أدب الرعب والعام

سفاح أمستردام

في أحياء أمستردام المظلمة، يسير السفاح بخطى بطيئة حاملًا خنجره ذو النقش المميز مستهدفًا ضحيته القادمة.

حين يتخذ لنفسه من القتل ذريعة للبقاء حيًا، يغذي ذكرياته الطفيفة بصرخاتهم، توسلاتهم، شهقاتهم المكتومة ويعيد إحياء ذكراها.

يدير الشريط ببطء محاولًا تشغيل ذاكرته لكنه معلق في تلك اللحظة بتشويش، يقتل فتتضح أكثر، فيعود للقتل مجددًا لتتضح الصورة أكثر فأكثر، ثم أكثر بكثير حتى تصبح مجسدة أمامه.

بين ظلال الظلم يضع النور ثغرة له، لا يولد أحد بخصال الخطايا جميعها. حين لامست كفه إحياء الصورة بلا قتل.

وحين ساعدها أعلمها أن الأخيار موجودون كذلك، النساء والرجال، اليين واليانغ متضادان بيولوجيًا وسيكولوجيًا لكنهما متناظران تمامًا في طاقة العواطف المنبعثة والرغبة!

شارع دي فالين، أمستردام.

أزقة هادئة وأمن مثالي، الأباليك معلقة في معظم الأبنية والأضواء عامرة، انتصفت الساعة في منتصف الليل ودقة عقاربها في ساعة معصمه، تجلى البدر مضيئًا بخفوت في السماء، بينما بخطوات بطيئة ينتظر ضحيته القادمة..

وقع عقارب ساعته يعيد له ذكرى الواقعة قبل أعوام، ابتسم باتساع حين لمح أحدى الساقطات خارجة من بيت الدعارة القريب منه..

كان الطقس يزداد برودة في شتاء أمستردام، والدماء تتجمد في جسدها من شدته متغلغلة بين ثغرات ثيابها الشبه عارية، تسللت دمعاتها من مدمعها ببطء تستقر في وجنتيها، أخذت نفسًا عميقًا تعبئ قنينة صدرها المثقوبة بالهواء البارد.

سارت بخطى مترنحة أثر التعب الذي أنهك جسدها وهمشه، طغت الكدمات والآثار على كامل جسدها كبعثرة الألوان في لوحة بيضاء صافية وغطى شعرها الكثيف بغزارة ظهرها العاري، لفت ذراعيها تضم نفسها بيأس لعلها بذلك تخفف وطأة البرد على أوصالها..

بأعين خالية من الحياة سرى خلفها بهدوء، كان يلوح بخنجره في الهواء بينما يراقب ترنحها في السير، وقف حين وقفت فجأة تاركة الدموع تنهمر بقسوة من جفنيها، أخفض قلنسوته السوداء وشد على خنجره بقوة كاد ينقض عليها كالأخريات غير أنها سارت بطريقها المثقل إلى منزل مهترئ وقديم، فتحت الباب هاتفة بابتسامة خرساء بائسة:

– وصلت.

مررت يديها على الجسد الهامد أمامها بتنهيدة، بينما حدق هو بها من ثغر قماش النافذة المختزق، أرخى نظراته يراقب إسناد جذعها على الحائط..

نبست بعد لحظات وهي تخرج الأموال التي جمعتها لليوم كما جرت العادة:

– لقد تجعدت..

أخرجت ولاعة صغيرة وأشعلت نيرانها التي التهمت أوراق النقود بشراهة بالغة، ضيق عينيه يفسر ما تفعله تلك العاهرة المجنونة غير أنها أردفت بهستيرية جنونية:

– خسرت أموالي!، خسرتها جميعها..

– أمي لقد خسرت الأموال التي بعت بها كبريائي..

تابعت قائلة بموجة بكاء هستيرية، نظرت إلى الجسد الذي تغير لونه وتصلب مردفة بنبرة مرارة:

– لما لم تستطعي الانتظار أكثر بقليل؟، كان علي جعل الأمر يستحق ذلك على الأقل..

– لقد احترق داخلي..

– لقد…

لم تكد تتفوه بأي شيء حين ألقت بالقداحة الفضية أسفل كومة أقمشة رثة، كشر ملامحه وصك على أسنانه بحدة، مندفعًا للداخل بخطوات مستعجلة، قبض عليها بين ذراعيه وحملها فوق كتفه، خارجًا من المنزل المشتعل، أخذت تصرخ به بقسوة وألم، تلعنه وتشتمه وتركله بقدمها ليضعها أرضًا لكنه لم يكترث لصياحها المستمر، بل أخذ خطواته بين الأزقة الخلفية غير آبه بصراخها الذي هدأ بعد لحظات لشهقات خافتة انتهت بأنين مكتوم ودموع بللت معطفه.

وصل إلى الغرفة المبنية بداخل أحد الأبنية المهجورة في شارع بالكاد تمر به سيارات، دفع الباب بقدمه بثقل حين صدر صرير حاد من صدئه، تجاهله يسير نحو مفرش أرضي رث وقديم، ألقى بها فوقه بروية ثم ذهب لإغلاق الباب، حدقت به بأعين غائرة بالدموع بدهشة.

تقدم نحوها جاثيًا على ركبته يتفحصها بتمعن بتعابير جامدة، أمالت الصغيرة رأسها بفضول قائلة بنظرات مبهمة:

– تريد؟

لم يشح بناظره بعيدًا عنها إطلاقًا بل ترك العنان لنفسه ليمعن النظر بها ببطء أخذ يمرر عينيه على جسدها المنقوش باحترافية، الألوان المتناثرة عليه أضافت لذاكرته شيئًا من الإنعاش، رفعت يدها المتعبة نحو وجنته الباردة قائلة بأنفاس ثقيلة:

– يمكنك تمتيع نفسك..

نظر إلى التهشم الواقع في أعينها الواسعة، مرورًا بثغرها الممتلئ الممزق أثر العض، لم يترك عينه تأخذ مسارها نحو نهديها الواضحين لكن ما باليد حيلة لا يملك أي ميول جنسي لها، بل يمقت ذلك حد اللعنة.

بتعب أزاح مقلتيها نحو خنجره المحتضن بكف يده المسندة في الأرضية، ابتسمت بخفة هاتفة ببرود:

– هل هذا ما يروق لك؟

بثقل زحف بعينه نحو مرأى نظرها الواقع على يده، هز رأسه ببطء لتواصل الابتسامة قائلة:

– أفعلها إذًا..

كان يشعر بالضيق بالفعل في داخله منها، ويشعر بأنه إن قتلها ومزق أشلاءها كما يفعل سيزداد سوءًا لا أكثر، ألقى بخنجره ثم هتف بنبرة غليظة باردة:

– نامي

– لا أستطيع..

قالتها الفتاة صاحبة الثانية والعشرين عامًا بنظرة خائفة، تخشى معاودة ذلك الكابوس الذي سلب منها أثمن شيء، تخاف من الشعور بزحف تلك الأنامل برغبة جامحة للافتراس على فريستها..

نظر إليها بحدة، رافعًا يده للأعلى. أغمضت عينيها بقوة، لكن بدلًا من أن يصفعها، مسد على شعرها بلطف صامت. رفعت عينيها الدامعة نحو ذلك السفاح الذي رأف بحالها، تمرر يدها على ندبة الثالوث العميقة في وجنته.

قبل خمسة عشر يومًا

انتشرت جرائم قتل بشعة في الحي وفي شوارع الملاهي الليلية.

جميع الضحايا كن عاهرات خرجن ليلًا من قعرهن المظلم ليلاقين حتفهن على يده.

تبعها ببطء كعادته متسللًا خلفها بهدوء يراقب حركتها الخافتة، يستحقرهن وينظر إليهن بدناءة، في نظره كانت تستحق الموت.

أو على الأقل عليه إحياء تلك الذكرى الخافتة في مخيلته، عليه إشباعها. أخرج منديلًا مخدرًا وكممها به، حملها على كتفه وسار بها إلى شقته الواقعة في المبنى المهجور، ألقى بجسدها الهادئ على فراشه الرث، ثم كبل يديها للأعلى ثم مزق ثيابها بوحشية، سحب خنجره من جيب معطفه، ومرره ببطء على عنقها يراقب خيط الدماء الأحمر الذي تشكل أثر غرز سكينه في جسدها العاري.

أفاقت بعد لحظات لتدوي صرخاتها المستغيثة في أرجاء الغرفة، كان مستمتعًا بسماع تلك الذبذبات الموسيقية الخاصة بها، يفتح تسجيلًا صوتيًا ويقوم بتسجيل توسلاتها وصرخاتها.

أشعل عقب سيجارة جاثيًا على ركبتيه يتابع محاولاتها اليائسة في التحرك والإفلات، يزداد أثر الاحمرار في يديها مع ازدياد صيحاتها المرتفعة، هاجت أعصابها التالفة بتعب بينما يراقبها ببرودة أعصابه الهادئة.

أغمض عينيه يقتات على حسها المدوي بألم، يسترجع تلك اللحظات الزهيدة بمتعة، فتح عينيه بعد لحظات حين سكنت صيحاتها وقاطعت سيل أفكاره، حدق بالدموع الفائضة من عينيها بملامح جامدة لم تأثر به إطلاقًا، صرخت وسط شهقاتها المتتالية بألم بأن يرحمها ويدعها وشأنها حين ثبت نظره إليها غير أنه استقام قابضًا بقوة على شعرها يسحبه بقسوة للوراء، أطلقت صرخة متألمة.

لذا شرع بسكينته في بطنها يطعنها بعشوائية، صرخات تتلوها أخرى أفقدتها وعيها، بقي يراقبها بعدما نزع الرباط من يدها، حدقت به بأنفاس مثقلة لتنقض عليه تخنقه بقوة، لم يحرك ساكنًا فقبضتها المتهالكة لم تفعل شيئًا به بل ولم تأثر حتى سوى أنها زادته امتاعًا ورغبة في قتلها.

دفعها من فوقه وأحكم قبضته على يديها بيده العارية، ثم أخفض جذعه العلوي نحو ساقيها يشق أحدها محدثًا فجوة عميقة أسفل صرختها المدوية ونحيبها الحاد، أخرج عظم ساقها ببرود حين فقدت وعيها مجددًا من شدة الألم.

عاد لاستكمال سيجارته بهدوء بينما بدت تستعيد وعيها بثقل، نظر إليها لتحاول الصراخ لكن لا فائدة لم تعد تقوى حتى على نطق الأحرف المتقطعة، نظر إليها وكأنها جهاز إنعاش كلما أصدر موجاته الصارخة كلما عادت ذاكرته للحياة، لم تعد ذو فائدة الآن فقط انطفأت.

دفن عقب سيجارته في الأرضية يطفئه ثم وجه خنجره نحو قلبها وطعنها بقوة يدفع السكين في جوف بطينها مفجرًا الدماء في جسده، أغلق الشريط الخاص به، ثم ألقى بالعظم بعيدًا، شق ندبة مثلث الثالوث في معصمها، ثم وقف متوجهًا للحمام بعد أن وضع شريط التسجيل في رف المكتب المربع في الزاوية.

فتح دش حوض الاستحمام يستحم من أثر الدماء في جسده، غير ثيابه ثم حمل جسدها الساكن بين ذراعيه خارجًا للخارج من بين الأزقة المظلمة التي يحفظها عن ظهر قلب.

وضع جسدها بروية وسار مبتعدًا عن المكان بهدوء، عاد لمنزله ليأخذ بعظامها نحو تحفته الفنية التي أقامها وخبأها في الغرفة الأخرى، وضع العظمة الطويلة بعد نحتها بدقة يلحمها في التمثال غير المكتمل أمامه، لم يتبق سوى ثلاث قطع أخرى.

نظر بجمود إلى مجسم العظم المنحوت أمامه، ثم مرر يده على الوجه الذي سبق وصنعه بالعظام القديمة، تلك الملامح الدفينة كيف بإمكانه نسيانها ببساطة؟

لم يتبق سوى صنع اليدين، سحب سيجارة من جيبه وأشعلها يدخنها بشراهة وهو يراقب فنه العريق.

دوت أصوات سيارات الشرطة القريبة من الشارع المجاور له حيث ألقى بالجثة بينما يلتهم سيجارته بين شفتيه.

كانت صرخات العامة والخوف الذي دوى في أوصال العاهرات يزداد شيئًا فشيئًا مع وجود ذلك السفاح الذي أصبح هاجسًا في مدينة أمستردام!

guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى