أدب الرعب والعام

كالكوت وكالكوتا

بعد معاناة ووساطات من هنا وهناك، حصلت على وظيفة براتب 3000 ريال، ورغم أن هذا الراتب لا يعادل ربع ما كنت أتقاضاه من عملي السابق في شركة أعلنت فجأة ومن دون مقدمات إفلاسها، إلا أني قبلت به خاصة بعد أن تأكد لي ان الأحوال لم تعد كما كانت..

عملت لمدة ثلاثة أشهر في وظيفة لا أعلم ما متطلباتها؛ أهي سائق أم مراسل أم بواب، وعندما أحسست بالملل وشعرت أنني لم أعد أتحمل أكثر من ذلك، جاء الفرج، فذات صباح طلب مني مشرفي مقابلة صاحب الشركة؛ الذي لم أره من يوم أن وطئت قدماي هذا المبنى.

اتجهت إلى مكتبه، وفي خاطري يحوم خوف وأمل، فدخلت عليه متوترًا، فرأيت رجلًا طويلًا نحيفًا بدا لي وكأنه واقف وهو جالس على كرسيه، كانت النظرة المرتسمة على وجهه مزيجًا من الكبر والخبث.

بادرته بسلام، رفع عينيه الغائرتين من على شاشة الحاسوب وأجاب دون أن ينظر إليّ: اجلس.. وانحنى وأخذ يقلب أوراقًا أمامه لدقائق، ثم سألني دون أن يرفع عينيه قائلًا:

حسب سيرتك الذاتية لديك خدمه سابقة في العقود؟

_ نعم.

_ تجيد التحدث باللغة الإنجليزية؟

_ نعم.

رفع رأسه وزمَّ شفتيه وأخذ ينظر إليّ وكأنه يتفحصني، وهو يداعب شعيرات ذقنه، وبعد فترة صمت قال:

_ نريد التعاقد مع مجموعة عمال هنود وأريدك أن تسافر إلى كالكوت..

ودفع إلي بملف، وتابع موضحًا:

_ إنه يشتمل على احتياجاتنا وبه رقم هاتف شودري الذي يتابع أعمالنا في الهند.

إقرأ أيضا: الجوكر

ثم صاح بسكرتيره، وبمجرد دخوله قال له:

_اصرف له 4 آلاف دولار تحت الحساب، مفهوم.. ثم التفت إلي وقال بتعالٍ:

_جهِّز نفسك واستقل أقرب طائرة وأخضر معك فواتير توضح المصاريف. هيا انصرفا.

في تلك اللحظة، هممت أن أقفز في الهواء لأصل إلى وجهه القبيح وأصفعه بالملف الذي بيدي…..

خرجت من عنده إلى غرفة السكرتير؛ الذي سلمني المبلغ واتجهت لأقرب وكالة سفريات وحجزت على أقرب رحلة. وفي اليوم الموعود صعدت الطائرة التي حلقت بي لمدة 9 ساعات، وبمجرد وصولي استقللت سيارة أجرة صفراء إلى أحد الفنادق بشارع (سادر ستريت).

وبمجرد دخولي الغرفة اتصلت بشودري فأخبرته عن عنوان الفندق فقال باندهاش:

_ ماذا؟! شارع سادر ستريت كالكوتا! نحن في كالكوت كيرلا، بينما أنت في كالكوتا وست البنغال، إننا نبعد عنك 2300 كيلومتر.

صرخت:

_ماذا تقول؟! كالكوت… كالكوتا!

فقاطعني: اسمع، سأحاول أن أحجز لك على أقرب رحلة.
ظللت منتظرًا اتصاله، وبعد حوالي ساعة اتصل بي، فأسرعت بالرد عليه، فقال:

_ سيدي يؤسفني أن أخبرك أن أقرب طائرة وجدنا لك بها مقعدًا بعد ستة أيام.

_ألا توجد وسيلة مواصلات أخرى للوصول إليكم.

ضحك ساخرًا:

_ماذا تقول ؟! طريقة أخرى في الهند، إننا هنا نحتاج من ساعة إلى ساعة ونصف لقطع 26 كيلومترًا.

_الحل.

_لا يوجد حل سوى الانتظار.

لم أستطع الجلوس مكتوف اليدين هكذا، أخذت تاكسي، وزرت جميع مكاتب السفريات وعرضت المال، وكانت الإجابة هي واحدة، أقرب موعد لك هو الموعد الذي في يدك وإن لم تؤكده سيلغى تلقائيًا.

عدت إلى الفندق منهكًا، وبمجرد جلوسي جاءني اتصال، فرحت، وإذا به اتصال من صاحب الشركة يصرخ ويردد كلامًا قبيحًا بقبح وجهه وأنهاه قائلا:

_ أنت مفصول من العمل، وسألزمك بدفع مبلغ الـ4000 دولار التي سلمتها إليك، إضافة لغرامات أخرى بسبب إهمالك. وأقفل الخط في وجهي ..

إقرأ أيضا: لعبة الكبار

لحظتها وصل بي الغضب حده، فلم أجد سوى هاتفي المحمول، فرميت به على جدار الغرفة ليتحول إلى أشلاء، ورميت بجسمي على السرير ثواني، وإذا بي أغطُّ في سُبات عميق لم أستيقظ إلا بعد خمسة ساعة على صدى صوت الضوضاء من أحد الميادين القريبة، فقمت متثاقلًا من فراشي وأخذت دشًا لمدة نصف ساعة، وخرجت من غرفتي لتناول الطعام.

وأنا في طريقي لأحد المطاعم لمحت مكتب سياحة وسفر، فدخلت إليه وسألته عن أقرب رحلة إلى بلادي…
فقال مبشرًا:

_هنالك رحلة بعد ست ساعات، ولكن المشكلة هي أن الدرجة السياحية محجوزة بالكامل، هنالك مقاعد بالدرجة الأولى، فطلبت منه أن يحجز لي ذلك المقعد وحملت بطاقة صعود الطائرة، واتجهت إلى المطعم، ثم إلى الفندق، وحملت حقيبتي واتجهت للمطار..

صعدت الطائرة وأنا أحمل هموم الدنيا على عاتقي، نيران مشتعلة عجزت أن اطفئها، فبداخلي أمل تحول إلى سراب وغضب تغشاني يخنق أنفاسي، وضعت ظهري على المقعد وأخذت نفسًا عميقًا وأغمضت عينيَّ محاولًا الاسترخاء والنسيان.

فجأة اهتز مقعدي، فالتفت لا إراديا، فإذا أنا وجه لوجه مع رجل هندي في الخمسين من عمره، غزا الشعر وجهه ورقبته ويديه وواصل طريقه الى أصابعه، كان يرتدي بدلة كحلية أنيقة ثنائية الأزرار تدلت من عنقه سلسلة ثقيلة من الذهب، ويحيط معصميه إسورتان، وتزين أصابعه خواتم ذهبية كبيرة الحجم توجت بأحجار كريمة، وكانت عيني هذا الهندي الصغيرتان؛ اللتان خرجتا من ظلمة الوجه تعبران عن الثقة، الذكاء وطيبة صاحبها.

ابتسم وأخذ يتحدث معي بالهندي فقاطعته قائلا:

_أنا لا أتكلم الهندية.

إقرأ أيضا: سبورة سوداء

اتسعت ابتسامته وقال:

_ أعلم ذلك، لكن في الهند من الحكمة ألا تسال أحدًا عن جنسيته، دينه، حتى لغته، فكما تعلم أن الهند قارة فيها جميع أجناس البشر؛ فهنالك الآري، المغولي، السامي والزنجي ولن أتكلم عن الأديان أو العادات والتقاليد، فهي بلد مليئة بالعُقد، أهلها يحبون البهرجة والبهارات، إنها أرض العجائب والغرائب. على كل حال هل كانت زيارتك من أجل السياحة أو العمل؟

فقلت كاذبًا:

_سياحة

فأخذ يسألني عن الأماكن التي زرتها في تلك اللحظة، شعرت أنني بحاجة لأتكلم لشخص ما، فأمامي تسع ساعات طيران وأنا أشعر بالاختناق، كنت في حاجة لفعل ذلك…

فقاطعته وأخبرته عن قصتي خطوة بخطوة، لم أترك منها فقرة واحدة وهو ينصت إلي بأدب وبابتسامة حنونة..وبمجرد انتهائي أخذ يضحك حتى خفت أن يحصل له شيء، وبعد أن هدأت ثورة ضحكه أخذ يمسح دموعه ثم وضع يده حول كتفي، وقال:

_ يا صديقي، اعتبر مشكلتك محلولة، والفعل يسبق الكلام، وانحنى إلى حقيبته ووضعها على فخذيه وفتحها وأخرج منها مبلغ 10000 دولار وسلمها لي، وقال: هذا راتب مقدم، ثم أخرج 4000 دولار وهذا المبلغ المستحق سداده.

ثم اعتدل وتابع حديثه:

_إنني رجل أعمال واسمي أبهارا، لدي شركات في جميع قارات العالم وأنا في حاجة لرجل يمثلني في الشرق الأوسط وأعتقد أن القدر أرسلك إلي..

أوه نسيت أبهارا تعني يا صديقي: السحاب

إقرأ أيضا: سر الزرقة

**

من يومها أصبحت وكيل أعمال وصديقًا مخلصًا لذلك الهندي ولم أعد مبلغ الـ4000 دولار، ولم تكن لدي النية أساسًا لفعل ذلك. وفي أحد الأيام، أخبرت صديقي الهندي بذلك، فضحك، وقال:

_انسَ الأمر، فأمر ذلك الرجل انتهى بلا عودة.

فقلت متعجبًا: ماذا تقصد؟

فقال: ألم تقل لي إنه طويل؟!

_ نعم.

أو لست أنا السحابة التي تحمل فوق ظهرها الصواعق والمطر؟!

_ نعم.

فضحك وقال:

_ لا بد أن صاعقة أهلكته منذ زمن.

في حقيقة الأمر لم أفهم ما كان يعنيه حتى ذلك اليوم؛ الذي صادفت أحد زملائي في تلك الشركة، وسألته عن أحوال زملائي وعن صاحب الشركة..

فقال لي:

_بالنسبة لزملائك هم بخير وعافية، أما بالنسبة لصاحب الشركة، فقد مات موتة غريبة منذ زمن مات بسبب صاعقة!

كم كانت إجابته مرعبة وصادمة لي، ورغم ذلك ما زلت أحب ذلك الهندي؛ لأنني أعرف السبب وأخاف منه لسببٍ أجهله!

guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى