أدب الرعب والعام

الآن أفهم ..

في يوم غائم شديد البرودة ، وسط ساحة كبيرة تلفها أشجار باسقة عجوز و يقابلها مبنى قديم الطراز على الطريقة القوطية لكنه منفر و مقبض . وقفت داليا تتفحص كل هذا بدقة و هي تدور على نفسها ، أغلب الوجوه التي مرت بها كانت بائسة . لم تكن تتخيل أن هذه هي كلية الطب التي طالما حلمت بدخولها ، كانت تتوقع شيئا يشبه كليات الأفلام السينمائية ، إبتسمت بخفوت و واصلت طريقها الى غرفتها في ذلك المبنى الذي يصلح لتمثيل أفلام الرعب .

دخلت المبنى و حاولت البحث عن غرفتها ، و سألت بعض الفتيات دون جدوى ، حتى عثرت أخيرا على بنت مهذبة دلتها عليها و كانت في آخر طابق .

لاحظت أن هذا الطابق يبدو خاليا ، مظلما جدا ، و شديد الإتساخ كأنه لا يستعمل أبدا . هل يستهزأون بها ؟ ، كيف يمنحونها غرفة في طابق كهذا ؟ بدأت الهواجس تغزو قشرتها المخية لكنها تحاملت على نفسها و ادعت المرح .. فهذا أول يوم لها هنا في سبيل تحقيق حلمها أن تصير طبيبة يشار إليها بالبنان .

حاولت ترتيب أغراضها بهدوء و التأقلم مع المكان ، لكن فكرة وجودها وحدها في طابق خال معزول عن الناس أثارت القشعريرة في جسدها ، فتركت كل شيء و غادرت بسرعة إلى أسفل .

إقرأ أيضا :سيدة النور

حاولت البحث عن المشرفة وتقديم شكوى من أجل نقلها الى غرفة أخرى ، لكن المسؤولة لم تكن موجودة، وكل الغرف كانت ممتلئة فوجدت نفسها مضطرة لقضاء ليلتها وسط المجهول .

شعرت داليا بغضب شديد وخوف وهي تسير دون هدى و لا تعرف ماذا ستفعل ، حتى ظهرت لها من مكان ما تلك الفتاة المهذبة وطلبت منها أن تدخل إلى غرفتها . جلست داليا إلى السرير و قدم لها مشروب وبعض الحلويات وشعرت أخيرا ببعض الإنتعاش و الأمان .

قالت الفتاة :

_ ألم يجدوا لك أي غرفة أخرى؟ .

_ لا ، كل الغرف مشغولة و لم أجد أي شخص أشتكي له .

ــ و ماذا ستفعلين ؟ .

ــ سأقضي الليلة هناك بكل بساطة .

فردت :

ــ لكن الطابق الثالث مهجور منذ زمن .. أنصحك بعدم
قضاء الليلة هناك .

ــ لماذا ؟ .

ــ لقد قضيت خمسة سنوات هنا ، ولم أسمع بأي شخص أقام به .. وفي أيامي الأولى سمعت أن كل من يبيت هناك يموت بطريقة غامضة .

نهضت داليا و قالت :

ــ أشكرك على كرم الضيافة ، لكنني لا أصدق التفاهات .

غادرت غرفة الفتاة الغريبة بخطوات بطيئة ومعنويات منهارة ، وفجأة لمعت الفكرة في رأسها و تذكرت قريبها الذي يقطن أمام الكلية .. والذي طلب منها أن تقضي أيام الدراسة ببيتهم بشرط أن تتكفل بوالدته المسنة ، و التي تبقى وحيدة في البيت أغلب الأيام . و أن تنال بالمقابل مرتبا رمزيا .

بسرعة أخرجت هاتفها واتصلت به ، ولحسن الحظ فإنه لم يكن قد عثر على شخص آخر مما جعله يقبل رغم عنه أنها رفضت عرضه في البداية .

تنفست الصعداء ، ستقضي هنا فقط هذه الليلة وتغادر غدا دون رجعة . شعور جميل ، إبتسمت في سرها و استجمعت ما تبقى لديها من شجاعة و صعدت إلى غرفتها الموحشة ، وأقنعت نفسها أن كل شيىء بخير ، لكن هذا الجو البارد غريب ..

إقرأ أيضا : برميلي العزيز ج1

قالت في نفسها :

ــ هل كانت الغرفة باردة هكذا من قبل ؟! ، لا .. لقد ازدادت البرودة كثيرا عن ذي قبل ، يا لها من غرفة مشؤومة .

قضت هناك أسوأ ليلة في حياتها بين العرق و الكوابيس و أصوات غامضة . وأحست عدة مرات كأن شخص يتحرك أمامها لكنها تغاضت عن كل هذا و حاولت الإدعاء أنها استغرقت في النوم .

بينما هي بين النوم واليقظة رأت كابوسا مرعبا جدا ، فتاة مشوهة بيضاء البشرة بشكل مريب وشعرها منكوش ، كانت واقفة أمام سريرها ونظرتها كأنها تحمل كل الشر الموجود في العالم . وفجأة صاحت فيها بصوت لا ينتمي لعالم البشر :

ــ غادري غرفتي ! .

ما كادت تفتح عينيها حتى طارت ملاءتها في الهواء دون مبرر ، وفتح باب الغرفة بقوة وبدأت أغراضها تطير وتسقط دون مبرر . هنا انهارت أعصابها و بدأت تصرخ .. و لم تكذب خبرا و أسرعت مغادرة الغرفة راكضة بجنون و قلبها يكاد يطير من صدرها . جرت كما لم تجري في حياتها من قبل ، و فجأة تعثرت وسقطت من أعلى السلم إلى أسفل بسبب الظلام الشديد .

صرخت بقوة وفقدت الوعي للحظات لكن لما أفاقت كان كل شيء بخير . لم تكسر عظامها ولا وجود للدماء و مازالت قادرة على السير . غادرت مبنى الإقامة إلى الخارج و قضت ما تبقى من ليلتها في كافيتيريا تظل مفتوحة 24/24 ساعة .

بعد أن لاح ضوء الشمس توجهت مباشرة إلى بيت قريبها ، كان بيتا جميلا منعزلا قليلا في حي راقي . دقت الباب و دخلت و هي تشعر بالألفة و الأمان بعد ليلة كابوسية .

إستقبلتها العجوز ــ التي ستجالسها ــ بكل حفاوة وترحيب ، لكنها لم تقدر على إخفاء تلك النظرة المريبة من وجهها . كانت تنظر إليها بكل عمق و حزن ، لم تفهم سر تلك النظرات .

عرفتها بنفسها و سألت عن روتينها و ماذا تحتاج ، ولم يبدو أنها تبالي أصلا بشيء ، هذا غريب جدا إن شئنا الدقة . لكنها ستحرص على توفير أفضل رعاية لها .

إقرأ أيضا : جريمة في دار الأيتام

أخذت أغراضها إلى الغرفة التي خصصت لها ، و قامت بجولة حول البيت لاستكشافه ، كان كل شيء جميل فعلا . العجوز تجلس في صالة البيت و طلبت منها أن تتجه إلى غرفتها من أجل أن تستريح .

مضى نصف النهار و تلك العجوز لم تكلمها و لم تطلب أي شيء . حاولت التجسس عليها من طرف خفي ، لم تكن تفعل أي شيء حرفيا ، فقط تجلس في أريكة مريحة و تحدق في اللاشيىء . لعب الفأر في عبها ، لماذا هي جالسة هناك منذ الصباح دون حراك ؟ .

فكرت في أن تذهب إليها و تكلمها ، لكنها تراجعت بسبب تلك الهالة حولها والنظرة القوية التي جعلتها ترتجف كورقة شجرة يابسة . فعادت إلى غرفتها وجلست و حاولت تنقية ذهنها ، و بدأت تلك الرائحة تتسلل إلى أنفها .. تتبعت مصدرها حتى وصلت إلى غرفة مغلقة من الداخل . حاولت فتحها دون جدوى ، ما السر وراء هذه الرائحة يا ترى ؟ ، قررت أنها ستتجاهل كل شيء مريب و تسترخي في غرفتها .

مضى أغلب اليوم و لم تكن تشعر بأي جوع أو تعب ، وفجأة فتح الباب و جاء قريبها ، كان يبدو متوترا جدا و صعد إلى أعلى مسرعا . تجاهلها و تجاهل والدته دون أي ذرة ذوق ، لحقت به لكنه لم يرد عليها .

طرق باب تلك الغرفة ذات الرائحة الكريهة عنف ثم كسره و دخل ، وكانت الصدمة كبيرة .. و بدأت في الصراخ ، لقد كانت العجوز هناك ميتة ! . حاولت مواساته لكنه لم يلتفت إليها و فجأة جاءت العجوز من خلفي ، صرخت بعنف و كدت أفقد الوعي ، لكنها ربتت علي بكل رفق و ارتسمت على وجهها نظرة تقول :

ــ كل شيء بخير .

فقلت و أنا أرتجف :

ــ أنت ميتة فلم أنا الوحيدة التي أراك ؟ .

ــ لأن الأموات لا يراهم إلا الأموات .

_ آه الآن أفهم سر نظراتها و عدم شعوري بالجوع ، يبدو أني لم أنج من سقوطي من السلم و مت هناك ! ، الآن أفهم ..

تمت ..

مصطفى 2018

- الجزائر - للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى