه لي فتسرع لتقول:
– آسفة! لكنه لطيف للغاية!
– هل ترين ذلك الطفل هناك؟ لا يبدو أنه مع أحد.
تقطب حاجبيها وتقول متذمرة:
– أنت لا تخطط لأن تعطيه لعبتي، صحيح؟
ويبدو أن علامات انفجاري ظهرت على وجهي، مما جعلها تتحرك بسرعة إلى الطفل وتعود به. كان هادئ الملامح بارد النظرات.
– أيها الصغير، أترى هذه اللعبة في يد ماما؟
تعترض عفاف:
– لستُ ماما!
أقول متجاهلاً عفاف:
– ماما ستعطيها لك إن أجبتني على عدة أسئلة.
ينظر الطفل إلى اللعبة لوهلة، بينما تنظر لي عفاف بغيظ. يهز الطفل رأسه إيجاباً فأقول:
– القرية كانت فارغة حينما جئت، أين كنتم؟
يرد بصوته الناعم الخافت:
– كنا في….
وقبل أن يكمل كلامه تهوي صفعة من أحد القرويين على وجهه، فيصمت ويهرول عائداً حيث كان وخلفه عفاف. أقول بعصبية للذي صفع لطفل:
– الآن رجعت لكم حاسة السمع!
يقترب مني فيدفع أحد الذي كانوا يحملونني ويحل محله بالقرب من رأسي، ثم يهمس لي بلهجة قروية:
– ما الذي أتى بك إلى هنا يا حمار؟
همست له أنا الآخر:
– ما الذي يحدث هنا؟
– سألتك أولاً.
– أترى هذا البغل هناك؟ طارق، هو من أرسل بطلبي.
– دكتور طارق؟ هو رأس المصائب أقسم لك!
– لماذا؟
– ألم يخبرك أن ترتدي الأحمر قبل أن تأتي؟
– أخبرني لكن ظننته يمزح! لم أفهم سبب طلبه.
– ودّع زوجتك إذن، قد لا تراها مجدداً.
أنظر لعفاف فأجدها تواسي الطفل المصفوع، فتمسح دموعه وتهاديه اللعبة الصغيرة في حنان أموي حقيقي. أعود للرجل وأنا أحاول التملص من قيودي:
– إلى أين تأخذونني؟
– ستعلم.
كنا حينئذ قد خرجنا من المبنى إلى القرية، وكانت الشمس قد غربت تماماً فلم يُنر ظلامنا إلا بضع مصابيح في أعمدة إضاءة متفرقة.
– اسمع، لماذا لا تغادرون المكان طالما أنكم تخافون من أبو علامة هذا؟
– اسمع أنت! أتعرف ما حدث؟ ألا ترى القرية فارغة؟
– هذا سؤال لكم، أين كنتم؟
– ألا ترى العلامات في كل مكان في القرية؟
– نعم.
– ألم تر مثلها وأنت في السيارة؟
– بلى.
– أفهمت إذن ما حدث؟
أزدرد لعابي بصعوبة:
– هبني لا أفهم.
– أولئك أشخاص مثلك، لم يصدقوا الأمر ولم يرتدوا الأحمر.
– وماذا حدث لهم؟
– كانوا رجال عِلم مثلك، تجمعوا في ليلة وقرروا أنهم سيخرجون بملابس عادية حتى يثبتوا لنا جميعاً أن الأمر وهم.
– وهو كذلك!
– مصيرك مثلهم يا غبي.
– شكراً. أين كنتم على كل حال؟ أين تعيشون؟
– خفنا من العواقب جميعاً واختبئنا في المقابر.. صنعنا بيوتاً من القش والطين هناك.
– سكنتم في المقابر لأنكم تخافون من أبو رجل مسلوخة؟
– أبو علامة.
– أتخافون من أساطير وأوهام، ولا تخافون من المقابر؟
– لماذا قد نخاف منها؟ إنها المكان الأكثر أماناً هنا. ثم ألا ترى العلامات في كل مكان في القرية؟ أبو علامة رآهم، الحمقى، رآهم وأكل عقولهم.
– حقاً؟ جميل، وأين هم الآن؟
– موتى بالطبع.
– ومن أخبركم أني هنا أصلاً؟
– ألا تعرف؟ طلباً للأمان، صرنا نتواصل مع أبو علامة شخصياً.
– حقاً؟ وقال لكم أني هنا؟
– بل طلب منا أن نجلبك إليه.
– ألم يكن بإمكانكم الهرب منه فقط لا غير؟
– لا نستطيع. هذا الوغد يتحكم بالوقت على ما يبدو. يبدو أنه قد مرّت أعوام في العالم الخارجي، ولم يمر هنا سوى أشهر.
كظمت غيظي داخلي ورحت أنتظر مصيراً لا أعرفه. بعد دقائق أتى لي طارق لاهثاً:
– لم أصل لشيء مع العمدة.
أقول ببرود وأنا أنظر للسماء:
– يا لها من صدمة، أحزنتني.
– يريدون التضحية بك.
أنتفض في مكاني ناظراً له:
– هل تراني خروفاً!
– لست أنا، بل هم.
– محمود يا طوخي.. أقسم لك أنني إن خرجت من هنا سالماً، لسوف أفعل بك الأفاعيل.
ينظر لي نظرة آسفة من نوع -هذا إن خرجت- فوددت لو أقفز عليه من مكاني، إلا أنه ومجدداً، انتهى بي المطاف أتلوى مثل دودة صغيرة. بعد ثوان من الصمت والمقاومة وسب الذين يحملونني، توقفنا فجأة وقد بدا أننا قد وصلنا إلى وجهتنا. راحوا يُنزلونني من على أكتافهم، ويحملونني حمل اليد إلى اليد، حتى وضعوني مستلقياً على الأرض، بعدها، وبشيء كالسحر، انفضوا من حولي بينما يقوم أحدهم بربطي بسلسلة في أحد أعمدة الإنارة، أقول له إذ يفعل:
– اسمع، إذا حدثت أي مشكلة كهربائية، سأموت.
لكنه لا يرد ويحكم إغلاق القفل المعدني. أزيد:
– أنت لا تود أن تقتل رجلاً مسكيناً أليس كذلك؟
يرد عليّ وهو يقترب مني:
– أفضل أن أقتل روحاً واحدة، على أن يقتلنا أبو علامة كلنا.
يقف عند ساقيّ ويقول:
– أنا آسف، يجب أن نضمن أنك لن تهرب.
– مع السلسلة؟ مستحيل يا رجل، ثم إن…
ثم فهمت سبب اعتذاره فور أن هوى على ساقي بعتلة حديدة ثقيلة. لم أشعر إلا والألم يتفجّر من ذلك الجزء من الساق، فصرخت صراخاً لا أظنني صرخته من قبل، حتى أني ظننت أن أحبالي الصوتية قد تقطعت. يتركني الرجل وسط آلامي مبتعداً مع عتلته، ووسط آلامي وصرخاتي، أتابعهم في انفصالهم عني، وأرى عفاف تحاربهم بكل ما أوتيت، لكن نسوتهن كن يحملنها حملاً بعيداً ويسرن بها، وكذا فعل الرجال مع طارق الذي كانت مقاومته أقل. هكذا يختفون عني جميعاً، وأبقى وحدي مقيد اليدين والقدمين، مربوط إلى جماد، مكسور الساق، فاقد الإحساس بكل شيء إلا ألم يجتاح ساقي.

….

لا بد أن صوت شخيري كان عالياً حينما شعرت بتلك الصفعة على خدي. أفقت أطالع شبحاً طويلاً، وبعد التدقيق أدركت أنها عفاف تسأل:
– لا زلتَ حياً؟
أسعل سعالاً جافاً، وهي علامة سيئة أني أُصبتُ بالتهاب أو عدوى في هذا الجو البارد. أجدها تنحني عليّ وتسقيني ماءً من زجاجة بلاستيكية صغيرة، قبل أن تتركني وتتجه لفك القفل والسلسلة عني. ألاحظ أنها وضعت جانبي على الأرض مصباحاً يدوياً كانت تحمله معها، وألاحظ أنها لم تعد ترتدي الجلباب إياه. أسألها:
– ماذا حدث؟ مرت ساعات ولم أر سيدهم هذا. نمت في مكاني.
تقول وهي تحمل المصباح بيد، ثم تسندني باليد الأخرى فتضع ذراعي حول عنقها:
– هيا هيا، لنرحل من هنا.. قم أنت بالعد.
يتعالى صوت شهيقي وزفيري وأنا أقول:
– واحد.. اثنان.
وأتوقف فترة قبل الوصول لرقم ثلاثة، فأجدها تقول وهي ترفعني:
– ثلاثة!
أصرخ ألماً إذ تفعل، وفي النهاية أقف معها شاعراً بآلام بسيطة في جسدي، وآلام رهيبة في ساقي المكسورة على الأغلب. أسأل بعد آهة صغيرة مني:
– أين الجميع؟ كيف هربتِ منهم؟
– سأحكي لك لاحقاً.
نمشي خطواتنا وسط صمت وظلام يلف المكان بأكمله، وبين الحين والحين، تضرب صاعقة ساقي فأتوه وتواسيني عفاف أن أصبر، وأننا كدنا نصل للسيارة. كنت كالثمل، وكان الوقت حسب تقديري قد تخطى منتصف الليل بساعة أو اثنين. فجأة وجدت نفسي أقول لها:
– عفاف.
تهمهم على سبيل الرد، فأقول:
– هلا تزوجتني؟
لم ألحظ حينها أنها في حال مزرية نفسياً أكثر مني، ولم ألحظ أن شخصيتها المرحة قد اختفت تماماً في ردودها وأفعالها. تقول محاولة استعادة بعضاً ما فقدته:
– سأضيف الساق المكسورة مع الطعام في قائمة الأشياء التي تجعلك شاعرياً.
تجد ضحكة مؤلمة طريقها إليّ:
– والظلام، والليل.
– والوحوش كذلك.
أرد بخيبة أمل متنهداً متأوهاً:
– حتى أنت يا بروتُس؟
تصمت برهة فشعرت أنها تزن الكلمات في عقلها، ولم أدرِ أنها لم تكن تفعل، بل كانت تفكر في طريقة قول ما ستقوله:
– لقد رأيته… يا قيصر.
لم أعرف من نبرتها إن كانت جادة أم لا، لكني حينما نظرت لها، ورأيت وجهها على انعكاسات ضوء المصباح، شعرت أنها فكها يرتجف، بل وشعرت برعشة خفيفة تسري في جسدها حينما قلت:
– الوحش؟ تقولين أنكِ رأيتِ أبو علامة؟
صمتت واكتفت بهز رأسها إيجاباً. كنا قد وصلنا إلى السيارة، فألفيتها تمسك المصباح بذقنها ثم تمد يدها إلى جيبي فتخرج المفاتيح، وتفتح الباب المجاور للسائق، فأدلف داخلاً مقاوماً إعصار الآلام الذي يجتاح ساقي. حينما ركبت جانبي في مقعد السائق قلت لها:
– كيف كان؟
تمر ثوان تشغل فيها محرك السيارة، قبل أن ترد:
– لا أريد التحدث عن الأمر.
ثم تردف بعد ثوان:
– أخبرني أن أخبرك أنه يتحكم في الأحلام.
أطالعها للمرة الألف محاولاً تشفي إذا ما كانت تمزح أم تتكلم جدياً، وحتماً ذاك ليس وجه شخص يمزح. أسألها:
– ما الدليل على أنكِ رأيته وحادثته؟
تنظر للعدم ثوان أخريات، قبل أن تشمر عن ساعدها فأرى رسماً عجيباً باللون الأحمر بامتداد ذراعها إلى ما تحت الملابس، ثم ودون كلمة أخرى، تغطي ساعدها وتنطلق بالسيارة.

يتبع….

البراء

مصر - للتواصل: [email protected] \\ مدونة الكاتب https://baraashafee.blogspot.com/
guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى