أدب الرعب والعام

لغة الأرواح

ليس المهم أن تعرفوا من أكون ، نعم لست مطالبا أن أخبركم عن إسمي أو عمري . لأنكم لستم في حاجة لذلك . ما تحتاجون معرفته باختصار هو أنني إنسان بسيط لا أرى اختلافا بين مخلوقات الله . فمن يمشي على قدمين أو أربعة أو يزحف أو يحلق بجناحيه كلهم عندي سواء . 

مشكلتي الوحيدة والتي أجهل سببها هي أنه من الصعب علي أن أنصت لحديث ، أو اُجيب شخصا عن سؤال . هذا الأمر جعلني أفضل العيش وحيدا منعزلا عن الناس . ولكن الشيء الغريب والذي لم أجد له تفسير هو حبي لمراقبة غريبي الأطوار من البشر والطيور والحيوانات ولكن من بعيد! ، نعم بعيد! .

فأنا أحب مراقبتهم ، أتأمل حركتهم فقط ، بدون التعمق والأسئلة عن الأسباب . إنني لا أبحث عن تفاصيل أو حتى تفسير . كل ما أعرفه أن حركات تلك المخلوقات الغامضة تجعلني في حالة نفسية أفضل لما تجلبه لي من حس مسلي وتبقيني سعيدا لساعات . 

ومن حسن حظي أن هؤلاء أقصد غريبي الأطوار أراهم حيثما وجهت رأسي . وبالطريقة التي أريد ، أقصد ” من بعيد “.  فأنا أسكن  بالطابق الخامس ، في عمارة تتوسط عمائر تشرف على ميدان أو “برحة ” . طولها أربعة كيلومتر وعرضها ثلاثمائة متر .

وهي أرض ترابية محجوزة بين الخط السريع والمخطط الذي أسكن فيه ، يلتف حولها خط إسفلتي ورصيف مبلط بعرض متر ونصف . هذه البرحة فيها ملاعب لكرة القدم وملعب للأطفال . يحيط بها كشكات لبيع القهوة ، البطاطا والشاي وجلسات لكبار السن وأخرى للشباب .

إقرأ أيضا : ستلتقي الأرواح يوماً

وتحف هذه البرحة ثمان حاويات للزبالة كبيرة الحجم ، تبتعد كل واحدة عن الأخرى حوالي خمسمائة متر . هذه الحاويات تزورها الطيور بأنواعها والقطط على مختلف أحجامها . وحتى الكلاب الضالة تمر على هذه الحاويات تتفقدها . إنها باختصار مناطق التسوق لهذه المخلوقات تحصل فيها على أطيب الطعام .

**
وبسبب هذه الهواية الوحيدة أصبحت البلكونة هي صالتي وغرفة نومي . أجلس فيها جل وقتي من الصباح حتى المساء . أقلب عيني ذات اليمين والشمال إلى الأسفل من مكاني العالي ، مثل نسر أو صقر أو حتى غراب! .

هذا الأمر كما أخبرتكم لا يمثل لي مشكلة .  فأنا أبحث ، وما إن أرى أحدا من هؤلاء أقوم بتحريك الكرسي ، وأعدل جلستي حتى أكون قادرا على رصد حركاته .

وفي أحد الأيام وعلى الساعة الثامنة والنصف صباحا ، لاحظت “سيارة رانج روفر أس في من الجيل الخامس” بيضاء . تتوقف عند كل حاوية لمدة دقيقتين ، ثم تتجه للأخرى وتتوقف . ثم الأخرى والأخرى ، وعند كل توقف تخرج القطط من الحاوية وتتوجه الى تلك المركبة” الفاخرة غالية الثمن” ! .

هذا الأمر حدث عند جميع الحاويات الثمان! . الغريب في الأمر أنني لم أر هذه المركبة ترمي بشيء ، أقصد طعاما باتجاه القطط . بل شعرت وكأن هنالك حديث يدور بين القطط مع من بداخل السيارة! .

تكرر هذا الأمر في اليوم التالي ، وفي نفس الوقت أي الساعة الثامنة والنصف صباحا . رأيت سيارة الرانج روفر تقف عند أول حاوية عندها وبسبب فضولي أو العادة الوحيدة والغريبة التي أخبرتكم عنها ، نزعت نفسي من البلكونة ونزلت من العمارة مسرعا واتجهت إلى الحاوية الرابعة . واخترت مكانا أو موقعا مناسبا كي أرصد تحركات هذا الإنسان لأرى ما يدور بينه وبين القطط .

إقرأ أيضا : أرواح لم تعرف الإجابة

رأيت السيارة تتحرك إلى الحاوية الثانية ثم إلى الثالثة والرابعة ، لكنني لم أر شيئا!. فقد كان هذا الشخص يفتح باب مركبته وتقف القطط أمامه مصوبة عيونها عليه . كانت السيارة مضللة بشكل كامل . توقفت عند الحاوية الرابعة ، وفتح الباب جزئيا ووقفت القطط تحت مركبته كالعادة مصوبة عينيها نحوه . عندها سمعت خليط لمواء مختلف في حدته ونغمته . لكنني أيضا ورغم موقعي المميز ، لم أر ذلك الشخص . المهم أن تلك السيارة وقفت عند الحاويات الثمان وغادرت ، ولم أر ذلك الشخص ولم أعرف ماذا حصل فعدت إلى شقتي حزينا .

انتظرت بشوق اليوم الثالث ، وفي هذا اليوم خرجت من الشقة في الصباح الباكر ، وجلست بالقرب من الحاوية الرابعة أيضا . لكنني اخترت مكانا مناسبا وقريبا جدا منها ، بحيث أستطيع أن أرى ذلك الشخص بمجرد أن يفتح باب المركبة وأسمع ما يدور بينه وبين القطط . تحملت الرائحة الكريهة من أجل تلك العادة اللعينة . وقد حصل ذلك كالعادة ، فأقبلت المركبة الرانج روفر في نفس التوقيت . وتوقفت عند الحاوية الأولى ثم الثانية والثالثة ، ثم تجاوزت الحاوية الرابعة ولم يتوقف عندها !.

واتجهت مباشرة إلى الحاوية الخامسة! ، وواصلت رحلتها إلى أن وصلت الثامنة . هذا الأمر أثار اندهاشي وأخذت أسال نفسي عن السبب؟! . فجأة ! ، رأيت المركبة تعود أدراجها وتتجه نحوي ، نحو الحاوية الرابعة . وبمجرد أن توقف فتح زجاج نافذته
فرأيت رجلا في الأربعينات من عمره ، أبيض الوجه ، عينيه لها بريق . صاح بي و دعاني ، فقمت من مكاني مذهولا وتوجهت اليه فقال لي وبدون مقدمات :

_ اصعد إلى السيارة .

إقرأ أيضا : خلاص الأرواح – ج1

تركته وغادرت ، وأنا أشعر أنني على غير ما يرام ، فقلبي يهتز بين ضلوعي . كنت متيقنا أن ما يحصل لي ليس بسبب خوفي منه ، بل كان بسبب الذي أخبرتكم به ، وهو عدم قدرتي على الكلام أو الإستماع . وأنا في طريق العودة إلى شقتي ، شعرت بيد تهبط على كتفي فالتفت ، فإذا بذلك الرجل يشهر في وجهي مسدسا وبصوت مرعب وآمر :

_ قلت لك اصعد إلى السيارة .

تبعته مثل طفل وصعدت معه مركبته ، وفردت يدي على فخذي مستسلما . لحظتها فتحت فمي لأقول له شيئا لكن قدرتي على تجميع الكلمات والجمل التي تجول في رأسي كالعادة خذلتني ، أخرستني . الشيء الوحيد الذي استطعت فعله هو أنني التفت إليه أتفحصه ، أنظر إليه عن قرب . لاحظني ، رآني بطرف عينيه وأنا أتلصص عليه . لم يكترث بي بل انطلق بمركبته وعندما استوى على الخط السريع التفت إلي وقال :

_ لا ريب أن ما سأخبرك به من قصة حدثت لي عرضة للتكذيب والشك ، إعلم ذلك . وارتياب الكثير يعود سببه أن البعض لا يصدق إلا ما يدركه حسه . وهؤلاء من الصعب على أي شخص إقناعهم بما غاب وخفي عنهم .

على كل حال إليك قصة غريبة حدثت لي .. فقبل خمسة أشهر ، وفي أحد الأيام عند السابعة مساء عدت إلى مركبتي بعد ان انتهيت من حصة التمارين الرياضية . والتي أقوم بها من الساعة السادسة إلى السابعة مساء كل يوم . وبمجرد أن اقتربت من مركبتي ، لمحت وميض برق أنار الأرض ، فرفعت بصري إلى السماء ، ورأيت سحابا متراكما ملأ السماء على حين غفلة! .

وعندما أنزلت بصري ، شاهدت قطان يقفان بالقرب من مركبتي وعيناهما تتوسلان . فنظرت لهما وقلبي مليء بالحب وقلت لهما معتذرا :

إقرأ أيضا : خلاص الأرواح – ج2

_ والله لا أملك لكما شيء في هذا المكان ، ولكن لو قررتما مرافقتي حيث أسكن فإنني على استعداد أن أقدم لكما دجاجة مشوية كاملة . هاه ما رأيكما؟ .

وفتحت لهما الباب . 

كانت المفاجأة أن القطين كانا أليفين جدا ، لقد صعدا المركبة معي! . عندها أغلقت الباب عليهما ، وصعدت سيارتي وقد ابتسم كل ركن في وجهي . وشعرت بفرحة لا توصف سكنت قلبي وعمت جسدي . وما إن تحركت أخذ هذان القطان يحتكان بي ، يلامساني بجسميهما ، ويربتان عليّ بذيلهما . استمرا على فعل ذلك ، ولم يتوقفا عن الإحتكاك بي ، وما إن رأيت مطعما وقفت وطلبت دجاجة مشوية ، ووضعتها في صندوق السيارة .

ورغم أن الدجاجة كانت في صندوق السيارة ، إلا أن رائحتها تسللت وعمت الكابينة . عندها زاد تمسح القطان بي ، وأصبحت أسمع خرير صوتيهما فالتفت اليهما وقلت :

_ صبرا فلم يبق لبلوغنا المنزل إلا ثوان .

وما إن وصلت منزلي ترجلت من المركبة ، واتجهت إلى صندوق السيارة وأخرجت الدجاجة . ثم فتحت لهما الباب وتراجعت للخلف وهما ملتصقين بقدمي . وما إن طرحتها أرضا حتى هجما عليها وأجسادهما تنتفض من شدة الجوع .

أخذت أنظر إليهما بسعادة . وأنا على هذا الحال شعرت بريح باردة تهب علي ، تحوم حولي ، ترشقني ببعض القطرات الباردة . عندها تذكرت أنني لم أغلق أبواب المركبة ، فعدت سريعا إليها وما إن حاولت أن أقفل بابها فإذ بي أرى جرذا كبيرا يخرج من مركبتي . وينفذ من بين قدمي فصرخت وقفزت عاليا ، تصرفي هذا أجفل القطين فتركا وجبتهما وأخذا ينظران إلي باندهاش .

أقفلت باب المركبة ، وأخذت أبحث عن ذلك الجرذ . وتحت ضوء المصابيح الضئيلة الخافتة المنتشرة على حائط منزلنا شاهدته يجري ملتصقا بالحائط . ويهم بالدخول من بوابة منزلنا .

التفت يمينا وشمالا ، أبحث عن شيء أضربه به . فرأيت ماسورة ملقاة على الأرض ، حملتها وتحركت باتجاهه ، وتقدمت نحوه بهدوء وأنا أحدق فيه . وما إن أصبحت قريبا منه ، رفعت يدي التي تحمل الماسورة إلى عنان السماء وإذا بي أرى ضوء مبهرا ، شرارة ضخمة ، عامود من نار ضرب الماسورة وانتشر ضوءها وأنار أركان الشارع . تلاها صوت عالٍ مرعب أفاق عدوي ففر وهو يصرخ صرخات متقطعة . بينما سقطت أنا على الأرض .

إقرأ أيضا : خلاص الأرواح – ج3

قمت من مكاني مصدوما من هول ما حصل ، واتجهت مسرعا الى منزلي . وأنا في طريقي رأيت الجرذ ملقى على الأرض وقد تفحم . بينما كانا ناباه الأبيضين يطلان علي من بين ذلك السواد وكأنه يبتسم لي . ورأيت بجواره الماسورة التي سقطت من يدي ، كانت متوهجة ، لونها أصبح أحمر ثم تحول إلى اللون الأصفر البرتقالي .

وقفت مذهولا لدقائق أفكر فيما حصل وأنا أنظر إلى ذلك الجرذ الذي مازال صوت لحمه المتفحم له طقطقه ورائحة فروه تكتم أنفاسي . وغادرت المكان عندما شعرت بصوت بدا لي وكأنه غليان في رأسي يشاركه تشويش في أذني . فدخلت منزلي متثاقلا واتجهت الى غرفتي ، وجلست على سريري وأنا أشعر بضيق يخنق أنفاسي . ثم رميت برأسي على السرير ووضعت يدي كعادتي تحته ، وأخذت أنظر إلى الفراغ . مازال التشويش في أذني ، مازلت أشعر بذلك الغليان .

فجأة شعرت أن ذلك الغليان قد توقف ، وشيء له دبيب يتحرك مسرعا من قمة رأسي ويواصل عدوه على عمودي الفقري ثم توقف . شعرت باهتزازه وتسارع أنفاسه في ظهري ، ثم أخذ يعدو مرة أخرى ، شعرت به وهو يتسلق جمجمتي . ثم سمعت صوت له صدى ، أصوات تكاد أن تشق طبلة أذني لا أعلم مصدرها . 

وأنا على هذا الحال السيء ، سمعت جلبة عراك للقطط ، كان صوت القطط مزعجا ، هذا الأمر زاد من معاناتي . فقمت من مكاني ثائرا كالمجنون ودفعت النافذة بكلتا يدي . فإذا بي أرى القطين الذين أحضرتهما من حينا القديم هما اللذان يتعاركان . فصرخت :

_ بس……. بس ..

توقف ذاك القطان عن العراك ، والتصقا ببعضيهما وأخذا ينظران لي بسعادة يخالطها ذهول .

قال أحدهما : كم أتمنى أن أقفز على هذا المخلوق وأضمه .

فأجابه الآخر : لن تستطيع ، لقد ضربته الصاعقة ولم يحدث له شيء ، ولو ضممته سيصعقك بالكهرباء المخزنة في جسده . هيا دعه ولنغادر إلى مكان آخر ونكمل عراكنا .

شعرت بصدمة وباضطراب شديد ، وأنا لا أعلم هل أصرخ؟ ، أتصل بصديق ما؟ . أو أنطلق مع هذا الليل إلى أحد ما أيقظه من منامه وأشكو له حالتي؟ .

إقرأ أيضا : “تعالالي” يا أبي ..

في تلك اللحظة شعرت أن حيطان عقلي تصدعت ، ونوع من الجنون زارني من شدة خوفي ، وتمكن الهلع من قلبي . وقفت في مكاني على النافذة ساكنا حتى أشرقت الشمس . عندها تجلى لي وجه ذلك الجرذ ، فصرخت أمه من الممكن أن يكون الجرذ هو من يعدو في جسمي! ، هل هو جني تلبسني ؟! .

لا لا ليس الجرذ هو سبب بلائي ، لقد قتلته الصاعقة لقد رأيته جثة هامدة .

**

ولمعرفة أن تخميني صحيحا قمت بزيارة حديقة الحيوانات ، وأخذت أتجول فيها ، فاكتشفت أن الأمر حقيقي! . لقد سمعت أثناء تجوالي في حديقة الحيوان القرد يتكلم مع أصدقائه وهو يشير إلي قائلا :

_ أنظروا إلى هذا المغفل ، إنه قادم إلينا خالي اليدين .

وسمعت الأسد وهو يكلم رفيقته قائلاً :

_ كم أتمنى أن أنتزع رأس هذا المخلوق الغبي وألعب به .

ذلك اليوم سمعت تعليقات الحيوانات ، نقاشهم ، نكاتهم ، ولا أريد أن أخبركم بها . فجميعها كانت عبارات قبيحة تعكس مدى غضبهم وكرههم للإنسان . المهم ، تأكدت أنني أفهم لغة الحيوانات ، هل انتهت مشكلتي؟ ، لا لم تنته . فقد كانت عيني تتمايل ذات اليمين والشمال ، جميع حواسي مستنفر ة، أصوات بشر وحيوانات . 

لقد لاحظ كل من عرفني أنني لست على ما يرام ، البعض وهم الطيبون فكروا أنني مرهق . وآخرون وهم الخبثاء ذهبوا بعيدا حيث عالم المخدرات . كم كنت أشعر بالألم وأنا أرى العتب في عيون المحبين لي . كان قلبي يعتصر وأنا أرى من يحبونني ويثقون بي ينظرون لي متحيرين في أمري . إنهم يرون شخص آخر غير الذي يعرفونه ، وهم محقون . 

فكرت جديا أن أخبرهم بعلتي ، لا ليجدوا لي علاجا بل محاولة مني أن أزيل شيء من هذا الثقل عن كاهلي . لكنني شعرت بعدم الإرتياح لهذه الفكرة ففيها مجازفة ، فقد أخسرهم . فأنا متأكد أنهم لو سمعوا قصتي ستقوم حواسهم من دون إذن منهم بالتحقق . سيختلسون النظر إليَّ ، سيراقبون كل حركاتي وسكناتي ، عندها ستتبعثر كلماتي ، وتكثر ردّات فعلي ، وأنا أحاول جاهدًا تبديد ظنونهم .

إقرأ أيضا : حكايات من النقطة 43

**

مرت الأيام والوضع يزداد كل يوم سوءا ، فأنا أصبحت أعيش في عالمين ، وهذا الأمر سبب لي شعورا غريبا أو شيء ما لا أعرف كنهه يلقي علي بسخطه . يفتك بروحي . توتر، هموم، تتابع و تتساقط علي كقذائف تهدم مشروع كل فرحة تريد أن تضيء طريقي . لذا قررت أن أتحاشى عيون البشر . أعيش منعزلا، منتظرا لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا .

خلال تلك الأيام كنت أحبس نفسي في شقتي في النهار ، وعند الليل أخرج إلى البحر ، ولا أعود إلى منزلي إلا عند طلوع الفجر ، هذا هو جدولي اليومي . وخلال خروجي بمركبتي من الحي وعودتي إليه ، كنت أرى القطين الذين أحضرتهما من الحي القديم ، يصولان ويجولان في طرقات الحي .

كان هنالك شعور غريب يحدث لي بمجرد رؤيتهما ، دوي في رأسي ، كلمات ، جٌمل ، لا يمكنني تجميعها تتصارع محاولة الخروج . وفي أحد تلك الليالي رأيتهما ، فأخذت أعتصر أفكاري ، محاولا أن أخرج ما يجول في رأسي ، وجاء الفرج أخيرا! ، ونطق لساني بهذه الكلمات :

_ قد يكون حل مشكلتك عند هذين القطين .

عندها استدرت عائدا بمركبتي أبحث عنهما ، ومن حسن حظي أنني وجدتهما بالقرب من حاوية الزبالة ، وكعادتهما يتعاركان . فتنحنحت ، عندها شعرت بدبيب ذلك المخلوق بداخلي يعدو ، لقد غادر قمة رأسي ، شعرت به كعادته يختبأ في مكانه في الجهة اليسار لعمودي الفقري . أدار أحد القطين رأسه دورة كاملة ، وأخذ يحملق في وجهي ، ثم قال لصديقه :

_ لماذا لا نتمسح فيه لعله يتعاطف معنا ونحصل على دجاجة أخرى؟ .

إقرأ أيضا : داخل إنعاسها

عندها قلت له : بل سأعطي كل واحد منكم دجاجة محمرة كاملة ، فقط أريد منكما مساعدتي . 

قفز القطان معا ، ووقفا أمامي ينظران إلي من فوقٍ إلى تحت ، ثم التفت أحدهما إلى صاحبه وقال :

_ هل سمعت ما سمعت أم بي مس؟! .

فقلت له: ليس بك مس ، نعم دجاجتان لكل واحد منكما دجاجة . ولكن لدي مشكلة أريد منكما مساعدتي فيها . عندها قال أحدهما :

_ أعرفك بنفسي ، اسمي شندا ، وأشار إلى الآخر وهذه زوجتي شمندا .

فقلت متعجبا :

_ زوجتك! ، إذن لما عراككما لا يتوقف؟!.

عندها ابتسم شندا ونظر بعيني العاشق إلى شمندا ، وقال :

_ العراك يمثل الحركة والحركة هي الحياة .
فقلت له ساخرا :

_ إجابة مقنعة ، على كل حال لدي مشكلة وأريد منكما مساعدتي .

فقال شندا :

_ سنكون أصدقائك ، بل أعز أصدقائك ، فنحن معشر القطط تربطنا علاقات معكم معشر البشر . لقد تعايش اجدادنا مع أجدادكم .

صاحت شمندا في وجه زوجها بغضب وقالت :

_أنت قط ثرثار هل طلب منك هذا المخلوق أن تخبره عن قصة من أساطير الأولين ؟!.

صوب شندا عينيه نحو شمندا ، وأخذ ينظر إليها بغضب مصطنع ، ثم التفت إلي وقال :

_ ألم أقل لك أنهن يحببن العراك؟ .

على كل حال دعك من الماضي ، والآن افرد لسانك وانطق بمشكلتك .

عندها أخبرته بالتفصيل الممل عما حدث لي ، وهو وشمندا يستمعان لي بإنصات . وبمجرد انتهائي من سرد قصتي ، أخذ شندا وشمندا يفكران بعمق لدقائق . ثم التفتا وأخذا يدوران حولي ، وهما يصدران مواءً يشبه الصراخ ، تختلف نغمته وحدّته بين الحين والأخر . في تلك اللحظة ، عاد ذلك الغليان إلى رأسي ، والتشويش إلى أذني . وشعرت بحركة ذلك المخلوق وهو يجري في عروقي ، يتجول داخل جسدي، ثم انطلق لساني وأخذ يردد مواء بنفس حدة ونغمة صوتهما .

إقرأ أيضا : ثقافة من ممالك قديمة

عندها عمّت جسدي قشعريرة وأصابتني دهشة وحيرة ، وشعرت بخوف شديد وفزع عظيم . حاولت مغادرة المكان لكنني شعرت أن قدماي قد تصلبتا ، حاولت أن أصرخ مستغيثا ، لكن شيئا أصمني! .

زاد صراخ شندا وشمندا ، وزاد صراخ المخلوق بداخلي، ثم توقف فجأة كما بدأ . وانتهى كل شيء! . فالتفت شندا إلي وقال :

_ لقد خلصناك من الحكيم سرواح .

فقاطعته قائلا :

_ من هو الحكيم سرواح؟ .

فقال :

الحكيم سرواح ، المخلوق الذي بداخلك ، الذي أحرقت قناعه .

فقلت :

_ تقصد الجرذ؟ .

نعم الجرذ ، لم يكن سوى قناع استخدمه الحكيم سرواح، لقد أحرقت قناعه فتلبسك أنت . المهم ، إنني وشمندا أقنعناه بأن يتركك وشأنك ، فهو  صديقنا منذ زمن ، ولا يرفض لنا طلب . والآن لدينا طلب صغير منك .. دجاجتان كما وعدتنا ، فنحن نشعر بجوع شديد .

فقلت له بفرح :

_أطلب ، فكل طلباتك مطاعة . 

**

على كل حال ، وفيت بوعدي وأحضرت لهما دجاجتين . وأخيرا تخلصت من ذلك المخلوق الذي يتجول في رأسي ، ويجري في عروقي ، ولكن الغريب والعجيب أنني ما زلت أفهم لغة الحيوانات! . رغم خروج الحكيم سرواح من رأسي للأبد . 

إقرأ أيضا : العقرب

توقف ذلك الرجل عن الكلام ، والتفت لي وقال :

_ هذه هي قصتي ، والسؤال الذي أطلب منك إجابته بكل صدق وأمانة :

_هل أنا مجنون أو هو نوع من أنواع الوهم والخيال؟! .

وبمجرد انتهائه من سرده ، وطرح سؤاله شعرت بقشعريرة عمت جسدي . وأخذ العرق يتصبب من كل جزء منه ، وأخذ لساني يتحرك مثل أفعى داخل فمي . و فجأة ودون إرادة مني التفت إليه ، وسمرت عيني في عينيه واندفعت هذه الجملة :

_ إنك يا صديقي لا تشكو من وهم أو جنان ، أنت فقط إنسان ، مجرد إنسان تجيد الحديث بلغة الأرواح! .

عندها اندفع نحوي وأخذ يعانقني وهو يجهش بالبكاء . ثم رفع رأسه وأخذ ينظر لي ، وقد رأيت السعادة والرضى ترفرف في عينيه .

**

قام هذا الرجل بإيصالي إلى مسكني ، وأخبرني عن اسمه ورقم جواله . وأنزلني عند باب العمارة التي أقطن بها رغم أن لساني لم ينطق بغير تلك الإجابة :

“أنت فقط إنسان ، مجرد إنسان تجيد الحديث بلغة الأرواح”.

وما إن دخلت شقتي توجهت إلى غرفة نومي . نظرت في المرآة على غير عادتي – لا اعلم لماذا فعلت ذلك – . فرأيت أن وجهي قد تحول إلى وجه قط له شاربان وعينان صفراوان ، وأذنان بارزتان . فصرخت من هول ما رأيت وشعرت أن الأرض تتصدع تحت قدمي ، وأحسست بدوار ، ترنح رأسي وسقطت مغشياً علي ….

guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى