أدب الرعب والعام

أبو علامة – الجزء الثاني

وقف أمامي يطالعني بشيء من الحسرة، وشعرت أنه حزين عليّ وغاضب مني. لم يكن ذاك سوى مدير المشفى الذي أعمل به يقول وهو ينظر لساقي المعلقة أمامه:
– كدت أخصم منك أسبوعاً لانقطاعك عن العمل.
– لكن قلبك طيب وأنت تحبني.
– لكن عفاف شرحت لي الوضع. أصررتُ على زيارتك بنفسي وإعطائك ورقة الإجازة المرضية لتوقعها بنفسك.
يقولها ثم يمد يده لي بورقة رسمية من المشفى، مع قلم حبر. أوقع الورقة وأنا أسأله:
– أين هي عفاف؟
فيجاوبني:
– في نوبتها.
ويجلس جانبي على السرير قائلاً بصوت خفيض:
– ماذا حدث يا أشرف؟ تقرير الأشعة يقول إنك تعرضت لضربة بأداة في ساقك!
– وقعت من مكان مرتفع وارتطمت ساقي بكتلة إسمنتية، هذا هو ما حدث.
– وهذا ما قالته لي عفاف أيضاً، وهو ما لا أصدقه. هل رأيتها؟ أمتأكد أنت أنها عفاف التي نعرف؟
– ماذا تعني؟
– أعني أن ثمة ما حدث في تلك الرحلة لكنكما لا تخبرانا به.
– أعني.. هذا من حقك طبعاً أن تعترض على تفسيرنا، لكنك لم تكن معنا لذا…
يقف قائلاً:
– نعم أعرف، لكن كفاءة عفاف تأثرت وأراهن أنك كفاءتك أيضاً ستقل.
وهنا دخل أبي يحمل بعضاً من المقبلات واجب استقبال المدير، إلا أن الأخير شكرنا مؤكداً على ضرورة انصرافه. يقول لي قبل أن يقوده أبي إلى مخرجه:
– فكّر في الأمر. لن أجبركما على قول شيء لكن يمكنني مساعدتكما، لأنه حتماً وكلياً، لا تبدوان لي بخير.
شعرت حينها أنني أدين لشخص ما بالحقيقة، لأن ما حدث ليس هيناً عليّ، وقد شعرت بلحظة الضعف هذه أمام المدير وهو أقرب للتوسل إليّ أن أخبره بما جرى، غير أني في النهاية، وبعد ثوان من التفكير، انتهيت إلى أن الحكاية لا تخصني وحدي، بل تخص عفاف أيضاً، وهكذا، أرجأت إخبار الحقيقة، إلى حين معرفة الحقيقة من عفاف.

….

راقبت شفتيها وهما تلثمان حافة فنجان القهوة، وكانت تلك أول مرة أراها فيها بعد شفاء ساقي، وأول مرة أداوم فيها بعد الانقطاع. لم تلحظ وجودي وأما أنا فاستنشقت ونهمت وجودها وكأنني لم أرها أبداً، رغم أننا تواصلنا صوتياً عدة مرات في تلك الفترة.
الحق أنني وبعد سُكر أول رؤيا وانقشاع ضباب المشتاق للقيا رأيت فيما رأيت أشياءً جديدة فيها، فلما كنا نتحدث عن فتحي القهوجي وكيف أن جميع معاطف الأطباء تلطخت بالقهوة عدا معطف عفاف، كان ذاك لأنها أبداً ليست فتاة قهوة، ففي يوم قبل شهرين كانت لا تطيق لها رائحة، وفي اليوم هي ترتشفها وتتلذذ بها كأنها المدمن المحتاج إذا لقي إدمانه. شيء آخر جديد بشأنها؟ بجانبها طبيبين وطبيبة ولا تحادث أو تشاكس أحدهم أبداً! وذاك هو الوهم أو العبث عندي.
عجب ثالث؟ تأكد لي أنها باعت سيارتها الصغيرة واشترت سيارة ستة ركاب كبيرة، وقد كنت أعلم أن القيادة على قائمة أكثر خمس أشياء تكرهها وتفعلها مضطرة، ولهذا حينما أيقنَت من وجوب القيادة، اشترت أقل سيارة حجماً موجودة في السوق، بل أذكر أني كنت معها في ذلك اليوم، حامياً لها من خداع محتمل، وقد راحت تحكي طوال الوقت عن مدى كرهها للسيارات والذين يقودونها والذين يصلحونها، وقد تطور الحديث فيما بعد إلى أنها تكره النظام الرأسمالي الذي يسمح للسيارات أن تكون موجودة، وفي نهاية اليوم كرهت نفسها وحياتها لأنها اضطُرت لقيادة السيارات. الخلاصة، تلك عفاف غير عفاف.

حينما حمحمت لأنبّه على وجودي، وحينما نظروا لي جميعاً بفرح وهي أولهم وأكثرهم، طارت كل الأسئلة الغامضة في عقلي، وحلت محلها أسئلة عن الحال والصحة والساق والحظ السيئ.

تقول لي حينما صرنا وحدنا أخيراً أثناء عودتنا في نهاية اليوم:
– تباً لك!
ثم تدفعني في كتفي بخفة مزحاً. أضحك قائلاً:
– ظننت أن لا أعداء لي في هذا العالم.
– ألم يكن بإمكانك الموت وإراحتنا من كل هذه الشاعرية المفرطة!
فنتضاحك سوياً حتى نصل إلى سيارتها الجديدة الكبيرة. أقول ناظراً إلى تلك الأخيرة:
– لدي فضول لمعرفة كيف ستصعدين إلى ذلك الوحش.
تنظر لي لائمة ثم لئيمة:
– ربما الأمير سيحملني إليها.
ثم تفرد بعلامة أن أحملها، وإني إذ صدقت ومددت ذراعي تضرب ظاهر يدي قائلة:
– يدك يا متحرش!
ثم تصعد إلى السيارة عن طريق عتبات معدنية صغيرة تشبه السلم توصل إلى الباب. حينما دلفت وأغلقت الباب خلفها فنظرت لي من النافذة، قلت:
– تخيلي أن السيارة مرتفعة عن الأرض لدرجة أن يضطروا خصيصاً لصناعة سلم لها.
– نعم يا ظريف.
ثم تقول مغازلة على طريقة الأفلام الأجنبية:
– مرحباً أيتها الفاتنة.
ثم تغمز وتكمل:
– هل تريدين توصيلة؟
أبتسم قائلاً:
– لا شكراً، لدي سيارتي.
تمضي لحظات صمت سريعة بيننا قبل أن تختفي ابتسامتها وتتنهد قائلة:
– هيا سل.
– أسأل ماذا؟
– أنت تعلم أنني أعلم أنك طوال اليوم تريد سؤالي بشدة عما حدث في تلك الليلة.
– جميل، لننتقل إلى الإجابة مباشرة.
– لا، سل أنت أولاً.
– ماذا حدث في تلك الليلة؟
– أخبرتك أنني رأيته.
– لا أصدق ذلك.
– أنت حر. أسئلة أخرى؟
– كيف خرجنا من هنالك أحياء؟
– عقدت معه صفقة، أن يتركنا أنا وأنت، مقابل ما رأيت.
– تلك النقوش على..
تقاطعني وهي تنظر حولنا في موقف السيارات الفارغ:
– نعم، وأخفض صوتك.
– وما الذي تفعله تلك النقوش؟
– لا أعلم، لكنها تغيرني شيئاً فشيئاً، أشعر أنني امرأة أخرى.
أنظر سريعاً إلى السيارة:
– واضح.
– ياللبجاحة! كلمة شكراً لن تكلفك مجهوداً يا جاحد!
– شكراً بالطبع.
– أسئلة أخرى يا جاحد؟
– طارق؟
– لا يزال معهم في حلقتهم الزمنية المغلقة تلك.
– فعلاً؟ وسنصدقهم في هذه أيضاً؟
– لا يهمني إن صدّقت أم لا، يهمني أنني رأيت كائناً ضخماً يشبه الثعابين إذا كان لها عمود فقري، أسود اللون سواد الليل، طويل طول الأشجار العتيقة، إذا رأيته دون استعداد قد تفقد وعيك من الخوف، لربما هذا ما حدث معك حينما وجدتك نائماً.
– أنتِ تبالغين!
– مجدداً، لا يهمني إذا صدّقت أم لا.
– لماذا لا نبلغ الشرطة؟
– أتظن أن لم أجرب؟ لسبب ما، كل الاتصالات مع القرية تعمل، العمدة يخبرهم أن كل شيء بخير وألا يقلقوا أنفسهم، وهم لن يكلفوا أنفسهم بإرسال قوة إلى قرية معزولة لمجرد أن طبيبة حكت لهم قصة خيالية عن هذه القرية.
– إذن، هي قرية ما تحت سيطرة وحش ما؟ ولا نستطيع عمل شيء ما لا لهذه القرية ولا للوحش؟ هذه قصة من قصص لافكرافت!
– للمرة الثالثة يا أشرف، لا أهتم إذا صدقت أو لم تصدق، أوتعرف ما أهتم له حقاً؟
– ماذا؟
– أن تعرف أنني أتغير. هل تعدني شيئاً؟
– طبعاً.
– إذا استيقظتَ يوماً، ولم تجدني كما عرفت، عدني أنك لن تنساني. أقترب من النافذة:
– لا تقولي هذا الكلام…
– أرجوك، عدني أنك لن تنسى أنك أحببتني يوماً، مهما صدر مني.
– لن أنسى! أعدك!

….

لا أعرف ماذا حدث بالضبط بعد ذلك، تحديداً لا أعرف الترتيب، لكن مثلاً من ضمن الذي حدث أن لي صديق له معارف لهم معارف من حملة الأسلحة البيضاء في المناطق الشعبية، وأولئك مثل المرتزقة نوعاً، ومدخرات عمري ليست ذات قيمة أمام ما حدث، ثم إنهم لن يأخذوا الكثير منها على أي حال. أحب فكرة أن المنظر كان مهيباً، سيارتي نقل ملئهما رجال أقل واحد منهم إثارة للرهبة يحمل ندبتين على وجهه. لن أكذب، تسيّد أولئك الوحوش كان شعوراً رائعاً، حتى ولو أتى بالمال وحده. كان الاتفاق أن ثمة قرية غريبة سنذهب لها، نُرهب سكانها ونُخرجهم من الوهم الذي هم فيه، وننقذ صديقاً، ثم نعود سالمين آمنين غانمين، ولعمري، وأجسر على الاعتراف، كان ذاك أكبر خطأ ارتكبته فيه.

حينما عبرنا اللافتة ووصلنا إلى الجسر المؤدي للقرية، وتحديداً في ذات المكان الذي فقدت فيه وعيي، شعرت بنسمة هواء تهب عليّ وقد كنت أجلس جوار السائق في إحدى الشاحنتين، وسرت رجفة غريبة بجسدي لم أحسب لها حساب. كان الوقت عصراً ولكن بدا لي أن هناك غيمة مرت على القرية فجعلته أقرب للغروب. في سري، سميت الله، ثم أمرت السائق بالتقدم. لم يكن هناك أي تغيير عن الذي رأيته مسبقاً، الوَحشة ذاتها والخواء ذاته، العلامات الحمراء كما هي والبيوت كما أذكرها. نظر لي السائق:
-إلى أين الآن يا دكتور.
ألتفت حولي قائلاً:
– إلى المقابر.
فيأمر السائق أحد الرجال أن يصعد فوق كابينة السيارة ليستطلع المقابر، وقد كان الأمر سهلاً لأن البيوت معظمها منخفض دون طوابق إضافية. يفعل المأمور ما أُمر ثم يهبط مشيراً إلى اتجاه ما، فتسير القافلة. بعد برهة، رأينا القبور وما خلفها، وقد بدا أن ثمة حقول كثيرة خلف المقابر. أسمع أحد الرجل من النافذة يقول لزميله:
– هل ترى ما أراه؟ هل تشم الرائحة؟
يرد زميله بانبهار:
– نعم. هذه جنة!
حينها وقبل أن أسألهم عما يعنونه خرج علينا أحد الفلاحين صائحاً:
– ماذا تفعلون! من أنتم؟
قفز أحدهم من السيارة وبحركة عنيفة قيده واضعاً سلاح أبيض أمام عنقه:
– أين البقية؟
يقول الفلاح بخوف شديد:
– في الجانب الآخر من المقابر. بيوتنا هناك.
يترجل الجميع وأنا معهم ذاهبين في الاتجاه الي يصفه الرجل لنا. لما وصلنا، رأيناً شيئاً عجيباً، وقد فركت عينيّ عدة مرات ظاناً أنني أحلم. رأيت ما يشبه البناء الممتد، وحوله يمشي أناس كثيرون، جميعهم، كما الفلاح الذي دلنا عليهم، يرتدون الأحمر، وكانوا يدخلون إلى الحقول فارغي الأيادي ويخرجون منها يدفعون عربات يد محملة بالحشائش، وقد بدا لي أن تلك الحقول تغطي على ذلك البناء الذي رأيتهم يخرجون منه، وأنه مع المقابر مركز تلك الحقول. من البناء، كان بعضهم يخرجون حاملين صناديق كبيرة مغلفة. كنت غبياً للغاية لدرجة أنني لم أفهم الأمر منذ أول ثانية، هذه حقول قنب هندي، وبلغات أخرى، حشيش، أو “ماريوانا” على قول الأمريكيين. نمشي خطوات أخرى وأرى سيارة عفاف تقف جوار المبنى، وأراهم يضعون تلك الصناديق الكبيرة داخلها. ثم أرى عفاف تقف جانبهم وتوجههم.

الحقيقة تتضح أمامي الآن. إن تلك عصابة كبيرة تتاجر في القنب، قرية كاملة! إن طارق حينما أتى إليهم هنا قبل سنوات، لم يسرهم أبداً أن طبيباً من الوزارة سيبلّغ عنهم، لذا كان المال هو السبيل إلى إغوائه ليبقى كل تلك الفترة معهم، وحينما انتهت فترة تعيينه، طلب أن يستقر في القرية حتى لا يأتوا بمزيد من الأطباء للوحدة الصحية في القرية. الأوغاد!
حينما نقترب أكثر منهم ويعم الهرج والمرج، أنظر لعفاف التي تنظر إليّ بدورها. أُشهر سلاحي الناري الذي جلبته معي في وجهها، وإذ بها تدخل في نوبة ضحك هستيري أدت إلى أن تفقد السيطرة على قدميها فتهبط متعثرة أرضاً، وهي لا زالت تضحك بالدمع، بعد لحظات، يخرج طارق من المبنى مستفسراً عن الأصوات العالية ليجد سلاحي شاهراً في وجهه ووجه عفاف:
– مرحباً يا زميلان. هل تظنان أنني سأنسى ما حدث هنا؟
يقول طارق بذعر حقيقي:
– أنت ترتكب غلطة كبيرة!
– لا يهمني، تهمني الحقائق.
أقولها وأنا أنظر لعفاف التي كانت تمسح دموع ضحكها. يقول طارق وقد غضب فجأة:
– لقد قاتلنا أنا وعفاف لأجل أن تخرج من هنا سالماً!
– يدهشني أنكما ترتديان الأحمر، أتكذبان الكذبة وتصدقانها؟ تزرعون الحشيش؟
– قبل سنوات، واستيراد المواد الدوائية لهذه النبتة متوقف في مصر للأسباب المعروفة! ثم لماذا الاستيراد ويمكننا زراعتها بأنفسنا!
– نبتة غير قانونية.
– القانون لا يهتم بحيوات أولئك الذين يحتاجون النبتة! نحن نفعل خيراً هنا!
– أتخيل الأمر، في وقت ما، تشعرون أنكم تريدون التوسع، تريدون للتجارة أن تمتد للاستخدامات الدوائية. يسألونك الأمر طالبين معرفة قديمة ليتوسط لك عند شركات الأدوية، لكن ما الضامن أنه سيمتثل لطلبك؟ إذن لا بد من خطة بديلة عن وحش ما غريب يسيطر على القرية، ويدعونك تخترع تفاصيل هذا الوحش، ولأنك مولع بكتابات لافكرافت، تأخذ الأمر على محمل الجد وتحبك الحكاية تماماً. ترسل الرسالة وحينما يصل صديقك، لم تتوقع أن يجلب معه أحد، وهم كذلك لم يتوقعوا، والأمر لم يعجب العمدة قائدكم بالطبع، الذي يأمر بقتله هو وزميله لأنهما قد يفشيان السر، لكنك بطيبة قلبك تتوسلهم ويتركونا وأنت ستتكفل بجعلنا نصدق خطتك البديلة. حينما تأخذ صديقك إلى المخبأ ويتضح أنه لا يبتاع حرفاً من الحكاية، يعرفون أنه سيثير الجدل، ويقررون أنه الموت له ولصديقته، بعدها، تعلن تلك الصديقة التي معه أنها ستساعدكم بمعارفها الكثيرة، مقابل أن تتركوني أذهب، وهي ستضمن أني لن أثير جلبة ولن أعرف شيئاً عن الحقيقة، يفكر القائد كثيراً ثم يوافق على عرضها.
تقول عفاف وهي تقف:
– أيها الغبي.
أحوّل كلامي لها:
– تعقدون الصفقة، ولأن تقاليدهم تجعلهم يرتدون اللون الأحمر فقط، ويستخدمون اللون الأحمر بكثرة، يعقدون الاتفاق معكِ عن طريق خلط البنجر بالحناء ورسم تلك الرسومات الغريبة على ساعدك. بعدها ستأخذين منهم أموالاً كثيرة وتشترين سيارة مناسبة تنقلين بها البضاعة من القرية للمصانع، وتكونين أنتِ الوسيط المباشر، ثم مع الأموال، تبدأين بالتغيّر، ثم بكل براءة، تطالبينني ألا أنسى من أنتِ.
بدا أن عفاف قد هدأت قليلاً فراحت تنظر حولها، تحديداً إلى الرجال الذي جلبتهم معي:
– ما الذي تظن أنه سيحدث يا طارق؟
– لا أعرف، أظننا سنعرف الآن.
مع انتهاء كلماته سمعت شخصاً يقول من خلفي:
– أخفض سلاحك يا دكتور، ليسوا قوم مشاكل، ليس معهم أي أسلحة.
أنظر له فإذ بهم خمسة مأجورين. أقول:
– ولا سلاح واحد؟
– حتى عمدتهم هذا مسالم ولا يحمل بندقيته. الأغبياء، كان عليهم أن يتوقعوا شيئاً كهذا طالما أنهم يعملون في هذا المجال الخطير.
– جيد، والآن اسمع، سنحرق هذه الحقول وسن…..
يرد واحد منهم:
– نحرق! هذا كنز وقد عثرنا عليه. لا تمزح!
ألتفت لهم:
– حقاً؟ هل سنفعل هذا؟
وفجأة قبل أن أدري، يحاول أحدهم خطف سلاحي الناري مني، وما هي إلا لحظات حتى انضم له البقية، في ذات اللحظة أسمع صوت ضحكات عفاف وقد عاودتها نوبة الضحك، وبينما أقاوم في عراكي غير المتعادل، أتلقى ضربة بشيء ثقيل على رأسي وأهبط أرضاً أقاوم فقدان وعي محتمل. أرى المأجور الذي أخذ مني سلاحي يتقدم شاهراً إياه في وجه عفاف:
– اخرسي يا …..!
تهدأ عفاف وهي تطالعني بحسرة لتقول لي:
– أراهن أنك لم تتوقع ما حدث يا شيرلوك.
وأسمعهم يتشاورون خارج مجال بصري.
– ماذا سنفعل الآن؟
– لا أعرف، سنتفق مع البقية أولاً، لكن على الأغلب سنقتلهم.
وللعجب لم يعترض أحدهم على الجملة قط! بل رد آخر:
– الشرطة ستطاردنا بكل الأحوال.
– وأهل القرية؟
– سنتفق معهم على أن نكون نحن الوسطاء. سنجعلهم يكسبون أكثر مما حلموا به، ولن يضطروا للتعامل مع شركات الأدوية بعد الآن.
وهنا أرى عفاف تثب إلى حامل السلاح الناري محاولة انتزاعه منه، وليس إلا أن رصاصة خرجت منه فاخترقت رقبتها، لتتفجر منه دماء لا حصر لها، بينما هي تحاول منعها من التدفق. كدت أصرخ لكنها سقطت أمامي. تلاقت عينانا، ووسط الدم والطين والدمع، وجدتها تبتسم لي! تقول بصوت مسموع:
– أوافق على عرضك.
بصوت مبحوح أسألها والدمع يغلبني:
– ماذا؟
– أوافق على الزواج بك.
كدت أبكي لكنها اختفت من أمامي فجأة، وتزمناً مع ذلك سمعت صوت صراخ الرجال خلفي، وكان مريعاً عالياً أخافني، ثم هو صمت يحل بعدها. كانت دقيقة على الأغلب استعدت فيها قدرتي على الحركة باتزان، وإني أذ أرى أول ما أرى علامات كثيرة باللون الأحمر حولي، وهي تشبه بالضبط العلامات التي رأيتها في القرية، وعلى مد البصر أرى كائناً طويلاً أسود اللون، كان يعطيني ظهره لذا لم أر ملامحه، وفي اللحظة التي استدار فيها لي، وقعت أرضاً بقلب عنيف يتحرك ويدق أكثر من أي مرة في حياتي، وشعرت أنه سينفجر في لحظة أو ما يليها، وحينما ينطق، أسمع صوتاً غليظاً بطيئاً يتردد في المكان، وله صدى يرج كياني كله:
– لك مني الأمان، والعقد مكتوب على جسد عفاف.
حينها أهرع هرباً خارجاً من المكان، محاولاً الوصول إلى سيارتي النقل والهروب بحياتي. حينما أصل، ألحظ أن ثمة شخص يرقد على ظهره في الصندوق الخلف لعربة نقل، وإذ أقترب، أرى أنها عفاف تضع يدها على رقبتها في ذات المكان الذي تلقت فيه رصاصة منذ قليل: متأوهة تقول:
– تباً! ذاك مؤلم!
وكانت رقبتها سليمة كلياً.
أخبرتني بالحقيقة فيما بعد. إن أبو علامة موجود بالفعل، وطارق بالفعل كان يستغيث بي في تلك الرسالة. قصة الألوان كلها حقيقية، أي أن طارق لم يكذب كذبة واحدة علينا. تقول إنها في ذلك اليوم تشجعت وواجهت أبو علامة مع طارق. كان من المفترض أن يتركوني عند ذلك العمود، وسيأتي أبو علامة ليأكل عقلي تاركاً علاماته في كل مكان، لكنها بمساعدة طارق تمكنت من الفرار منهم وإيقاف أبو علامة قبل أن يأكل عقلي بلحظات. تحدثت معه ووافقت أن يتلبسها وأن تكون هي عينه على العالم الخارجي، مقابل أن يتركني لحالي. أما القنب والحقول، فكان هو من أمرهم بزرعها، لأنه على ما يبدو يحب تلك النبتة كثيراً. القوم كانوا يزرعونها ولا يستهلكونها، ولما رأى طارق ذلك، قرر أنه حتماً ثمة استخدامات أفضل لتلك النبتة، ولما انضمت هي لهم، رأت نفس ما رآه طارق، وهو أن النبتة يمكن أن تفيد المحتاجين فعلاً.
لا زلت حتى اليوم لا أعرف هل كان وهماً ما رأيته في تلك القرية أم لا، ولا زلت أشك أن ما حدث فيها كان لا يبعد كثيراً عن هلوسة جماعية بسبب القنب، على أني في نهاية المطاف قررت أن أتوقف عن التفكير، وأفرح بخروجي من هناك سالماً.
بالطبع حدثت بعض المشاكل بسبب اختفاء عدة رجال مثيرين للشغب من مناطق مختلفة، لكن أحداً لم يهتم فعلاً سوى أهليهم. شعرت بالذنب لفترة طويلة، لكني قررت أن أعيش كاتماً إياه داخلي، خصوصاً بعدما رأيت أن الدواء -الرسمي بالمناسبة- يساعد الكثير من المرضى، ولست أدري كيف تمكنت الشركة المصنعة من إثبات أن المواد الفعالة المستخرجة من النبات، ليست مستوردة في واقع الحال، وليست هذه قضيتي على كل حال.
تزوجتُ عفاف على ما هي عليه، ولم أر في تصرفاتها شيئاً غريباً، ليس إلا أنها لا تتألم ولا تُجرح ولديها حس عالٍ بالكوارث، وبالطبع الرسم الغريب على جسدها، وغير ذلك لم أرها غير امرأة طبيعية أحبها فعلاً، ولم أدر إن كانت رحلتنا سوياً من حسن الحظ أو العكس، لكنني على الأقل سعيد معها.

نذهب سوياً إلى القرية مرة أسبوعياً، ونأخذ المواد إلى المصانع، ونأخذ منهم المال، ثم نأخذ جزءاً منه، وجزءاً لأهل طارق الذي يرفض أبو علامة أن يجعله يغادر القرية، وجزءاً لشراء احتياجات أهل القرية من طعام وغيره، لدرجة أننا كنا نجلب للقرية شاحنات ممتلئة بالطعام، وطبعاً نجبر سائقيها على ارتداء اللون الأحمر، وهم يندهشون من ذلك لكن لا يرفضون حينما يرون أننا سنعطيهم الضعف تقريباً.
هكذا، تسير العجلة، وهكذا نعيش، منتظرين اليوم الذي ستبدأ فيه السلطات بالشك في أمرنا، وحتى يأتي ذلك اليوم، أبو علامة يرانا كلنا.
……

نهاية بديلة
وهنا أرى عفاف تثب إلى حامل السلاح الناري محاولة انتزاعه منه، وليس إلا أن رصاصة خرجت منه فاخترقت رقبتها، لتتفجر منه دماء لا حصر لها، بينما هي تحاول منعها من التدفق. كدت أصرخ لكن الظلام غلب مجال رؤيتي.

أفقت من فوري حينما شعرت بتلك الصفعة على خدي، ورحت أطالع شبحاً طويلاً، وبعد التدقيق أدركت أنها عفاف تسأل:
– لا زلتَ حياً؟
أسعل سعالاً جافاً، ثم فوراً أشعر بديجا فو قوية، لقد عشت هذا قبلاً! أقول وأنا أستعيد الشعور بآلام رهيبة في ساقي:
– عفاف، رقبتكِ! ماذا يحدث؟
تنحني عليّ تريد أن تسقيني ماءً فأدفعها عن بعنف:
– ماذا فعلتِ لي!
تتركني وتتجه لفتح القفل الذي كان يربطني، قبل أن تعود إلى محاولة حملي:
– هيا هيا، لنرحل من هنا.. قم أنت بالعد.
فرفضت، وإذ بها ترفعني رفعاً بقوتها العجيبة، بعد أن وضعت ذراعي حول رقبتها. آلمتني ساقي كثيراً وكدت أصرخ من الألم حينما حدث هذا، وهو ما جعلني أدرك حينها أن الأمر حقيقة وأني لا أحلم. إني أعيش وقتاً عشته قبل شهرين!

– لقد رأيته.
كنا في السيارة حينما قالتها. أسألها:
– وما الدليل؟
حينها أرتني ذات الرسم العجيب على ساعدها، وهمت تدير المحرك لننطلق، وانعقد لساني أنا من هول المفاجأة. قبل أن تتحرك بنا تقول:
– أخبرني أن أخبرك أنه يتحكم بالأحلام.

تمت.

البراء

مصر - للتواصل: [email protected] \\ مدونة الكاتب https://baraashafee.blogspot.com/
guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى