أدب الرعب والعام

سأزيل العصابة

الطفولة.. الله على هذه الكلمة ..

كلّما كبرت كلما ازداد إحساسي بأن هذه الكلمة باتت ذات معنى قديم، رنين خاص بات من الماضي البعيد الذي طواه النسيان، كلمة توقظ في داخلي حنيناً للذكريات الجميلة والبريئة التي لن تعود أبدا، لأن العقلية تغيّرت والعالم تغير .

تمر الساعات والدقائق الواحدة تلو الأخرى دون أن نشعر وتنصهر معها أعمارنا، فالذي كان مستقبل ماضينا ونحن أطفال أصبحنا نعيشه في الحاضر الحاليّ بطرفة عين، يالهذه السرعة العجيبة التي تدور بها عجلة الزمن!.

إقرأ أيضاً : الساحر الفاسد و القرية الملعونة

كان غاية مرادنا ونحن صغار أن نكبر ونحقق أحلامنا.. لم نكن نعلم أننا بعد أن نكبر سنتمنى لو عاد بنا الزمن إلى الطفولة لنستمتع بها ونرتوي لعباً ومرحاً بين الحقول.. في زمن كانت فيه الحياة بسيطة، هادئة، وذات معنى ..

كان هذا هو المقال الذي قدمته لأستاذة اللّغة العربية، قبل أن تغرقني في مديح وإعجاب جعلا خدّيَّ يحمرّان خجلاً، لتوبخني بعدها بابتسامتها اللّطيفة مربتة على كتفي :
“لم يكن يستدعي الأمر كلّ هذا الحنين إلى الماضي يا أسماء، لمَ كلّ هذا التشاؤم؟” ..
لم أعرف بماذا أرد لتسبقني كلماتها تلك كالسهم :
“لا تحني للماضي، بل استمتعي باللّحظة التي تعيشينها الآن قبل أن تفتقديها غدًا” .

لكن أين نحن الآن ؟.. وهل حقا نستمتع كما استمتعت أنت في شبابك..؟ ربما كان لديك أصدقاء كثر تخرجين معهم وتضحكون .. لكن أنا لطالما كنت وحيدة.. انطوائية، ولم أجد رفقة وأنساً إلا في هذا الهاتف، الهاتف الذي ظننته سيعوض عليّ ما لم أستطع إيجاده في الواقع، في حين سلب مني كل متعة .

إقرأ أيضاً : ممنوع دخول البشر !

الهروب من العالم الواقعي إلى الإفتراضي.. من الواقع إلى المواقع ليس فكرة سديدة. إذ وقعتُ في المصيدة،
نعم.. أكره الإعتراف لكنني الآن أغرق في متاهة الهاتف، وأتوغل في أعماقه.. لتتناوب على اللّهو بي مواقعه المحتالة وتضيع من وقتي الثمين الذي لن يرجع أبدا . وبينما الوقت يجري أبقى أنا متسمّرة مكاني عالقة في هذه الدوامة اللاّنهائية اللّعينة، ويمضي العُمر مع الوقت وأنا لا أزال عالقة في ركني المفضل.. بائسة جالسة على أريكة تجذّرَت فيها عروقي، لأقبع عاجزة كالنبتة.. أتخبط في دهاليز بدت لا متناهية ولا حيلة لي، مع من سأتحدث من أخواتي؟، فاينما أدرت وجهي أجد رؤوسا منحنية على الهاتف بانتباه شديد، منهمكين هم كذلك كأنهم يبحثون عن كنز ثمين .

تباًّ!.. يالها من علاقة إدمانٍ خطيرة يمسك بزماننا فيها هذا الهاتف الصغير!، إنه يقود المرء ويسيّره كما يحلو له، يغسل أدمغة الناس ويحولهم إلى “كائنات زومبي” منصاعين له ومتعطشين للتفاهات التي تحتويه، غايتهم بها زرع السطحية في عقولنا وتغيير نمط تفكيرنا إلى ما يرضي مصلحتهم، نعم.. غسيل دماغ كما يقولون، جهاز صغير حقير يستطيع أن يفعل لي كل هذا! أنا حقاًّ أختنق ..

وها انا ذي الآن، جالسة في نفس الرّكن المفضل، ولكن ليس بنفس الوضعية.. لا هاتف في يدي، بل ورقةٌ وقلم. أوف.. أخيرا تخلّصت من هذا الكابوس، يبدو أنني بدأت أستعيد رشدي، بدأت أعرف مدى خطورة محرقة الوقت التي أمتلكها هذه، او لنقل تمتلكني هي !، ثم.. هذا الحبيب “الإفتراضي” من يظن نفسه كي يستاء حين أتاخر في الرد عليه ولو لدقيقة؟، أهو أوكسيجيني الذي يتوجب علي الإلتزام به واستنشاقه كالمخدر ليل نهار؟، كلا.. شكرا، لست بحاجة لكلام معسول.. ولست بحاجة للحب طالما سيعصب عيني هكذا ويضللني عن طريقي ويحولني لكتلة غباء تمشي على وجه الأرض، إليك عني.. كنت بأفضل حال من دونك. لا يزال لدي طموحات وآمال أنوي الوصول إليها، من هذا الذي يستحق أن أمنحه ساعات وساعات من الكلام؟ ساعات من عمري ووقتي الثمين.. الذي كان من المفترض به أن يفنى في إنجازٍ دراسي أو قراءة أو استفادة أو صلاة ؟ .

إقرأ أيضاً : منزل الحب

أجد نفسي أقدمه معصوبة العينين لشخص لا أستفيد منه ولا من كلامه البالي شيئا سوى المضرّة العقلية والإرهاق النفسي، يا لسذاجتي !، علاقةٌ مؤقتةٌ على موقع تواصل سخيف تهدد بتبخير كل ما بنيته من جهد ومثابرة دراسية على مرّ سنوات سدى! .. أي أحمق سيصدق هذا؟ لا شكرا.. أنسحب، لم أعد أريد حبا لم أجني منه سوى صداع الرأس، ما أجمل الوحدة التي كنت عليها، هادئة.. مع أني كنت أمقتها أحيانا، لكنني أدركت قيمتها الآن.. لكَم يكون المرء سعيدا ومرتاحا حين يتكلم مع نفسه، حين لا يجد من يعيره انتباها.. من يستمع إليه، فيصبو إلى نفسه أو يناجي ربه، فلا أحد يمكن أن يفهمه غير هذين .

لم أرد كلاما معسولا قط، ولا عذابات أشعار تحمل اسمي.. ولا كلاما مثيرا منافيا للأخلاق.. هذا مزعج ومقرف. لم تكن هذه المبادئ التي تربيت عليها قط، لم أرد سوى صديقة او صديقا هادئا لطيفا مهذبا.. لا ينافق ولا يريد مني مصلحة بعيدا عن كل هذا الضجيج.. ضجيج المواقع.

لن أجد ضالتي ولم تعد لدي ولم أعد أكترث، ربما لأني وجدت لذة في البقاء مع نفسي، أو ربما فقط لأني لم أجد من يشبهني بعد ولو قليلا في الواقع . لكن لست مستاءة على كل حال وأعيش الحياة بهناء سعيدة وراضية والحمد لله .

حينها أدركت أن في هذه الحياة القصيرة هناك أمور كثيرة أهم من كل هذا الهراء، أهداف أهم من هذا الجهاز الذي لا يستحق أن أهمل أولوياتي من أجله وأجعلها تتبخر أدراج الرياح .

guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى